خطبة الجمعة (380) 15 شعبان 1430هـ – 7 أغسطس 2009م

مواضيع الخطبة:

*المعرفة – تتمّة *مولد الحجة المنتظر (عجل الله فرجه) *المشروع الإسكاني للقرى الأربع

من أضرّ ما يضرّ، وما يصعّب المهمّة على الحقّ يوم الظهور أن تغيم الرؤية الإسلامية عند الكثيرين، ويختلط فيها الحق والباطل، وأن تتشوّه مفاهيم الدين، وتتسلل المفاهيم الثقافية والسياسية الأجنبية إلى صفوف المؤمنين خاصّة مع اعتبارها شيئاً من الإسلام ومتبنياته.

الخطبة الأولى

الحمد لله الذي أكرمنا بمعرفته، ووفّقنا لطاعته، وَذَادَنا عن معصيته، وفَتَحَ علينا أبوابَ توبته، وأسبغ علينا مِنْ كريم نِعَمِه، وأفاض علينا من واسع رحمته، وأنار بصائرَنا بهُداه، ورغَّبنا في جنّته.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمّداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليماً كثيراً كثيراً.
عباد الله أُوصيكم ونفسي الأمَّارة بالسّوء بتقوى الله وإنْ شقَّ أمرُها على نفسٍ لم تُروَّض، وأُسْلِسَ لها القِيادُ طويلاً، فأَضعفها الإهمالُ عن تحمُّلِ ما مِنْ شأنِها أن تتحمّله لولا ما ساعدها على الاسترخاء والدَّلال والتَّصعُّب. وإنّه وإن شقّ على النَّفس مجاهدتُها على الطّاعة، والكَفّ عن المعصية اليوم فإنّ ذلك لأهون عليها بدرجات ودرجات من معاناة العذاب وشدّته يوم يقوم الحساب، وينقسم النّاس إلى فريقين: فريق في الجنّة وفريق في السعير.
فَلْنَقُلْ للنفس اصبري على الطاعة، واصبري عن المعصية، فإنما ينتظر هذه النفس من العذاب يوم القيامة أكبر مما تستصعبه من أمر الطّاعة والكفّ عن المعصية هذه المدة اليسيرة.
وإنَّ مجاهدةً للنّفس تستقيم بها على طريق الحقّ اليوم تنجو بها غداً من الجحيم، وتبوئها مبوّأ صدقٍ وكرامةٍ ونعيمٍ أبديٍّ غامرٍ في الآخرة. تعبٌ مأجور، وتجارةٌ لا تبور، وجهدٌ مدّخر، فلنرغبْ عباد الله في ما اختاره الله من السعادة لأوليائه، ولنحذرْ من الشقاء الذي حذّر منه أعداءه.
اللهم اغفر لنا ولوالدينا وأرحامنا وجيراننا وأصدقائنا وأهل الإحسان إلينا، وإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم اسلُكْ بِنا مسلكَ أوليائك، واجعل خاتِمَتَنَا خاتِمَتَهم، وجنّبنا مسلكَ أعدائك، وقِنَا مصيرهم، واجعل بيننا وبينهم ما بين أهل الجنّة والنّار من براءة، ولا تَخلطنا بهم أبداً، وصلّ على محمد وآله الطاهرين، يا رحمن يا رحيم يا كريم.
أما بعد فهذا حديث في موضوع المعرفة، وهو شيء من التتمّة لما سبق:
هل نحاسب على الإيمان؟
لا حساب بلا تكليف، ولا تكليف إيجاباً أو تحريماً بلا قُدرة. وقد تتعلّق القدرة بالشيء نفسه كالصوم والصلاة، وقد تتعلّق بأسبابه دون أن تملك من أمره شيئاً بعد الأخذ بالأسباب؛ كإطعام الآخر بالنسبة لإشباعه، والحفاظ على حياته، وكتناول السُّمِّ بالنسبة لقتل الإنسان نفسه.
والإيمان منه فطريٌّ نُسأل عن مراعاته، والإبقاء عليه بعدم التسبيب لتغييبه الذي ينتجه ارتكاب المعصية المفسدة للروح والقلب المانعة من تقبّلهما لقضية الإيمان.
ومنه مُكتسبٌ يترقّى فيه العبد عن طريق الطاعة لله سبحانه والإخلاص فيها، وبمقدار ما يكون عليه من الطاعة، وصدق الإخلاص، والاستجابة الجادّة لرصيده الإيماني الفعلي ومقتضاه، وما قام عليه من حجّة إلهية يزداد الإيمان ويزكو، ويتألّق ويصفو، ويكون أكبر سعة، وأبعد عمقا، وأشدّ وضوحاً، وأرسخ وأزهر.
وينحدر مستوى الإيمان ويرقّ ويضعُف ويتسطّح ويتزلزل إذا سلكت النفسُ طريقَ المعصية، وَأَخَذَتْ في الانحراف عمّا تعلم من الحق، والاستكبار على ما وصلها من حجّة، واستلانت للقبائح، وانغمرت فيها.
ولأن الإنسان يملك إرادة الطاعة والمعصية للتكليف، والاستكبار على مقتضى الإيمان المتوفّر له صار من الحق أن يُعاقَب على خسارة الإيمان، ووهنه بعد شدّته، وتزلزله بعد ثباته وترسّخه.
قد يقول أحدنا أنا لا أملك أن أؤمن أو لا أؤمن، كما أنني لا أملك أن أظن أو لا أظن، ولكن إذا ملك أحدنا أسباب زيادة الإيمان، أو أسباب نقيصته فقد ملك الإيمان من ناحية استحقاق العقوبة والمثوبة.
وهذه نصوص قرآنية كريمة في بيان الطريق لنماء الإيمان، والطريق لانحساره:
طريق النماء:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}(1).
مقتضى الإيمان بالله أن أتقي الله بمقدار ما يتوفر لي من إيمان. ولا يمكن أن يزيد تقوى العبد عن مقدار إيمانه، لكنني أمام مستوى معيّن من الإيمان أعيشه في داخلي، وبمقدار هذا المستوى من الإيمان عليّ أن أتقي الله تبارك وتعالى، فإذا اتّقيتُ الله بهذا المقدار جاءني نورُ إيمانٍ جديد، وتدفّق جديدٍ من فيض الله تبارك وتعالى يرفع من مستوى إيماني، ويستنير به قلبي.
فأخذ المؤمن بتقوى الله وهو مقتضى إيمانه، ومتابعة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وطاعته طاعة لله يستتبعان نوراً هادياً مُضافاً من نور الإيمان، وبصيرة من بصيرته.
فعِّل رصيدك من الإيمان عملاً كما تُفَعِّل رصيدك من المال، وأنت في تفعيلك رصيدك من المال قد تربح وقد تخسر، أما في تفعيلك رصيدك من الإيمان فأنت رابح لا محالة. وهذا الرصيد يتنامى بمقدار ما فعّلته كما أراد الله تبارك وتعالى، ومن تفعيله أن تبني مواقفك في ضوئه.
{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ}(2).
الرسول صلّى الله عليه وآله نور، والظّاهر من النّور في الآية الكريمة هو الرسول صلّى الله عليه وآله في قبال الكتاب المبين الذي هو نور آخر كذلك. الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم نور، والكتاب الكريم نور، ومن نورهما يكتسب القلبُ المقبل عليهما، المتغذّي على موائدهما نورا، ويغنى بالهدى، وتنفتح منه البصيرة بما لم يكن له منها، لولا الاهتداء بهما، ومتابعتهما، وصوغ النفس على ضوئهما. فهذا طريق من طرق زيادة الإيمان وإنمائه، وهو أن نأخذ بهدى الكتاب، وهدى الرسول صلّى الله عليه وآله، ونقفو أثرهما.
{… إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى}(3).
آمنوا بربّهم، وأخذوا بالموقف الإيماني، وانحازوا عملا للإيمان، والتزموا بمقتضاه، وقبلوا الأخذ بتكاليفه، وصبروا على الأذى في سبيله فكانت النتيجة أن زادهم الله هدى فوق ما كان لهم منه، وكلٍّ من عند الله، واشتدّ في قلوبهم الإيمان، وكان لهم نور على نور.
طريق انحسار الإيمان، وتضاؤله، وغيبوبته، وسباته:
{الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ}(4) جاءت نفسك مفطورة على مستوى تكون مستعدّة به لتلقّي الإيمان، جاءت النفس مخلوقة من الله عزّ وجلّ على صلاحية كافية لمعانقة ومواقعة الإيمان، ولكنّ هذه النفس نملك أن نُحطّمها، ونملك أن نلوّثها، وأن نحدث لها ما يحول بينها وبين الاستفادة من نور الإيمان أو استقباله أساسا. قد يخسر الإنسان نفسه بسوء عمله، يخسر منها قابليتها لرؤية الحق والتسليم له، ويخسر القدرة على التصديق بالآيات ودلالتها، ويغلق على قلبه أن يرى الحقيقة التي لا يملك العقل إلا أن يثبتها لكفاية الدليل، ولا يبقي لنفسه قدرة الصّبر على ما هو حقّ، وما هو تكاليف الحق، فتلجأ النفس لترضى عن نفسها إلى الجحود والإنكار.
السقوط بمستوى النفس عن طريق السيئات والاستكبار على الله سبحانه وتعالى يفقدها قابلية الإيمان فيكون ذلك من مسؤولية الإنسان الذي أساء لنفسه وظلمها.
ومن خسر نفسه بهذا المعنى لا يتأتّى منه الإيمان. ومن كانوا كذلك فإنّهم بعد معرفتهم بالحق عقلاً لاتملك قلوبهم بعد إفسادها وتلوّثها أن تطمئن به، وتتشرّبه، وتكون مسكناً له، وتستجيب له بصدق.
{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمُ}(5).
يعرفونه ورقاً، يعرفونه لفظاً؟! أو يعرفونه أنّه الحق، وأنه منزّل من عند الله، وأنه الحجة بين الله وبين عباده.
قد تكون معرفتنا وزراً، وحملنا لها كما يعرفونه عقلاً أنه الحق المنزّل من عند الله لكن هذه المعرفة لا تلامس قلوبهم المحجوبة.كما يحمل الحمار على ظهره أسفاراً من معرفة كثيرة عالية نافعة ليس له من حملها إلا الثقل بلا نفع.
{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمُ} هل من أحد يُخطئ ولده الذي يعايشه؟! لا يعرفه شبحاً وإنما يعرفه بسماته، وبخصائصه.
{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمُ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ}(6).
المصيبة العظمى أنهم خسروا أنفسهم، فصارت تلك الأنفس نافرة من الإيمان، تكره الحقّ، وتعشق الباطل، وتذوب فيه.
وللقلب سمع وبصر، وإذا مات فَقَدَ سمعه وبصره، ومنافذ المعرفة وأبواب اليقين عنده.
إن هذا الإنسان وباختيار منه يُفقد قلبه إمكان استقبال المعرفة ونور الإيمان بما يكسبه من سيئات تكون رَيناً على قلبه، وتطبعه، وتغلّفه، وبذلك يتحمّل مسؤولية هذه النتيجة المرّة التي تَسَبَّبَ في تولّدها.
أرأيت أننا إذا عشقنا شيئاً لا جمال له عن هوى في النفس، وعن طريق الممارسة استقر في النفس فكريّاً، وفي الفكر التصديق بجماله؟! وأننا إذا عادينا شخصاً أو عادينا فكرة نحتاج إلى وقت طويل وإلى تأمّل شديد، وإلى مجاهدة للنفس حتى نقبل خبر الخير في هذا الشخص، أو نقبل شيئاً من حسن تلك الفكرة؟! إنه فعل الهوى والممارسة، والسلوك الخارجي الذي يخلق في داخلنا مشاعر مستقرّة تؤثّر حتّى على قابلية الفكر للتصديق.
{كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ}(7).
{يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاءُ}(8).
للاستجابة للإيمان والأخذ العملي بمقتضاه مردود من مزيد إيمان، وشدّة هدى ونور، وتثبيت من الله لعبده على الصراط القويم حتى الوصول إلى الغاية العظيمة الكريمة.
أما الاستخفاف بنعمة الإيمان، وظلم النفس بسلوك طريق المعصية، ومعاندة الله سبحانه فمستتبع للضلال الذي يتحمل العبد المفرّط في الحق تبعته ووزره بما كان منه من السعي إليه.
بقدمي أكون قد سعيت إلى الضلال على طريق المعصية، فأنا أتحمّل ما يحدث لي من ضلال مترتب على هذا السعي، ومواقعة المعاصي. ومن الناس من يعرف الله عز وجل ولكنّه يعدل عن عبادته، ويتخذ إلهه هواه عالماً مختاراً فيكون ذلك منه مقدمة لضلاله، ولأن يُختم على سمعه وقلبه، وأن يُجعل على بصره غشاوة فلا يصل قلبَه هدى، وتحول أقفاله بينه وبين الإيمان. وإنما أقفال هذا الضال من صنعه.
{أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ}(9).
أمن أحد يكسر قوانين الله عز وجل؟! أعمل المعصية وأتمادى فيها فتكون النتيجة هدى؟! لا، لابد أن تكون ضلالا.
والنتيجة أن الطريق أمام إرادة الإنسان، وبعد الزاد الفطري من الإيمان مفتوح لزيادته ونقصه، وقوّته وضعفه، واستقراره واضطرابه، وحيويته وخموله، وفاعليته وشلله، وبذلك تكون هذه الحالات العارضة للإيمان إيجاباً وسلباً داخلة في مسؤولية العبد، ومحلاً للمثوبة أو العقوبة.
اللهم صلّ وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبدالله خاتم النبيين والمرسلين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم بلّغ بإيماننا إلى أكمل الإيمان، ويقيننا إلى أفضل اليقين، وبنيّاتنا إلى أخلص النيات، وبأعمالنا إلى أحسن الأعمال، وثبّتنا ما أحييتنا على صراطك المستقيم.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ}

الخطبة الثانية

الحمد لله الذي أنزل القرآن هادياً، وبعث الرسول شافياً، وأقام للناس أئمة عدل معصومين يهدون إليه، ويدلّون على دينه، ويقودون أهل الطاعة إلى مرضاته، ويسلكون بهم صراطه، ولم يخل الأرض من حجّة ظاهر أو غائب، وألزم بمعرفة الحجّة لأنّه الدليل من لطفه على المحجّة. أحمده بفضله، وأستعينه على طاعته، وأسترفد منه المزيد من رحمته وعطفه ورأفته، وهو الولي الحميد.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وزادهم تحية وبركة وسلاماً.
عباد الله علينا بتقوى الله الذي خلقنا في أحسن تقويم، وجعل لنا سمعاً وبصراً وأفئدةً، وكلُّ أولئك كان عنه مسؤولا، فإِنْ وضع الإنسان هذه النعم موضعها الذي أراد الله عز وجل سما وكان راضياً مرضيّاً، وإن أساء استعمالها، وانحرف بها عن وظيفتها، واستعان بها على الباطل رُدَّ بعد حُسن الخلقة، وإحكام الصنع، ودقّة التقدير، وجميل التناسق، وتعادل القوى بما يؤدّي عند حسن الاختيار إلى الكمال والسعادة، إلى أسفل سافلين.
ولقد قال سبحانه وتعالى في كتابه المنزل على نبيّه الخاتم المرسل:{لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ، ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ}(10) والنتيجتان متباعدتان جدّاً، والخيار بيد الإنسان، وهو الذي يرسم مصيره، ويختار عاقبته، ويسعى سعيه للعاقبة التي يريد، والنتيجة دائما في جنسها من جنس السعي.
اللهم صلّ على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وانتهِ بنا إلى أعلى عِلِّيّين، ولا تنتهِ بنا إلى أسفل سافلين، وقِنا الجحيم، واجعلنا من أهل جنّة النّعيم، يا متفضّل يا حنّان يا منّان يا كريم.
اللهم صلِّ على عبدك ونبيّك خاتم المرسلين الصادق الأمين محمد بن عبدالله، وعلى علي أمير المؤمنين وإمام المتقين، وعلى فاطمة الزهراء الصديقة الطاهرة المعصومة، وعلى الهادين المعصومين حججك على عبادك، وأنوارك في بلادك، أئمة الهدى من آل محمد صلّى الله عليه وآله وسلم: الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن المهدي المنتظر القائم.
اللهم صل على محمد وآل محمد، وعجل فرج وليّ أمرك القائم المنتظر، وحفّه بملائكتك المقرّبين، وأيّده بروح القدس ياربّ العالمين.
اللهم عبدك وابن عبديك، الموالي له، الممهد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين وفقهم لمراضيك، وسدد خطاهم على طريقك، وانصرهم نصرا عزيزا مبينا ثابتا دائما.
أما بعد فمع هذه الكلمات:
مولد الحجة المنتظر (عجل الله فرجه):
أُبارك لأهل بيت العصمة والطهارة من آل رسول الله صلّى الله عليه آله، ولفقهاء الأمة العظام، وعلمائها الأعلام، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين، وكل مستضعفي العالم ذكرى المولد الشريف لبقيّة الله من آل محمد صلّى الله عليه وآله، المُعدّ بعناية الله تبارك وتعالى لإخراج الناس من الظلمات إلى النور، ومن الضيق إلى السعة، ومن الشقاء إلى السعادة، والأخذ بهم من الضّعة إلى الرفعة، ومن الهوان إلى الكرامة، ومن الحضيض إلى السموّ، ومن عبودية الطين والتمرغ في مستنقع الشهوات القذرة إلى فضاء الحرية الفسيح، وآفاقه العالية بتوحيد الله، وإخلاص العبودية لوجهه الكريم.
وإن العالم لينتظر بظهور القائم عجل الله فرجه يوم تغيير واسع شامل، وجذري عميق ينسف ما بنته الجاهلية في قرون متعاقبة على مستوى العالم كلّه، ويأتي على ما صنعته من تشوّهات عقلية ونفسيّة وروحيّة داخل الإنسان، وما أقامته من أوضاع خارجية سقيمة وظالمة وقذرة مشقية له. يفعل هذا ويقيم مكان كلّ رديء ضارّ دخل ذات الإنسان مما صنعته الجاهلية المقيتة، وكل رديء فتّاك أقامته على أرض الواقع في خارجه جديداً نافعاً راقياً.
وهو يوم تغيير سيُواجَه حتماً بكل إمكانات الجاهلية الحديثة، يوم تَعَبٍ وَنَصَب، يوم بذل، وتضحية، وجهاد. يومٌ يحتاج إلى إعداد من نوعه، يحتاج إلى رجالات، يحتاج إلى قلوب كزبر الحديد، يحتاج إلى أناس يتجاوزون حسابات الدنيا، وتكون قلوبهم معلّقة بطموح الآخرة. هذا هو المجتمع المعدّ لاستقبال حجّة الله عجل الله فرجه. فيوم القائم عجل الله فرجه ليس يوم مُيَّع، ولا يوم مسترخين، ولا يوم نفوس يملؤها الضعف والخوف والجبن، إنه يوم البطولات، ويوم التضحيات.
وهو يوم تغيير سيُواجَه حتماً بكل إمكانات الجاهلية الحديثة، وهي إمكانات مادية وشرّيرة ضخمة وهائلة مما يجعل يوم المواجهة أصعب وأشمل وأشدّ وأثقل أيام المواجهات بين الحق والباطل في الأرض على مستوى التاريخ المعلوم.
ربما لا يكون يوم سيف، فربما كان يوم قنبلة ذرية، والإعداد لهذه المواجهة الصارمة والحاسمة والجولة الشاقّة من جولات الصراع بين الجاهلية والإسلام، وما يتطلّبه من جهوزية وإنجازات حاصلة ناجزة يوم الظهور إنّما هو من مسؤولية هذه الأجيال المؤمنة بذلك اليوم الخطير العظيم المجيد.
نحن سبب كبير في تحقيق النصر يوم الظهور، وفي تعجيله، وسبب معرقل للنصر الضخم، وسبب مؤجّل ليوم الظهور إذا لم نُعدّ له. إذا جئنا التقينا ذلك اليوم، سواء في جيلنا هذا أو في جيلٍ مقبل بفهم غير فهم الإسلام، برؤية سياسية سقيمة أجنبية مستوردة، بنفوس مسترخية، بمطامع دنيوية فسنكون على هذا التقدير سبب عرقلة للنصر لا عاملاً من عوامل النجاح. يوم الثورةيوم ثورة الإمام عليه السلام، ويوم دولته من أصعب أيام التاريخ، وأقساها على النفوس، ولا تثبت نفس على الحق ذلك اليوم إلا نفس آمنت بالله حقّ الإيمان.
ويوم الظهور يوم حرب فعليَّة، يوم مواجهة، يوم مناجزة، وليس يوم إعداد. الإعداد قبل يوم الظهور، الإعداد من مسؤولية هذه الأجيال، وحتَّى يوم الظهور.
ما لم تبلغ نفوسنا حدّ السخاء المفتوح بالمال، بالوقت، بالنفس، بالولد لا نكون أنصار الإمام عليه السلام، ولا مُمهّدين له.
وهو إعداد يشمل الإنسان المؤمن في كل أبعاد ذاته، وأوضاعه وقدراته وخبرته وكفاءته، وارتباطه بقضية الظهور والإيمان بها، وتركيز خطّها وانعكاساته ومقتضياته في العقل والقلب والسلوك من حياة الفرد والمجتمع.
الجماعة المؤمنة التي لابد أن تعدّ ليوم الظهور إنما يكون إعدادها على طريق الإيمان والفهم الديني والرؤية السياسية والاجتماعية وغيرها مما يمثِّل الإسلام الصادق الأصيل، ولا يصلح على الإطلاق أن يأتي الإعداد بصورة أخرى. إذا ربّينا أجيالنا على الفهم الآخر فسيكون هذا الإعداد في صالح الاستكبار العالمي الذي سيواجه الإمام عليه السلام بكل شراسة.
وبهذه التربية المنحرفة نوسّع من الشقّة بيننا وبين الإمام القائم عليه السلام، ونخلق حالة غربة، وحالة نفور، وحالة استنكار واستنكاف تحول بيننا وبين الانقياد له عليه السلام. والإعداد له دوره الكبير في تعجيل أو تأجيل يوم الظهور، فإذا جاء منسجماً مع طرح ومتطلبات، وقيادة ذلك اليوم وجاء جادّاً وكافياً ووافياً كان من بين أكبر أسباب النصر الموعود. وهو نصرة من أكبر النصرة للثورة والدولة يوم الظهور.
حتى جاء أن المنتظر في زمن الغيبة، الانتظار الذي يمثّل إعداد الفكر والنفس للذات والغير، والإعداد العملي على طريق نصرة الإمام عليه السلام. هذا المنتظر كشاهر سيفه بين يدي رسول الله صلّى الله عليه وآله يدبّ عنه، فبوعينا الإسلام، بتركيز الوعي الإسلامي، والرؤية الإسلامية، والأخلاقية الإسلامية، والإيمان نكون من الذابين عن الإمام عليه السلام، والممهدين ليوم نصره الكبير.
ومن أَجَلِّ ما يُنتصر به للإمام القائم عجل الله فرجه هو الحفاظ على أصالة الإسلام التي يأتي الإمام عليه السلام من أجل إظهارها وتأكيدها وتثبيتها.
نعم، هو الحفاظ على أصالة الإسلام، وسلامة رؤاه ومفاهيمه وأحكامه وأخلاقه في كل مساحة الحياة، وحمايته من الاختراق، وتسلل الغريب الحضاري على المستوى الفكري والشعوري والقيمي، وفي مساحة السلوك عند المسلمين.
ومن أضرّ ما يضرّ، وما يصعّب المهمّة على الحقّ يوم الظهور أن تغيم الرؤية الإسلامية عند الكثيرين، ويختلط فيها الحق والباطل، وأن تتشوّه مفاهيم الدين، وتتسلل المفاهيم الثقافية والسياسية الأجنبية إلى صفوف المؤمنين خاصّة مع اعتبارها شيئاً من الإسلام ومتبنياته.
المشروع الإسكاني للقرى الأربع:
والقرى الأربع هي النويدرات والمعامير والعكر وسند.
وضع طلب المشروع من قرية النويدرات ثم جاءت الإجابة على الطلب وأُنشئ المشروع باسم القرى الأربع المذكورة، واستمر كذلك حتى فُوجئت الساحة بتسمية مبتكرة لمنطقة المشروع على خلاف تسميتها التاريخية، وتُنكّر رسمياً في انقلاب واضح لحق اختصاص القرى الأربع للمشروع، وما أكثر الانقلابات الرسمية، والخروج على العهود فضلا عن الوعود، وعلى الأمور الموثّقة لأغراض سياسية غير محمودة وغير لائقة.
وقد أُنشئ المشروع على حدّ مشاريع إسكانية أخرى تحت عنوان مشاريع امتداد القرى، وكان تطبيقاً لهذا العنوان ليمثل امتداداً للقرى الأربع في دور هذه السياسة وخاصّاً بأهلها – أي بأهل القرى الأربع -، وجاء الانقلاب الرسمي لينسف هذا الشعار في حالة المشروع، ويخرج بها عن سياق أمثاله، ويجعله استثناءاً شاذّاً لمصلحة سياسية ظالمة مجحفة مغرضة تستهدف الإضرار بهذا الشعب كلّه، وإيقاعه في الفرقة والفتنة المفتعلة المغرقة.
هذه السياسة الكيدية الضّارة بشعبنا كلّه تجاوزت في حالة المشروع كلّ الاتفاقيات والوعود والتأكيدات والوثائق والإعلان الصريح، وضربت بالاعتصام السلمي الاحتجاجي من أهل القرى الأربع والذي استمر لـ (520) يوماً، ولا يزال على الإجراء الانقلابي غير المبرّر عرض الحائط لتعطي درساً عملياً خاطئاً للمواطنين بأن الاحتجاجات السلمية لا قيمة لها، ولا عبرة بها على الإطلاق.
وتعقيباً على هذا الإجراء الرسمي والاستفزازي والكيدي والإضراري بالمواطنين نستنكر هذه السياسة المجحفة الظالمة غير الحكيمة كل الاستنكار، والتي تعتمد أساليب تثير الفتنة بين المواطنين، وتخلق معارك متعددة بين فئات المجتمع إضراراً بالجميع في حين أن المواطنين لا ذنب لهم.
ثم إننا نرفض الانجرار إلى أي فتنة بين أي فئتين من المواطنين الذين لا ذنب لهم تحت أي شعار من الشعارات، ونطالب أن يبقى مشروع القرى الأربع خاصّاً بها كما كان عليه البناء لأهالي القرى، وللجانب الرسمي كل المدة الطويلة السابقة على الانقلاب، وكما أكّدته الوثائق والإعلانات الرسمية، وأن يعترف بكل المواطنين بحقهم في توفير السكن المناسب، وفي مقدمتهم من وُعِدوا من خارج القرى الأربع بمساكن في المشروع المذكور، وأن يُعجَّل بتلبية حاجتهم في هذا المجال من خلال مشروع آخر لا يتسبب في خلق منازعات بين الأخوة في الدين والوطن، ونرفض كل الرفض أن تأخذ المسألة بُعداً طائفياً على المستوى الشعبي، وبين أهل الأخوّة الإسلامية والوطنية المشتركة وإن استهدف أحد هذا من دائرة رسمية أو من وكيل أو وزير.
اللهم صلّ على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم إنّا نرغب إليك في دولة كريمة، تعز بها الإسلام وأهله، وتذل بها النفاق وأهله، وتجعلنا فيها من أهل طاعتك، وترزقنا فيها كرامة الدنيا والآخرة، اللهم افعل بنا ما أنت أهله، ولا تفعل بنا ما نحن أهله، برحمتك يا أرحم الراحمين.
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 – 28/ الحديد.
2 – 15/ المائدة.
3 – 13/ الكهف.
4- 12/ الأنعام.
5 – 20/ الأنعام.
6 – 20/ الأنعام.
7 – 14/ المطففين.
8 – 27/ إبراهيم.
9 – 23/ الجاثية.
10 – 4، 5، 6/ التين.

 

زر الذهاب إلى الأعلى