خطبة الجمعة (382) 29 شعبان 1430هـ – 21 أغسطس 2009م

مواضيع الخطبة:

*آثار الإيمان – متابعة *استقبال الشهر الفضيل *الوقاية خير من العلاج

يُسيء جدّاً، ويؤلم كثيراً أنه بالإضافة إلى المشاكل والتأزّمات البينية المنذرة في البلاد العربية والإسلامية، توجد في كل بلد عربي وإسلامي قنابل اجتماعية موقوتة، ومشاكل مفخَّخة بين الشعوب والحكومات قابلة للانفجار في أي لحظة. والخطر داهِم، ويُخطئ من قامت سياسته في أي بلد على هدف التفرد بكل الصلاحيات والحقوق والمكتسبات والخير والأرض وسائر الثروة والحياة، وإلغاء الآخر ودفنه وقبره.

الخطبة الأولى

الحمد لله الذي هدى عباده لمعرفته، ودلّهم على طريق طاعته، وأذِن لهم في دعائه ومسألته، وشرّفهم بذكره ومناجاته، وَفَتَحَ لهم أبوابَ التوبة إليه، والأوبةِ إلى طريق رضوانه، والرجوع إلى نعمة أمانه وسلامه.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليماً كثيراً كثيراً.
عباد الله أوصيكم ونفسي الغافلة بتقوى الله، والرجوع عن الحَوبَة، والاستعجالِ بالتوبة قبل انقضاء المدّة، وفوات الفرصة، والمصير إلى الحفرة. وما منّا من يملك أجلَه، أو يعلمُ موعدَه، أو يختارُ يومَ رحيلِه، أو يُشاوَرُ في سفره.
اللهم صل على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتُبْ علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم اهدنا بِهُدى المتّقين، واسلك بنا مسلك الصالحين، وإذا توفّيتنا فتوفّنا مسلمين آمنين، وارحمنا في الدّنيا ويوم الدِّين، واجعل مأوانا جنّة النعيم، وأعِذنا من مسِّ الجحيم يا رحمن يا رحيم يا كريم.
أما بعد فهذه مواصلة في الحديث عن آثار الإيمان: وتقدم ذكر اثنين من تلك الآثار:
3. الاستبشار:
{… فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ}(1).
إذا نزلت سورةٌ جديدة من سور القرآن الكريم كان لها أثرٌ في القلوب المريضة بالشّكِّ والنّفاق بأن تزيدها رجساً إلى ما هي عليه من رجسٍ سابق فحيث فَقَدَتْ تلك القلوب قابليّة الاهتداء، أو ضَعُفَت عندها إلى حدٍّ كبير لا تجد للسورة النازلة أثر هداية وإيمان فيها مما يجعلها تحكم على القرآن بأنَّه عاجز عن الهداية، فاقدٌ للفائدة، وأنّه لو كان من عند الله لما كان أمره كذلك. على أنّ الحقّ هو أن القرآن الكريم لا يُعاني من أيّ قصور في القدرة على الهداية، وإنما القصور في قابلية تلك القلوب التي أَفْسَدَتْهَا الخطايا والسّيئات، وتكرار معاندة ومكابرة للحقّ تراكمت بها الآثار القاتلة التي أفرزتها على المدى الطويل.
وللسورة نفسها أثر آخر في القلوب المستجيبة للإيمان، وهو الأثر الطيّب الصالح الذي يتناسب مع طبيعة السورة الهادية الراقية، ذلك بأن تزداد تلك القلوب إيماناً، وتكثر هداياتها وتشتد، ويعظم ما هي عليه من النور.
وزيادة الإيمان والمعرفة بالله تُعطي مزيداً من الثّقة والاطمئنان والشعور بالقوّة والرّضى والسعادة مما يجعل السّرور طافحاً على محيا صاحب هذه النعمة الكريمة. وهذه الدّرجة من السرور(2) هي ما يعبر عنه بالاستبشار لظهور معالمه على بشرة الوجه في صورة تتحدث عن غنى النفس به(3).
4. تقوية الإرادة:
{… إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ …}(4).
كُلّما عظم الحقّ الذي نؤمن به، وازداد به الإيمان زاد تهافتنا عليه وانشدادنا له، وبَذْلُنا من أجله(5)، وكلما سما الهدف الذي نتطلع إليه، وازداد التمسك به، وانتفت عنه الشُّبَهُ والظنون كلما وجدنا مُضيّاً في الإرادة، وتصميماً أكبر في سبيل الوصول إليه.
والوجود الحقّ المحض الكامل بالكمال المطلق والذي لا يشوبه باطل ولا نقص هو الله سبحانه؛ فمن آمن به شغله جلالُه وجمالُه عن كل ما عداه من جلالٍ وجمالٍ محدود، واسترخص كلَّ غالٍ، واستسهل كل صعب في الحفاظ على رضاه(6).
ومن كان الوصول إلى مرضاة الله العظيم هدفه قويت نفسه على الصعاب، وتحمّلت الكثير في سبيله، وكان لها من صبر الإيمان(7) به ما يواجه المحن والتحديات، وتثبت به القدم في المزالق، ويضاعف فرص الغلبة عند النفس على المواجِه مرّات ومرّات.
وإذا كانت الأهداف الأرضية المحدودة الصغيرة الحقيرة كالملك والسلطان تستحق في نفوس أهلها التضحيات والمغامرات المهلكة، وتُهوّن عندهم المتاعب فكيف بمن كان مثلُه المثلَ الأعلى، وهدفه الوصول إلى رضاه. “هوّن علي ما نزل بي أنه بعين الله”(8) وكيف لا يجد السائرون إلى الله تبارك وتعالى وعشّاقه الحقيقيون صبراً في سبيله فوق ما يتصوّره الآخرون، ومضاعفةً في قوة المجاهدة عند اللقاء، وَمَدَداً هائلاً من لدنه سبحانه يحقّق في ساحات النّصر المعجزات {… إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ …}.
5. الرضا والتسليم:
عن علي أمير المؤمنين عليه السلام:”الإيمان على أربعة أركان: التوكّل على الله، والتّفويض إلى الله، والتّسليم لأمر الله، والرّضا بقضاء الله”(9).
الأمور التي يذكرها الحديث إذا توفّرت لنفسٍ لم يشغلها همٌّ من هموم الدنيا، ولم تَنَلْ منها مشكلة من مشكلاتها، وكان لها منها ما يُريحها من ضغوط كلِّ الأزمات، وما يُحرّرها من كلِّ ما يُسبّب التعقيدات النفسيّة المرضية المؤذية، ومن العبودية لغير الواحد الأحد من باب الرّغبة أو الرّهبة واستصغار الذات.
وهذه الصفات النفسيّة الأربع العالية: التوكّل على الله، والتّفويض إليه، والتّسليم لأمره، والرّضا بقضائه لا تتمُّ إلا بِتمام الإيمان، ولا تَصدقُ إلاّ بصدقه، ولا يمكن أن ينتجها في النّفس الإيمانُ بأي قضية أخرى غير قضية التوحيد والإسلام(10).
6. الشعور بحلاوة الإيمان(11):
عن الرسول صلّى الله عليه وآله:”ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما(12)، وأن يحب المرء لا يحبه إلاّ لله(13)، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار”(14).
عن الصادق عليه السلام:”حرام على قلوبكم أن تعرف حلاوة الإيمان حتّى تزهد في الدّنيا(15)”(16).
للإيمان حلاوة يعرفها أهله ممن تحقَّقت لهم حقيقته، وشعّت في نفوسهم شمسه… حلاوة فاقت كل حلاوة حتى صار كلّ ما دونها بِذلة عندهم في سبيلها، وكلُّ شيء يُضحّى به لها، ولا يُضحّى بها لشيء.
والحديث الأول يذكر مستوىً متقدّماً من مستويات الإيمان لا تبلغه نفس إلا بمجاهدة طويلة شديدة، ومَنْ بَلَغَهُ وجد من حلاوة الإيمان ما يجعله يغنى به ويَخلُصُ إليه(17)، ولا يسهو عنه.
ولا يذوق حلاوة الإيمان صاحبُ دنيا قد تعلّق بها، وصار همّه الإسرافَ في الشهوات، والمنافسة على لذائذ المادّة، والاستزادة منها، والتفاخر بها(18).
وإنَّ كلَّ مكدِّرات الإيمان، وما ينافي مقتضاه لَيَطْمِسُ من نوره، ويذهب بحلاوته(19).
اللهم صل وسلّم وزد وبارك على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم. اللهم هب لنا إيماناً يطرد عنا كل وحشة، ونأمن به من كل ظلمة، ونأنس به في كل محنة، وارزقنا من حلاوة الإيمان ما يُنسينا كل مرارة، ويهوِّن علينا كلّ فقد، وأغننا بغناك، وعافنا بعافيتك، والطف بنا يا كريم يا رحيم.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ}

الخطبة الثانية

الحمد لله الذي لا يحتاج في صُنعه المتقن إلى تدبُّر، ولا في تدبيره المُحكم إلى تفكّر، ولا في عِلمه المحيط إلى وسيلة، ولا في سُلطانه الشّامل إلى ظهير، ولا في حكومته المطلقة إلى وزير، ولا جبروت عند جبروته، ولا قهر يقوم إلى قهره، كلُّ شيء طَوع إرادته، ومرغم لمشيئته، ومنقاد لقضائه وقدره.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمَّداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وزادهم تحية وبركة وسلاماً.
ألا فلنتّقِ الله عبادَ الله، ولنعملْ صالحاً لله خالصاً يبقى لنا ذخراً، ويكون لفوزنا سبباً. ولا يطلب أحدٌ سبب نجاة ونجاح كما يطلبه يوم القيامة لهولٍ فوق كلِّ هول(20)، وفزع أكبر من كل فزع، وعذابٍ ليس مثله عذاب، ولنعيم مقيم لا يشبهه نعيم. وهو يوم تتقطع فيه الأسباب، وتغيض فيه الفرص، ويتبرأ القريب من القريب، والحميم من الحميم، ولا ينفع مال ولا بنون إلاّ من أتى الله بقلب سليم.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله خاتم النبيين والمرسلي الصادق الأمين، وعلى علي أمير المؤمنين وإمام المتقين، وعلى فاطمة الزهراء الصديقة الطاهرة المعصومة، وعلى الأئمة الهادين المعصومين حججك على عبادك، وأنوارك في بلادك: الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن المهدي المنتظر القائم.
اللهم صل على محمد وآل محمد، وعجل فرج وليّ أمرك القائم المنتظر، وحفّه بملائكتك المقرّبين، وأيّده بروح القدس ياربّ العالمين.
اللهم عبدك وابن عبديك، الموالي له، الممهد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين وفقهم لمراضيك، وسدد خطاهم على طريقك، وانصرهم نصرا عزيزا مبينا ظاهراً ثابتاً مقيما.
اللهم لا تجعلنا ممن أنستهم دنياهم أخراهم، وصرفهم اللهوُ عن الجدّ، والأملُ الكاذب عن الوعد الحقِّ، والوعيد الصِّدق، والنعيم الرغيد، والعذاب الشديد، وغلبَ في نفوسهم الخوف من المخلوقين على الخوف من الخالق، والأملُ في المرزوقين على الأمل في الرازق، والثقةُ في الفاني على الثقة في الباقي، والاطمئنان إلى المملوك على الاطمئنان إلى المالك.
أما بعد فإلى كلمتين:
استقبال الشهر الفضيل:
شهر رمضان وهو شهر الله كما جاء في الخطبة المنسوبة إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله عن طريق الإمام علي عليه السلام:”إنّه قد أقبل إليكم شهر الله بالبركة والرحمة والمغفرة(21)، شهر هو عند الله أفضل الشهور، وأيامه أفضل الأيام، ولياليه أفضل الليالي، وساعاته أفضل الساعات، هو شهر دُعيتم فيه إلى ضيافة الله(22)، وجُعلتم فيه من أهل كرامة الله، أنفاسكم فيه تسبيح(23)، ونومكم فيه عبادة(24)، وعملكم فيه مقبول، ودعاؤكم فيه مستجاب”(25) ضمانات إلهية كما في الحديث، وكلها مغرية بحقّ، ولا يفرِّط فيها عاقل.
ومن أوصاف هذا الشهر في الوصف المنقول عن الرسول صلَّى الله عليه وآله في خطب أخرى جاءت عنه:
“إنه قد أظلكم شهر فيه ليلة خير من ألف شهر(26)”(27).
“إنّه تغلق فيه أبواب النيران، وتفتح أبواب الجنان، فمن أدركه فلم يغفر له فأبعده الله(28)”(29).
“هو شهر أولُه رحمة، وأوسطه مغفرة، وآخره عتق من النار”(30).
إذا كان شهر رمضان هذا شأنه عند الله عزَّ وجل وهو القائل في شأنه {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ…}(31) فكيف ينبغي أن يكون عند من يجد قلبُه شيئاً من الإيمان، وأيّ تعظيم يجب أن يُعظّمه المسلمون به، وبأي نوع من الاستقبال يستقبلونه، وبأيّ لون من التعامل معه يتعاملون؟(32)
إن طبيعة هذا الشهر الكريم تفرض أن يكون استقباله بأكبر درجة ممكنة من التّطهُّر الروحي، وتزكية النفس، وتصفية القلب، وتصحيح النيّة، وتنقية السلوك، والأوبة إلى الحق، والتوبة النّصوح.
فهذه هي العُدّة لاستقبال الشهر الذي أعدّه الله سبحانه ربيعاً للقلوب، ومعراجاً للأرواح، ولمزيدٍ من الطاعات والقربات، ونيل المغفرة والرحمة، والكرامة والدرجة الرفيعة.
ولا زال في المسلمين من يأخذ بهذا الهَدْي، ويستجيب لدعوة الرَّحمن، ويتهيأ للانتفاع من موائد الرحمة الإلهية المباركة التي تشفى بها العقول والقلوب والأرواح والنفوس وتكرم وتسمو، وتنمو وتزكو، وتخرج من ظلماتها إلى النور.(33)
وفي المقابل هناك إعداد من نوع آخر لإسقاط قيمة شهر رمضان المبارك، أو التقليل من شأنه الكبير، وخلق أجواء مضادة لأجوائه الطاهرة المربّية، ومقاومة عطاءاته الفيّاضة الكريمة، وتحويله إلى مرتع من مراتع الشيطان، وفرصة من فرص إغوائه وإلهائه ومكره وصيده.
هناك إعداد على مستوى برامج اللهو، وخطط التمييع، والصرف عن ذكر الله، والصدِّ عن مواقع العبادة، والاستقطاب للشباب والشابات وغيرهم لأنشطة اللعب والتسلية البلهاء، وأجواء التسيب الخلقي والاختلاط الفاحش، والقهقهات والعربدات الفاجرة والمسرحيَّات المتهتكة والسينما الساقطة.
هناك تنافس محموم من الاتجاه الآخر مع برامج الذكر والتلاوة والعلم والصلاح والعبادة، وله خبراؤه وخططه وميزانياته وإعداده الطويل المتقن، وفنيّوه، وجمهوره ودعايته وإعلامه، ومروِّجوه والداعون إليه، وجوائزه وإغراؤاته المادية الضخمة، وشبكاته المدرّبة، وإمداداته الخارجيّة، وواجهاته المختلفة، وعناوينه الخادعة وتجاربه المستفادة، وعناصره المعدّة.
وإنَّ في هذا لما يضاعف من مسوؤلية كل مؤمن ومؤمنة، ومسلم حقٍّ ومسلمة في العمل على خلق أجواء إيمانيّة عامة تحافظ على هوية هذا الشهر العظيم، وتقلّل من آثار التلوّث والتسمم البيئي الذي يستهدف كل لياليه وأيامه وساعاته التي هي خير الليالي والأيام والساعات كما جاء عن الرسول صلّى الله عليه وآله، ويُبقي على فرصة المجتمع المسلم في التزوّد منه خير زاد.
الوقاية خير من العلاج:
تعاني البلاد العربية والإسلامية من حالة تفكّك خطير وسوء ظن وتوتر في علاقاتها البينية، ومن حالة تدهور سيء في علاقاتها الداخلية بين طرفي الحكومات والشعوب.
ومشاكل الداخل المتفاقمة، وفقدُ الأمن وتصاعد حالة الاحتراب تنتشر في باكستان وأفغانستان والصومال، والسودان، والعراق وتهدِّد كل هذه الأقطار بحريق هائل ماحق. وبلدان أخرى إسلامية وعربية بدأت الفتنة فيها تخرج من حالة الاختمار إلى حالة الاشتعال سواء ظهر ذلك في الإعلام قويّاً أم لم يظهر.
وما من بلد من بلدان الأمة إلا وتختمر فيه الفتنة على الأقل. والحديد والنَّار، والتعذيب والتشريد، والسجون والتهميش ليست الأسباب التي تقضي على الفتن، وإنما هي تُغذّيها، وإن أخّرت يوم لهيبها بعض حين.
وبالنسبة لهذا البلد العزيز الصغير في مساحته القليل في عدد أبنائه عليه أن يكون ذكياً ويسرع لحماية نفسه من الهزات الأمنية الناسفة التي قد تفرض نفسها عليه وقتَ لا يحتسب، وعليه أن لا يسعى لأن يكون مهلكه على يده.
وعلى الذين يفكرون باهتمام في سلامة هذا البلد أن يأخذوا بحقيقة أن الوقاية خير من العلاج. هذا لو تأتى عند الحريق الهائل العلاج.
ولا وقاية أوضح وأجدى من أن تسرع الحكومة في عملية إصلاح جدّية مشهودة على الأرض بأسرع وقت ممكن تتناول تحسين الوضع السياسي والأمني والمعيشي والديني والأخلاقي والخدماتي، وأن تتحرك عن جد لا هزل لحالة توافق على مصير كل الملفات الساخنة، وخارطة الحل لكل واحد منها بما ينهي حالة التجاذب والصراع الخطيرين، ويؤدي إلى علاقة هادئة إيجابية مستقرة.
يُسيء جدّاً، ويؤلم كثيراً أنه بالإضافة إلى المشاكل والتأزّمات البينية المنذرة في البلاد العربية والإسلامية، توجد في كل بلد عربي وإسلامي قنابل اجتماعية موقوتة، ومشاكل مفخَّخة بين الشعوب والحكومات قابلة للانفجار في أي لحظة. والخطر داهِم، ويُخطئ من قامت سياسته في أي بلد على هدف التفرد بكل الصلاحيات والحقوق والمكتسبات والخير والأرض وسائر الثروة والحياة، وإلغاء الآخر ودفنه وقبره.
اللهم صل على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم أغث عبادك المؤمنين والمسلمين في العراق، وأنقذهم من البلاء المغرق المهلك الذي هم فيه، ومن نار الفتنة التي يصطلون بها، والحريق الزاحف الذي يعانون منه، واقطع عنهم أيدي الكفار والمنافقين والأشرار، واستئصل منابع مدد المعتدين، وأوقع بهم أشد عقاب.
اللهم وارأف بعبادك المؤمنين والمسلمين في كل مكان، وادرأ عنهم كلّ سوء يا عظيم يا قدير يا حفيظ.
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 – 124/ التوبة.
2 – الذي يطفح على الوجه بآثار وملامح نيّرة منفتحة زاهية.
3 – والاستبشار درجة من الفرح والسرور لا تبقى مكتومة، وإنما تفرض نفسها على معالم الوجه، وتظهر آثارها على البشرة.
4 – 65/ الأنفال.
5 – كلما عَظُمَ وزن الإيمان بالقضية عظم الصمود من أجلها، وسخت النفس بالبذل في سبيلها، وثبتت القدم على طريقها. على عكس ما يكون الإيمان خفيفا مهتزا ضعيفا بأي قضية من القضايا فإن هذا الإيمان لا يصمد بصاحبه على الطريق، ولا يبعث في نفسه الصبر على المعاناة. إنك تقبل المعاناة والمكابدة من أجل ما يعظم في نفسك، وليس من أجل هدف لا تراه كبيرا، أو لا ترى من نفسك الإيمان الكافي به.
مسألتان: مسألة درجة الإيمان، ودرجة الهدف، كلما عظمت درجة الإيمان كلما تحملت النفس من أجله، وكلما سمت قيمة هذا الهدف كلّما سهلت التضحية في سبيله. أومن بهدف لكن لا أرى له القيمة العالية، وقد أرى قيمة عالية لهدف معين، ولكن إيماني به إيمانٌ ضعيف، وعلى التقديرين لا تكون التضحية عالية. نعم، إذا كان الإيمان قويّاً وكان الهدف كبيرا في النفس بذلت النفس من أجل ذلك الهدف كل ما تملك.
6 – إنّك لتعثر على الصديق العزيز الأمين الموثوق في نفسك، والذي يملك المنزلة العلمية والإيمانية الرفيعة عندك، فيصعب عليك أن تضحي به، ولا يصعب عليك أن تضحي بالكثير من أجله، فكيف بمن عرف الله تبارك وتعالى؟
7 – وللإيمان بالله صبر خاص، فإذا كان الصبر على درجات، فإن أكبر صبر هو صبر ينبع من الإيمان بالله تبارك وتعالى. الصبر المتولّد من الإيمان بالله الإيمان الحق صبر لا يعدله صبر.
8 – بحار الأنوار ج45 ص46. هذه الكلمة قالها الإمام الحسين عليه السلام في كربلاء حينما ذُبح ابنه عبدالله في حجره من الوريد إلى الوريد بسهم رماه حرملة بن كاهل الأسدي، فأخذ الحسين عليه السلام دم ابنه ورماه إلى السماء وقال:”هوّن عليّ ما نزل بي أنّه بعين الله”.
9 – بحار الأنوار ج75 ص63.
10 – لا إيمان بمال، ولا إيمان بوطن، ولا إيمان بقوم يعطي تلك النتائج الكبيرة. أي إيمان هو تحت الإيمان بالله عز وجل، ولن تشع نفس بتلك الآثار الإيمانية إلا إذا غنت بالإيمان بالله تبارك وتعالى، وهي دالّة عليه.
11 – يقضي أحدنا الخمسين والستين سنة في هذه الحياة وقد لا يشعر بحلاوة الإيمان، وإن تحمّل تكاليفه، ولكنّه التحمّل الذي يقوم على المجاهدة والمواجهة والمكابدة والمعاناة، إلا أن مستوى من الإيمان لا يعيش أهله هذه المعاناة والمكابدة وإنما وهم يقومون بكل تكاليف الإيمان كأنما يعانقون العرائس، أو أكثر من ذلك، وحتى الشهادة نسمع عنهم أنهم يتهافتون عليها شوقا وعشقا لله تبارك وتعالى، وأين إيمان يعيشه أحدنا من المستوى الأول من إيمان يعيشه أولئك، وليس هذا العشق والذوبان ، والشعور بحلاوة ممارسة التكليف في لحظات نادرة.
12 – درجة خاصّة من الإيمان هي التي تنتج حلاوة الإيمان في القلب وتستشعر معها النفس حلاوة تفتقدها كل الدنيا، ولا يعرفها إلا أهل الله. “أين الملوك وأبناء الملوك من هذه اللذّة” نداء قيل إنّ مؤمناً صلّى صلاة الليل وجاء بورده وذكر ربّه ودخل في مناجاة حارة مع خالقه، وهو يواجه مشهد ضريح أمير المؤمنين عليه السلام في بقعة مسجد الطوسي فانطلق منه نداء: أين الملوك وأبناء الملوك من هذه اللذة؟!
أهل الدنيا لا يعرفون تلك اللذة التي تنسي كل هموم الدنيا، وترتفع بالنفس، تسمو بها إلى آفاق بعيدة غير مرئية، وتكسبها قوة تواجه بها كلّ محن الحياة.
13 – فليكن البعيد كل البعد، وليكن الشخص الذي آذاك، لكنّه تاب وآب إلى الله وصفى قلبه أو أن أذاه كان عن شبهة.
14 – كنز العمال ج15 ص808.
15 – ليس في حرامها فقط، إنما تكون النفس قد كبرت بإيمانها عن التوغل في طلب الدنيا لما هي دنيا، قد تطلب مالا كثيرة لتكون المحسن في الناس، قد تعمل ليلا ونهارا بصورة شبه متواصلة لترتفع بمستوى الأمة الإسلامية والإيمان، تعمل من أجل تطوير مصنع لا تقوم الأمة إلا بإنتاجه، ذاك شيء، وأن أجمع المال لنفسي ولولدي وللذائذي، ولأظهر به وأتبذخ شيء آخر، وإن كان ذلك المال من الحلال.
16 – الكافي ج2 ص128.
17 – يعني يتفرغ إليه، ويشتغل به عن غيره، ويذوب فيه، وينتهي عند طلبه.
18 – وليكن كل ذلك من الحلال.
19 – وكل ثلمة في الإيمان تباعد بيننا وبين أن نشعر بشيء من حلاوته.
20 – تكون أمامنا في الحياة صعاب ومخاطر وأهوال نستعظمها وتكبر على نفوسنا فنبحث في كل الجهات عن وسيلة وسبب نجاة، ولكن لا يوم كاليوم الآخر، ولا هول كهول ذلك اليوم، وما أحوج الإنسان عند ذاك لأي وسيلة نجاة، وسبب نجاح.
21 – فلنلتفت إلى، لا تغني هذه الكلمات عن التمعّن، كل الشهور فيها بركة من الله ومغفرة ورحمة، النص على بركة هذا الشهر، ورحمته ومغفرته له قيمة خاصة، وهذه الموارد لا تُشترى بأثمان نعم الدنيا، كل ما يبذله الإنسان في سبيل الله من غير نية القربى إلى الله والخشوع والخضوع والتذلل يكاد يكون هباء، فلب الثمن هنا هو النية الخالصة لله تبارك وتعالى.
22 – لو دُعيت إلى ضيافة أكبر فقيه لكان لك ذلك رأي، وكنت تستعد لهذه الضيافة كل الاستعداد، وماذا ستعطي ضيافة العبيد أمام ضيافة الله تبارك وتعالى؟! ولو قيل لك إن لك ساعة لقاء يتفرغ إليك فيها علي بن أبي طالب عليه السلام ويخصك بها محبة، إلى أي حد ستكون في نفسك؟ وإلى أي حد سترى نفسك عظيما؟ ستمتلك الشعور بالشرف، والشعور بالغبطة، وستتعزز الثقة بك في نفسك، وهذه ضيافة من الله عز وجل.
23 – يعني النفس الواحد هو تسبيح من النوع المقبول.
24 – وقت لا تملؤه بصالح من عمل، بعمل إيجابي نافع، وقت من الأوقات السلبية لكن لأنك صائم، فأنت في عمل جهادي وعمل طاعة مستمر، وكل لحظات يومك محسوبة لك طاعة ما لم تخرج عن مقتضى الصوم، وعن مقتضى طاعة الله تبارك وتعالى.
25 – بحار الأنوار ج93 ص356.
26 – هذا يبين قيمة هذا الشهر، وقيمة تلك الليلة.
27 – بحار الأنوار ج93 ص359.
28 – يعني ذلك أنه لتسهيلات ومزيد مغفرة ورحمة وعفو، ولتهيئة أجواء روحانية من صنع الله عز وجل، وبهدايات خاصة تتنزل في هذا الشهر ومضاعفة ثواب كأن أبواب النيران قد أغلقت فلا يفتحها إلا مصرّ على دخول النار، وكأن أبواب الجنان قد فتحت فلا يحرم منها إلا مدبر يصر على الإدبار. فالقضية مربوطة بجو نفسي وروحاني خاص ومزيد من المغفرة، ومزيد من رحمة الله عز وجل في هذا الشهر الكريم، وهو الذي يعني سد أبواب النار، وفتح أبواب الجنان.
29 – بحار الأنوار ج93 ص363
30 – بحار الأنوار ج93 ص342.
31 – 185/ البقرة.
32 – عرفنا شأنه عند الله فكيف يجب أن يكون شأنه عند المؤمنين؟
33 – القلوب المحتوشة من الظلمة والمسكونة للوحشة، والأرواح المترجّسة المتندِّسة بالجهل والهوى الذي يشدّها إلى الأرض، ويعوق رحلتها إلى الله سبحانه تتخلص من كل هذه الأوضار والأكدار في هذا الشهر الكريم، بما تفاعلت به مع أجوائه، وأعطت ذاتها لتربيته يصوغها كما شاء الله تبارك وتعالى راقية صافية نقية خالصة.

زر الذهاب إلى الأعلى