خطبة الجمعة (379) 8 شعبان 1430هـ – 31 يوليو 2009م

موضوع الخطبة:

*متابعة – معرفة الله *قضية المتهمين: متهمي كرزكان والمعامير *حبُّهم جُنّة وجَنّة

ينبغي لهذه الذكريات أن تشدّ المؤمنين إلى أهل بيت العصمة والطهارة شدّاً، وتثير فيهم وعي القيمة الإسلاميّة العالية الفريدة التي تميّزوا بها، وتنتقل بالذّهن والنفس إلى الاهتمام الكبير، والنصوص المتواترة من الكتاب والسنة في شأن أهل هذا البيت والتركيز على قطبيِّته في حياة الإسلام والمسلمين، وقيادته للبشرية على خطِّ الله سبحانه لغايتها الكريمة النبيلة العالية البعيدة.

الخطبة الأولى

الحمد لله الذي لا ينكره عقل، ولا يحويه فهم، ولا يطمئن بغير ذكره قلب، أحمده حمداً يوافق رضاه، ويُكافئ عليه بمزيد من معرفته، وعظيم من رحمته، وجزيل من كرامته، وتُنال به المنزلة الرفيعة لديه، وجِوار نبيّه الخاتم وآله في جنّته حمداً دائماً لا ينقطع أبداً، ولا يُحصي له الخلائق عدداً.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلم تسليماً كثيراً كثيراً.
أُوصيكم عباد الله ونفسي الغافلة بتقوى الله العظيم ذي النِّعَم الجسيمة، والمواهب الكريمة، والمتوعِّد بالنِّقم الأليمة، والعقوبات المقيمة، وهو الذي لا غنى لأحد عن نعمه، ولا طاقةَ لأيٍّ كان بِنقمه.
ولنتَّعظْ بما وعظ الله به عباده المؤمنين في قوله عزّ من قائل:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}(1).
فيوم القيامة آت، وما من عمل خيرٍ أو شرٍّ إلاّ وهو محفوظ لصاحبه أو عليه، وعِلْمُ اللهِ لا يفوته شيء، ولِكلّ عملٍ جزاء، وعقاب الله شديد، وقدرته لا يمتنع منها شيء، ومَنْ آَمن حقَّ عليه التُّقاة، ومن توعّده اللهُ ولم يتّقِ كان من الهالكين.
أَعِذْنا ربّنا وإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين من أن نكون ممن لا يحذر لتحذيرك، ولا يخاف لتخويفك، ولا يرتدِع لوعيدك، ولا يفِرّ من عوقبتك، فإنه الميّت في الأحياء، الشقيّ من بين السعداء، وهو أهلك الهالكين.
اللهم اغفر لنا ولوالدينا ولأرحامنا وقراباتنا وجيراننا وأصحابنا ولمشايخنا وأساتذتنا ولكلّ مؤمن ومؤمنة، ومسلم ومسلمة، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم، وصل على محمد وآله الطاهرين.
أما بعد فالموضوع هو (معرفة الله) وهذه مواصلة للحديث فيه:
أولاً: ممن المعرفة؟
لا وجود لشيء، ولا حياة، ولا علم، ولا أثر إلاَّ بالله عزّ وجل، فلا يُتوهّم أن أحداً يملك من ذاته أن يعرف الله عز وجل بأي مستوى من المعرفة؛ فإنّه لا معرفة بالله سبحانه إلا من الله، وبفضله ورحمته.
وفي هذا المعنى توجد بإزاء دلالة العقل، ونور الفطرة، والأدلة النقلية العامة، نصوص كثيرة خاصة منها ما يأتي:
1. عن الإمام زين العابدين عليه السلام في الدعاء:”بك عرفتك، وأنت دللتني عليك، ودعوتني إليك، ولولا أنت لم أدر ما أنت”(2).
2. وعن الصادق عليه السلام:”ألا إنه قد احتجَّ عليكم بما قد عرّفكم من نفسه”(3).
وما كان الله عزّ وجلّ أن يحتجّ على العباد بما لم يعرّفهم به من نفسه، فولا أن ألهمهم معرفته، وفتح لهم أبواب العقل والقلب على مزيد من تلك المعرفة، وبثّ الآيات الكونية التي تملأ كل زاوية من هذا الكون، وتظهر في كل ذرّة من ذرّاته لما كان يحتجّ على أحد، ولا يطالب أحداً بمعرفته وعبادته.
3. وعنه عليه السلام:”إنما عَرَفَ اللهَ من عَرَفَه بالله، فمن لم يعرفه به فليس يعرفه، إنّما يعرفُ غيره، …. لا يُدرك مخلوق شيئاً إلا بالله، ولا تُدرَك معرفة الله إلا بالله”(4).
4. عن علي عليه السلام:”… الظاهر بعجائب تدبيره للنظارين، والباطن بجلال عزّته عن فكر المتوهمين”(5).
فليس من يملك نظراً إلا وهو مقهور على الإقرار بالله سبحانه وتعالى، وليس شيء من القلوب ما ينكره، ولكنّه الخفيّ الذي لا تصله العقول والقلوب إذا أرادت أن تصل إلى كنه ذاته تبارك وتعالى، فإنّ عزّته التي لا تُنال، وكبرياءه وعظمته وجلاله وجماله لا يسمح بأن تراه العيون القاصرة، والقلوب والعقول المحدودة، وهو لا حدّ له تبارك وتعالى.
ولو لم تكن إلا النّفسُ بلا خارج مطلقاً… بلا أرض ولا سماء، ولا مخلوق آخر دونها لكان الله عزّ وجل ظاهراً لها بخلقها، وعجائب آياته فيها، وما كان لها من سبيل إلى الإنكار والجحود.
ويسأل السائل عن معرفة العبد ربّه سبحانه تَكسِبُها النفس وإن كانت مقدّماتها وأسبابها والقابلية لها موهوبة من الله سبحانه، أو أن المعرفة مغروسة فيها، والنفس مفطورة عليها، وإن كان ظهورها في أفق النفس وبصورة واضحة جليّة يحتاج إلى بلوغ سنّ معيّن من العبد؟
والأمور الفطرية لا تظهر كلّها بوضوح دفعة واحدة، وبصورة مبكّرة عند الإنسان؛ فدافع الأكل والشرب يظهر مبكّراً، بينما دافع الجنس مثلا يتأخر في ظهوره بعض وقت، وكلٍّ منهما لا يُكتسب من الخارج، وإنما هما من منبع النفس بِخَلْقٍ من الله وتقدير.
وكون المجتمع البشري في كل تاريخه، وبمختلف مستوياته البدوية والحضارية، وفي جميع طبقاته، ورغم تعدّد ثقافاته لم يخلُ من الظاهرة الدينية في صورها المتعددة، وممارساتها المتباينة، دالٌّ على أنَّ التديّن ظاهرة فطرية، ولذا تأتي الأسئلة الدينية بمبادرة من الأطفال في سنٍّ مبكّر في مثل السؤال عن خالق الشمس والقمر، والأب والأم وغير ذلك.
ويلازم السؤالُ الدينيُّ النفسَ البشرية في كل مراحل حياتها منذ انفتاحها المبكّر على هذا السؤال، ويلحّ عليها وإن كفرت، أو بقيت تحت سيطرة التشكيك لعوامل مؤثّرة من السلوك والخارج.
وبعيداً عن هذا الطرح الذي لا يُستهدف تناوله بإشباع في هذا المقام فلنسمع إلى الكتاب الكريم في هذا الأمر {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}(6).
فالدين فيما تُفهمه الآية الكريمة – وأساس الدين المتين معرفة الله وتوحيده – هو من الفطرة التي فُطر الناس عليها، وليس على حدّ المسألة الرياضية والمسألة العلمية السياسية أو الاجتماعية أو التاريخية التي ليس وراءها دافع نفسي عام فطري يجعلها محل الاهتمام والإثارة والنظر عند كل الناس.
مسألة الدين مسألة تمتلك جذورا عميقة ضاربة في النفس لا يمكن أن تنفصل النفس عنها إلا أن تنهدم أو تنفصل عن نفسها.
بينما المسائل الأخرى قد تمر الحياة على الألف والألفين والمليون والمليونين من الناس ولا تمرّ على خاطر واحد منهم.
هل تتصوّر إنساناً غير متخلّف عقليّاً بدرجة كبيرة يُميّز ويبلغ ويرشد مدة الحياة الطبيعية أو أقل من ذلك ولا ينطرح في نفسه أن لهذا الكون الكبير خالقاً عظيماً مدبّراً، ولو كان هذا الإنسان يعيش بعيداً عن كل المؤثرات الحضارية أو حتى لو كان في قلب الحضارة المادية وتحت تأثير ضجيجها وصخبِها؟! وحتى الذين يناقشون المسألة ويشكّكون فيها أنفسُهم مشغولة بفكرة إيمانية يجدون أنها تريد فرض نفسها على داخلهم، ويحاولون التخلص من ضغطها، ولا يكادون يستطيعون.
وما يجعلهم يصرّون على المقاومة هو أنهم وضعوا أنفسهم من ناحية سلوكية وحسب المصالح المادية بحيث يصعب على النفس أن تلتقي مع مقتضى خطّ الإيمان، وتلتزم بتكاليفه.
إنهم هبطوا بأنفسهم من خلال انحراف السلوك، ومن خلال الموقف المعاند لشعاع نور الفطرة بحيث أن هذه النفوس بقيت لا تستطيع أن ترتفع إلى أفق الإيمان، وتلتزم بمقتضى خَطِّه الصاعد.
يقول القرآن الكريم:{فَلَمَّا جَاءتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً(7) قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ(8)، وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً(9) فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ}(10).
إن مكابرة الحقّ المعلوم لأمراض في النفس ليس ظاهرة شحيحة حتى في حياة الدائرة الإيمانية العامة كما هو ملاحظ لمن يبصر.
وإذا رجعنا إلى السنّة المطهّرة وجدناها تؤكّد على ما يؤكّد عليه الكتاب الكريم – وهما القرينان دائما – من فطرية المعرفة.
“عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال: سألته عن قول الله عز وجل {حُنَفَاء لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ}(11) وعن الحنيفيّة. فقال: هي الفطرة التي فُطر الناس عليها، لا تبديل لخلق الله. قال: فطرهم على المعرفة”(12).
فطر الناس على معرفته سبحانه وتعالى.
فالحنيفيّة وهي الدين الحقّ من فطرة الإنسان، ونور تثرى به خلقته، وشيء أصيل ثابت في كيانه. والحنفُ في اللغة هو الميل من الضلال إلى الهدى، على عكس الجنف وهو الميل من الهدى إلى الضلال.
والمعرفة الدينية الفطرية لا تشمل كل تفاصيل الدين كما هو واضح، فما هو الفطري منها الميل إلى الدين، وقضيةُ التوحيد. وللكسب العقلي دور في الإيمان بعدد من مسائل العقيدة تأسيساً، وفي قضية التوحيد تأكيداً وتثبيتاً.
وتُتلقّى فروع الدين من الوحي المتنزّل على الرسول صلّى الله عليه وآله، والواصل إلى المكلّفين منه صلى الله عليه وآله أو من غيره بطرق العلم، والنقل الخاصة المعتبرة المنتهية إلى قول المعصوم عليه السلام.
والمعرفة قابلة للقوة والضعف، والترسّخ والتزلزل، والثبات والانحسار، والزيادة والنقصان. ونقرأ لهذا:
{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}(13).
{وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَـذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ، وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ}(14).
{فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ}(15).
{الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}(16). من شأن القلوب أن تطمئن بذكر الله عز وجل ما لم يفسد المرء قلبه. أما من ناحية فعلية فالقلوب المطمئنة بذكر الله إنما هي الواعية المبصرة.
{يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ، ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً}(17). لا تخاف من موت، من مستقبل، اطمئنت إلى الله، إلى رحمته سبحانه وتعالى، عرفته، آمنت به، استيقنت بجلاله وجماله وكماله ورحمته ولطفه، انصرفت بكلها إليه، آمنة مطمئنة، إذ ليس بعد الانصراف إلى الله سبحانه والدخول في حصن قوته ولطفه ورحمته ما يخيف.
{وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ}(18).
وهذه الأحوال المختلفة التي تعرض الإيمانَ ليست مفصولة عن مسؤولية الإنسان، ولا بعيدة عن إرادته كما سيأتي بيانه إن شاء الله.
اللهم صل على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم أكرمنا بالدرجة الرفيعة من معرفتك، وأتمم علينا نعمة الإيمان، واجعل لنا من لدنك نوراً هادياً، وعصمة واقية، وكرامة وافية، ولا تجعل إيماننا عارية مسلوبة بما نجني على أنفسنا.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ، لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ، وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ، وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ، وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ، لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ}

الخطبة الثانية

الحمد لله القادر الذي لا يقوم شيء إلاَّ بقدرته، ولا يمتنع منه شيء، ولا يطيق أخذَه شيء، ويعنو له كلُّ شيء، ولا قدرة كقدرته، ولا قهر مثل قهره، ولا جبروت يشبه جبروته. الجبابرة عبيدٌ أذلاّء له، مقهورون لمشيئته، مندكّون أمام هيبته، يخِرّون صعِقين لقدرته. لا يُلاذ منه، ولا يلاذ إلا به. جلّ عن الأمثال والنظائر، والأضداد والأشباه، وتعالى علوّاً كبيراً.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليماً كثيراً كثيراً.
عباد الله ألا فلنتّقِ الله، ولا زاد أنفع من التقوى، ولا لباس أوقى منها، ولا معراج للكمال من دونها، ولا ربح إلا فيها، ولا كرامة لعبد عند الله تبارك وتعالى إلا بها.
وحذار من أن يأخذ أحد تحذير الله سبحانه أمراً هزواً وهو القائل في كتابه الكريم بعد الوصية بالتقوى:{وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ، لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ}(19).
والناسي لنفسه وقيمتها يسترخصها، ويهمل شأنها ولا يقيها من سوء، ولا يدفع عنها أذى، ولا يطلب لها نجاة، ولا يأخذ بها إلى هدى، ولا يأبه أن تقع في ضلال، وأن تصير إلى خسار. ومن صغرت عليه نفسه بَاعَها بأدنى ثمن، وألقى بها كما يلقي بالقُمامات في هذه الحياة.
اللهم صلّ على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم. وألزمنا طريق التقوى، واسلك بنا الجادّة، ولا تُنْسِنا أنفسنا، ولا تَسلُبنا نعمة معرفتك وطاعتك، واجعل أعمارنا بِذلة في سبيلك يا أرحم من كل رحيم.
اللهم صلِّ وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبدالله خاتم النبيين والمرسلين، وعلى علي أمير المؤمنين وإمام المتقين، وعلى فاطمة الزهراء الصديقة الطاهرة المعصومة، وعلى الأئمة الهادين المعصومين حججك على عبادك، وأنوارك في بلادك: الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن المهدي المنتظر القائم.
اللهم صل على محمد وآل محمد، وعجل فرج ولي أمرك القائم المنتظر، وحفه بملائكتك المقربين، وأيده بروح القدس يارب العالمين.
عبدك وابن عبديك، الموالي له، الممهد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى في سبيلك، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين وفقهم لمراضيك، وسدد خطاهم على طريقك، وانصرهم نصرا عزيزا مبينا مقيما.
أما بعد فهذه بعض كلمات:
قضية المتهمين: متهمي كرزكان والمعامير:
1. تكرَّر الرأيُ مراتٍ في الموضوع من هذا المنبر، وأنَّ الاتّهام فاقد للأدلة المثبتة شرعاً وقانوناً، إلا ما كان عن إكراه مما يرفضه الشرع والقانون، ويعاقبان عليه المُكْرِه.
2. وكان الرأي السياسي للدولة في القضية أن تُنهى بصورة تساعد على استقرار الوضع الأمني، والدخولِ في عملية إصلاح، وتوافقات جديّة فيها إنصاف للشعب، وتعطي للوطن الاستقرار، وتهيء لعلاقات إيجابية تعود على الجميع بعوائد نافعة لا ضارّة، وتفتح فرصة للتعاون الصالح المثمر على طريق خير هذا البلد وأهله. كان الأمر كذلك، ولكن لأمور لم يكشف النظام عنها تحوّلت بوصلة السياسة وكما هي العادة في الأكثر إلى الاتجاه الآخر المؤزِّم، وكأنه لا يراد للوضع أن ينفرج، بل يبقى في عنق الزجاجة حتى تتضخم أزمته بدرجة أكبر فيتفجر، وفي ذلك كارثة الجميع، ومحرقة الجميع، وشقاء الجميع، وهلاكهم.
وحسابات المصالح والمفاسد، والربح والخسارة تنصب عند كثير من السياسات على ما يتّصل بها نفسها، دون ما يتصل بمراعاة مصلحة الوطن بكل مكوّناته، ودفع المفسدة عنه، وكثيراً ما تخطئ هذه الحسابات فتدخل الأنظمة نفسها والآخرين في نفق مظلم بعد نفق، وفي مجازفة غير حكيمة بعد مجازفة.
3. إن الشعب وليس أهالي السجناء والمنطقة التي يرجعون إليها فحسب على ترقّب شديد بأن يخرج المتهمون من السجن دون أن يمسسهم مزيد سوء بعد الذي نالهم من أذى جسيم، وتعذيب وإهانات، وتشهير، وإكراه قد تحدّثوا عنه صريحاً هم أنفسهم حين أُتيحت لهم الفرصة، وتحدّث عنه عدد من المحامين، وشهدت بآثاره شهادة طبيّة أو أكثر.
ومن بعد ذلك ما قيمة اعترافات تُؤخذ تحت الإكراه، ويتبرأ منها قائلها حال ارتفاعه كما في شأن هؤلاء المتهمين؟!
إنه لم يصل إلى الشعب رغم كل الضجَّة الإعلامية الرسمية دليل واحد مقنع بقبول الحكم بالعقوبة للمتهمين، وعليه فإن الشعب لا يمكن أن يقبل بغير حكم البراءة.
حبُّهم جُنّة وجَنّة:
يغنى شهر شعبان وهو من شهور العبادة المكثّفة، والأجواء الروحانية المتميّزة بمناسبات ثرّة كريمة، ويحتضن عدداً من الذكريات العطرة الخالدة لمواليد ثلاثة من أئمة الهدى من آل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ففيه ذكرى مولد الإمام الحسين الشهيد عليه السلام الذي أنقذ الإسلام في منعطف من منعطفاته الخطيرة كاد يقضي عليه في عملية تزوير ماحقةٍ تبقي على الشعار إلى حين، وتفتك بالمضمون بصورة عاجلة.
وفيه مولد الإمام زين العابدين عليه السلام الذي أسهمت جهوده الحكيمة المباركة، وخطواته وأنشطته الرسالية المدروسة، وإدارته الدقيقة المعصومة لأزمة الصراع مع نظام الحكم الأموي منضمّةً إلى التضحيات الغالية الجليلة في كربلاء في إنقاذ الإسلام من عملية اغتيال خبيثة فاتكة. ذلك في زمن خنقت فيه القوة الباطشة حُريّة الموقف والكلمة في إطار الأمة، وأُتيح للكلمة المتاجرة بالدين أن تنطلق كيفما شاءت لتشويهه وحرفه وتحطيمه والقضاء على قدواته العالية الغالية الصادقة المخلصة المنقذة قضاءً عليه، وتخلّصاً منه.
وفيه مولد الإمام الحجة بن الحسن عليه السلام وعجل الله فرجه الإمام المذخور لإعادة الإسلام صادقاً، صافياً، أصيلاً، قويّاً، حاكماً، مهيمناً، يملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعدما مُلئت ظلماً وجوراً، وضلّ أكثر من في الأرض، وضاق النّاس بفعل الظالمين.
وفيه مولد بطلين شامخين، وفقيهين عارفين، ورجلي جهادٍ صادقٍ في سبيل الله، وبصيرة نافذة في أمر الدين والدنيا، وَمَثَلَينِ مُتَمَيِّزَين في مواقف الصّدق والجدّ والتضحية والفداء من أمثلة كلُّها محلّقة متألّقة يوم الطف العظيم على خط الإيمان، والولاء الحقّ لإمام العالم سيد الشهداء وأبي الأحرار الإمام الحسين عليه السلام وهما العباس بن علي بن أبي طالب وعلي الأكبر عليهما السلام.
ينبغي لهذه الذكريات أن تشدّ المؤمنين إلى أهل بيت العصمة والطهارة شدّاً، وتثير فيهم وعي القيمة الإسلاميّة العالية الفريدة التي تميّزوا بها، وتنتقل بالذّهن والنفس إلى الاهتمام الكبير، والنصوص المتواترة من الكتاب والسنة في شأن أهل هذا البيت والتركيز على قطبيِّته في حياة الإسلام والمسلمين، وقيادته للبشرية على خطِّ الله سبحانه لغايتها الكريمة النبيلة العالية البعيدة.
ومن ميزة أهل هذا البيت عليهم السلام أنّ حبَّهم جُنّة وجَنّة، وأنّ بغضهم نار.
حبُّهم جُنّة يقي من النار، حيث إنه يقي من العثار، ومن جُنِّب العثار نجي من الخسار. والعثار في الضلال، وفي إرادة الشرّ، وضعف إرادة الخير، والانهيار أمام الشهوات. وحب أهل البيت عليهم السلام ينأى بالصادق في حبّه لهم عليهم السلام عن كل ضلالة وغواية وشر، ووهن في إرادة الخير، وتعلّق للإرادة بالشر؛ فهم النور والهدى، وأهل الخير والصلاح والاستقامة والكرامة، ولا يقرب ساحتهم الطاهرة باطل وضلال، وأُفُقهم هو الأفق البعيد البعيد البعيد عن كلِّ سوء وشرّ وخسّة.
وحبّهم عليهم السلام جَنّة لا يعدل بصاحبه عنها، ولا ينتهي به إلا إليها، ولا ينقطع به دونها. وَمَنْ صَدَقَ حبّه لهم أنتج ذلك الحب متابعة جادّة لما هم عليه من الرأي والهدف والمشاعر والسلوك. وهذه المتابعة إنما تضع الآخذ بها على طريق الله لا غيره، وتسلك به إلى الجنّة، وتنأى به كلّ النأي عن النّار.
إن حبَّهم وهم إسلام نقيٌّ وضَّاءٌ حبٌّ للإسلام، وانشداد له، وتمسّك به، وذوبان فيه.
وحبُّهم وهم نورُ عقلٍ، ونور روح وقلب، ونور خلق، ونور رحمة وهدى من رحمة وهدى الله إنما هو حبٌّ لله، وسعيٌ إليه.
وحبّهم وقد أمر الله به وأنزل فيه قرآنا يُتلى إنما هو من حبّ الله، وطاعته، وطلب رضوانه.
وحبّهم وهم لا يفارقون كتاب الله، وطاعتَه، وطريق جنّته إنما هو أخذٌ بكتابه، والتزامٌ بطاعته، وسلوكٌ لطريق جنّته.
وبعد هذا كلّه كيف لا يكون حبّ أهل البيت عليهم السلام جَنّةً وجُنّة، وبغضهم فيه النَّار؟!
ولا يَصدق حبُّ أهل البيت سلام الله عليهم من أحد أغضبَ اللهَ فعلُهُ، فليس لهم مبغوض إلاّ ما كان مبغوضا لله، ولا محبوبٌ إلا ما كان محبوباً له. وما أغضب الله يغضبهم، وما أرضاه يرضيهم.
فمن احتفى واحتفل بذكريات أهل الله وعصمته من آل محمد صلّى الله عليه وآله بما فيه سخط الله، فقد أسخطهم، وفارق طريقتهم، وأساء إليهم، وشارك الأعداء في طمس نورهم، والقضاء على الإسلام وهو قضيّتهم. وكيف يكون مثل هذا من الحبّ والودّ لصفوة الأبرار الأخيار الأطهار من أهل بيت النبوة؟!
إنّ أضرّ ما يضر بدين الله أن يُنحرف به عن صراطه القويم وباسمه وتحت شعاره، فليحذر المؤمنون من تسلّل الانحراف للدّين بالممارسات الخاطئة المقارِنة لإحياء مواسم الأفراح والأحزان لأهل البيت عليهم السلام. والله الهادي إلى سواء السبيل.
اللهم صلّ على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم هيّء لهذه الأمة رجالاً منقذين، وحُماةً غيورين، وحُرّاساً مخلِصين، وجنوداً مضحّين، وأخرجها من الضّعف إلى القوّة، ومن الوهن إلى العزم، ومن الذّلّ إلى العزّ، ومن الهوان إلى الكرامة، ومن الضِّعة إلى الرفعة، يا عليّ يا قدير، يا أقوى من كلّ قوي، ويا أعزّ من كلّ عزيز، يا من لا قوّة إلا من قوّته، ولا عزّ من عزّه.
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 – 18/ الحشر.
2 – إقبال الأعمال للسيد ابن طاووس ج1 ص157.
3 – الكافي ج1 ص 86.
4 – التوحيد ص143.
5 – شرح نهج البلاغة ج11 ص62.
6 – 30/ الروم.
7 – واضحة، جلية، ولا وضوح للآية ما لم تكن نفس قابلة لاستقبالها، والاستفادة من وضوحها. لا تكون الآية واضحة حتى يمكن للنفس أن تتفهمها، وأن تحتضنها، وتتلقّفها، أما لو كانت النفس الإنسانية مغلقة، وكان الكون كله آيات مشعّة والنفس لا قدرة لها حسب خلقتها على استقبال شيء من الآيات لما كانت هذه الآيات مبصرة بحيث أنه يخاطب الإنسان بكونها مبصرة، ويحتج عليه بذلك.
8 – هناك عقل يقول بأن هذه الآيات مبصرة، وهي بحسب طبيعتها آيات مبصرة، لكنّ نفساً لعب بها صاحبها، وانحدر بمستواها، وسدّ منافذها على نور الله تبارك وتعالى، تقول هذا سحر مبين.
9 – قد توجد حالة استكبار وطاغوتية في النفس تجعل من المستحيل عليها أن تذعن للحق، وأنا وأنت ندخل في نقاش وقد يكون النقاش باسم الدين، وأحدنا يصل إلى قناعة فكريَّة بما عند الآخر، لكن إذا كان في نفسه استكبار واعتداد بالذات فإنه لا يسلّم. أعاذنا الله من هذه الحالة.
10 – 13، 14/ النمل.
11 – 31/ الحج.
12 – بحار الأنوار ج3 ص279.
13 – 2/ الأنفال.
14 – 124، 125/ التوبة.
15 – 10/ البقرة.
16 – 28/ الرعد.
17 – 27، 28/ الفجر.
18 – 11/ الحج.
19 – 19، 20/ الحشر.

زر الذهاب إلى الأعلى