خطبة الجمعة (399) 2 ربيع الثاني – 19 مارس 2010م

مواضيع الخطبة:

*حديث عن الكسل *الخمر حرام *أوقفوا الهرولة *حتى لا تُنسى القدس

حضارة هذه الأمة إلاهية، ووعيها كبير، ورؤيتها متجذرة، وهادفيتها عالية، ورشدها بالغ. وهي أمة رسالية جادّة على طريق صنع الإنسان الكبير والأوضاع الحياتية المتقدّمة، وتثبيت المسار القيمي الكريم القويم العادل الوضيء في هذه الحياة، والاتجاه الصاعد بعقل الإنسان وقلبه وإرادته وسلوكه على صراط ربّه العظيم.

الخطبة الأولى

الحمد لله الذي تنتهي إليه كلُّ الأسباب ومسبَّباتُها، وجملةُ العِلل وأصولُها، وليس قبله علّةٌ ولا معلول، وهو أوّلُ الأوّلين، وآخِرُ الآخِرين. ليس له ابتداء ولا انتهاء، وهو المنزَّه عن الزيادة والنقصان، ومسّ الحوادث والليالي والأيام، يفعلُ ما يشاء ولا يفعل ما يشاء غيره.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليماً كثيراً كثيراً.
أوصيكم عباد الله ونفسي الأمَّارة بالسوء بتقوى الله الذي لا يُغني عنه شيء، ولا يحمي منه شيء، وهو فوق كلِّ شيء. ولا نافعَ كرضى الله، ولا ضارّ كغضبه.
والمستكبرون على الله يقول فيهم كتابه العزيز {فَادْخُلُواْ أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ}(1) ويقول عن الذين اتقوا {وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْاْ مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ خَيْراً لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ، جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَآؤُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللّهُ الْمُتَّقِينَ، الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}(2).
اللهم صلّ على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولوالدينا وارحامنا وجيراننا وأصدقائنا وأزواجنا ومن أحسن إلينا من المؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، وكل مؤمن ومؤمنة، ومسلم ومسلمة.
اللهم أعذنا من الكبر، واعصمنا من الزّهو، ونزّهنا من الطغيان، وجنّبنا لظى النيران، وقنا خاتمة الخسران، واحمنا من الزيغ، وأبعدنا عن الضلال، وزيّنا بالتقوى، وأكرمنا بالإيمان يا حميد يا مجيد، يا أكرم الأكرمين، وأجود المعطين.
أما بعد فهذا حديث موضوعه الكسل:
ما وُجِدنا إلا لنعمل صالحاً، لا لنجمد، أو نُفسد يقول سبحانه {وَهُوَ الَّذِي خَلَق السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً…}(3)، ويقول عزّ من قائل {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً}(4)، ويقول تبارك وتعالى {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ}(5).
فالحياة في القرآن ميدان سباق للعمل الصالح، ولا صالح إلاّ ما كان لله سبحانه دون ما تُقرِّب به لسواه، ولا تقرُّب لله بقبيح وهو أجمل جميل، وأجلّ جليل، وأكمل كامل على الإطلاق، لا يُوصف جلاله، ولا يُحدّ جماله، ولا تناهي لكماله.
فالكسل خُلق مضاد للإسلام، مصادم لهدف الحياة، ناقض لغايتها، معطّل لما يريد الله لهذا الإنسان من خير وفضل وكرامة
والحركة حياة، والسكون موت، ولئن كانت الحياة خيراً من الموت، إلاّ أن الموت خيرٌ من حياة الباطل، وحركة الفساد.
والناس صنفان؛ امرؤ ميّتٌ بسكونه، وآخر حيّ، ومجتمع ميّت بشلله وآخر حيّ لأنه في حركة.
والحركة حركة خير أو شرّ فما كانت شرّاً فهي ضرر وإضرار، ومحرقة وجود ووبال. وما كانت خيراً كانت إعماراً وإصلاحاً، ونُجحاً وفلاحاً.
والإسلام دين القوّة الصالحة، والهدف الأعلى. والقوةُ في الحركة، وصلاح الحركة في انسجامها مع الهدف الأعلى خطّاً وخُلُقاً، وفي توظيفها على طريقه.
أما الكسل فهو توقّفٌ عن طلب القوّة، وركون للضعف، والحركة غير القويمة تنأى بأهلها عن الغاية، وتقلق الحياة، وترهق أوضاعها، وتراكم الفساد.
الكسل ظاهرة سلبية، وانقطاع حركة يُلحق الحيّ بالميت في ما هو من أبرز ظواهره.
وهي ظاهرة تعتري حياة الفرد والجماعة من استرخاء إرادي وهبوط في العزم يعاني منه الداخل، ويمثّل حالة مَرَضِيَّةً للنفس.
ويأتي انحراف الحركة من انحراف فكري، أو عجز نفسي عن مجاراة الخط الصاعد في تكاليفه الثقيلة.
وإيمان المؤمن، وهادفيته، وعلوّ غايته في الحياة، وتطلّعه الكبير، وشعوره بما كُلّف به من وظيفة الخلافة في الأرض، ومسؤوليتهِ أمام الخالق العظيم في إصلاح نفسه، وتصحيحِ أوضاع الحياة وتطويرها، والارتفاع بمستوى حركة العقول والنفوس والأيدي وتنشيطها… كل ذلك لا يسمح له بالكسل و التكاسل، والتوقف الإرادي عند نقطة من نقاط الطريق الذي لا ينقطع. فلو تمَّ للمؤمن ذلك الإيمان العالي، والشعور الغزير لما عرفت حياته الكسل والفتور فضلاً عن تمام التوقّف في الحركة.
ولندخل حديث المعصومين عليهم السلام عن الكسل ولو بصورة مرور عابر:
الكسل يُحبط الغايات:
عن الباقر عليه السلام:”الكسل يضرُّ بالدين والدنيا”(6).
وعن علي عليه السلام:”آفة النُّجح الكسل”(7).
وعنه عليه السلام:”الكسل يفسد الآخرة”(8).
مع الكسل لا يربح الإنسان دنيا ولا آخرة، ولا يتقدَّم خطوة لغاية نافعة من غاياتهما، والكسل يكتب على صاحبه فرداً كان أو أمَّةً فشلاً لا مخرج له منه إلا بالنشاط، فالنتائج الرابحة، والمواقع الإيجابية المتقدِّمة لا تأتي سعياً على الرأس لا القدم لأصحاب الأماني الفارغة بلا حركة من عقل ويدٍ ورجل. والبناءُ لا يُقيمه إلا النشاط، وما كان منه عالياً لا يُطلب إلا بالجهود المكثَّفة.
وفي الكلمة عن علي عليه السلام:”من دام كسله خاب أمله”(9) فمن أراد لآماله أن تفشل، ولأمانيه أن تخسر فما عليه إلاَّ أن يكسل، والإقامة على الكسل تعني دوام الفشل. وإنّ من أكثر النّاس همّاً وأرهقهم نفسية، وأتعبهم أعصاباً من كبرت آماله، وقصرت أعماله. فتعاظم الأماني، وقصور العمل، وحبُّ الكسل كارثة للنفس تسبّب لها الانهيار، ولربّما قضت عليها. وكما أن في الكسل حرمان الثمرات، فإن فيه تضييعاً للحقوق، فعن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم:”يا علي… إيّاك وخصلتين: الضجرة والكسل؛ فإنّك إن ضجرت لم تصبر على حق، وإن كسلت لم تؤدّ حقّاً”(10).
الكسل منشأ ومعالجة:
عن الإمام علي عليه السلام:”من التواني يتولّد الكسل”(11)، “عليك بإدمان العمل في النشاط والكسل”(12)، “ضادّوا التواني بالعزم”(13).
وعن الصادق عليه السلام:”إن كان الثّواب من الله فالكسل لماذا؟”(14).
قد يبدأ الكسل توانياً وتسويفاً للعمل، وتأجيلاً بلا موجب لتنفيذ الرأي مع الاقتناع بسداده. وبتكرار التسويف، ومعاودة التواني مرة بعد أخرى، والفتور في التنفيذ تتعمّق العادة وتكبر وتتجذر وتتوسع في النفس فتكون بطالة دائمة، وكسلاً نفسيّاً وعملياً ثابتاً.
وإذا كان التواني ينتهي بصاحبه إلى الكسل فإن المعالجة يجب أن تأتي مبكّرة بمضادة التواني بالعزم، ومواجهته بالتصميم، والأخذ بالمبادرة.
ولو وصل الأمر إلى الكسل فلابد من رفع مستوى المقاومة، والأخذ بالمكابرة، وإكراه النفس وحملها حملاً على العمل ومضاعفته ومداومته تخليصاً لها من رخاوتها، وترويضاً لها على الصلابة والتحمّل للعناء والمشقَّة.
ومما يطرِد روح الكسل في النفس، ويُعطي القوَّة على العمل، والصبرَ على المشقّة تذكُّر النتائج الكبيرة المضمونة الرابحة المترتبة على مقدّماتها من العمل، وأن قانون العليّة منتج دنيا وآخرة.
كسل الدنيا والآخرة:
من كسل في أمر الدّنيا وكان تركه لها عن كسل مع إغراءاتها الحاضرة وزينتها المجتذبة تُوقِّع منه أن يكون أقرب إلى الكسل عن طلب الآخرة والسعي الصادق لها فتقول الكلمة عن الباقر عليه السلام:”إنّي لأبغض الرجل – أو أبغض للرجل – يكون كسلاناً عن أمر دنياه، ومن كسل عن أمر دنياه فهو عن أمر آخرته أكسل”(15).
ومن الناس من يكون النّشط في طلب الدنيا وجمعها والاستكثار منها إلا أنَّه أكسل الناس في أمر الآخرة والاستعداد لها؛ وذلك أحمق مغرورٌ لا رشد له وهو مبغوض إلى الله كما تقول الكلمة عن علي عليه السلام:”وإن من أبغض الرجال إلى الله تعالى لعبداً وكله الله إلى نفسه، جائراً عن قصد السبيل، سائراً بغير دليل؛ إن دعي إلى حرث الدّنيا عَمِل، وإن دعى إلى حرث الآخرة كسل…”(16).
مسار ونتيجة:
عن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم:”… أما علامة الكسلان فأربعة: يتوانى حتى يفرّط، ويّفرّّط حتى يضيّع، ويضيّع حتى يأثم، ويضجر”(17).
وعن الصادق عليه السلام:”قال لقمان لابنه: للكسلان ثلاث علامات: يتوانى حتّى يفرّط، ويفرّط حتى يضيّع، ويضيّع حتى يأثم”(18).
تسويف للفعل بعد تسويف، وتوانٍ عن العمل تلو توان حتى ينتهي الأمر – كما سبق – إلى فوات الوقت، وذهاب الفرصة، وخروج الموسم، وبذلك تضيع المصلحة، ويمتنع القصد، ويستحيل الهدف، فلا يبقى إلا النّدم، ولا تحصد إلا الحسرة.
ومن العاقبة المرّة المهلكة للتواني والتفريط، ولتضييع الأهداف الواجبة إثم يُلاحق المرء في آخرته، ويسوء به مصيره، ويسقط قدره، ويشتدّ عذابه.
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى وآله الأطياب الأطهار، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم لا تبتلنا بالكسل عن عبادتك، ولا العمى عن سبيلك، ولا بالتعرّض لخلاف محبّتك(19).
و”امنن علينا بالنّشاط، وأعذنا من الفشل والكسل والعجز والعلل والضرر والضجر والملل”(20).
اللهم اجعل عمرنا بذلة في طاعتك، وجهاداً في سبيلك، وسعياً مخلصاً إلى مرضاتك، وارزقنا التوفيق للخير والسداد، وخذ بيدنا إلى ما تحب وترضى يا أكرم الأكرمين، ويا أرحم الراحمين.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{وَالْعَصْرِ، إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}.

الخطبة الثانية

الحمد لله الذي له ما في السماوات والأرض، ولا سلطان على شيء لأحد من دونه، ولا تدبير للخلق إلاّ له، ولا كبيرة ولا صغيرة في الكون إلا بعلمه، ولا بداية ولا نهاية لشيء إلا بإذنه، ولا رافع ولا خافض إلا هو، ومصير الأشياء كلّها إليه.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله أرسله بالهدى ودين الحقّ ليظهره على الدّين كلّه ولو كره المشركون. اللهم صلّ على محمد وآله.
عباد الله ألا فلنتّق الله فذلك خيرٌ لمن اتّقى، وللمتقين راحة في الدّنيا، وفوز في الآخرة، وللطاغين عذاب النّار. وإن ما يُنال عند الله من موفور الجزاء، وبالغ الكرامة لا يُشترى إلا بالتّقوى والعمل الصالح، والتوجّه الخالص إليه سبحانه. وليس ما يُنال عنده تبارك وتعالى يُنال عند غيره، فلنكن على تقوى منه عزّ وجل، ولنرغب في العمل الصالح، ولا نقصد بما كان لنا من عمل طيب غير وجهه الكريم.
أعذنا ربّنا وإخواننا المؤمنين والمؤمنات من أن نرغب إلى من سواك، وأن نستبدلَ عنك، ونستعطي من غيرك، ونقصد بما لنا من عمل صالح أحداً من خلقك، أو نشرك معك أحداً، واغفر لنا ولهم مغفرة جزماً، وتب علينا توبة تغسل كل ذنوبنا، وتبرئنا عندك، وتسقط عنا كل تبعة في الدّنيا والآخرة يا أكرم الأكرمين، ويا أرحم الراحمين.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله الصادق الأمين، وعلى علي أمير المؤمنين وإمام المتقين، وعلى فاطمة الزهراء الصديقة الطاهرة المعصومة، على الأئمة الهادين النجباء: الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن المهدي المنتظر القائم.
اللهم صل على محمد وآل محمد، وعجل فرج ولي أمرك القائم المنتظر، وحُفّه بملائكتك المقرّبين، وأيده بروح القدس يارب العالمين.
عبدك وابن عبديك، الموالي له، الممهد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين وفِّقهم لمراضيك، وسدِّد خطاهم على طريقك.
أما بعد أيها الكرام المؤمنون والمؤمنات فإلى هذه الموضوعات:
الخمر حرام:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ، إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ(21)، وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَاحْذَرُواْ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاَغُ الْمُبِينُ}(22).
الخمر حرام قرآنا وسنة وإجماعا عامّا بين المسلمين، وقد أثبت الإسلام عليه حدّاً، ويكفي الفرد المسلم والمجتمع المسلم لأن يهجر الشيء ويفرّ منه، ويسترجسه، ويحاربه وينهى عن مقارفته، وينأى بنفسه وأهله ومجتمعه عنه أن يعلم بحرمته في الدّين.
ولا يناقش في كل ذلك، ولا يتساهل أحد مع أمر الحرمة الثابتة في الدين إلا من خفّ الدين في نفسه فهانت عليه حرمات الله وحدوده.
أم المدافع عما حرَّم الله، الساعي لتثبيته، الذائد عن وجوده وشيوعه فهو متقدِّم جدّاً في محاربة الله، ومضادّة دينه، وتقويض شريعته، مستهترٌ شديداً بحرماته وحرمات المسلمين.
ولا يُتوقّع من مؤمن بالله ورسوله أن يحدث منه كلّ ذلك، ولا شيء منه.
وغريب أن تطالعنا الصحافة في بلد الإسلام والإيمان بكلمات وآراء تُنسب للبعض في هذا البلد تدافع عن وجود الخمر وتحميه، وتنذر بالخسائر المالية الكبرى في منعه وتخوّف من ذلك.
وبكلام موجز يقال لمثل هؤلاء: السرقة مصدر من مصادر الدخل الكبير، والزنا والقِوادة سببان للإثراء، والقمار قد يُربحك مالياً ويعطيك غنى بعد فقر، والنهب والغصب والتحايل على الثروة العامة، والاستيلاء الظالم على الكثير منها يخلِق مستويات قافزة من الثروة فعلينا إذاً لتثرى فئة صغيرة في المجتمع، وتترف، ويزيد فسادها وعبثها الاجتماعي أن نبيح كل ذلك وإن هُدِمَت الأديان والنفوس، وانتشرت الأمراض والكوارث البدنية والاجتماعية، وساءت الأوضاع، وانحطّ الخلق، وضاعت القيم، وشقيت حياة الملايين، وسرقت لقمة الضعيف، وعربد الباطل، وضؤل الحق، وانسحقت الشعوب، واختلّت كلّ الموازين. لسواد عين المترفين علينا أن نتنازل عن الدين، وعن كل مصالح الشعوب، وعن كل أمنها وكرامتها لِتَضخّمُ جيوبهم.
أبارك للمجلس النيابي وقفته الحاسمة من قضية الخمر، وإصدار قانون بمنعه منعاً شاملاً بيعاً وشراء وتعاطيا وتخزينا وترويجا بما يخلّص هذا البلد الطاهر منه ويقطع دابره. أما عقوبة شرب الخمر فقد حدّدتها الشريعة.
وأي موقف مناف لهذا الموقف من قضية الخمر، وأي عرقلة لتشريع منعه قانوناً لو جاءت من مجلس الشورى أو أي جهة أخرى فهي فضيحة كبرى لهذا المجلس أو الجهة، ودلالاتها مخزية جدّاً، وهي لسان بليغ مفصح عن معاداة الله ورسوله صلّى الله عليه وآله، وعن استخفاف كبير بالإرادة الإيمانية لهذا الشعب ومصالحه.
وأي تقصير من أي مسلم(23) من أبناء الشعب يتأخر بقانون منع الخمر ولو ليوم أو ساعة أو دقائق فهو إثم ومشاركة في إطالة عمر هذا المنكر الكبير في هذه الساحة الطاهرة(24).
لابد من وقفة شاملة وصامدة مع المجلس النيابي في هذا الأمر حتى يتمّ منع الخمر منعا نهائيا.
فأي كلمة أو توقيع أو موقف مما يأذن الله عز وجل به في مواجهة الخمرة، وإنجاح مشروع القانون، والتسريع بتشريع المنع قانونا هو واجبنا جميعا {وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ}(25).(26).
أوقفوا الهرولة:
لكل أمة طابعها العملي الخاص المُستَلهم من حضارتها ودرجة وعيها وهادفيتها ورشدها ومستوى جديتها ورساليتها.
وحضارة هذه الأمة إلاهية، ووعيها كبير، ورؤيتها متجذرة، وهادفيتها عالية، ورشدها بالغ. وهي أمة رسالية جادّة على طريق صنع الإنسان الكبير والأوضاع الحياتية المتقدّمة، وتثبيت المسار القيمي الكريم القويم العادل الوضيء في هذه الحياة، والاتجاه الصاعد بعقل الإنسان وقلبه وإرادته وسلوكه على صراط ربّه العظيم.
إنها أغنى الأمم في مستوى انتمائها، وإرثها الحضاري، ودورها الرسالي الضخم، ورموزها الشامخة، وقيمها الخلقية الرفيعة ودينها القويم.
وأمة هي الأغنى في كل ذلك لا تستورد الخبيث، ولا تهبط إلى مستوى الإسفاف، ولا تكون إمَّعة، ولا تركض برجلها وراء كل ساقط، ولا ترفع صوتها مع كل ناعق، ولا تقبل أن تكون سوقاً مفتوحاً لكل العادات والتقاليد من مبتكرات الجاهلية، ولا تسرع في استقبال كل جديد وإن سفّ، ولا تُخترق لكل المحاولات الخبيثة.
أمة بهذا المستوى تجدد وجودها وحياتها بوعي على خطّها الحضاري الكريم، وتعيد إنتاج ذاتها على نفس الخطّ صاعدة صامدة، وتحقق كل يوم قفزة على هذا الطريق، وتنجز نجاحات مستجدة متوالية، وتنتقي الجيّد مما تعرضه سوق الفكر وسوق الثقافة والسياسة والاجتماع وغيرها، وتختار لنفسها بوعي لا أن تعطي بيدها لخيارات الآخر ومخططاته ومؤامراته، وصياغاته في سذاجة واستسلام.
وقد نهت الأحاديث المعصومية الشريفة من ظاهرة فقد الوزن، وعدم الإحساس بالذات، والثقة المفرطة في الآخر، أو التبعية البلهاء لكل ما يكون عليه، ولكل ما يدخل فيه، ويبتلي به، ويقع في مهاويه، وذلك بمثل هذا الحديث “لو دخلوا حجر ضب تبعتموهم”(27) دخلتم جحر الضب على ضيقه ومنافاته لسلامتكم ومصلحتكم المعنوية والمادية وحجمكم الكبير كما دخلوا، وليس عن وعي ولكن لأنهم دخلوا، وذلك لأنكم تعيشون نظرة مخدوعة لهم تريكم إياهم كباراً عظماء وأن كل ما يأتي عنهم صحيح وتقدّميٌّ وموثوق، وتعيشون واهمين نظرة احتقار لأنفسكم وحضارتكم ودينكم وكل تراثكم العظيم، ورموزكم الفذّة.
من المؤلم جداً أن صرنا أمة مهزوزة الثقة بنفسها، فاقدة للوزن، محتقرة لذاتها، تعيش الشعور بالحاجة في كل شيء عند الآخر، وتتبعه في رديئه قبل جيّده- على أنّه ليس له من الجيّد ما لا يقدّمه لها دينها وشريعتها- وتدخل معه كل مدخل. ولو شرّق لشرّقت بتشريقه، ولو غرّب لغرّبت بتغريبه، وإذا لبس لبست ما يلبس، وإذا أكل أكلت ما يأكل، وإذا شرب شربت ما يشرب، وإن اكتسى اكتست، وإن تعرى تعرّت من غير أن تطرح سؤالاً واحداً على نفسها في هذه التبعية المجنونة وآثارها المدمِّرة.
أما الآخر فيهبّ فزعاً محارباً بشدّة لأي جديد من فكر أو سلوك أو لباس أو غيره يفِد دياره من بلاد الإسلام وحضارة الإيمان والقرآن الكريم(28).
المسموع أو المعلوم أن الصلاة على محمد وآله صلّى الله عليه وآله في الاحتفال بمناسبات الفرح الديني وغيرها تبدلت في أوساطنا الاجتماعية إلى التصفيق.
قلنا أن التصفيق ليس محرّماً ولكن هل سألنا أنفسنا عن سبب هذا الاستبدال ووجاهته، وهل هو أقرب إلى تربية الجيل تربية سليمة، وتثبيت التوجّه الديني، وغرس حب محمد وآله في النفوس وتأكيد ولائهم، وهل الصلاة على محمد وآل محمد صلّى الله عليه وآله تنافي أجواء الفرح والمناسبات السعيدة؟!
وصعدت المسألة أن ضُمّ إلى التصفيق تصفير وضرب للأكتاف بعضها ببعض. وما مقام هذا التعبير من الدين وآدابه وقيمه ووقار الإنسان المسلم وركازة شخصيته؟
ومن الجديد في هذا المجال أن تشيع هذه الظاهرة بأن يَنشىء البعض مقطوعة شعرية في فلان وفلانة باسميهما لتنشد ليلة زفافهما والكلفة المالية لهذا الإنشاء والإنشاد عالية وفوق ما تتصور. يقول ثقة بأن الثمن المدفوع 700 دينار إلى 1000 دينار، وغداً سيُطالب العريس بها، وتُضاف إلى تكاليف الأعراس التي يدفعها الغنيّ والفقير.
ولا يُدرى إلى أيّ حدٍّ تصل هذه المقطوعة غداً في الغزل المكشوف بما يتعلق بأعراض المؤمنين.
وحتى تأخذ أي بادرة من هذا النوع مستوى الظاهرة وتفرض نفسها على الأوضاع والأوساط الاجتماعية بكل مستوياتها لا تحتاج في العادة إلى وقت طويل، وجهد مضاعف. إن أسوارنا مفتوحة، وقلاعنا مفتوحة، وأسواقنا مفتوحة…
ويدخل الغريب والممجوج والضار المهلك، والساقط الرديء من العادات والتقاليد من دون رخصة وبلا حواجز.
والمجتمع وحتى في أوساطه الملتزمة قد يتلقّى كل ذلك بسذاجة بينما قد يكون وراء هذا الأمر بصورة مستقربة جداً اختراقات خطيرة وخطيرة لا يشعر بها الكثيرون.
إن هناك من يخطّط وبمهارة ومكر خبيث لتذويب أخلاق المجتمع وتمييعه وانفصاله عن قواعد السلوك الإسلامي وأخلاقه وآدابه.
وهذا الغزو السلوكي هو الأقل كلفة، والأكثر شيوعاً، والأسرع نفوذاً من الغزو الفكري، وهو الباب المفتوح، والطريق المؤدي إليه. فإذا سقط المجتمع الإسلامي أخلاقيا لم يعد قابلاً لهضم الفكر الإسلامي وتقبّله والصبر عليه مع ارتفاع قامته.
وهنا يبدأ الانفصال عن هذا الفكر لاستثقال النفس لمقتضياته وتكاليفه ويبدأ تبرير النفس حتى لا تعيش العذاب الداخلي والمفارقة المؤلمة لهذا الانفصال بمناقشة الفكر نفسه والتشكيك فيه ثم مواجهته.
الفكر الإسلامي له مقتضيات تتحملها النفوس السويّة، أما النفوس التي فقدت وزنها فإنها ليس لها كاهل يحمل التكاليف الإسلامية.
والكلمة الأخيرة أن يا أيها المؤمنون أوقفوا الهرولة وراء كل مستورد خارجي، ومنتج محلي من الفكر والسلوك قبل التمحيص والدراسة الممعنة.
حتّى لا تنسى القدس:
حتى لا يُنسى القدس.. لا ينسى المسجد الأقصى، أولى القبلتين، فلسطين كلّها، مقدساتنا في كل مكان، حتى لا تُنسى الهوية والدين والانتماء، لا تُنسى العزّة والكرامة، لا تُفقد الغيرة والإحساس بالذات، حتى لا تدوب في مخططات التدجين والارتماء والاستسلام..
وللإنكار والاحتجاج على الخطوات الجائرة التدنيسية للمقدسات، وهتكها، والمحاولات المحمومة للاستيلاء على بيت المقدس من قبل العدو الإسرائيلي، وإنكاراً على الموقف المتخاذل إن لم يكن المتماشي مع عبث الصهاينة بالمقدسات، وفرض الهيمنة الكاملة الغاشمة عليها، وسحق إرادة الأمة وقهرها، يقف المؤمنون اليوم بعد صلاة الجمعة والعصر في مساجد البحرين وقفة غضب لما يجري من مخططات تخريبية تستهدف تغيير الواقع الإسلامي في القدس، ولموقف الصمت المخزي الذي تقفه الأنظمة الرسمية في الأمة من هذه القضية وكل القضايا المركزية التي تهم أمتنا المجيدة.
إنها صرخة استنكار وسخط، وتعبير عن مشاعر الولاء للدين، والتمسك بالمقدّسات، والاستعداد للبذل والتضحية في سبيل الله.
موعدكم مع هذه الوقفة الواجبة بعد صلاة العصر على الفور فهبّوا لها مأجورين مسرعين(29).
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله خاتم النبيين والمرسلين وآله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم ارزقنا هدى ورشداً واستقامة، وأنقذنا من الضلال، وانصرنا على من ناوأنا من أهل الباطل، ولا توقعنا في مكر الظالمين، ومن أراد بالدين المضرّة، وبالمؤمنين الغواية. وانصر الحق وأهله، وأذل الباطل وأهله يا قوي يا عزيز.
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}(30).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 – 29/ النحل.
2 – 30 – 32/ النحل.
3 – 7/ هود.
4 – 7/ الكهف.
5 – 2/ الملك.
6 – بحار الأنوار ج 75 ص 180.
7 – مستدرك الوسائل ج12 ص67.
8 – المصدر السابق ج13 ص45.
9 – ميزان الحكمة ج3 ص2704.
10 – بحار الأنوار ج74 ص48.
11 – مستدرك الوسائل ج 13 ص45.
12 – ميزان الحكمة ج 3 ص 2704.
13 – المصدر السابق ص1968.
14 – بحار الأنوار ج 70 ص159.
15 – الكافي ج 5 ص85.
16 – شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج7 ص 108.
17 – مستدرك الوسائل ج12 ص66.
18 – بحار الأنوار ج7 ص 159.
19 – من دعاء مكارم الأخلاق مع تغيير ضمير المتكلم.
20 – بحار الأنوار ج 91 ص125.
21 – الخمر يأخذك إلى غير طريق أهدافك العليا، يسقط قيمة حياتك، يلهيك، يلهي شعوباً وأمما، ينحدر بالإنسان عن خطّ الله عزّ وجلّ.
22 – 90-92/ المائدة
23 – أنا وأنت وكل الآخرين.
24 – هتاف وجموع المصلين بـ(لبيك يا إسلام).
25 – 105/ التوبة.
26 – هتاف جموع المصلين بـ(نحن دولة إسلامية، نرفض أفكاراً غربية).
27 – معجم أحاديث الإمام المهدي (ع) ج1 ص 334، والحديث منقول عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم.
28 – قطعة قماش على الرأس في الغرب تثيره، وتجعله يشنُّ حرباً عليها.
29 – هتاف جموع المصلين بـ(معكم معكم يا علماء).
30 – 90/ النحل.

زر الذهاب إلى الأعلى