خطبة الجمعة (376) 17 رجب 1430هـ – 10 يوليو 2009م

مواضيع الخطبة:

*العِشرة الزوجية – متابعة *أمرُ الإمامة

الناس الذين يعيثون في الأرض فسادا، ولا يكفّون يوماً عن ظلم أنفسهم والآخرين، وعن البغي في الأرض، ولا يقيمون لحقّ الله عز وجل وحق خلقه وزنا هم الذين يؤخذ منهم التشريع، ويرجع إليهم في معرفة العدل؟! بئس به من عدل مصدره الظالمون، ومن حقٍّ يحدده الباغون، ومن خُلُقٍ يراه الهابطون!

الخطبة الأولى

الحمد لله الذي يسبّح له كل شيء، وما من شيء إلاّ ويشهد بعظمته، وهو مذعن لقدرته، ومستجيب لمشيئته، ومقهور لإرادته، ومفتقر له، وقائم به، وخاشع إليه.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليماً كثيراً كثيراً.
أوصيكم عباد الله ونفسي الأمّارة بالسوء بتقوى الله الذي لا يقوم أحد لأخذه، ولا يتماسك أمام غضبه، ولا يُردُّ قضاؤه، ولا يُنقض حكمه، ولا ملجأ منه إلاّ إليه.
وما اتّقى من جرى على يده ولسانه ظلم العباد، واستخفّ بحقوق المخلوقين، وهي من حق الخالق. وإن الله لمنتقم لعبده المظلوم من ظالمه، ولن يَهرُبَ أحد بظلم، ولن تضيع لمظلوم ظلامة، والكل صائر إلى الله العدل القدير، العليم الخبير، وإن غداً لناظره لقريب. وقد يعجِّل العدل الحكيم العقوبة، وقد يؤجّلها ولكنها لا تنسى، ولا تفوت.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبدالله خاتم النبيين والمرسلين وآله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
ربّنا أَنعِم علينا بنعمة التقوى، وزيّنا بزينة الهدى، ونجّنا من أن نظلِم أو نطغى، وأحسن لنا العقبى، ولا تُشقنا دنياً ولا أُخرى، وأسكنا جنّة المأوى يا أكرم من سُئل، وأجود من أعطى.
العِشرة الزوجية

أما بعد فإنّه قد مرَّ أن حقوق الزوج والزوجة وواجباتهما في الإسلام متقابلة، وأنهما معاً يتحمّلان مسؤولية بناء البيت الصالح، وإعمار البيئة الأسرية الكريمة. وهذه متابعة للموضوع، وقد مرّ من الحقوق المتبادلة أربعة:
خامسا: التحمّل والصبّر:
عن الرسول صلى الله عليه وآله:”من صبر على سوء خلق امرأته واحتسبه، أعطاه الله تعالى بكل يوم وليلة يصبر عليها من الثواب ما أعطى أيوب (عليه السلام) على بلائه، وكان عليها من الوزر في كل يوم وليلة مثل رُمْل عالج(1)”(2).
الرجل والمرأة قد يلتقيان في خلق وقد يفترقان، ولكلٍّ مزاج، وقد يكون بينهما التفاوت العلمي، التفاوت الاجتماعي، والتفاوت في مستوى الذكاء، وكلّ هذا يمكن أن يحدث مناقشات وسوء فهم.
وهناك المزاج الحادّ الذي قد يتسبب في إزعاجات من الزوجة للزوج وكذلك العكس، والذين يدخلون بيت الزوجية بأمل أن يعيشوا جنّة الخلد، والصفاء الكامل، والسعادة الدائمة، والتوافق المستمر، وأن ينزل أحدهما عند رغبة الآخر بالكامل واهمون. ادخل بيت الزوجية متفائلاً، بانياً على المودّة والرحمة، واعمل جهدك في هذا السبيل، ومثلك في هذا أهلك، ولكن فليتدرع كل منكما بدرع من الصبر، وإلا لن تستقيم العلاقة الزوجية، وأوّل أيام الزواج غيرها بعد مضي وقت، ومن المقدّر أن يتكشّف لكِ من زوجكِ، ويتكشف لزوجك منك ما لم يكن يعرفه أحد منكما من الآخر. وأنّ تصوّر أنك تتزوج واحدة من الحور العين، والتي تلتقي مع رؤاك في كل لحظة، وفي كل نقطة، شيء يحتاج إلى التعديل.
أنت تعيش مع أب وأم، ومع أخوات، ومع أصدقاء، وتجد أن العلاقة قد تمر بمشكلة وأخرى. زوجك انسان،وأنت انسان، وكلٌّ له تصوراته وآماله وطموحاته ومستواه، فمن المقدر أن يكون شيء من الاحتكاك،فما لم يكن صبر من الزوجيين لا تبقى علاقة.
وعنه صلى الله عليه وآله وسلم:”من صبرت على سوء خلق زوجها أعطاها مثل (ثواب) آسية بنت مزاحم”(3).
وماذا يساوي صبر أحدنا على أخيه وقرينه من الثواب الذي وعد الله تبارك وتعالى به؟ أهل الدنيا إذا صبر بعضهم على بعض ربما ذهب صبرهم بلا ثواب، أمّا طالبو الآخرة والذين يسعون لمرضاة الله عز وجل، وتعاملهم في الأصل مع الله قبل تعاملهم مع الآخر فإن أجرهم لا يضيع.
سادساً: لا أذى:
عن رسول الله صلى الله عليه وآله:”ألا وإن الله عزّ وجلّ ورسولَه بريئان ممن أضرَّ بامرأة حتّى تختلع منه”(4).
انظر ثقل الكلمة، ثقل الحكم، وهو براءة الله ورسوله ممن اضر بزوجته لتختلع منه، وتطلب الطلاق بعوض.
وعنه صلّى الله عليه وآله:”من كان له امرأة تؤذيه لم يقبل الله صلاتها، ولا حسنة من عملها حتّى تعينه وترضيه وإن صامت الدهر… وعلى الرجل مثل ذلك الوزر والعذاب إذا كان لها مؤذياً ظالماً”(5).
مسؤوليات، وحقوق متوازية، ومتبادلة.
سابعاً: لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق:
ضابطة كليّة تحكم كل تصرفات الزوج وتصرفات الزوجة، وتضع حدّاً للطاعة والمداراة والمجاملة والترضية.
الإمام الصادق عليه السلام: قال رسول الله صلى الله عليه وآله:”من أطاع امرأته أكبَّه الله على وجهه في النَّار. قال: وما تلك الطاعة؟ قال تطلب إليه… الثياب الرقاقَ فيجيبُها”(6).
الثياب الرقاق التي تثير الأجنبي، والتي تمثّل لوناً من التهتّك عند المرأة، وهذا معصية لله، والدخول في معصية الله يهرب منها المؤمن كل الهرب لأن جزاءها لا يُطاق. وهل للمرأة أن تستجيب لطلب خارج عن طاعة الله من زوجها؟ الأمر هو الأمر. فليخسأ الزوج الذي يطلب من زوجته أن تتعرّى، أن ترتكب معصية تشتري بها رضاه، وغضب الله.
يدخل الحديث في عنوان آخر وهو شعار حقوق المرأة.
وهو شعار صار يُرفع بقصد التغريب والأغراض السياسية الدنيئة، والتقليل من شأن الإسلام، والتزهيد فيه، والنفرة منه.
هناك مزايدة كاذبة على الإسلام في حقوق المرأة، ومسلّم أن على الرجل واجبات وله حقوق، وعلى المرأة واجبات ولها حقوق، ولكنّ كل الأمر يتمركز في هذا السؤال: ما هو المرجع في كل ذلك وغيره من الحقوق والواجبات في حياة الناس؟ شريعة الله العدل الحكيم، العليم الخبير، أم شريعة الإنسان الظالم لنفسه، الذي لا علم ولا حكمة له من ذاته؟! القرآن الكريم وسنة المعصومين عليهم السلام، أم اتفاقية سيداو، وقرارات الأمم المتحدة، ووثيقة حقوق الإنسان بما فيها من علم وجهل، وحق وباطل، وصلاح وفساد؟! أين العلم والحكمة المطلقة والرأفة المطلقة، والعدل المطلق؟عند الخالق أو المخلوق؟عند الكامل المطلق أو الناقص المحدود؟!
الناس الذين يعيثون في الأرض فسادا، ولا يكفّون يوماً عن ظلم أنفسهم والآخرين، وعن البغي في الأرض، ولا يقيمون لحقّ الله عز وجل وحق خلقه وزنا هم الذين يؤخذ منهم التشريع، ويرجع إليهم في معرفة العدل؟! بئس به من عدل مصدره الظالمون، ومن حقٍّ يحدده الباغون، ومن خُلُق يراه الهابطون!
وليس العدل كما يراه كثير من البسطاء بأن تساوي بين المتباينين، وتضع الأخضر مكان الأبيض، والأبيض مكان الأخضر، أو تباين بين المتساوين، إن العدل تساوٍ في الحكم حيث يتساوى الموضوعان، وتباين فيه بمقدار ما بين الموضوعين من تباين، وقد تتحد بعض جهات الموضوعات المتعددة، وتتفاوت منها جهات أخرى.
فالإنسان واحد بكل أصنافه من حيث إنسانيته، وعلى ذلك تجمعه أحكام واحدة من جهة هذا الاشتراك، وتتفاوت بعض أحكامه من جهة الاختلاف. في إطار الرجل وحده يمكن أن تتفاوت الأحكام، وكذلك على مستوى المرأة وحدها، على مستواهما معا وذلك من حيث ما بين الأصناف من افتراق. فالغني له تكليفه المناسب لغناه، ذكراً كان هذا الغني أو أنثى، والفقير له تكليفه الذي يلائمه من جهة ما هو عليه من فقر ، والقوي له تكليف، وللضعيف تكليف آخر، ولخصوصية الذكورية دخل في بعض التكاليف، ولخصوصية الأنوثة دخل كذلك، ومن أنكر ذلك فهو يرمي بالعقل والمنطق وموازين الحق والعدل جانباً.
وأين الانسان من القدرة على التشريع العادل؟! العدل له مقوّمات، ومن مقوّماته: 1-علم لا يحده ولا يشوبه جهل ولا غفلة.
2-عدم الحاجة للظلم على الإطلاق، المشرّع العادل يشترط فيه أن يخلو من الحاجة للظلم على الإطلاق، وإلا ارتقب منه أن يظلم في تشريعه.
3- انتفاء كامل للخوف من العدل. ربما اتّجهت نفس لأن تقيم العدل، ولكن يردها عن ذلك أنها تخاف، فيشترط في ضمان أن يكون المشرّع عادلا أن ينتفي الخوف من العدل عنده على الاطلاق.
4- تنزه شامل عن الهوى.
5- قدرة لا يردها رادّ.
وهل لغير الله سبحانه كل ذلك؟! وهل من شيء من ذلك إلا وهو لله العظيم؟!
اللهم صل على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم افعل بنا ما أنت أهله، ولا تفعل بنا ما نحن أهله برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبدالله وآله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم نوّر قلوبنا بنور الإيمان، واهدنا بهدى الإسلام، واجعلنا ممن لا يتخطى حكم شريعتك، ولا يفارق دينك، ولا يتقدم ولا يتأخر عن أمرك ونهيك، ولا يحل إلا ما أحللت، ولا يحرم إلا ما حرمت، ولا يسمع لقول على خلاف قولك، ولا يرتضي حكما دون حكمك يا أرحم الراحمين، ويا أكرم الأكرمين.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{وَالْعَصْرِ، إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}

الخطبة الثانية

الحمد لله الذي تملأ الكون آياتُه، وتزخر الأرض والسماوات بهداياته، وتسطع من كلّ ما خلق براهينه. وقد أرسل رسلاً هادين ومبشرين ومنذرين، وجعل أئمة أمناء يدلّون العباد على رضوانه، ويأخذون بيدهم إلى جِنانه، ويستقيمون بهم على الصراط، ويذودونهم عن الهلاك، فأقام الحجة، وقطع العذر، وأبطل التعلل، ولله الحجة البالغة، والسلطان المبين.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وزادهم تحية وبركة وسلاما.
عباد الله علينا بتقوى الله الذي لا غنى لأحد عنه، وهو الغنيّ الحميد. ومن اتقى الله استقام، وأُمِن شره، وكبُر الطمع في خيره، ولم يُعرف منه إلاّ المعروف، ولم يُخَفْ منه منكر، ولم يبدر منه سوء، ولم يَضِق به إلا أهل باطل.
عباد الله حذار من أن نشترى بثمن من أثمان الدنيا، وأن ندخل في عبودية مَنْ مَلَكَ منها مالاً أو سلطاناً أو أي شيء، والكلمة عن الإمام علي عليه السلام تقول:”لا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حرّاً”(7).
وما من عبودية أصدق خسةً، وأثقل على الحرّ،وأذل للنفس، وأضربها من الدخول في طاعة العاصين لله تبارك وتعالى، ولا عبودية من مؤمن لأي أحد من الخلق، وإنما كلّه عبودية لله وحدة.
اللهم صل على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم اجعل عبوديتنا لك خالصة، وأخرجنا من عبودية من سواك،(8 ) ولا تجعل لنا طاعة لأحد على خلاف طاعتك، ولا محبّة على خلاف محبتك، ولا رضى يُخرج عن رضاك، ويُوجب سخطك ومقتك يا رحيم يا كريم.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبدالله خاتم النبيين والمرسلين، وعلى علي أمير المؤمنين وإمام المتقين، على فاطمة الزهراء الصديقة الطاهرة المعصومة، وعلى الهداة النجباء الأئمة المعصومين: الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن المهدي المنتظر القائم.
اللهم صل على محمد وآل محمد، وعجل فرج ولي أمرك القائم، وحفه بملائكتك المقربين، وأيده بروح القدس يارب العالمين.
عبدك وابن عبديك، الموالي له، الممهد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين وفقهم لمراضيك، وسدد خطاهم على طريقك، وانصرهم نصرا عزيزا مبينا مقيما ثابتا.
أمر الإمامة:
هو أمر صعب مستصعب حقّاً. ذلك:
1. أن وزن الإمامة ثقيل، ومسؤولياتها ضخمة، وأثرها خطير. فإن الإسلام بالإمامة. وحيث لا إمامةَ بحق لا إسلام بحق.
2. أن التأهّل لها لا تكاد توجد لمثل ندرته ندرة، حتى كان من شأنه أن تجاوزت شروطه كثيراً من المقامات الدينية الرفيعة، والطريق إليه إتمام ناجح لكلمات صعبة من ابتلاء الله سبحانه لعبده، وعبور لتجارب مرّة تمتحن الذات الإنسانية كلّها امتحاناً بالغاً شديداً من صنع ربّه. وأيّ ذات إنسانية هي الممتحنة لهذا التأهيل؟! إنها ذات رسول كبير كريم كما في مثال النبي إبراهيم عليه السلام.
3. إن قبول الإمامة للإمام الحقّ من أهل التطلع والطموح صعب ومتحدٍّ للكثير من المستويات الإسلامية العالية، وفيه مرارة بالغة لم يطمئن قلبه بالإيمان ويخشى الله و يعظّمه. وهو من أبلغ الامتحان لإيمان المؤمن، وفيه منازلة شديدة لعقيدته، وتواضعه لربّه، وحقيقة تسليمه إليه.
إنّه الامتحان الذي طرد به إبليس من الرحمة، واستحق به اللعنة، وهو ما خسر به بنو إسرائيل قضية الإيمان في موقفهم من النبي الحق والرسول الصدق، والإمام الهادي محمد بن عبدالله صلى الله عليه وآله.
وهو ما استُشهد به الحسنان عليهما السلام سمّاً وقتلاً على يد الأمة بعدما سمعت من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله فيهما ما سمعت من رفعة قدر، وعلوِّ شأن، ووجوب طاعة ومودة، وحرمة أن يُتَقدّم عليهما أو أن يُتَأَخر عنهما، ولزوم متابعة ومحاولة لحاق.
ولامتحان الإمامة للناس فقدت الشهادات الغفيرة من الكتاب العزيز، والسنة المطهرة في شأن علي عليه السلام ولزوم إمامته قوة تأثيرها الهائل في نفوس المسلمين، وقوبلت بالاجتهاد.
وها هم المسلمون بكل مذاهبهم ومنهم من تؤلمه ما تعاملت به الأمة مع إمامة أهل البيت عليهم السلام تكثر بينهم الصراعات، ويستهان بالحرمات، ويخوضون في دماء بعضهم البعض خوضا لكون امتحان الإمامة يكبر نفوسهم، ولا يتحملون شدّته، فيسقطون في الخطيئة أمام تحدّيه.
وما أكثر المنافسات المتلوّنة بألف لون في هذا المجال ومبعثها واحد وهو ثقل الحق في هذه المسألة الامتحان.
وإذا كان لنا أن نتشرف بالحديث عن علي عليه السلام؛ فإن القول فيه أن الله عزّ وجلّ أوجده رجل المواهب الكبرى بعد الرسول صلى الله عليه وآله، وصاغته الرسالة ورسولُها الكريم، وقرآنُ الله العزيز الحكيم حتى غدا القرآنَ الناطَق بعد المصطفى صلى الله عليه وآله، فكان كتابُ الله إمامَ كل كتاب، وهو عليه السلام بعد ابن عمه إمامَ كلّ ولي.
وهو القرآن الناطق لأن:
عقيدته عقيدة القرآن، فهمه فهم القرآن، رؤيته رؤية القرآن، فقهه فقه القرآن، علمه لا يفارق القرآن، مواقفه لا تحيد عن القرآن، هدفه لا يتباين أبداً مع هدف القرآن، إذا قرأت كلماته، مواقفه، كل سيرته قرأت القرآن.
وإذا بحثت عن الإسلام والقرآن فهماً، وعن ترجمتها العملية فاقرأ عليّاً عليه السلام، فإذا فهمته ووعيته فهمت ووعيت الإسلام في حدود ما فهمت، ووعيت، من الإمام عليه السلام.
أوليس “علي مع الحق والحق مع علي يدور معه حيثما دار”(9)؟!
وإذا سألت عن الإيمان المثري للحياة، المنقذ لها، والذي تتنزل به البركات في حياة عموم الناس، وتنكشف الغمم، وهو ما عنته الآية الكريمة {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَـكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ}(10) لوجدته عند التأمل إيماناً بإسلام من قرآن وإمام لا يفترقان. الإيمان الذي تتنزل به البركات أي إيمان؟! إيمان بإسلام من قرآن،و إمام لا يفترقان، ولا يتكاذبان، قرآن معصوم وإمام معصوم يتم على يده تطبيق المنهج الإلهي المنقذ المثري بكل كفاءة ودقة وأمانة.
ففتح البركات لا يأتي جائزة غيبية لإيمان بارد ساكن بلا حيوية أو حركة، ولشيء اسمه الإسلام من دون أن تتحرك الحياة في خطّه، ولا يأتي نتيجة حركة مضطربة متذبذبة وإن كانت باسم الإسلام والإيمان.
فتح البركات وتدفقها ليس أمراً غيبيّاً محضاً مفصولا عن جهد الإنسان وسعيه، وعلمه ووعيه، وحكمته ورشده، واستقامته ونزاهته، وتطبيقه للأطروحة العادلة الناجحة في حياته {وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى}(11) وزارع الشوك لا يجني العنب، والقاعد لا يساوى بالقائم، والجد غير الكسل، والاستقامة غير الانحراف.
نعم إن الله يضاعف أجر من أحسن عملا، وينصر من نصره، {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً}(12).
إن قيادة الواقع وحركة الإنسانية في الأرض على خط الله، وفي ضوء الإسلام، وطبقا لقرآنه وسنة نبيه صلى الله عليه وآله وشريعته هو المنتج بإذن الله لفتح البركات وإثراء الأرض بالخير والأمن والهدى والنور والصلاح.
وهذه القيادة في أتمّها هي قيادة إمام لا يفارق الكتاب لا علماً ولا عملاً. وما يوم القائم عجل الله فرجه الذي يملأ الأرض ثراءا وخيرا، وقسطا وعدلا إلا يوم القيادة التي لا تفارق الكتاب.
ماذا سيجد في حياة المسلمين يوم ظهور الإمام عليه السلام؟
القائد القرآني الصدق الحق الذي لا يفارق القرآن لحظة.
ولنأخذ نقطتين ضوئيتين من سيرة الإمام عليه السلام:
1. كان سلام الله عليه شديدا في ذات الله على الانحراف، والتساهل في الدين، وسلوك غير الجادة كان ذلك من مستكبر أو مستضعف، ولا يحابي ولا يصانع أحداً في مضرّة دينه، وغضب ربّه من قريب أو بعيد، ومن قويّ أو ضعيف، ومن خاصّة أو عامة. وإذا حمل سلام الله عليه على عتاة الخلق من أهل البطش والقوة والسلطان حمل شديداً، وإذا حمل على أخطاء العامّة، وتقاعسها عن نصرة الدّين، وتساهلها في أمره، وارتكابها الجهل حمل شديداً.
وما كان يمنعه مانع وهو المشفق على المستضعفين، المخلص لقضاياهم، المستميت في الدفاع عنهم، المضحّي من أجل خيرهم أن يواجه سوء عمدهم وتقصيرهم بالكلمة الغاضبة، والصوت العالي لردهم إلى الطريق، وإلزامهم سلوك الجادّة في الدين، وعدم التعدّي عن خطّ الصلاح والشريعة.
ولقد كان له من الغنى بالله ما يصرفه عن شراء رضى المخلوقين في غضب ربّه.
2. الأمرة عنده أقل شأناً من شسع نعل يخصفه ما لم تحقّ حقاً، وتبطل باطلا.
هذا من جهة، وهي من جهة أخرى دين تطيح من أجله الرؤوس العظيمة، ويَترمل من يَترمل من نساء، ويتيتّم من يتيتّم من صبية وصبايا إذا كانت ستقيم الحق، وتسقط الباطل.
وكلمة حقٌّ إنّ عليّاً عليه السلام لَدينَُ حقّ خالص، لا غشّ فيه؛ فمن أخذ بهديه إنّما أخذ بالدين، ومن زهد فيه إنما زهد في الدين.
اللهم صل على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم اهزم جيوش الكفر والنفاق، وارفع رايات الحق والعدل، واحفظ أمة الإسلام، ورد كيد الظالمين المريدين بدينك وأهله السوء في نحورهم، وأبطل مكرهم، وشتت شملهم، وأوهن عزمهم، ومزقهم تمزيقا، وبددهم تبديدا، وأنزل بهم عقوبتك، وأرهم منك ما يحذرون يا قوي يا عزيز، يا قهار يا جبار يا شديد البطش بالظالمين المستكبرين.
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 – جبال متواصلة يتصل أعلاها بالدهناء ، والدهناء بقرب اليماقة.انظر المصباح المنير
2 – المصدر السابق ص 1187.
3 – بحار الأنوار ج100 ص 247.
4 – ثواب الأعمال ص287.
5 – وسائل الشيعة ج20 ص163.
6 – بحار الأنوار ج100 ص228.
7 – ميزان الحكمة ج1 ص 582.
8 – وهل نحن داخلون في عبودية من سواه؟! وهل هناك قلب يخلو من العبودية للعباد، من خوفهم، من رجائهم، من تقديرهم على خلاف ما يريد الله عز وجل؟! هو قلب النبي صلى الله عليه وآله، والأنبياء والأئمة عليهم السلام
9 – بحار الأنوار ج30 ص 352.
10 – 96/ الأعراف.
11 – 39/ النجم.
12 – 2/ الطلاق.

زر الذهاب إلى الأعلى