خطبة الجمعة (357) 24 صفر 1430هـ – 20 فبراير 2009م

مواضيع الخطبة:

*متابعة (الإخوة الإيمانية) *المساجد لاتعطَّل*الخطاب الديني *سجن لمن؟ محاكمات لمن؟

إن إطلاق قيد المسجونين والمحكومين في قضايا السياسة من الأستاذ حسن المشيمع، وفضيلة الشيخ المقداد وكل الآخرين الأعزاء مطلب شعبي لا رفع لليد عنه. وعليه إصرارُ الشعب.

الخطبة الأولى

الحمد لله الذي لا نقص في فيضه، ولا محدودية في فضله، ولا خفاء في نوره، ولا تخلّف في جوده، ولا قصور في علمه، ولا حاجز عن إرادته، ولا ممتنع من قدرته.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم تسليماً كثيراً كثيراً.
أوصيكم عباد الله ونفسي الأمَّارة بالسوء بتقوى الله والاعتصام بحبل دينه المتين الذي لا انقطاع له دون الغاية الكريمة، والمنزلة العالية، ولا ميل منه بسالكه عن السعادة الحقيقيّة التي أهَّل الله عز وجل لها نفوس العباد استعداداً وقابلية، وهداية فطرةٍ إلى جانب هداية الدين، وتربية رسوله وأوليائه الطاهرين.
اللهم صل على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم لا تجعل لنا مفارقة لدينك، أو مغادرة عن صراطك، أو ميلاً عن رضاك، أو أنساً بمن خالفك، أو طاعة لمن أغضبك، ولا تدخلنا في ولاية من تبغض، ولا تخرجنا من ولاية من تحب يا رحمن يا رحيم يا كريم.
الإخوّة الإيمانية:
أما بعد فالحديث اليوم متصل بما سبق بشأن بناء مجتمع التضامن والتكامل والمحبّة، والتكافل على قاعدة الأخوّة الإيمانيّة الصُّلبة.
وهو بناء يشترك فيه كمٌّ هائل من النصوص الواردة عن المعصومين عليهم السلام.
“عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: سمعته يقول: المؤمنون خدمٌ بعضهم لبعض، قلت: وكيف يكونون خدماً بعضهم لبعض؟ قال: يفيد بعضهم بعضا”(1).
كل المجتمعات يخدم بعضها بعضاً، سواء كانت مجتمعات كافرة أو مؤمنة، لكن المجتمع المؤمن يتميّز في أن خدمة بعضه لبعض كثيرا ما تنطلق من قصد وجه الله تبارك وتعالى من غير انتظار ثمن دنيوي، وأن هذا التعاون والتكافل والتضامن والتناصر له منطلق خاصٌّ من نفس الإنسان المؤمن المشعّة بالإيمان.
يمكن أن يكون إهمال لإنسانية الإنسان، وتركٌ له في معاناته وشقائه في مجتمع لا يسوده إيمان، لكن إذا صدق الإيمان في مجتمع لن تجد في هذا المجتمع من يموت جوعاً والآخر بيده لقمة يسعفه بها، ولن تجد فيه مريضاً يستطيع آخر أن يعينه على مرضه، لن تجد أحداً يُسلَم إلى مشكلته والمجتمع منه من يجد قدرة على إخراج ذلك الإنسان من مأزقه وضيقه. كلّ ذلك ينطلق من قاعدة الإيمان والرغبة في ثواب الله تبارك وتعالى، والضمير الحيّ الذي يتربّى على القيم العالية والعطاء الكريم في ضوء التربية الإسلامية القيّمة.
“عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: لم تتواخوا على هذا الأمر إنما تعارفتم عليه”(2).
إخوتكم الإيمانية، رابطة الإسلام والإيمان التي تحيونها لستم حديثي عهدٍ بها، وليست الشيء الطارئ على وجودكم، إنها من أصل النور الذي التقيتم عليه إذ كنتم وأنتم في عالم الروح، وما قبل الأصلاب تشتركون في نور الإيمان، تشتركون في أمر الهداية، في الرابط الإيماني الذي يوحّدكم فكراً وشعوراً، إنّك لأخو أخيك المؤمن، وإنه لأخوك قبل أن توجدا هنا، وقبل أن تتعرف عليه ويتعرف عليك في هذه الحياة.
هنا تعارف، واكتشاف لإخوّة قديمة سابقة أصيلة متجذّرة، وهي إخوّة الإيمان، فأنت لا تملك هنا إلا أن تكون أخ صاحبك المؤمن، ولا يملك إلا أن يكون أخاك، فهذا ما تقضي به وحدة الفكر، ووحدة الشعور، والتلاقي على محبّة الله تبارك وتعالى وولائه.
“عن أبي جعفر عليه السلام قال: من حق المؤمن على أخيه المؤمن أن يُشبع جوعته ويواري عورته ويفرّج عنه كربته ويقضي دَينه، فإذا مات خلفه في أهله وولده”(3).
لا توجد صورة من التكافل أوسع، وأصدق، وأصلب أرضية، وأكثر امتداداً من هذه الصورة التي لا تقتصر على إشباع الجوعة، وستر العورة، وقضاء الحاجات المادية، إنما تتعدّى ذلك لتفريج أي كربٍ من أي نوعٍ تملك أن تفعل معه شيئاً لتخرج أخاك المؤمن من ضيقه وضغطه وأزمته “ويفرج عنه كربته ويقضي دَينه”.
ثم هل ينساه من بعد موت؟ لا، العلاقة ليست علاقة دنيوية، ولا علاقة مجاملات، ولا علاقة سطحية، العلاقة متجذرة، ونابعة من وعيٍ مكين، ومن شعور وثيق، وهو الشعور الإيماني، فلذلك يمتد التكافل إلى ما بعد حياته ليرفع كربات من خلّف، ويقضي حاجاتهم.
فنحن أمام أي مجتمع راقٍ، وأمام أي مجتمع متماسك، وأي مجتمع قوي يستطيع أن يناهض الدنيا كلّها، ويضعها على الطريق القويم!!
المجتمع المؤمن لو أخذ بمثل هذه الأحاديث الكريمة المشعّة لكان من خلال واقعه أكبر داعية للإسلام، ولكان المنارة المشعّة التي تجتذب قلوب العالم من الشرق والغرب، ومن أي نقطة وزاوية في العالم.
العالم يبحث عن مجتمع نموذجي، عن مجتمع إنساني كريم، وليس هناك من أطروحة تستطيع أن تقدّم لمجتمع من صناعتها مثل هذه الصورة المتماسكة المشعّة، الراقية، الإنسانية المتفرِّدة.
“عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: حقّ المسلم على المسلم أن لا يشبع ويجوع أخوه، ولا يروى ويعطش أخوه، ولا يكتسي ويعرى أخوه، فما أعظم حقّ المسلم على أخيه المسلم. وقال: أحبّ لأخيك ما تحب لنفسك، وإذا احتجت فسله وإن سألك فأعطه، لا تمله خيرا ولا يمله لك، كن له ظهرا فإنه لك ظهر، إذا غاب فاحفظه في غيبته وإذا شهد فزره وأجله وأكرمه فإنه منك وأنت منه، فإن كان عليك عاتبا فلا تفارقه حتى تسأل سميحته وإن أصابه خير فاحمد الله، وإن ابتلي فأعضده، وإن تمحّل له فأعنه، وإذا قال الرجل لأخيه: أفّ انقطع ما بينهما من الولاية، وإذا قال: أنت عدوي كفر أحدهما، فإذا اتهمه إنماث الإيمان في قلبه كما ينماث الملح في الماء، وقال: بلغني أنه قال إن المؤمن ليزهر نوره لأهل السماء كما تزهر نجوم السماء لأهل الأرض، وقال: إن المؤمن ولي الله يعينه، ويصنع له، ولا يقول عليه إلا الحق، ولا يخاف غيره”(4).
ما أعظمها من درجة في التفاني، في الإخلاص، في الوفاء، في الإحساس الكريم بالآخر. يتحول المسلم في نفس أخيه المسلم إلى الحد الذي يكون بمنزلة نفسه، شعوره اتجاه أخيه المسلم هو شعوره اتجاه نفسه من حيث رعاية المصالح، ودرء المفاسد، وحبّ الخير، وبغض الشر.
“وإذا احتجت فسله”: إنّه أخوك بل نفسك، فلا حاجز ولا حرج.
“وإن سألك فأعطه، لا تُملِه خيرا، ولا يُملِه لك”: أي لا تُنسِئ، ولا تؤجل خيراً تجريه له على يدك، ولا يؤخّر خيرا يجريه على يده لك، أو لا تَملّه خيرا ولا يَملّكِ خيرا بمعنى لا تسأم من خير كثير تسديه إليه، ولا يسأم من خير مثله يسديه إليك.
“كن له ظهرا فإنه لك ظهر، إذا غاب فاحفظه في غيبته، وإذا شهد فزره، وأجلّه وأكرمه، فإنه منك وأنت منه، فإن كان عليك عاتبا فلا تفارقه حتى تسأل سميحته” بمعنى تطلب تجاوزه وسماحه وعفوه.
“وإن أصابه خير فاحمد الله، وإن ابتلي فأعضده، وإن تُمحّل(5) له فأعنه”: إذا أصابه كيد من أحد فلا بد أن تكون سنده، ويده، ورجله، وتضم قوتك إلى قوته دفاعا عنه حيث يكون موقفه موقف حق ضد باطل.
“وإذا قال الرجل لأخيه أفّ انقطع ما بينهما من الولاية”.
فهي علاقة مقدّسة شفّافة كريمة أكيدة وراسخة لا تحتمل أي خدشة بين المؤمنين، أو أيّ مسٍّ، وأي خدشة.
فإذا كانت أفّ تمثّل خدشة صغيرة، وتمثّل مقاربة فيها شيء يسير من أذى، فأف تكبر وتعظم قبحاً حين تأتي على خط العلاقة بين مؤمنين بلحاظ قدسية وعظمة وشرف هذه العلاقة، وعدم قبولها الخلل ولو كان من اليسير عند النّاس.
“وإذا قال أنت عدوّي كفر أحدهما” كيف يكون عدوّك وهو مؤمن؟ لا يكون الطرف الآخر عدوّك حتى يخرج من الإيمان، فإذا كان الطرف الآخر غير مؤمن كنت في كلمتك غير مأثوم حيث يكون عدوك بلحاظ كونه كافرا، ولو كان أخوك على إيمانه فكأنك تشهد على نفسك بأنك خرجت عن الإيمان، ولذلك قامت العداوة بينكما.
قد تكون خلافات على أمر صغير أو كبير بين مؤمن ومؤمن، أما العداوة الحقيقية فلا تكون بين مؤمنين.
“فإذا اتهمه ماث الإيمان في قلبه كما ينماث الملح في الماء” إذا لم تكن التهمة صادقة وكان هذا الذي قال لصاحبه أنت عدوي كاذباً فيما تستلزمه كلمته من كفر الطرف الآخر انماث الإيمان في قلب القائل بسبب كلمته بمعنى أنه يذوب وينتهي كما يذوب الملح في الماء.
“وقال: بلغني أنه قال: إن المؤمن ليزهر نوره لأهل السماء كما تزهر نجوم السماء لأهل الأرض، وقال إن المؤمن ولي الله يعينه ويصنع له”. أي الله عز وجل يعين هذا المؤمن، ويصنع له، وكفى بصنع الله منقذا وحارسا ومغنيا. أي يحوطه بعنايته، ويتولّى أمره.
والحمد لله رب العالمين.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبدالله وآله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم ارزقنا هدايتك، وخذ بنا إلى طاعتك، واجعل لنا من عسرنا وهمّنا وغمّنا فرجا ومخرجا، وافتح علينا أبواب رحمتك، وأغلق عنا أبواب نقمتك، وأرنا الحقّ حقّاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه، ولا تستبدل عنّا في خدمة دينك، والجهاد في سبيلك، ونصرة المظلوم من عبادك، يا أرحم من كل رحيم، ويا أكرم من كل كريم.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ، فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ، إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ}

الخطبة الثانية

الحمد لله الذي يمسك بقدرته كلّ شيء، ولا يفلت من قبضته شيء، ولا يوجد من دون فيضه شيء، ويمتري كل شيء من فضله، ويقوم كلُّ شيء بعطائه وجوده، ومنتهى كلّ أمر إليه، والحكم في الأولى والآخرة له، ولا يُخترق ملكه، ولا يَهن سلطانه، ولا يُردّ بطشه، ولا يُؤمن مكره، ولا يُثلم عزّه، وهو العلي العظيم.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وزادهم تحية وبركة وسلاماً.
عباد الله أوصيكم ونفسي الغافلة بتقوى الله، وإخلاص العبودية له، والانتباه إلى الأقدار وهي تقلّب الأحوال، وإلى الآجال وهي تطوي الأعمار، وإلى المنايا وهي تتوالى؛ فلا يطولن أمل كاذب من آمال الدنيا في نفس أحدنا لينسى الله، ولا تستمكنن لذة من لذاتها فيها فتلهوَ بها عن الآخرة الآتية، ولا رغبة من رغباتها فتنقطع بها عن الغاية العالية. لا يكونن سعينا صباحاً ومساءً وراء السراب. الكلُّ يعلم أن الدنيا لا تبقى، ولكنّ سعي الكثير في جلّه لها، وما أكثر ما نُغلب في مقام العمل للدنيا ووهمها، ونُهزم لآمالها؛ فالتفكر التفكر، والتدبّر التدبّر، وحذارِ يا نفس من قصر النظر وكبوته، والتّلهي بالدنيا وسوء عاقبته.
اللهم صل وسلم على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم أنقذنا من الغفلة، ولا تجعل للدنيا علينا سلطاناً نخسَر به أنفسنا، ونلهو عن المصير، ونبيع العمر رخيصاً للقمة وشربة تنتهيان إلى ما لا يُرغب، ومركب ودار يؤولان إلى خراب، وسمعة كاذبة، وشهرة زائفة مشقيتين، وربما قتلتا، أو انقلبتا إلى سوء ذكر، ومسبَّة، وعارٍ ونارٍ وشنار. بلى، ربّ شهرة في الدنيا قادت إلى كل ذلك، وانتهت بصاحبها إلى هذه العاقبة.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبدالله خاتم النبيين والمرسلين، وعلى علي أمير المؤمنين وإمام المتقين، وعلى فاطمة الزهراء الصديقة الطاهرة المعصومة.
وعلى الأئمة الهادين المعصومين حججك على عبادك، وأنوارك في بلادك: الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن المهدي المنتظر القائم.
اللهم صل على محمد وآل محمد، وعجل فرج ولي أمرك القائم المنتظر، وحفه بملائكتك المقربين، وأيده بروح القدس يارب العالمين.
عبدك وابن عبديك، الموالي له، الممهد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى وفقهم لمراضيك، وسدد خطاهم على طريقك، وانصرهم نصرا عزيزا مبينا ثابتا مقيما.
أما بعد فإلى بعض عناوين:
المساجد لا تعطَّل:
1. المساجد لا تعطّل دائماً ولا مؤقّتا، ولا كليا ولا جزئيا، والمساجد لا تُدان ولا تُعاقب، وتوقيف المسجد عن وظيفته الشرعية تعدٍّ عليه، ومخالفة دينيَّة من مرتكبه. ووظيفة المسجد دائما شرعيّة، وفي خدمة الشريعة، وتكييفها إنما هي بيد دين الله، وتوظيفها لأهدافه، وهي وظيفة واسعة بحسب أحكامها الثابتة من الدّين.
2. وإمامة الجماعة، وأوصاف وشرائط المتولّي لها موضوع فقهي أحكامه في الشريعة واضحة جليّة، والإمام في مثل زماننا ومكاننا يختاره المصلّون ممن يرغبون في الائتمام به طبقا للضوابط الشرعية، ومن تقدم لإمامة الجماعة فللمؤمنين الخيار في الصلاة بصلاته وعدمها تبعاً لتشخيصهم لأهليّته بالنظر الشرعي الذي يحكم المسألة.
3. ولا دخل من الناحية الشرعية لأي جهة رسميّة في اختيار الإمام شخصا أو صنفا، وأن يكون من أهل رأي سياسي معيّن أو لا يكون.
4. وعليه فلا بد في موضوع مسجد الصادق (عليه السلام) في القفول ألا تتعطّل فيه الجماعة ولو لفريضة واحدة كأي مسجد من المساجد الأخرى، وأن يكون تعيين إمام الجماعة بيد المأمومين بلا دخل أصلا للجهة الرسميّة.
ونطالب أن يتم ذلك بصورة هادئة وطبيعية كما هو مقتضى الناحية الشرعية وبدون أي مشاكل أو عراقيل أو تسبيب توترات.
ولماذا يزرع القرار الرسمي في كل زاوية مشكلة، ويثير في كل نقطة أزمة، ويلغّم الأجواء بالمتفجرات؟!
الخطاب الديني:
كون الخطاب دينيّا يعني أنه كذلك منطلقا ورؤية، وهدفا وتوجّها، ومفاهيم ومضمونا وخلقا، وأن أحكامه وضوابطه دينية، ويتبع الدين في الموضوعات المتناولة له ضيقا وسعة، فلو ضاق الدين موضوعات ضاق، وإذا اتسع اتسع. ما اتسع الدين في موضوعاته يتسع المسجد في موضوعاته، وما ضاق الدين في موضوعاته ضاق المسجد في موضوعاته. ولما كان الإسلام دين فرد ودولة، وآخرة ودنيا لا يختلف مذهب عن مذهب من مذاهب الإسلام في هذا كان الخطاب الإسلامي خطاب إصلاح لأمر الناس فردهم ومجتمعهم، في دينهم ودنياهم معاً.
المسجد كما هو الإسلام تماماً لا يقبل الأقفاص الفكرية، ولا يقبل التحديدات من أهل الأرض، إنما إطاره بيد ربّ الإسلام وربّ المسجد(6).
ومن أراد أن يحاكم الخطاب الديني ومصدره لكلامه بلغة الإصلاح في السياسة، ومعالجته لبعض شؤونها، ومقاربته لموضوع الحياة والساحة العامة فعليه أن يحاكم الدين القاضي بذلك نفسَه وقبل أن يحاكم المسجد وخطيبه، وأن يحاكم الشعب الذي اختار ذلك الدّين، وكلّ وثيقة رسمية كميثاق أو دستور جعله مصدرا رئيسا للتشريع كما هو الحال مع الإسلام وهذا الشعب، وكما هو الحال مع هذا البلد والميثاق والدستور اللذين تتحدث باسمهما الحكومة.
عندك دستور يقول بأن الإسلام مصدر رئيس للتشريع، عندك ميثاق قبل ذلك تقول فيه وقد وقّعت عليه بأن الإسلام مصدر رئيس في التشريع، فكيف ينسجم هذا مع التحديدات الوضعية لوظيفة المسجد وإمام المسجد؟!
ويفقد الخطاب الديني صفة كونه دينيّاً وانتماءه الديني حين يكون تحديد ضوابطه وموضوعاته، وما يجوز وما لا يجوز له، والمخاطِب به بيد السياسة.
فهناك تهافت واضح بين أن تقول عن الخطاب بأنه ديني، وتصفه بهذا الوصف وأنت تخضِعه لمقررات السياسة ومصالحها ومقتضياتها وتقلّباتها وأهدافها، إلا أن تكون تلك السياسة دينية خالصة من ألفها إلى يائها، وبصورة شاملة صادقة كما هو الشأن في سياسة الرسول صلى الله عليه وآله.
إذا قال الرسول صلى الله عليه وآله وبما هو حاكمٌ هذا من وظيفة المسجد، وذاك ليس من وظيفة المسجد، هذا يصلح إماما للمسجد، وذاك لا يصلح فله الحق الكامل لأنه الإسلام وكلّ الإسلام.
سجن لمن؟ محاكمات لمن؟
سجن من سجن ويسجن من المواطنين في أمر السياسة، ومحاكمة من حوكم ويحاكم، وتعذيب من عذّب ويعذّب منهم سجن لمن؟ ومحاكمة لمن؟ وتعذيب لمن؟ لهم أنفسهم فحسب، أم لهم وللشعب كلّه؟ لو كان كل ذلك لهم أنفسهم لا غير لكان على ضمير الشعب أن يُنكر، وأن يصرخ، ويعلن الاحتجاج، وكان عليه ديناً أن يفعل ذلك وبصورة أوضح.
وإذا كان وراء سجن المسجونين، ومحاكمة المحاكمين وحكمهم وعذابهم خلفيّة من المطالبة بحقوق الشعب، وإنصافه، والعدل في التعامل معه، والتعبير عن معاناته وضائقته، وعن ضميره ورؤيته ومشاعره، عنى ذلك أن السجون والمحاكمات والأحكام القاسية إنما هي متوجهة أساسياً، وبالدرجة الأولى للشعب نفسه(7)، وحقوقه، ومطالبه، وموقعه، وكرامته، وحاضره ومصيره، ومصالحه، وأمنه واستقراره، وأمانيه وآماله، وأن المستهدف إسكاته، وقهره، وإلغاء إرادته.
ولأن الشعب يجيد فهم هذه اللغة صار ينضاف إلى صرخة الضمير عنده لعذاب السجناء والمحكومين المحركة له في صورة احتجاجات سلمية كالمسيرة والاعتصام والملتقيات والندوات السياسية المفتوحة صرخة أخرى من منطلق شعوره بالاستهداف الخطير الذي يفقده كل وزنه، ويعصف بكل حقوقه ومصالحه، وهذه الصرخة المضافة ملتزمة بطرق التعبير السلمي نفسها، وبروح الإصلاح والحرص والتمسك بها(8).
ولذلك نطالب بقوة بوقف هذا التنكيل بالبعض تنكيلاً بالشعب، وعقوبة له على المطالبة بحقوقه إنكاراً للمنكر، وحفاظاً على حرمة الحقوق، وتمسّكاً بضوابط الدين، وبكرامة الإنسان.
ويعزز هذه المطالبة والإصرار عليها أننا أمام شعب واع متعقّل لطالما رفع شعار الحوار الهادف صادقاً مخلصا لتجنيب البلد كل المآزق والمنزلقات المؤسفة.
إن إطلاق قيد المسجونين والمحكومين في قضايا السياسة من الأستاذ حسن المشيمع، وفضيلة الشيخ المقداد وكل الآخرين الأعزاء مطلب شعبي لا رفع لليد عنه. وعليه إصرارُ الشعب.
وسيبقى الشعب على تعبيره المتواصل عن قناعاته ومطالباته بالأساليب السلمية المؤثّرة حتى يفكّ قيد المسجونين، ولا تفتح أبواب المحاكمات الكيفيّة، والأحكام المتعسِّفة التي تستهدف الشعب وقضيّته، وحتى تتحقق مطالبه العادلة.
ونكرر مرة بعد أخرى أننا حريصون على تجنيب الوطن أن يكون ساحة صراع، أو حتى ساحة مباراة كلامية ساخنة منفلتة تنزلق به في وادٍ سحيق مليء بالأزمات والكوارث الهائلة المدمِّرة.
وإذا تحدّثنا لمرات عديدة عن الحوار، فنحن لا نتحدث عن حاجة الشعب فحسب، وإنما الحوار حاجة الحكومة والشعب معاً. وإذا شعرت الحكومة بأن ليس لها حاجة في الحوار، وأن اعتماد القوة يكفيها، فإن مثل هذا الشعور، وما وراءه من تفكير من طبيعته لكافٍ جدّاً للبرهنة على أن الحكومة بعيدة كل البعد عن تفهّم التجارب والاستفادة السياسية من دروس الدول والشعوب، وأنها مصابة بدرجة من الغرور القاتل الذي يهدد الوطن كله بالمحق.
لا تجارب الماضي ولا تجارب الحاضر تساعد على أن منطق العنف والظلم والبطش هو الذي يعطي للحكومات استقرارها. هذا المنطق كان عاجزاً عن تحقيق الاستقرار والأمن للحكومات زمن ما قبل الصحوة العالمية للشعوب، وخاصة شعوب هذه الأمة الكريمة الخالدة وانتفاض إرادة إنسانها المقهور فكيف به زمن ما بعدها؟!
والحمد لله رب العالمين.
اللهم صل على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم تولّ أمورنا برعايتك وكفايتك وكلاءتك، وانصر الإسلام وأهله، يا غالباً لا يُغلب، يا قهّاراً لا يقهر، يا ناصراً لا يهزم، يا الله يا علي يا قدير انصر الإسلام وأهله، وأذل الكفر وأهله، والنفاق وأهله، وقرب فرج ولي أمرنا المنتظر، وأنقذ به عبادك، وأحيي به بلادك، وأظهر به الحق، وأزهق به الباطل يا قوي يا عزيز.
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 – شرح أصول الكافي ج9 ص36.
2 – شرح أصول الكافي ج9 ص39. وجاءت في بعض النسخ بإضافة حرف (و) ملاصفة لـ(إنما)، وهي مذكورة في المصدر المذكور.
3 – المصدر ص40.
4 – شرح أصول الكافي ج9 ص43.
5 – بمعنى كيد ضدّه.
6 – هتاف جموع المصلين بـ(لبيك يا إسلام).
7 – هتاف جموع المصلين بـ(هيهات منا الذلة).
8 – هتاف جموع المصلين بـ(لن نركع إلا لله).

زر الذهاب إلى الأعلى