خطبة الجمعة (372) 18جمادي الثاني 1430هـ – 12 يونيو 2009م

مواضيع الخطبة:

*الأنس بالله *رحل ولم يرحل *من لهؤلاء الأيتام؟ *التعليم الصيفي الديني *هذه هي الصورة *يا إخوة الإيمان

أذكّر أن أمل والوفاق من أهل الأخوة في الإيمان، وعليهم جميعاً أن يراعوا حدود هذه الأخوة الكريمة ويؤدا حقّها، وإن اختلف الرأي في بعض القضايا.

الخطبة الأولى

الحمد لله الذي هَدَى أهل طاعته، ولم يبق عذراً لأهل معصيته، ووعد بمضَاعفة الإحسان لمن أطاع، ووعدُه صدق، وتوعَّد من عصى بشدَّة العذاب، ولا دافع لوعيده، أو معطِّل له، وكلّ منقاد إليه قهراً، وآتيه يوم القيامة فردا.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليماً كثيراً كثيراً.
أوصيكم عباد الله ونفسي المقصِّرة بتقوى الله ففي التقوى الفلاح، وما صاحبُ تقوىً كمن فسق؛ فالتقيّ غنيٌّ بتقواه وإن شحّت الحياة، وهو على نور من ربّه وإن التبست على الغير الأمور، وفي هدى إذا احتوشت النفوس الظلمة، وفي أنسٍ إذا استبدّ بالناس الوحشة واليأس.
اللهم صلّ على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
يا من يعطي من سأله ومن لم يسأله، ومن عرفه ومن لم يعرفه، أعطنا خير الدّنيا والآخرة، وجنّبنا شرهما برحمتك يا أرحم الراحمين.

الأنس بالله

أما بعد فإنّ النّفس كلّ نفس لها أنس وانجذاب، أو وحشة ونفور: أنس لأوضاع وأفكار وأشخاص وجهات، ووحشة كذلك..
ولا يكون ألفة وأنس من النفس إلا بما ترى فيه خيرها، وتشعر بأن فيه أمنها، فتتوفر على الراحة في ظلّه، والاطمئنان إليه. وقل إنما تأنس النفس بما يوافقها، وتنفر وتستوحش مما لا يوافقها.
والنفوس مستويات وتوجُّهات، وهي في أنسها ووحشتها من الأشياء، والأفكار، والأخلاق، والأوضاع، والجهات تابعة لمستواها وتوجُّهها.
ولا تلتقي النفوس الخيّرة والشريرة، والعالمة والجاهلة، والكاملة والناقصة، والدنيوية والأخروية، والشيطانية والرحمانية على ما به أنسها ووحشتها، وانجذابها ونفورها، وما أكثر ما تفترق النفوس لهذا الاختلاف.
وإنّ موائد اللذة المحرّمة لتتهافت عليها نفوس خسَّت وتَفِهت لطول معصيتها، وتفرُّ منها نفوس وتملأها الوحشة والنفور، وهي نفوس أخرى لازمت خطّ الطاعة، وعرفت الله، واشتاقت إليه.
فهذا تأنس نفسه لمجلس لهو، وذاك تتعذب نفسه بمثل هذا المجلس، وشخص يستهويه مجلس الذكر، ويجد فيه ألذّ ساعاته، وشخص يثقل عليه مجلس الذكر كما تثقل عليه أشدّ البلايا، ولا يريح نفسه كما يريحها مجلس الغيبة والنميمة والبهتان الذي يألم له مؤمن على تقوى ونقاوة.
وإنّ من الحشرات ما تقع نفسه على القذارة وتجد فيها مهواها، أما النحل مثلاً فإنّ لنفسه مهوى آخر فيما يطلبه من الغذاء، وإنما تجده يواقع الأزهار ويمتص الرحيق.
وهناك طير تلذّ له الجيفة، وطير آخر إنما يطلب رزقه من طيب الثمار.
ولهذا أثر ولذلك أثر، وهما أثران مختلفان.
ولقد تحدّث المعصومون عليهم السلام في المنقول عنهم في موضوع الأنس، فما أحوجنا إلى الإصغاء إلى ذلك الحديث.
تقول الكلمة عن علي عليه السلام:”اَلجاهِلُ يَسْتَوْحِشُ مِمّا يَأنَسُ بِه الحَكيْمُ”(1).
للجاهل مستوى، وللحكيم مستوى، والجهل هنا خلاف الحكمة، وليس ما يقابل العلم.
النفس الصغيرة تعيش هموماً وتعيش تطلّعات تختلف عما تعيشه النفس الكبيرة. هنا أماني وهناك أماني أخرى، هنا طموحات، وهناك طوحات أخرى. مشتهيات مختلفة لرؤى مختلفة، ومستويات نفسية مختلفة. قد يأنس الحكيم بخسارة تصيبه في ماله ولكنها تفيده درسا في نفسه وروحه، بينما تأتي هذه الخسارة مصيبة كبرى على الجاهل، تنتهي عنده كل لذائذ الحياة تحت وطأة أثرها.
“لا يؤنسنك إلا الحق، ولا يوحشنك إلا الباطل”(2) وذلك على الاطلاق
الباطل يعطيك من أرباح الدنيا ما يعطيك، ويرفع شأنك في الناس، ويدفع بشهرتك إلى الأمام، ولكن عليك أن تستوحش نفسك وتنفر منه، والنفس الشريفة تنفر من هذا الباطل الذي أعطى كل هذه النتائج الإيجابية في نظر الآخرين.
وقد أدخلك السجن, وعلق رقبتك في المشنقة اقبله، واستأنس به، وإذا كان أحدنا يملك نفسا ربّانية فإنّه سيجد لذّة في مشنقة، يعلم أن ما جاء بها إنما هو تمسكه بالحق. نعم سيعيش لذة روح وإن كان في معاناة من ألم الجسد.
“الاسترسال بالأنس يذهب بالمهابة”(3).
الترسّل، والتبسّط نتيجة قد تحدث بين أهل الألفة والأنس المتبادل، وكلما استرسل الإنسان في الكلمة وتبسّط، وترخّص في التصرّف ذهب من مهابته ما يذهب. والضحك، والترخّص والتبذل في بعض الأفعال وإن لم يصل الأمر فيها إلى حدّ الحرمة وسوء الأدب من شأنه أن يثلم من هيبة الرجل.
“اللهم إنك آنس الآنسين لأوليائك… إن أوحشتهم الغربة آنسهم ذكرك، وإن صبّت عليهم المصائب لجأوا إلى الاستجارة بك…”(4).
من أين يحصل الأنس؟ من الاطمئنان، والأمن والإحساس بالدعم، والغنى، والقوّة، والاكتفاء، والحماية، بالتعويض، بالإكرام، بالكرامة، وهل من شيء من ذلك يفوت أو يغيب عن نفس مؤمن اتّصل قلبه بالله؟! القلب المتصل بالله، النفس المنفتحة على الله عز وجل، هل ينقصها شيء من ذلك لتفقد أنسها؟!
الله في هذه النفس أكبر كبير، وأقدر قدير، وأرحم رحيم، فلِمَ لا تأنس؟!
“ثمرة الأنس بالله الاستيحاش من الناس”(5).
ما السر أن المرء إذا استأنس بالله استوحش من الناس؟ بمعنى أنه لم يجد أنسه فيهم، وإذا وجد في مؤمن الأنس وجده أقل مما يجده في ساعة ينفتح فيها قلبه على الله، وإذا وجد أنساً في مؤمن إنما يجد هذا الأنس في المؤمن لأنه يذكّره بالله.
وما السرّ؟
السر أن الجمال الأكبر يسقط قيمة الجمال الأصغر، وأنّ القوّة العظمى يضيع أمامها تأثير القوة الدنيا، وأنّ الغنى الأكبر لا تبقى للغنى الأصغر معه قيمة.
قمّة من القمم تقف أمامها مدهوشاً، ولكن إذا وقفت أمام قمة أخرى هي أبعد سموقاً، ولها امتداد أكبر لم يبق للقمة الأولى من أثر في النفس، الهيبة، والتعظيم ينصرف إلى القمّة الأعلى.
“من انفرد عن الناس أنس بالله سبحانه”(6).
ما السر؟ السر أن الأسباب تحجب كثيراً من القلوب عن مسبب الأسباب، فإذا ارتبطت بآثار غنىً عند شخص ربما شدّت هذه الآثار ذهنك وقلبك إليه بما يُنسي هذا القلب ربّه، وإذا وقفت أمام جمال معنويّ كعلم عالم، كحكمة حكيم ربّما شغلك هذا عن ربّ الحكيم وربّ العالم.
الأسباب قد تعمي عن ربّ الأسباب سبحانه وتعالى، ويكون الأنس في ظلّها للصغير، ويضيع على المرء بذلك الأنس الأكبر بأكبر كبير.
“علامة الأنس بالله الوحشة من الناس”(7).
قد مرّ السر في ذلك، لأن القلب المشغول بأنس الله لن يلقى في غيره أنساً بذلك المقدار، لن يلقى أنسا من أحد فيه قيمة تذكر، وفيه ملفت نظر لذلك القلب الآنس بالله. وأنت تعيش اللذة الكبرى على أي مستوى من مستويات اللذة هل تأخذ من نفسك لذة أخرى أقلّ منها؟! منظر طبيعي أخّاد جذّاب، تدير نظرك عنه فيقع على منظر طبيعي فيه جمال ولكنه أقل، فما أسرع أن تعود عينك تلقائيا إلى المنظر الأول، تصوّر المنظر الثاني بفص المنظر الأول لن تبقى له جاذبية في النفس، ولا سحرلها. لو رأيته في المرة الأولى وقبل أن ترى المنظر الأول لسحرك، واستقطبك، لكن تسقط جاذبيته، ولا يبقى له أي استقطاب في ظل منظر جمالي أكبر.
وأنت تأكل وجبة هي ألذّ وجبة، فتعرض عليك وجبة أخرى أقل في جودة التحضير وتحاول أن تستذوقها، فلا تجد لها ذوقا.
“من خرج من ذلّ المعصية إلى عزّ الطاعة آنسه الله عز وجل بغير أنيس وأعانه بغير مال”(8).
آنسه بغير أنيس لأن هذا المرء يجد أنسه في الله، ولا يحتاج إلى أن يبحث عمن يستأنسه به من الخلق، ولماذا؟ لأن الطاعة تعرّف بالله، لأن الطاعة تقترب بالنفس إلى الشعور بجمال الله وكمال الله وقوة الله ورحمة الله، لأن الطاعة طريق صعود النفس، وإذا صعدت النفس عرفت من الله عز وجل ما يغنيها، ويؤنسها.
الكلمة عن الصادق عليه السلام:”آه آه على قلوب حشيت نورا، وإنّما كانت الدنيا عندهم بمنزلة الشجاع الأرقم(9) والعدو الأعجم(10)، أنسوا بالله واستوحشوا مما به استأنس المترفون”(11).
ولِمَ خوفهم من الدنيا؟ خوفهم من الدنيا أن تفصلهم لحظة عن ذكر الله، فتخسرهم لذتهم العظيمة، خوفهم من الدنيا أن تجتذبهم لحظة عن ذكر الله فيقعوا في الشرك بالله، فيقعوا في استصغار عظمة الله سبحانه وتعالى أو نسيانها.
نعم، يخافون من الدنيا خوفهم من الشجاع الأرقم، العدو الأعجم، لأن تتهدّد من مال إليها بحرمان الخير كلّه، وهي تفصل عن الله سبحانه وتعالى.
اللهم صل وسلم على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم أنت الغني ونحن عبيدك المحتاجون إليك، ولا مسدّ لحاجة أحد من خلقك إلا من عندك، ولا يُغني عنك مغنٍ أبداً فارحم حاجتنا إليك، وتضرّعنا بين يديك، واجعل قلوبنا منشدّة إليك، ولا تجعل لها أملاً فيمن دونك، ولا أُنساً يفصلها عنك، ويحرمها لحظة من أنسك يا حنّان، يا منّان، يا وهّاب، يا جزيل العطاء، يا قديم الإحسان.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ (4) وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)}

الخطبة الثانية

الحمد لله الذي لم يتخذ صاحبة ولا ولدا، ولم يكن له شريك في الملك، ولا ولي من الذّل وهو الحميد المجيد. لا يدركه عقل، ولا يصل إليه وهم، ولا يحوم حول كنهه خيال.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليماً كثيراً كثيراً.
عباد الله وأبناء عباده فلنتّق الذي لا يضر مع رضاه غضب غاضب، ولا ينفع مع غضبه رضى راضٍ، ولا رضى لله إلا في خير، ولا غضب له إلا في شر، ولا يرضى ربّنا بباطل أبداً.
ومن أراد الولاية من الله والنصر والعزَّ والحماية والكرامة فليتّقه، ويطلب رضاه وإن كان في غضب الناس، وليتحاش غضبه وإن أرضاهم جميعاً.
اللهم صل على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم أخرجنا من طاعة العبيد إلى طاعتك، ومن عبادتهم إلى عبادتك، ومن طلب رضاهم إلى طلب رضاك، واجعل أملنا فيك لا في غيرك، وتعويلنا عليك لا على من سواك، وقد خاب من أمَّل أحداً من خلقك والخيرُ كلّه بيدك، أو عوّل عليه ولا حول ولا قوّة إلا بك.
اللهم صل وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبدالله خاتم النبيين والمرسلين، وعلى علي أمير المؤمنين، وإمام المتقين، وعلى فاطمة الزهراء الصديقة الطاهرة المعصومة، وعلى الأئمة الهادين المعصومين، حججك على بلادك، وأنوراك في بلادك: الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن المنتظر المهدي القائم.
اللهم صل على محمد وآل محمد، وعجل فرج ولي أمرك القائم المنتظر، وحفه بملائكتك المقربين، وأيده بروح القدس يارب العالمين.
عبدك وابن عبديك، الموالي له، الممهد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين، وفقهم لمراضيك، وسدد خطاهم على طريقك، وانصرهم نصرا عزيزا مبينا قائما ثابتا.
أما بعد
رحل ولم يرحل:
رحل الرجل العظيم الخميني الكبير عن وجه الأرض، وصعدت روحه إلى رحمة الله ورضوانه إن شاء الله، وبقي النورَ المشعَّ للهدى في الناس، والصوتَ المدويَّ بصرخة الحقّ في القلوب، والثورة العارمة في المشاعر على الباطل، والإحساس الغزير الدفّاق بالعزّة والكرامة والشهامة والشجاعة والإقدام في النفوس، والإيمان بقيم البذل والعطاء السخيّ، والتضحية والفداء في سبيل الله عند الثائرين.
وقد صنعت ثورته وانتصاره ودولته ثائرين كثراً على طريق الله.
بقي يعلّم من خلال ميراث ضخم من ميراث الجهاد المرير، والكلمة الهادية، والسياسة الرشيدة، والمقارعة العنيدة، والثبات على الحقّ، والتوكّل على الله، وتفويض الأمر إليه، والعزم والحزم والجزم، والتواضع، والمضيّ بعد التبصّر، والتزام خطّ الشريعة، والإصرار عليه، والحبّ في الله والبغض في الله، وعدم المداهنة في الدين، والصبر على التكليف، بقيّ يعلّم من خلال ذلك كلّه أجيال الأمة ما تحتاجه في مسيرة جهادها الطويل، ومواجهاتها الممتدة للظلم والضلال في الأرض كما يعلّم كل المحرومين والمظلومين والمستضعفين في العالم أن ينتفضوا على الأوضاع السيئة المهينة التي يفرضها عليهم الطغاة المستكبرون.
تستطيع أن تقول محقّاً صادقاً بأن الإمام الخميني (قده) قد نسَلَت ثورته وانتصاره ودولته تيّاراً ثوريّاً جهاديّاً رساليّاً واسعاً داخل الأمَّة متجاوزاً في سعته حدود بلد الثورة، ونسل كل ذلك قادة بقامات مرتفعة شغلهم ذكر الله عن ذكر غيره، وصغرت أمام هيبته وخشيته في نفوسهم كل هيبة، فانطلقوا في طريق التغيير الصالح لا يبالون بذمٍّ أو مدح من المخلوقين، ولا أن وقعوا على الموت، أو وقع الموت عليهم، وسماحة السيد الكبير نصر الله هو واحد من أبرزهم، وكل نظر أولئك هو لله وحده.
كما نسلت الثورة والانتصار والدولة توثباً في روح الحرية، والشعور بقيمة الإنسان على مستوى مختلف الأمم، وألفتت شعوب العالم إلى عظمة الإسلام ومثله العليا، وقدرته على الإنقاذ، وتلبية أمل المستضعفين في الأرض.
من لهؤلاء الأيتام؟
هناك يتامى أب أو وأم، أو أب و أم معاً، وقد يجدون في الناس رعاية بدن ورعاية روح، وهناك نوع آخر من الأيتام آباؤهم وأمهاتهم على قيد الحياة، وهؤلاء لا يجدون من يحمي أرواحهم، يرعى نفوسهم، يحرس عقولهم، يضعهم على الخطّ الصحيح.
يتم تجد له صورة فاقعة في ليالي الصيف، وحيث تبدأ عطلة المدارس، تجد شباباً يقضي ليله في فراغ أو عبث الله أعلم به، وكأن أولئك الشباب لا أهل لهم ولا عشيرة، لا آباء، لا أمهات.
إلى من يُسلم هؤلاء الأيتام آباؤُهم وأمهاتهُم؟ إذا ظننت أن هناك من يتهيؤ لاصطياد هؤلاء، ولتحفيزهم على الشرّ، فإن ظني هذا لن يخطئ الواقع كثيراً أو يجافي الحقيقة كذلك.
كيف تغفو عين أم وأب عن ولد لا يدريان ماذا يفعل بعقله ونفسه وروحه وبدنه العابثون والمغرضون، وعملاء الغرب وغير الغرب؟!
أيعامل الولد ولو كان صبيّاً معاملة الغنمة؟ كل مسؤولية أبيه تجاهه أن يطعمه، ويسقيه ويلبسه؟! والغنمة تُحرس، والولد لا يُحرس؟! وإن كان للغنم حراسة تتناسب معها، وللولد حراسة شريفة تتناسب معه.
تربية للولد تقتصر على الطعام والشراب وما ماثل لتقول له أنت غنمة لا حاجات أخرى لك؟! ليس فيك روح تربّى، ليس فيك عقل يُنمّى، ليس فيك نفس تُوعّى؟! أنت تقول للولد هنا يا ولدٌ غنمة.
الغنمة تحافظ عليها من حيث الطعام والشراب وإلخ، ولكن ولدك كيف تحافظ عليه؟ بمستوى ما يحافظ على غنمة؟ أين الوجود الكبير في ولدك؟ روحه، عقله، إنسانيته، أبعاد إنسانيته الغنيّة بالمعاني الكبرى. الولد هناك وليس الولد في رجل وبطن وظهر مما ترى فحسب.
التعليم الصيفي الديني:
أولاً لكل القائمين على التعليم الصيفي الديني الشكر الجزيل الذي يتجاوز حد الكلمات، ولابد أن يكون الشكر في مواقف اجتماعية تقديرية لهذا الجهد الكبير.
ولكن ليسمح التعليم الصيفي الديني ببعض الأسئلة:
أين يتركز الفراغ عند الطالب في فكره، وفي نفسه وروحه؟
يتركز الفراغ في الدروس الأكاديمية؟ في الرياضة البدنية؟ في الترفيهيات؟ ما هو الشيء الذي يفتقده الطالب طوال العام الدراسي؟ الدروس الدينية الأمينة، احترام النفس، التربية على الخلق، تعزيز الثقة بالذات الإنسانية الإيمانية، أن يلفت إلى ربّه، أن يلفت إلى نفسه، أن يلفت إلى آخرته.
والتعليم الصيفي أهميته الكبرى ليس في تقديمه المعلومات، أهميته الكبرى في أن تشعر هذه الذات بأنها ذات لا يمكن أن تُشترى إلا من الله، أن تشعرها بأهمية الدين. أنت تعلّم الطالب الدين، ولا مسألة واحدة منه، ولكن زرعت في نفسه الشعور بالحاجة الشديدة إليه لربّيته أكبر تربية، ولو قدّمت له معلومات دينية مكثّفة، وبقي لا يعرف أهمية دينه، في دنياه وأخراه، وفي حياته الفردية والأسرية والاجتماعية لم تكن فعلت الشيء الكثير لتربيته وصلاحه.
المطلوب أن يشعر الطالب بحاجته إلى ربه، وبكرامة نفسه في ظل إيمانه، وبما هو الصحيح من هدف الحياة، بأهمية الدين، بأهمية الذات، بالخط الذي يواليه، بالخط الذي يعاديه. لابد أن تزرع في نفسه الولاء لله، ولأهل الله، ولابد أن تخلق في نفسه حالة من الانفصال عن الكفر، وعطاءات الكفر، وأخلاقيات الكفر، وما يفرزه الكفر.
من لمعالجة النقص الذي يعاني منه الطالب في هذا المجال؟ أب يقصر به مستواه عن ذلك، أو يصرفه عنه اشتغاله؟!، أو مدرسة تريد منهجها ان يخرج بهذا الولد عن الإسلام؟!
لو لاحظتم الجانب الديني في هذه البرامج الصيفية من ناحية فعلية، وقد راجعت بعضها لوجدتم أن خط الدين فيها بنحو س وهو الأقل، إذا قيل عن المقبّلات فالبرنامج كلّه مقبلات، أما الصلب فهو شيء هامشي صغير، وكأننا نريد أن نقول أنك يا دين صغير، وأن الهم يجب أن ينصرف عندك أيها الطالب للدنيا، وما فيه توسع المعاش، الانجليزية مهمة جدا لأنها تعطي رغيفا، الدين ليست له أي قيمة في تحصيل الوظيفة الدنيوية فنعطيه في كل العطلة الصيفية تسع ساعات دراسية وكفى.
سيكون عنوان التعليم الصيفي الديني كاذباً إذا كان واقع النسبة للتعليم الديني هو عشر في المائة أو أقل. فليكن العنوان علنيّا وصريحاً و هو التعليم الدنيوي.
البرنامج الترفيهي يغطّي مساحة كبيرة جدا في مشاريع التعليم الصيفي، وغير الديني مدفوع الأجر من أولياء الأمور، والديني على الدين نفسه أن يدفع أجره. الصحيح والصالح جداً أن يدفع المال الديني أجر التعليم الديني، فإن من أكبر وظائف المال الديني هو تنمية العقول والنفوس، وتعليم علم الشريعة والدين ، ولكن أن تشعر الطلاب وأولياء الأمور بأن المستحق لدفع الأجر والتضحية والتقدير هو التعليم الدنيوي، أما الديني فلا يستحق البذل حتى على مستوى كتبه ومذكراته فهذا غير صحيح.
وأؤكد لنفسي ولكم أيها الأخوة الكرام أنه لا دنيا بلا دين، وأنتم ترون فساد الدنيا في غياب الدين في الغرب وفي الشرق وفي كل مكان.
هذه هي الصورة:
الحساب الختامي يسقط حكومات. هذا هو العنوان الذي ذكر تحته النائب عبد الجلل خليل في نشرة الوفاق صورة من الفساد المالي الذي تعاني منه الحكومة.
أقرأ ما جاء في النشرة وكما جاء:
* رفضنا الحساب الختامي لأنه أخفى ميزانية الديوان الملكي.
* عشرون وزارة وجهة لم تصل فيها نسبة الصرف 70% من ميزانيتها المطلوبة.
* مصروفات التنمية الاقتصادية 23 (مليون) ليس لها أيّ بيانات.
* دفان الشمالية بـ 24 مليون ليس لها أي بيانات أو معلومات.
* الحساب الختامي لم يفصح بحجم مشتريات أسلحة الداخلية والدّفاع.
* التكتم يدفع باتجاه وجود شبهات فساد وهدر كبير للمال العام.
انتهى كلام النائب، ويأتي أكثر من تساؤل:
1. ما دقة العنوان: الحساب الختامي يسقط حكومات؟ دقيق جداً، وحقاً أن هذا الحساب يسقط حكومات في ظلّ عدالة إسلامية أو على الأقل ديموقراطية حقيقية.
2. هل لا يؤمَن النائب على بعض أسرار الدولة كمشتريات الأسلحة للداخلية والدفاع؟ وكيف لا تؤمَن سلطة مهمة على هذه الأسرار؟ المجلس النيابي هو المؤسسة الثالثة من مؤسسات الأركان في الدولة، وهي السلطة التنفيذية، السلطة القضائية، والسلطة التشريعية، وهي الممثلة للشعب أتسقط الحكومة قيمتها والثقة فيها؟! وكيف يعترف برقابة من لا يؤمن على الأسرار؟ وكيف تتأتى الرقابة والمحاسبة ممن يُتخفّى عنه بالأسرار؟ الرقابة تعني الأمانة، وتعني الثقة، بينما إخفاء الأسرار يعني اهتزاز الثقة، وعدم الأمانة، والاتهام بالخيانة؟
3. كيف يسوغ للدولة أن تتحدث عن النزاهة وهذا حالها في التعامل مع المال العام وهو عصب حياة الشعب وثروته المملوكة له؟
4. هذا هو الفساد الطافح الذي يسهل على عين المراقب أن تصل إليه، وماذا وراءه من فساد محجوب جيداً عن العيون؟ وما حجم فساد الأعماق؟
5. أين وزن المال العام عند الحكومة، أين قيمة الشعب، أين حبّ الوطن، أين خشية الله؟
6. أيعاقب مختلس الدينار، ومختلسو الملايين يعيشون فكهين آمنين وكلّهم فخر واعتزاز؟
من هنا يغرق الوطن في المشكلات، وتعم الفوضى، وتتسيب الأمور، وتضطرب الأوضاع، ويقلق الأمن، وهنا منبع الفساد.
يا إخوة الإيمان:
يا من توحِّدهم قضية الإسلام والإيمان والهمّ الإسلامي المشترك لا تتراشقوا على مستوى الألسن لتتقاتلوا غداً على مستوى الأيدي فما استمر الأول إلا وأدّى إلى الثاني، وكلّ منهما قتال.
وتذكيراً لنفسي وتذكيراً لغيري أنبه أن للأُخوّة الإيمانية حقوقاً ثابتة لكل أخ مؤمن على أخيه لا يسقطها فسق الآخر، ولا الخصومة معه فلنخش الله، ونحترم حقوق المؤمنين.
وأذكّر أن أمل والوفاق من أهل الأخوة في الإيمان، وعليهم جميعاً أن يراعوا حدود هذه الأخوة الكريمة ويؤدا حقّها، وإن اختلف الرأي في بعض القضايا.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى، وعلى آله الطيبين الأطهار، وسلم تسليماً كثيراً، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم إن عوّل معوِّل على غيرك، فإنا لا نعوّل إلا عليك، وإن طلب طالب النصر من أحد سواك فإنا لا نطلب النصر إلا من عنك، وإن لجأ لاجئ إلى حمى من عداك فإنا لا نلجأ إلا إلى حماك، فاحمنا ربنا، وارحمنا برحمتك، وقنا عذابك، وأحسن عاقبتنا برحمتك يا أرحم الراحمين.
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 – غرر الحكم ص102.
2 – نهج البلاغة ج2 ص13.
3 –
4 – نهج البلاغة ج2 ص221.
5 – ميزان الحكمة ج1 ص 220.
6 – المصدر نفسه.
7 – المصدر نفسه.
8 – المصدر نفسه.
9 – نوع من الحيات، ثعبان مخيف.
10 – حيوان مفترس.
11 – تحف العقول ص301.

زر الذهاب إلى الأعلى