خطبة الجمعة (398) 25 ربيع الاول – 12 مارس 2010م

مواضيع الخطبة:

*الإنسان الضعيف *الدّين والسياسة*إسرائيل تهزأ *مؤتمر العلامة

إنه لتحتاج الحركة الدينية العلمية والعملية حتى تشتدَّ، وتصحّ، وتحتفظ بأصالتها، وتثبت على الطريق، ولا تُصابَ بالاهتزاز أو الميل للالتحام بإضاءات الماضي الوضيء وسيرة عظماء الأمة معيناً لها ذلك للانشداد بمحورها الأول ومنارتها الأصل من كتاب الله المجيد وسيرة رسوله الكريم وأهل بيته المعصومين عليه وعليهم أفضل الصلاة والسلام.

الخطبة الأولى

الحمد لله الذي أخرج من الحبّ والنَّوى حياةً ناميةً، وشجراً عالياً، ونخلاً باسقاً، وخضرة رائعة، وأزهاراً وريحاناً، وجمالاً أخّاذا، وثمراً نافعاً، وغذاء مفيداً. ومن النُّطفة إنساناً سويّاً، وعقلاً رشيداً، وقلباً زكيّاً، وروحاً مشرقة، وهدى ونوراً.
يُخرج الحيّ من الميِّتِ، ويُخرج الميت من الحي، ويبعث الحياةَ بعد الموت وهو على كُلِّ شيءٍ قدير.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليماً كثيراً كثيراً.
أوصيكم عباد الله ونفسي المقصِّرة بتقوى الله الإله الحقّ الذي لا إله غيرُه، ولا ربَّ سواه، وليس من سبيل للخير إلا من عنده، ولا مالك لوضعٍ أو رفعٍ من غير إرادته، ولا مُنقذ من دونه من غضبه، ولا أحدَ يُنجي من عقابه، ولا بديل عنه في ما قاله كتابه {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ، وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ، وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ، وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ، وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ}(1).
والتقوى ظاهرٌ جميل من القول الحقّ القويم، والعمل الصالح الرضيّ، وباطن نقيٌّ شائق من الرؤية الهادية، والشعور الطاهر الراقي الكريم، وتوجُّهٌ من العقل والقلب إلى معدن العظمة بلا حدود في مهابة وتعظيم وخشوع.
اللهم صلّ على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولوالدينا وأولادنا وأزواجنا وأرحامنا وقراباتنا وجيراننا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا يا توّاب، يا رحمن، يا رحيم.
اللهم أرسل على قلوبنا من غيث رحمتك ولطفك ما يغسلُ أدرانها، ويزيل عنها الشكَّ والريب، وكلَّ ما يكدّر صفوها، ويُحدث فيها شيئاً من ظلمة، ويحول بينها وبين رؤية الحق، أو قبوله والولع به، وارزقها قوّة اليقين، ونفاذ البصيرة، ولذّة الذكر، وحلاوة المناجاة، وردّ عنها مكائد السوء، وغاسق الضلال، ووسوسة كلّ مفسدٍ، وشيطان رجيم.
الإنسان ضعيف بلا الله :
أما بعد أيها الإخوة الأعزاء من المؤمنين والمؤمنات فإن الإنسان في نفسه ضعيف، وإنما قوّته فبا يتراءى له بالأسباب، وكل الأسباب مملوكة لله وحده، ولا استمساك لها من نفسها. فالتعلّق بها إنما هو إلى حين، وبعد فنائها يعود المستمسك بها وعيه إلى ضعفه، ويستسلم إلى نهايته، ويتيقّن أنه لا لجأ له من دون الله، وأنه في قبضة يده، وما تراءى له من استقلاليته أو استقلالية الأسباب إنما هو وهمٌ خادع لا يغني من الحقِّ شيئاً.
ويطلب الإنسان الضعيف الحمايةَ والدعم والمدد، ويأمل البقاء والخلود، والهروب من الموت بالسعي الدائب وراء توفُّر الأسباب؛ فيطلب الأهل والعشيرة، ويطلب المال والجاه والمنصب، ويطلب السلاح الذي يذود به عن نفسه، وأجواءَ الوقاية التي تحميه من المرض، والدواءَ والعلاج الذي ينقذه منه، والمنزلَ الذي يكنّه من برد الطبيعة وحرِّها، وأنواعَ الغذاء والشراب الملائم مما يتقوّى به، ونسمةَ الهواء التي يتنفّس منها ما به حياته.
وكل هذه الأسباب، وما تبنيه حياةُ الأمم والأجيال من بني الإنسان مرتبطٌ في بقائه ببقاء البُنية الكونية، وقيام الأرض والسماء ومعادلاتهما، والقوانين الحاكمة لهما.
ويلفت القرآن الكريم واعيةَ الإنسان إلى أن المعادلة الكونية القائمة التي تعود إليها كل الأسباب التي يرتكن إليها، ويحتمي بها، ويستمدُّ منها القوّة والبقاء، وتنصبّ آماله عليها، ويشعر بالاطمئنان لها، والأمن والاستقرار بسببها منتهية زائلة(2)، وأن الآمال كلها عائدة هباءً عند من انشدّ إليها، وانقطع نظره عندها، وأن الأمل الوحيد الصادق الباقي هو الأمل في الله، والتعلُّقَ الذي لا يخيب هو التعلق به، وأنَّ مسببَ الأسباب الذي لا يتغير، ولا يزول، ولا يهِن إنما هو الإله الحقُّ تبارك وتعالى.
ونأخذ نماذج هنا من آيات القرآن الكريم في التذكير بهذه الحقيقة التي لا تحضُر كثيراً من المؤمنين إلا قليلا، وفي تضييعها والغفلة عنها انحراف الحياة عن هدفها، وخسارتُها الكبرى الفاجعة.
1. {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا}(3). النهاية.المختومه. وهو زلزال شامل لا يبقى ولا يذر.
2. {وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً}(4).
3. {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً، فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً، لَا تَرَى فِيهَا عِوَجاً وَلَا أَمْتاً}(5). أين عالمك؟! أين ما يستمسك به الإنسان، أين ما يقيم عليه حضارته؟! أين ما يثبّت قدميه عليه؟!
4. {وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَاباً}(6).
5. {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُواْ للّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ}(7).
6. {وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ}(8).
7. {وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ}(9).
8. {فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ}(10).
9. {وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ}(11).
10. {يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاء مَوْراً}(12).
11. {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاء كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ}(13). كأنها تلفّ لف الشيء الصغير.
12. {وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ}(14).
13. { يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُّكُرٍ، خُشَّعاً أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ، مُّهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ}(15).
نعم يُقيم الإنسان قصوره وقلاعه على الأرض ليحتميَ بها هو، ومَنْ بعده من نسل، وليُبرز قوته وإبداعه وعظمته ويبرهن على ذاته من خلال ذلك، ويبني تحصيناته، ويجمع من أسباب القوّة والمنعة والجبروت ما استطاع بأمل الخلود، وأن يقفَ وجودُه على أرضية متينة، وقاعدة متماسكة شديدة، لكنَّ القرآن يتحدث وهو الصادق عن زلزال عامٍّ لا يأتي على القصور والقلاع والتحصينات مما فوق الأرض أو تحتها وإنما يأتي على الأرض نفسها لينتهي كل شيء أقيم عليها وإن كان الرواسيَ والشامخات، والناطحات، وعن تخلِّيها عما في بطنها وما على ظهرها، وعن نسف الجبال نسفاً، ودكّ الأرض دكاً، ومور السماء موراً، وطيّها طيّاً، وتفجير البحار وتسجيرها، وانكدار النجوم وانطماسها، وانتثار الكواكب، وانفراط عُقدها، وتبعثر نظامها، ليجد الإنسانُ نفسه خارج الغفلة والنسيان بأنه المخلوق الواهن الذليل المسكين المستكين لله سبحانه والذي لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا، ولا موتا ولا حياة ولا نشورا، ولا تملك له الأسباب المملوكة المسّيرة خيراً ولا شراً ولا منعاً ولا دفعاً.
فهل يخرج الإنسان من وهمه وهو في هذه الحياة وقبل فوات الأوان فلا ينصرف لجمع الدنيا ونهبها والاستيلاء الظالم عليها، وتخريب القيم من أجلها، وبيع الأيام عليها طلبا للعزّ والقوّة التي تحميه وتُبقيه وتُخلّده وتعطيه الامتداد ناسياً أو متناسياً أنْ لا حول ولا قوة إلا بالله، وأنْ لا شيء يُغني عنه، وأن الأمر كلّه بيده، ولا مفرّ من قَدَره، ولا مهرب من قضائه، ولا تحايل على مشيئته، وأنّ منتهى الأمر إليه، ولابُدَّ من القيام بين يديه، والمصير إلى حكمه، والخضوعِ لما قضى به عدلُه، وأن ليس لطالب الحماية والسَّند والقوة والعزة والأمن والاطمئنان من سبيل آخر غير اللجإ لله، والتعلق به، والاستجابة لإرادته، وطلب رضاه.
ولإِعطاءِ المثلِ من قبل الله سبحانه للإنسان لتعلُّمِهِ في هذه الدينا وقيام الحجة عليه تحدث هذه البراكين والزلازل والفيضانات والحوادث الطبيعية الصغيرة التي تعجز أمامها حيلة أهل الأرض في حياتهم الدنيا وتصيبهم بالرعب والدمار والهلاك والفوضى والتشرّد لعلهم يتّقون.
وكل هذا الذي يحدث من كوارث الطبيعة ويهلع له الإنسان في هذه الحياة مثال مصغّر لما يستقبله في نهاية الدنيا من زلزال كوني شامل يُظهر هشاشة الأسباب، والحاكمية الحقيقية الجليّة لمالك كل سبب ومُسبَّب.
اللهم صل وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى وعلى آله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب. ربنا اجعل دأبنا ذكرك وشكرك، وأخلص طاعتنا وعبادتنا لك، وأنقذنا من كل ما يصرف عنك، ويحرف عن صراطك يا رحمن يا رحيم.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا، وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا، وَقَالَ الْإِنسَانُ مَا لَهَا، يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا، بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا، يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ، فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ، وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ}(16).

الخطبة الثانية

الحمد لله الذي يبهر العقولَ جمال مخلوقاته وما جمالها إلا قبسة من جماله، وعظمةُ مصنوعاته وما عظمتها إلا رشحةٌ من عظمته، وتخِرُّ القلوب لهدى أوليائه وما هداهم إلاّ إشعاعة من نور علمه، وتصعق النفوس لقدرة ملائكته وما قدرتهم إلا استمطار محدود من عطاء قدرته. له المثل الأعلى، وهو المنزّه عن الأمثال والأشباه والأضداد، وما يناله التصوُّر، وما يصل إليه الوهم، وما يدنو منه الخيال.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وزادهم تحية وبركة وسلاما.
عباد الله ألا فلنتق الله ونحمده ونشكر نعمَه، فلا موجب للحمد إلا وهو له، ولا نعمة تستحق الشكر إلا وهي من عنده، ومَنْ لم يحمد الله أو يشكره كان حيواناً لا إنسانية له، وقد ضيَّع عقلَه، وأفسد وجدانَه، وانطفأ نور فطرته، وخبُث داخله.(17)
ومَنْ حمد الله أن لا يَشغَلَ القلبَ عنه غيرُه، ولا ينصرفَ النظر إلى سواه؛ إذ لا يشبه جلالَه جلالٌ، ولا يداني جماله جمال. ومِنْ شكرِه أن توضع نعمُه موضعها الذي أراد، وأن لا يُطاع مَنْ دونه على خلاف رضاه.
وحمدُ الله، وشكره وطاعته يحتاج إلى عزمٍ وتصميمٍ واستعانةٍ بالله على أداء ما فرض فتقول الكلمة عن الإمام علي عليه السلام:”اجعلوا ما افترض الله عليكم من طلبكم(18)، واسألوه من أداء حقّه ما سألكم”(19). فلن تستطيعوا أداء حقّ الله بلا الاعتماد عليه.
فلنتخذ فروض الله علينا هدفاً في مقدّمة الأهداف، وغايةً أولى من بين الغايات سائلين منه التوفيق والعون على أداء حقِّه، والتلذذ صدقاً وحقّاً بحمده وشكره.
اللهم شرّف قدرنا بطاعتك، وأوجب لنا مغفرتك، وارفع درجتنا عندك، وآمنا من عذابك، وارزقنا الكرامة لديك، ولا تستبدل بنا غيرنا في خدمة دينك يا رحمن يا رحيم يا كريم.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى الصادق الأمين خاتم النبيين والمرسلين محمد وآله الطاهرين، اللهم صلّ عليه صلاة كثيرة وسلاماً دائما، وصلّ على أمير المؤمنين وإمام المتقين، وعلى فاطمة الزهراء الصديقة الطاهرة المعصومة، وصلّ على الأئمة المعصومين النجباء: الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن المهدي المنتظر القائم.
اللهم صل على محمد وآل محمد، وعجل فرج ولي أمرك القائم المنتظر، وحُفّه بملائكتك المقرّبين، وأيده بروح القدس يارب العالمين، واجعلنا من أنصاره في غيبته وحضوره.
عبدك وابن عبديك، الموالي له، الممهد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين وفِّقهم لمراضيك، وسدِّد خطاهم على طريقك، وانصرهم نصرا عزيزا ظاهرا مبينا قائما ثابتا.
أما بعد أيها الإخوة والأخوات الكرام فإلى هذه الكلمات:
الدّين والسياسة:
يريد البعض أن يفصل الدِّين عن السياسة، وهو يصرَّ على ذلك، وينكرُ على الإسلاميين تدخّلهم في ميادينها، بينما الإسلام جادٌ كلَّ الجدّ في قرآنه العظيم، وعلى يد رسوله الكريم على معالجة القضية السياسية معالجة إسلاميَّة، وحلِّ مشكلاتها حلاً إسلاميَّاً عادلاً بطريقة إسلامية إلاهيَّة بعيدة عن هوى البشر وأنانياتهم الشخصية، وقد أقام الرسول صلّى الله عليه وآله دولة الإسلام المباركة في المدينة المنوّرة على مرأى من العالم كله.
وحكم أربعةٌ بعده صلّى الله عليه وآله باسم الإسلام، بل إن الحكم الأموي وكذلك العباسي وهما حُكمان قاما بالسيف وصبغتُهما وراثية كانا يرفعان شعار الإسلام والخلافةِ الإسلامية. فالحكم بالإسلام صدقاً أو زيفاً استمرّ لعدّة قرون.
والحكم والسياسة في سلطاتها الثلاث تشريع، وتنفيذ للتشريع في مجال الإدارة، وقضاء على أساس ذلك التشريع في مجال الخصومات.
والمفروغ منه في شأن الإسلام أنه عقيدة وشريعة، والشريعة قرآناً وسنّة شاملة بيقين لمجال السياسة والشأن العام كغيره.
والسلطات الثلاث التي تمارسها السياسة من تشريع وتنفيذ وقضاء بعد السيطرة على الثروة العامة والإنسان إما أن تكون من منشأ توافق عليه الشريعة الإلهية وقاعدتها العقيدية أو لا توافق عليه، وإما أن تنسجم في وظائفها الثلاث مع الحق الذي يراه الإسلام بِقيمه وتشريعاته ومبادئه أو لا تنسجم، وإما أن تقوم بالعدل الذي ينشده الإسلام أو تناهضه فكيف من بعد ذلك كلِّه لا يتدخل الإسلام عند من يؤمن به في السياسة والشأن العام؟!
وهل تجد السياسة المخالفة للدين بُدّاً من التدخل في شأنه حتى لا يتدخل في شأنها؟ ومتى تركت هذه السياسة للدين أن يتحرك بحرية كما يرى، وأن يَسْلَمَ على رؤاه ومفاهيمه وأحكامه التي تخالفها؟ في أي تاريخ وفي أي ماض أو حاضر يهودي أو مسيحي أو إسلامي كان هذا أو يكون؟ وكم يعاني الإسلام اليوم من التدخل المضر بعقيدته ومفاهيمه وتشريعاته وأخلاقه وأعرافه وأصل الانتماء إليه من السياسة المخالفة في بلاد الإسلام والمسلمين؟ ألم يصل أمر التدخل من السياسة في الإسلام إلى المسجد وأذانه وخطبته، والحوزات العلمية والجامعات الإسلامية والأحوال الشخصية وزواج المسلم وطلاقه وإرثه وكلِّ شؤونه؟ أو لم يصل أمر هذا التدخل إلى استيراد إسلام من صناعة أوربية وأمريكية على خلاف ما أنزل الله، وبلّغ الرسول صلّى الله عليه وآله؟ ألم تُنشئ السياسة المضادة للدين مجموعة كبيرة من المؤسسات لمحاربة الدين وتقويض الشريعة، والاستبدال عنها باسم حرية المرأة ومظلوميتها؟
فكيف يُقال بعد هذا كلِّه بأن على الإسلام والإسلاميين عدم التدخل في السياسة؟! وهل من مهمة للإسلام في الأرض أكبر من تثبيت العدل ومطاردة الظُّلم؟! وأول العدل التوحيد، وأول الظلم الكفر والشرك، حين أن كل ما تمارسه السياسة وتوافق فيه الدين أو تخالفه هو مساحة للعدل والظلم.
إسرائيل تهزأ:
ذهب العرب والسلطة الفلسطينية بعيداً في التنازل لإسرائيل في ظل موقف متعجرف ومستعلٍ منها، وشعور بالقوة اتِّكاءً على السلاح النووي والدعم الأمريكي المفتوح ماليّاً وسياسيّاً وأمنياً والاحتضان الدافئ من أمريكا وأوربا، والضمان الأمريكي للأمن الصهيوني وتكرار الوعد بالوقوف معها بأي ثمن، والضغط المتواصل على الجانب العربي حتى زاد استئساد الصهاينة، وشُذَّاذ الأرض فصاروا يتعاملون مع الأنظمة الرسمية العربية بالهُزء والسخرية. فكُلما أبدت هذه الأنظمة تنازلاً وتقدّمت مسافة على خط التنازل للرغبات الصهيونية والحلّ الذي يُرضي إسرائيل، ودفعوا بالسلطة الفلسطينية على هذا الطريق المذِلّ كلما طغى التعنُّت الإسرائيلي، وعبّر عن نفسه ساخراً من الطرف العربي بإعلان مزيد من مشاريع الاستيطان ووضع عراقيل جدية محرجة للسياسة العربية الرسمية وتنازلاتها.
فما هي إلا أيام مضت على إعلان العودة من الجانب الرسمي العربي والسلطة الفلسطينية لمحادثات ما يُسمى بالسلام غير المباشرة، وفي ظل وجود المبعوث الأمريكي الكبير – كما يقولون – في المنطقة في دوره التقريبي أو التغريري يعلن الجانب الإسرائيلي عن 1600 وحدة سكنية استيطانية في القدس الشرقية إرغاماً لأنف العرب فهل يمتصُّ العرب هذه الإهانة الثقيلة هذه المرة كما استساغوا أن يمتصوا غيرها تهيُّباً من إسرائيل ومداراة للصديق الأمريكي الذي أبدى لهذه الصفعة كلمة امتعاض من إسرائيل ولكن هذه الكلمة جاءت انتصاراً لكرامة المبعوث الأمريكي المهانة، وهي كلمة ربّما تبدّلت بعد حين إلى ابتسامة وترضية للمدلّلة إسرائيل(20).
تتمنى الشعوب العربية والمسلمة أن يختلف الموقف الرسمي العربي هذه المرة وإن كان في هذا جديد غريب.
مؤتمر العلامة:
للبحرين هوية لا تُنكَر كتبها تاريخ إسلامي مديد، ورجالات عظام كُثر، وجماهير مؤمنة غفيرة. وهُوية هذا البلد هُوية علم وإيمان وتقوى وحركة جهادية متواصلة صابرة. وقد عرفت خطَّها الإيماني مبكراً، وآمنت به، وثبتت عليه رغم الصعاب والمحن.
وسماحة الفقيه الكبير العلامة الشيخ حسين العصفور رحمه الله وعطَّر مرقده واحدٌ من الذين مثّلوا هذه الهويّة بحقٍّ في أبعادها المختلفة، والتحم بها والتحمت به. فالحديث عن الشيخ وأمثاله حديث عن هذا البلد الطيّب، والهوية الكريمة، والتاريخ المجيد، وهو صفحة من صفحاته المشرقة، وعَلَمٌ من أعلامه الذين كتبت لهم الحياة لا الموت.
والحديث عن التاريخ الوضيء ورجالاته إنما هو لاستنهاض الحاضر، وتعزيز الثقة بالانتماء، وفيه شهادةٌ بالحق، وتأكيدٌ على الأصالة، وتذكير بالقدرة، وبعثٌ للهمم، واستفادة من إضاءات الماضي وإشراقته في حركة أكثر تقدُّماً، وأكبر طموحاً تشغل الحاضر، وتستشرف بخطوات قافزة آفاق المستقبل.
وإذا فتح الحاضر بعض الصفحات المظلمة في تاريخ أمةٍ أو بلد فإنّما ذلك للعِظة والعبرة وتجنّب تجارب السوء ورموز الانحدار.
وما من أمة نابهة ولا شعب واعٍ يتعامل مع تاريخ أمجاده ورجاله الصالحين بإهمالٍ وعدم مبالاة، ويعيش مبتوراً عن حركته الحضارية الكريمة التي أسَّست لحاضره، وكتبت له القوة والصمود.
ووعي هذا الشعب لا يناسبه هذا الإهمالُ الذي طال وقتاً كثيرا.
ويأتي مؤتمر (العلامة الشيخ حسين العصفور الرسالة والموقف) خطوة مباركة ورائدة وهادية ومدشِّنة وموفقة إن شاء الله على طريق الاستجابة الطبيعية لمقتضى وعي هذا الشعب وإحساسه بقيمة تاريخه، وحاجته لاستنهاض دور العلم والإيمان والحركة الإيجابية الصَّالحة في المشاركة الفعّالة في صنع الحاضر وتصحيحه والتقدُّم به، والتمهيد للرُّشد الصاعد الحيّ، والوعي المتفجّر الذي ينبغي أن يزخر به المستقبل.
وللشهادة فإن المؤسسات الثقافية الإسلامية الشعبية عندنا وقعت في تأخر وتأجيل وتقصير في هذا المجال، وكان عليها أن تفعل الكثير، وإن جرت محاولة قبل عشرات السنين بهذا الشأن ووُجِهَت بالقوة.
إن فقيهنا الكبير كان له أوسع درجة من التقليد لآرائه الفقهية من بين بقية الآراء في البحرين وعموم المنطقة ولمدة زمنية طالت جداً، ولا زال تقليدُ آرائه الفقهية قائماً إلى اليوم.
ولقد ملك الشيخ في جملة شخصيته قلب هذا الشعب، وصار من ضميره، وعمّر في شعوره الكريم فذّاً كبيراً لزمن طويل وسيبقى كذلك.
وماذا يُقدِّر الناسُ إذا لم تُقدَّر في مثل هذا الرجل الكريم صفاتُه من علم وإيمان وتقوى وفضائل وجهاد؟!
وإنه لتحتاج الحركة الدينية العلمية والعملية حتى تشتدَّ، وتصحّ، وتحتفظ بأصالتها، وتثبت على الطريق، ولا تُصابَ بالاهتزاز أو الميل للالتحام بإضاءات الماضي الوضيء وسيرة عظماء الأمة معيناً لها ذلك للانشداد بمحورها الأول ومنارتها الأصل من كتاب الله المجيد وسيرة رسوله الكريم وأهل بيته المعصومين عليه وعليهم أفضل الصلاة والسلام.
اللهم صل على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم
اللهم اهدنا بهدى الصالحين، واسلك بنا طريق الآمنين، واجعلنا من زمرة المتقين، واحشرنا في الفائزين يوم الدين، ولا تحرمنا ولاءك وولاء نبيك الكريم وآله الطاهرين يا أكرم الأكرمين، وأرحم الراحمين، وأجود المعطين.
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}(21).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 – 78 – 82/ الشعراء.
2 – البنية الكونية، المعادلات الكونية القائمة منتهية زائلة. وهذه هي الأساس بعد الله عز وجل.
3 – 1/ الزلزلة.
4 – 14/ الحاقة.
5 – 105، 106، 107/ طه.
6 – 20/ النبأ.
7 – 48/ إبراهيم.
8 – 3/ الانفطار.
9 – 6/ التكوير.
10 – 8/ المرسلات.
11 – 2/ الانفطار.
12 – 9/ الطور.
13 – 104/ الأنبياء.
14 – 4/ الانشقاق.
15 – 6، 7، 8/ القمر.
16 – سورة الزلزلة.
17 – ترك الحمد والشكر لله معناه أنني لا إنسان، الإنسان الذي يشعر لابد أن يحمد الله ويشكره.
18 – اجعلوه هدفا.
19 – نهج البلاغة ج1 ص 222.
20 – هتاف جموع المصلين بـ(الموت لإسرائيل).
21 – 90/ النحل.

زر الذهاب إلى الأعلى