رؤية رشيدة في فهم القيادة وتنوّع الأدوار

التكامل مطلوب والوحدة خيار استراتيجي لا ينجح سواه..
رؤية رشيدة في فهم القيادة وتنوّع الأدوار

أصدر المجلس الإسلامي العلمائي بيانًا لاستراتيجيته في الشأن القيادي والسياسي، وجاء البيان الصادر وسط تجاذبات الساحة، واضحًا وصريحًا فيما يتعلق بمرجعية الساحة الدينية والسياسية الواعية والكفاءة المتمثّلة في كبار العلماء في البلد، وفي مقدمتهم سماحة آية الله الشيخ عيسى أحمد قاسم، وكذلك فيما يتعلق بالتعدديّة، فقد رأى المجلس أن التعددية المقبولة والنافعة هي التي تعبّر عن التنوّع في أساليب الضغط، وخطوات التحرّك، وبرامج العمل، التي تشكّل بمجموعها تيار المعارضة المتوحّد في أهدافه واستراتيجياته ومرجعيّته.
أمّا التعدديّة على مستوى المرجعيّة والاستراتيجيات والأهداف فهي مضرّة بوحدة الساحة وفاعلية المعارضة، ولم يغب عن البيان التركيز على الجماهير ووعيها وأهمية تواجدها في الساحة، وذلك ما يلفتنا إلى أهمية المرجعية والقيادة وحيثيات نقاشها في الساحة هذه الأيام، وما يحوم ويدور حولها بينما تستمر الحكومة في معالجاتها الأمنية وتدير ظهرها لنداءات الحوار المخلصة من مختلف الأطراف الفاعلة في الساحة..

المطالبة والتكامل
مدخل البيان العلمائي جاء بتقديم معطيات وأساسيات من تثبيت «أنّ المطالبة بالحقوق العادلة للشعب حقّ مشروع لكلّ أحد»، وتأييد «تكثيف الجهود وإبداع الوسائل السلمية المؤثرة والفاعلة في هذا الطريق وفق الضوابط الشرعية»، وتأكيد «أنّ اختلاف الأساليب في المطالبة بالحقوق لا يجوز أن يتحوّل إلى تصنيفات مضرة بوحدة الصفّ المعارض. كما نؤكّد أنّ المعارضة في حاجة إلى تراكم الجهود وتكاملها لا إلى قيام بعضها على أنقاض الأخرى».
وبتحليل ما سبق فإن المطالبة بالحقوق حق للجميع، ولابدّ أن تكون سلمية مع التركيز على أن تكون وفق الضوابط الشرعية، وعلى ذلك فإن الاختلاف لا يبرر التحول إلى التصنيفات المضرة بالمعارضة مع الإشارة إلى تراكم الجهود وتكاملها وليس قيام بعضها على الآخر، في إشارة إلى ما يجري في الساحة من تجاذب وفرز ثبت إضراره بصفوف المعارضة وقواعدها، والمجلس هنا يدخل بوضوح ليضع النقاط على الحروف ويسمي الأشياء بمسمياتها بلا مواربة..

القيادة والوحدة
من الواضح أن البيان انطلق حريصًا على وحدة المعارضة وعدم تشتت الساحة، وجاء مركزًا على بقاء تيار المعارضة ومن منطلق وحدة الأهداف والتنوع في أساليب الضغط وخطوات التحرك، وأن يكون «تحرّك المعارضة وكياناتها السياسية في سياق التوجّه العام الذي يرسمه هؤلاء العلماء الأمناء، وأن لا يتجاوز إطار مرجعيتهم الدينية والسياسية».
ومما لاشك فيه أن هنالك ارتباطًا وثيقًا بين الوحدة والقيادة، ففي نقاش علمي لأسس وحدة الأمة الإسلامية فإن هنالك أسسًا أربعة لوحدة الأمة ذكرها آية الله الشيخ عيسى أحمد قاسم في محاضرة سابقة وهي: وحدة المثل الأعلى، ووحدة الهدف، ووحدة المنهج، ووحدة القيادة، وكلنا شهدنا كيف أن الوحدة تطبيقًا وتجربة اختلت وتأثرت مع اختلال وحدة المسلمين وتفرقهم بين هذه القيادة وتلك..
فاختلال ميزان القيادة وتعددها على مختلف المستويات أدى إلى اعتلال واضح في الوحدة كحلم ونموذج كما إلى عدم تحقيق الأهداف وتعثرها أو جزئية تحققها، وذلك ما يمكن أن نسقطه على واقعنا الديني والسياسي، ففكرة الوحدة المنشودة ترتبط بفكرة القيادة ومفهومنا للمرجعية والتي تتقدم على مفهوم القيادة وإن اندمجت معها في بعض الأحيان.

التعددية «المتعددة»
بيان المجلس الإسلامي العلمائي يوجه إلى «التعدديّة المقبولة والنافعة هي التي تعبّر عن التنوّع في أساليب الضغط، وخطوات التحرّك، وبرامج العمل، التي تشكّل بمجموعها تيار المعارضة المتوحّد في أهدافه واستراتيجياته ومرجعيّته. أمّا التعدديّة على مستوى المرجعيّة والاستراتيجيات والأهداف فهي مضرّة بوحدة الساحة وفاعلية المعارضة»، وهو ما يجب التوقف لديه والتأمل، فإن تعدد الأهداف والاستراتيجيات والمرجعيات يسبب إضرارا وينعكس سلبًا، أولاً على وحدة المعارضة، وثانيًا: على فاعليتها.
وفتح باب التعددية وسيادة هذا المفهوم يجعلنا أمام خيار القبول بأن يكون هنالك في كل شبر وزاوية منهجية وقيادة، وهنا علينا أن ننظر إلى تكاثرها فيما ننظر إلى تشتتنا وتفرقنا بين أصحاب هذه المنهجية وذلك الرأي الجزئي، وعلينا أن نتخيل تعاظم الضعف وزيادة الهزال في جسمنا الهزيل من سطوة الآخر..
في حال أن المشترك أكثر وأقوى وأن تقبلنا لبعضنا لديه الكثير من المؤهلات لنجاحه وتوحدنا كان سيكسبنا قوة مهما يكن في خيارتنا من ضعف..
على أن التعددية تعني احتمال الاصطدام داخل البيت الواحد والقرية الواحدة والمجتمع الواحد، المنتمي أفراده غير المنفصلين لا في المكان ولا في زمان ولا في الجهات التي ينتمون إليها ثقافيًا واجتماعيًا، فهذا منهج يقوم على رفض المنهج الآخر ولا تتقبله.. فهل لنا أن نفكك تشابكات الساحة إذا ما انشغلنا بالفرز تلو الفرز وفرز المفروز أصلاً..

النخب و الجماهير
تحدث البيان عن دور النخب والجماهير والتمسك به في استراتيجية العلماء وبرؤية المجلس فيها: «البعد الجماهيري كان ولا زال عنصرًا مهمًا وأساسيًا في استراتيجية العلماء في قيادة الساحة، فالقيادة العلمائية تؤمن بدور النخب السياسية الواعية والمخلصة في التفكير والدراسة وإبداع الوسائل والآليات المناسبة والفاعلة في المطالبة بالحقوق، كما تؤمن بضرورة المشاركة الجماهيرية بالحضور الواعي والجادّ في الساحة، وإبداعات الرأي المتاحة التي تقدم عبر الطرق العقلائية المعتمدة في هذه المجالات».
ومما لاشك فيه أن البند ليس إلا تكاملاً لوضع النقاط على الحروف وتسمية الأشياء بأسمائها، فالمجلس لم يأت ليجامل النخب أو يغازل الجماهير، وإنما يوضح البند دور النخب المرادة كنخب واعية ومخلصة تقع عليها مسئولية الدراسة والتحليل والإبداع ووضع الآليات المناسبة والفاعلة في المطالبة بالحقوق، وليس مجرد النقد والتنظير والتعليق على ما يجري من أي موقع كان وفي أي مستوى علمي يكون، فالمطلوب من النخب دعم القيادة والمرجعية ورفدها بما يخدم دورها..
كما أن على الجماهير الحضور الواعي غير المنفلت والجاد غير المستهتر مع تقديم الرأي عبر الطرق العقلائية المعتمد في هذه المجالات، لا عبر التجاوز في المنتديات وتوجيه النقد العلني الذي لم تثبت فائدته..
ولا يخفى الدور الخطير للجماهير وما لها من أثر في دفع العملية المعارضة وإنجاحها، كما أن فشل دور الجماهير مضعف ومؤثر سلبًا وله انعكاسه الاجتماعي المضرّ والموتر للمجتمع والمقوض لكل مكاسبه..

مرجعية قاسم
لعل أكثر ما أثاره البيان وأوضحه وركز عليه وإن لم يقل خافيًا أو يكشف مستورًا هي التركيز على مرجعية العلماء العاملين الدينية والسياسية العالمة والكفوءة والتمسك بخط الفقهاء، كما جاء البيان وسط التجاذبات فيما تستدعي الحكومة الخيار الأمني وتتغافل عن الحوار، وتتحرك في الساحة قضية القيادة والمرجعية لتيار المعارضة، وإمكانية التعدديّة في هذا الشأن، ففند البيان فكرة التعددية وردّ عليها وأكد على أهمية وحدتها وضرر تعددها.
وقد جاء التأكيد على مرجعية قاسم الدينية والسياسية ومرجعية العلماء بناءً على ما يوليه الفقهاء الكبار من ثقة لهم وما ورد عنهم وتواتر ولم يعد مغطًى أو خاف على أحد مستواه ومستواهم العلمي ومستوى الورع والتقوى لديه ولديهم..
وإنه لمن نافلة القول أن آية الله قاسم له خبرة بالساحة تجاوزت الأربعين عامًا وجسّدت حضورها وتواصلها مع الجميع، مع حرصها على المصلحة العامة، وسعيها للإنصاف وقولها للحق، وبدا واضحًا أن حضور سماحته ليس ضد أحد ولا يواجه أحدًا ولا يلغي أحدًا، والمناداة بمرجعيته وقيادته في الحركة الدينية والسياسية كذلك ليس ضد أحد أو في مواجهة أحد.. والثابت تصديه وتصدره في المطالبة وتوعية الناس وتثقيفهم..
ولم يأت التأكيد على مرجعية قاسم ودور العلماء فرضًا على أحد فهي لا تحتاج إلى ذلك، لم تأت إلا استنادًا إلى المصلحة وتأكيد مكانة المرجعية الدينية التي حصنت ممارسات المنتمين لمدرسة أهل البيت (ع) في مختلف الجوانب بما فيها الجنبة السياسية والتي لا يجب أن تكون المحرك والمؤثر في التعامل معها، ولا يجب أن تكون مدخلاً لإضعاف الدور المرجعي والعلمائي وتعريضه للاهتزاز والضعف أمام الجماهير وبموازاة السلطة بإضعاف المعارضة التي تتصدرها وتشكل ثقلها العمامة..

النقد العلني.. التعددية.. الانكسار
دخلنا في يوم ما ونحن نعالج موضوعات وخيارات ساحتنا السياسية، وتناقشنا في إطار البيت الداخلي، وانطلقت فكرة «النقد العلني لأداء المعارضة» ولم يعترض، أحد وكان ما كان فأصبحنا كلنا منظرين ومنتقدين وناقدين للساحة في كل مساحاتها ومؤسساتها وممثليها، وتطور الأمر حتى وصلنا إلى الطرح ثم الطرح ثم الطرح لتعدد القيادات والمرجعيات والمنهجية، والنتيجة أننا اليوم في سجال أخذ مساحات التطوير ودعم المطالبة بالحقوق والتي كان محور العمل..
لقد استهلكنا النقد العلني وضغط علينا وآل بنا إلى ما آل، ولم نجد من تجارب التوصيفات والأحكام على هذا وذاك، والفرز بين هذا القول وهذا القول وبين صاحب هذا الموقف وذاك الموقف إلا الوهن والضعف..
كما أن هذا الطرح المتعلق بالمرجعية وتعددها يشطرنا ويحفزنا على الابتعاد عن بعضنا ومن التباعد إلى مزيد من التباعد والانكسار الذي سننتبه له بعد حين ولن نفيق ونحن غارقون في دفاعنا عن رؤانا إلا وقد استكملت السلطة ما تريد..

الانغماس في السياسية
أثبتت التجربة أن الانغماس في العمل السياسي له تأثيره السلبي، وكان له أن يسقط نماذج كثيرة من الحركات المطلبية والتحررية، وفي تجربتنا وما نراه أننا في مقابل الوعي الحقوقي والمطلبي، تراجعنا كثيرًا في بعض زوايانا وممارساتنا في الجانب الأخلاقي والثقافي، فأصبحنا إذا تحدثنا في السياسة نهين ونستنقص باسم النقد ونتجاوز الأخلاقيات باسم النقد السياسي وضعنا في المتاهات الكثيرة التي لا نعلم من يديرها..
على أن فهم القيادة وتعلم الاتباع الواعي المعتمد على الرؤية الشرعية، يخرجنا مما تلبست به ذممنا وحملنا من أوزار في حق أنفسنا وفي حق أجيالنا..
هناك من فهم وتعلم ورأيناه يؤكد مصرًا على عدم الاصطدام مع الإخوة تحت ذريعة السياسة، وتقدم متحملاً المسئولية ومتحملاً ما يقال عنه وما يوصف به، فكرّرها من موقعه كأمين عام لجمعية الوفاق الوطني الإسلامية، فقد قالها وكرّرها سماحة الشيخ علي سلمان: أنا سيف بيد القائد.. وأنا مقود ولست قائد.

نشرة الوفاق / العدد 94 / الجمعة 3 أبريل 2009م 

زر الذهاب إلى الأعلى