خطبة الجمعة (385) 25شوال 1430هـ – 16 أكتوبر 2009م

مواضيع الخطبة:

*الجهاد الأكبر جهاد النفس *أولاً: رحلة عذاب، ومحاكمة، وبراءة *ثانياً: المجلس العلمائي

فإن الموقف من قضايا الوطن إمّا أن يتجه الاتجاه الأمني المدمّر، وإما أن يأخذ صورة المغالبة والصّراع السّياسي الذي قد يخرج عن المسار، وتتداخل فيه الأدوات، وإمّا أن يقوم على التعاون الإيجابيّ لبناء وطن السّلام والأمن من خلال إقامة العدل، والأخذ بأسباب الثّقة والتّجاوب. والحكومة هي المسؤول الأوّل في الأخذ بالبلد لأيٍّ من الاتجاهات الثلاثة، والخيار الذي نتمنّاه هو الثالث.

الخطبة الأولى

الحمد لله الذي فطر السماوات والأرض بقدرته، ولا بقاء لهنَّ لحظة عين، أو أقلَّ إلا بإذنه، ولا تصرّف لأحد في شيء ممّا خلق خارج قَدَرِه، وكلُّ الأشياء منتهيةٌ إليه، صائرةٌ إلى أمره، محكومة لإرادته، مستجيبة لمشيئته. نحمده حمداً يصير بنا إلى رضاه، وننالُ به جنَّته وكرامته، والمقام الرَّفيع عنده، وهو الله ربُّنا الحميد المجيد.
أشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمّداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليماً كثيراً كثيراً.
عباد الله أوصيكم ونفسي الأمَّارة بالسوء بتقوى الله، ولا بديل لعبدٍ من عبيد الله العظيم لكمال نفسه وربحها عن التقوى وأخذه بها على طريق الطّاعة والعبودية الصادقة للرّبّ المتعال الذي لا خير ولا هدى ولا كمال لمن دونه إلاّ بالخضوع إليه، والمذلّة والاستكانة بين يديه. ومن استكبر على ربّه فليس له من دونه من ملتحد، ولا مآلَ له إلاّ النّار والخسار، والضّلال المبين.
اللهم صلّ على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنّك أنت التوّاب الرّحيم.
اللهم ثبّت أقدامنا على طريق طاعتك وتقواك، وأصدِق سعينا في طلب مرضاتك، واحمِنا من أن تَسْتَلْفِتَنَا الدّنيا عن الوصول إليك، واكفِنا مضلاّت الفتن، وادفع عنّا النِّقم، وأخرجنا من كلّ الظُّلَم يا أكرم من سُئِل، وأرحم من استُرحِم، يا فعّال لما يشاء، وهو على كلّ شيء قدير.
أمّا بعد أيها الأعزاء من الإخوة والأخوات المؤمنين والمؤمنات:

الجهاد الأكبر جهاد النفس
“عن أبي عبد الله – الإمام الصادق – عليه السلام أنّ النبيّ صلَّى الله عليه وآله بعث سريَّة(1) فلما رجعوا قال: مرحباً بقوم قضوا الجهاد الأصغر وبقي عليهم الجهاد الأكبر، فقيل: يا رسول الله وما الجهاد الأكبر؟ قال: جهاد النفس”(2).
هنا تعرّضٌ لبعض النقاط حول الحديث وليس لكل ما يمكن أن يجري فيه الكلام عمّا يعنيه.
1. أهمية جهاد النفس.
الحديث يعطينا أهمية لجهاد النفس على الجهاد بخوض المعارك الدمويّة التي يُطلب فيها عزّ الإسلام ورفعته، وإن كان الجهاد في تلك المعارك خالصا لوجه الله الكريم.
2. كيف تجاهد النفس نفسها؟
جبهتان والذّات واحدة:
الواحد منّا له ذات واحدة، لكنْ فيه هذه الذّات جبهتان: عقل، ودوافع كمال، ونزعة خير، ونفس لوّامة لا تقر صاحبها على باطل، ولا ترضى له السقوط، وأنوار رسالات، وهدايات رسل، وأئمة وصالحين، وتطلّع رقيّ، وإلهامات دينية كريمة، وعطاءات واعية، ودروس وتجارب صادقة من تجارب الحياة والموت، والخلق والفناء، والنهوض والسقوط، والرّشد والغيّ، والنجاح والفشل، والسعادة والشقاء، والهداية والضلال، والاطمئنان والقلق، وتجارب أخرى كثيرة متنوِّعة تُكسب وعياً ورشداً وبصيرة. هذه جبهة.
وجبهة أخرى من دوافع أرضية، وشهوات مادية، ونفس أمّارة بالسوء، وشيطانٍ غويّ، وجند كثير للشيطان، وإغراءات وعروض مستفِزة تفقد النفس صبرها عبر نافذة الشهوة المجنونة والساقطة، واللّذة المادية العابرة، ومن مفارقة متكرِّرة للحق، واستسلامٍ للباطل، وإهمالٍ للطاعة، وإقامةٍ على المعصية، ونسيانٍ للفضيلة، وإدمانٍ على الرذيلة.
هاتان جبهتان تتواجهان وتقتتلان داخل النّفس قد تظهر إحداهما على الأخرى وتصرعُها، ولكن تبقى فرصةُ التّوثّب مفتوحة أمام كل جبهة، وأن يتجدّد القتال إلاّ في نفوس قليلةٍ من أهل الحقّ تكون قد دخلت برحمة ربّها في أمان من النّفس الأمّارة بالسّوء والشّيطان الرّجيم، ونفوسٍ أخرى كثيرة من أهل الباطل تكون لِمَا أسرفت على نفسها، وغَرِقَت في بحر السّيئات فاقدة للقدرة على النهضة من جديد، واسترجاعِ فُرَصِ الهداية.
هكذا تكون النفس مواجهة لنفسها، وداخلة مع ذاتها في صراع.
3. جهاد دائم:
موجب هذا الجهاد الدائم مع النفس أمور:
– استمرار قابلية الانحدار والانحراف والصعود والاستقامة للنفس عادة، بل دائماً إذا قطعنا النظر عن رحمة العصمة الموهوبة من الله الكريم لخاصة عباده المصطفين.
– التعرّض الفعلي للانحدار. يتعرض الإنسان في هذه الحياة لظروف تجعله مهدداً بالانحدار بعد العلو، والهبوط بعد الصعود.
– استمرار عوامل الإغراء والإغواء والصدِّ عن الطاعة في الأرض.
– لا يصحّ التوقف عند حدٍّ من الكمال، والكمالُ أمام الإنسان لا حدَّ له، ولا يمكن أن تكون له نهاية. ليس هناك مستوى يتوقف عنده نموّ النفس، ولا درجة من الكمال تنقطع بالوصول إليها رحلة الكمال عند الإنسان، فإذاً كان عليه أن يجاهد نفسه دائما وإن وصل إلى درجات عليا من الكمال. والمعصومون عليهم السلام كانوا يواصلون رحلة كمالهم طوال الحياة.
4. الغاية من جهاد النفس:
هو جهاد من أجل الانتصار على عوامل الضّعف والخَوَر والهزيمة والانحراف والسقوط، وعلى عوامل التوقف والتلكؤ على طريق طلب الكمال، وهو جهاد من أجل القوة والأخذ بالحق وما فيه رضا الخالق تبارك وتعالى على مستوى الجوارح والجوانح، وعلى مستوى الظاهر والباطن بصوغ النفس الصوغ الذي يرضاه بارئها العظيم.
لماذا كان أكبر؟
1. الهزيمة فيه تعني كل هزيمة.
2. الانتصار فيه سببٌ لكلّ انتصار.
3. الهزائم والانتصارات في غيره قد لا تَمسّ الذّات، لا تدخل عليها بالتعديل والقوة والسمو، ولا بالخسف والتشويه، ولا تقتل فيها روح الوثبة، ولا ترتدّ بها إلى الوراء، قد تكون هزيمة عسكرية، ولكن تبقى النفس مع هذه الهزيمة على صحّتها، وقوّتها، وعنفوانها، وأملها، وثقتها، واعتزازها بذاتها، أما الانتصار والهزيمة في هذا اللون من الجهاد وهو الجهاد مع النفس فهو انتصار أو هزيمة للذات. إذا اندحر أحدنا في معركته مع نفسه فقد خسر نفسه، وسقطت قيمة نفسه، وتدنّست، وساءت وشاهت وتلوّثت. والانتصار في هذه المعركة يعني كسب الذّات، يعني السموّ، يعني العزة والكرامة الصحيحة الصادقة، يعني الاحتماء من الذوبان في الباطل، يعني الشموخ، يعني أن أخرج من هذه الحياة إنساناً محتفظاً بإنسانيتي، إنساناً صحيحاً قويماً قويّاً.
4. هذا الجهاد ساحته مفتوحة كلّ ليل ونهار، وفي كل لحظة يقظة من لحظات الحياة. ومعارك السّاحات الأخرى لا تملك هذه الحالة من الاستيعاب. المعركة مع النفس معركة قائمة في السّرّ والعلن، وفي كل الآناء التي يعيش فيها الإنسان وعيه ويقظته.
5. هذه المعركة يخوضها أحدنا بنفسه وهو المسؤول عنها والمعارك الأخرى تُخاض في الأغلب بالتعاون والتساند وضمن جيش ومساندة من الآخرين.
6. الجبهة الأخرى في هذه المعركة جبهة لصيقة هي النفس الأمّارة بالسوء، والشيطان الرّجيم، وهي على حضور دائم مع الذّات، وكيد دائم، ومقاومة دائمة، وإفساد مستمرّ.
على طريق الجهاد:
1. من هنا يبدأ جهاد النفس، وكذلك الجهاد الآخر الذي بدايته جهاد النفس
البداية أعزّائي في التفكر، وليس في التسيّب الفكري، ولا الغفلة، ولا التعامل البسيط الأبله مع الحياة، مع الحقائق، مع الواقع.
البداية ليست العاطفة والانفعال والمشتهيات، البداية في التفكّر، ويأتي الكلام عليه إن شاء الله.
اللهم صل على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التوّاب الرحيم.
اللهم اجعلنا من أهل السّداد والرّشاد، وصالحي العباد، وانصرنا على أنفسنا، وارزقنا على عدوِّك وعدونا الشيطان الرجيم، وجنده الغاوين، وجميع أهل نصرته، والجارين مجراه في غوايته، والدّاعين بدعوته، والسّاعين بالفساد في الأرض على طريقته.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ}

الخطبة الثانية

الحمد لله الذي دعا عبادَه إلى ألطاف رحمته، والاستضاءةِ بأنوار هدايته، والانتفاع بموائد دينه وشريعته، والأخذِ بما عليه أنبياؤه ورسلُه وأهلُ ولايته من السّلوك إلى جنّته، وطلب رضوانه وإنعامه وإكرامه، والمنزلة الرّفيعة من عنده.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليماً كثيراً كثيراً.
عباد الله ألا فلنتق الله الذي لا يُطاق عذابُه إذا عذَّب، ولا يُساوَى ثوابُه إذا أثاب، ولا مُغنيَ لأحدٍ عنه، ولا منقذَ لأحدٍ منه، ولا يضرّ مع رضاه غضبُ غاضب، ولا ينفع مع سخطه رضا راض.
اللهم صلّ على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التوّاب الرّحيم.
اللهم تولّنا ومن يعنينا أمرُه وجميع أهل الحقّ بأفضل ولايتك، ووفّقنا لإقامة سنّتك، والأخذ بمحاسن أدبك، ورعاية حقك في عبادك وبلادك وجميع ما خلقت يا من هو على كلّ شيء قدير، وبالإجابة حقيقٌ جدير.
اللهم صلّ وسلِّم على نبيّك الكريم الصادق الأمين محمد بن عبد الله خاتم النبيين والمرسلين، اللهم صلّ وسلّم على علي أمير المؤمنين وإمام المتقين، وعلى فاطمة الزهراء الصديقة الطاهرة المعصومة، وعلى الهادين المعصومين حججك على عبادك، وأنوارك في بلادك: الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن المهدي المنتظر القائم.
اللهم صلِّ على محمد وآل محمد، وعجّل فرج وليّ أمرك القائم المنتظر، وحفّه بملائكتك المقرّبين، وأيّده بروح القدس ياربّ العالمين.
عبدك وابن عبديك، الموالي له، الممهد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين وفقهم لمراضيك، وسدّد خطاهم على طريقك.
أما بعد أيها الإخوة والأخوات المؤمنون الأعزاء فمع هاتين الكلمتين:
أولاً: رحلة عذاب، ومحاكمة، وبراءة:
1. طالت رحلةٌ من المعاناة القاسية، والعذاب الشّديد والألم والضيق، والقلق وكربات السّجون، والويلات الكثار الجسدية والنفسية بعدد من الشّباب الأعزّاء الغيارى من أهالي كرزكان المحترمة.
2. وجامع السجن والمحنة محاكمة طالت إجراءاتُها وأذاقت نفوس المتّهمين جزافاً فيما شهد به القضاء نفسه جرعاتٍ من ألم التوقّع السّيء، والإحساس بالظلم والإهانة، وترقّب الأخذ من غير جريرة.
3. وجاءت النتيجة أنّ الأدلة واهنة، والتصوير للحادث غير واقعي، وأنّ الحياكة الوهميّة للواقعة غير محكمة، وأنّ الثّغرات فيها لا تنستر، وأن الشبّان المعنيين على براءة.
فهم على هذا قد ظُلموا نفسيّاً وجسدياً، واجتماعيّاً، واقتصادياً، وسُلبوا حريتهم لمدة طويلة بلا حق، وقد ظُلم أهلهم، وقريتهم، والشّعب الذي هم جزء منه.
ولنتذكر كم سبَّب هذا الاتهام الظالم القاسي في فعله وردّ فعله من خسائر أمنيّة وتوتّر عام، وهزّاتٍ متوالية، ومعارك صحافيّة ساخنة، وتشنّجات، وتباعدٍ في المسافة بين المكوِّنين الرئيسين للشعب، وكم خسَّر من أموال، وسبّب من متاعب، وأحدث من شروخ، وأقلق من نفوسٍ وأوضاع، وهددّ الوضع الأمني بصورة ملحوظة.
4. بعد هذا فإن الشّكر للمولى الحقّ تبارك وتعالى على ما جاء من نتيجة البراءة الفاضحة لهذا النّوع من الاتهامات الممجوجة المتكرّرة، وهي نتيجة تخدم أمن البلد واستقراره، ومن شأنها أن تنزع فتيل التوتر فيه إذا توافقت مع هذه النتيجة خطوات أخرى في نفس الاتجاه والقصد.
وعلينا بالتوجه إليه سبحانه بالدّعاء والتضرع بأن يفتح الأبواب لأن يحل العدل في هذا البلد وكل بلاد المسلمين، وفي كل الأرض محل الظُّلم، والهدى محلّ الضلال، والحقّ محلّ الباطل، والخير محل الشر، والأُخوَّة الإيمانية والإنسانية والوحدة محلّ الاحتراب والاقتتال والفُرقة والشّتات والتّبعثر، وأن يكون الاجتماع على التوحيد والتوحّد، والهدى والعدل والنّور والصلاح.
وإني لأُهنّئ الشّباب الذين بُرّئوا من التهمة على براءتهم، وعلى صمودهم في المحنة، وصبرهم العالي في ذات الله إن شاء الله، وأُهنئ أمهاتهم وآباءهم وكلّ ذويهم وأصدقائهم ونفسي وكلّ الشّعب الحرّ بنتيجة البراءة التي أقرّت العيون، وحالت دون تفاقم الأوضاع، وتداعي الأمور بما يُنذر ويُسيء. وإنّ من حقّ البراءة حقّاً أن تُفرِح لأكثر من وجه.
وإن هذه النتيجة لتُعدُّ نصراً في فضح أساليب الإثبات القائمة على التعذيب والإكراه، والترويج الإعلامي الكاذب، والتي تُمثل العمود الفقري في العادة لسَوق النّاس للمحاكمات، وتُدين الاصطفاف السريع والمكثّف والحاقد والإدانة الجاهزة من صفٍّ معيّن – وليس من طائفة – لكلّ متّهمٍ من شرفاء الشّعب في كلّ مرة.
ويبقى أنَّ من حُكم ببراءتهم وأنّهم قد ظلموا لا يصحّ أن تذهب مظلمتهم، وأن إنصافهم حقٌّ ثابت، وتدارك ما أصابهم من أضرار وظلامات ممّا يمكن تداركه شيء لازم.
وبالنسبة لقضية المعامير نسأل: هل هناك أدواتُ إثبات أفضل من أدوات الإثبات في قضية كرزكان أو مختلفة عنها جِنساً ليصحّ التعويل عليها خلافاً لتلك الأدوات؟
إذا كان الأسلوب هو الأسلوب، والآليات هي الآليات، والعذاب الذي ناله هذا الفريق ناله ذلك الفريق، فهل يصح أن تفترق النتيجة؟!
الاشتراك في كلّ المقدّمات يبطل الافتراق في النتيجة. ولا علم للشعب بالفرق بين المقدّمات هنا وبين المقدّمات هناك.
وفيما يتصل بهذا الحديث وموضوعه فإن الموقف من قضايا الوطن إمّا أن يتجه الاتجاه الأمني المدمّر، وإما أن يأخذ صورة المغالبة والصّراع السّياسي الذي قد يخرج عن المسار، وتتداخل فيه الأدوات، وإمّا أن يقوم على التعاون الإيجابيّ لبناء وطن السّلام والأمن من خلال إقامة العدل، والأخذ بأسباب الثّقة والتّجارب.
والحكومة هي المسؤول الأوّل في الأخذ بالبلد لأيٍّ من الاتجاهات الثلاثة، والخيار الذي نتمنّاه هو الثالث.
المجلس العلمائي:
في كلّ بلد عامرٍ بالعلماء كالبحرين يوجد تاريخياً مجلسٌ علمائيّ سُميّ بهذا الإسم أو لم يسمَّ. والعلماء في البحرين، وفي كل بلد مسلم يتواجدون فيه هم تاريخيّاً مرجع الناس في قضايا دينهم، ومفزعهم في قضايا دنياهم عند الملمّات. وتاريخهم يشهد بتصدِّيهم الفردي والجماعي لحلّ تلك القضايا والأزمات، ويشهد باجتماعهم، واجتماع كلمتهم كُلّما تطلب الأمر ذلك، والمتخلّف شاذ.
وللمجلس ثلاث قضايا:
تعليم الدين والشريعة.
التبليغ الإسلامي.
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وهي وظائف إسلامية واجبة، وفرائض ثابتة جَزماً بكتاب الله، والسنّة المتواترة، وإجماع المسلمين، وسيرتهم العملية. وعلى هذه الوظائف مدارُ وجود الإسلام واستمراره على مدى الأجيال، وتعطيلها تعطيل له. يوم أن لا تعليم للدين والشريعة، ولا تبليغ للإسلام، ولا أمر بمعروف، ولا نهي عن منكر، ولا جهة علمائية ترعى هذا كلّه فالإسلام غير موجود.
ولا فاعليّة كافية اليوم لهذه الوظائف بلا اجتماع العلماء، والتّنسيقِ بين جهودهم في هذا المجال. والعودةُ إلى الجهود الفرديّة المبعثرة والارتجاليّة، وغير المتواصلة في هذا المجال قرار عمليٌّ بخذلان الإسلام، وفسحٌ لطريق الغزو الثقافي الأجنبي للتفرّد به والقضاء عليه.
ولا يُتوقع من أي مسلم يحترم الإسلام ويحرص عليه أن يعطيَ التقدّم والهيمنة والحكم لأمر القانون ونهيه على هذه الفرائض الثلاث لا أصلاً ولا تفصيلاً، وهي فرائض جليّة لا قِوام للإسلام بدونها.
وإذا طالت كلمةُ العلماء أفراداً ومؤسسات دينية المساحة السياسية بكلمة مصلحة آمرة بمعروف ناهية عن منكر فهذا ليس بِدْعاً في الإسلام، ولا جديداً على الساحة الإسلامية، ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن يُغلق بابه لا شرعاً ولا عملاً، ولا يخرج بهذه الفريضة عن عنوانها. الكلمة السياسية من عالم أو من مؤسسة علمائية لا يخرج بفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عن عنوانها بما هي أمر بمعروف ونهي عن منكر، ولا يتعدّى بها عن حدودها، كيف والإصلاح السياسي من صلب هذه الفريضة؟!!
والمؤسسة العلمائية الدينية في إطار وظائفها الثلاث تاريخية في الإسلام، ومرتبطة بوجوده، كما هو مرتبطٌ بوجودها، وهي لازمتُه(3) كالمسجد والحوزة العلمية واللذين يحتضنان هذه الوظائف كلَّها، وتتكامل الثلاثة الوجودات في أدائها.
اللهم صل على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التوّاب الرّحيم.
اللهم أخرجنا من كل سوء أخرجت منه محمداً وآل محمد صلواتك عليه وعليهم أجمعين، وأدخلنا في كل خير أدخلت فيه محمداً وآل محمد صلوات عليهم أجمعين. اللهم افعل بنا ما أنت أهله، ولا تفعل بنا ما نحن أهله، اللهم انصر من نصر الدين، واخذل من خذل الدّين، وأحلل غضبك بالقوم الظالمين. اللهم اجمع كلمة المسلمين على التقوى، وأعزهم وآمنهم في أوطانهم، وكد لهم على كل من أراد بهم سوءاً يا قويّ يا عزيز.
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}

ـــــــــــــــــــــــــــــــ
1 – السرية: قطعة من الجيش.
2 – بحار الأنوار ج19 ص 182.
3 – ما وُجد إسلام وُجدت هذه المؤسسة، وما لم توجد هذه المؤسسة لا يكاد يوجد الإسلام.

زر الذهاب إلى الأعلى