خطبة الجمعة (354) 3 صفر 1430هـ – 30 يناير 2009م

مواضيع الخطبة:

*صلة الرحم *الوضع الأمني إلى أين؟ *القانون فوق الجميع *التجنيس

الدورة الجديدة من الاعتقالات المتوالية التي أودعت دفعات من شباب الوطن السجون، وانتهت إلى الآن باعتقال الأستاذ حسن مشيمع وفضيلة الشيخ محمد حبيب المقداد والدكتور عبدالجليل السنكيس الذي أفرج عنه مع ضمان محل الإقامة، وعدد من الشباب في إطار الاحتجاجات الأخيرة هي إحدى حلقات المسلسل الأمني الذي تفرزه السياسة الخاطئة للحكومة، وإصرارها على الحل الأمني مستبعدة أسلوب الحوار، والأخذ بخطوات إصلاحية جادّة، والتوافق على معالجة الملفات العالقة.

الخطبة الأولى

الحمد لله الذي أعطى ويعطي لكل موجود وجوده، ولكلّ حيٍّ حياته، ولكل عاقلٍ عقله، ولكل عالم علمه، ولكلّ ذي نعمة نعمته، ولكل أهل الطاعة له توفيق الطاعة، ولكل أهل القرب من رحمته كرامة القرب. فهو وليّ كل نعمة، وصاحب كل حسنة، ومصدر الخير كلّه، ولا إله غيره، ولا ربّ سواه.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلم تسليماً كثيراً كثيراً.
أوصيكم عباد الله ونفسي المقصِّرة بتقوى الله؛ فالنّاس إما متّق مطيع لربّه الكريم منتهٍ إلى خير، وإمّا متمرّدٌ عاص له سبحانه منتهٍ إلى شر، ولا يستويان، وفرصة الخيار لا تبقى، ومواجهة النتيجة لا مفرّ منها، وكل لحظة من العمر مفضية إلى ما بعدها بلا توقُّف، ولحظات العمر معدودة محسوبة لها حدّها المحدود المعلوم عند الله، وفي كلّ لحظة تنتهي آجال، ويرحل راحلون، ويودع أفواج من النّاس هذه الحياة.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى وعلى آله الطيبين الطاهرين. واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم اجعل حياتنا عامرة بطاعتك وكلٍّ خير، بعيدة عن معصيتك وكلّ شر، اللهم ارزقنا ولايتك، وعداوة الشيطان، واللجأ إليك، والفرار من الشيطان برحمتك يا أرحم الراحمين.
أما بعد فالحديث في صلة الرحم:
في الإنسان فطرة خير يحرص الإسلام على إبقاء حيويتها، وإعطائها الحضور القوي الفاعل في وجوده، ويسند دورها بالتوجيهات الأخلاقية الكريمة، والأحكام التشريعية الرشيدة، والأجواء الاجتماعية المشجّعة، والوعد الإلهي الجميل الصادق بمثوبة الدنيا والآخرة، والإنذار والتحذير عن الوقوع في المفاسد الخطيرة، والنتائج المرَّة المترتّبة على الابتعاد عن خطّ الدوافع المعنوية العالية التي تغنى بها ذات الإنسان.
ومن استعدادات الفطرة الخيّرة في الإنسان أن يقيم علاقات متينة بأخيه الإنسان قائمة على البرّ والإحسان والتعاون على الخير والصلاح، والمنطلق الأول لهذا النوع من العلاقات القويمة الصالحة هي العلاقة الرحمية التي تمثل اختبارا أوليّاً صادقا للنجاح في هذا المجال لما تنبته هذه العلاقة بطبيعتها الخاصة من روح التعاطف والتراحم بين أطرافها، فمن أخفق عمليّاً في إطارها، وكان القاسي الجافي القاطع كان أشد إخفاقاً من الناحية الإنسانية والأخلاقية وأبعد عن البرّ والإحسان والإخلاص والتجاوز والتسامح، وكان أكثر جفافاً وجفاء وقطيعة في إطار العلاقات الأوسع.
وإذا ظهر منه غير ذلك فإنما هو لأغراض بعيدة عن مكارم الأخلاق والسماحة، وصفاء الروح، وسموّ النفس.
وإذا سجّل أحد الناس نجاحاً ملحوظاً في إطار العلاقة الرحمية، تُوقِع منه أن يكون الناجح في إطار العلاقات الاجتماعية الأخرى المتنوعة، وأن يكون العضو الصالح النافع في المجتمع كلّه، وهو ما يحرص عليه الإسلام العظيم الكريم.
وهذه بعض الأحاديث الواردة عنهم عليهم السلام في الموضوع:
“عن جميل بن درّاج قال: سألت أبا عبدالله عليه السلام عن قول الله جلّ ذكره:{… وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً}(1) قال: فقال: هي أرحام النّاس، إنَّ الله عزَّ وجلَّ أمر بصلتها وعظّمها، ألا ترى أنّه جعلها منه”(2).
تقوى الله واجبة، ولا خير إلا في تقواه، وقد قرن الحذر من قطيعة الأرحام بالتقوى عن محارمه، وعن ترك ما أوجب. إذاً ما أعظم شأن هذه العلاقة، وما أكبر حرمتها عند الله سبحانه وتعالى.
وأضافت الآية الكريمة إلى قرن الحذر من قطيعة الأرحام بتقواه سبحانه وتعالى رقابته عزّ وجلّ لمن اتّقى الله، أو عصاه وطغى وتمرّد على أمره ونهيه، بأن وصل أو قطع رحمه.
فلا ترتقب من بعد هذا التأكيد تأكيداً أكبر، على مكانة العلاقة الرحميّة عند الله سبحانه.
الله عزَّ وجل الذي تتساءلون به يقول قائلكم بالله عليك وهو يريد أن يهزّ ضمير صاحبه، وأن يوقظه، ويستنطق خيره، ويزجره عن شرّه مقسماً عليه بالله العظيم أكبر كبير، وأعظم عظيم عليكم أن تتقوه، وتتقوا لتقواه قطيعة الأرحام، وتحرصوا على صلتها والوفاء بحقّها الذي كتبه الله على كل ذي رحم.
“.. فقال : هي أرحام النّاس”: ما تفسير أرحام الناس في الآية الكريمة؟ هي ما بين الناس من علاقات قرابة ورحم، وقالوا عن الرحم بأنّه كلّ قريبٍ معروف القرابة وإن بعُد، كل قريب تعرف قرابته إليك وإن كان بعيداً.
“… إنَّ الله عزَّ وجلَّ أمر بصلتها وعظّمها، ألا ترى أنّه جعلها منه”: أي قرن أمرها بتقواه.
وعن أبي الحسن الرّضا عليه السلام:”يكون الرَّجل يصل رحمه فيكون قد بقي من عمره ثلاث سنين فيصيّرها الله ثلاثين سنة ويفعل الله ما يشاء”(3).
ماذا يمنع قدرة الله من أن تمدّ في عمر هذا الإنسان؟ لا شيء، وماذا يمنع كرم الله عزّ وجلّ أن يزيد على الثلاث ثلاثين؟ لا شيء.
وعلى نسق هذا الحديث يأتي حديث آخر أن الثلاثين سنة هي زيادة بالإضافة إلى ثلاث السنين الأصل.
عن أبي جعفر عليه السلام – وهو الباقر – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله:”أُوصي الشاهد من أُمّتي والغائب منهم ومن في أصلاب الرّجال وأرحام النساء إلى يوم القيامة أن يصل الرّحم وإن كانت منه على مسيرة سنة، فإن ذلك من الدّين “(4).
ومسيرة السّنة في وضع المواصلات الصعبة الشاقة سابقاً تعني الكثير، وصلة من كان على رأس سنة من المسافة تقطعها الجمال أو غير الجمال من مثلها غير صلة الرحم الجار. هي صلة ولو بالسلام إلى رحمك في أي بلد من البلدان البعيدة يحمله إليه منك المسافرون. فالرحم كل رحم، واجب الصلة، وإن كان البعيد، ولكل رحم بحسب القرب والبعد المعنوي، ومن حيث مسافة المكان مستوى من الصلة. وهذا هو الظاهر.
عن أبي بصير، عن أبي عبدالله عليه السلام قال: سمعته يقول: إنّ الرَّحم معلّقة بالعرش تقول: اللهم صل من وصلني واقطع من قطعني وهي رحم آل محمّد وهو قول الله عزّ وجلّ:{… الَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ …}(5) ورحم كلّ ذي رحم”(6).
رحمك الخاص عليك بصلته والإحسان إليه، ولكن في الحديث تنبيهٌ شديد على أن محمد وآل محمد من أجلى مصاديق الرحم، وإذا كان رحمك الخاص الصلة بينك وبينه ماديّة تتمثل في رابطة الدم، ورابطة الوراثة، ورابطة التولّد، فإن هناك رابطة أكبر وأعظم شأناً، وأثبت على الزمن، وأثبت في كل الأحداث، وهي رابطة الهداية، ورابطة الرحمة التي جعلها الله سبحانه وتعالى في محمد وآل محمد من أجل البشرية بكاملها، ورابطة الولاء للدين التي لا نجاة إلا بها.
إنّ صلة المؤمن بمحمد وآل محمد لا تنفكّ على الزمن، وهي مقدّمة على كل صلات الرحم والقرابة.
وإذا تعارضت الصلة بين الإثنين كانت الصلة بآل محمد هي المقدَّمة. رحمك لا يرى منك صلة إلا بقطع علاقتك بآل محمد، والله عزّ وجلّ وآل محمد عليهم السلام لا يرضون منك هذه القطيعة لهم، من تُقدِّم؟ صلتك بآل محمد صلى الله عليه وآله، حيث لا يطاع الله من حيث يُعصى، وقطيعة آل محمد معصية واضحة، والرحم قد يشتهي ما هو ليس بحق.
اللهم صل على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم لا تجعل لنا حبّاً على خلاف حبّك، ولا هوى على خلاف دينك، ولا رضا يخرج عن رضاك، ولا سخطا يسخطك، ولا قطيعة تقطع عنك، وتحرم من رحمتك، ولا صلة تبعّد عنك، وتستوجب مقتك يا حنّان يا منّان، يا كريم.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ}

الخطبة الثانية

الحمد لله والحمد حقّه، وما التوفيقُ لحمده إلاّ من فضله، وحمدُ المخلوقين لا يفي بحقّه، ولا حمد يبلغ حقيقته إلا حمدُه لنفسه، وأصدق الحامدين له عزّ وجلّ من اعترف بالعجز عن الوفاء بحمده، وبلوغ حقّ الثناء عليه، ومنزلةِ شكره.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وزادهم تحية وبركة وسلاماً.
أوصيكم عباد الله ونفسي الأمّارة بالسوء بتقوى الله، وحمل النفس على خلاف هواها، ومجاهدتها على إرادة ما أراد لها الخالق المالك، وكراهة ما كرهه لها؛ فلا عليم بها مثلُه، وليس من رؤوف بها كما هو بها رؤوف، ولا يملك أحد من دونه لها نفعا ولا ضرّا، ولا دفعاً ولا منعاً، ولا حياة ولا موتاً ولا نشوراً.
اللهم صل على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم خلّص قلوبنا من كلّ خبيث ورديء، واجعل زادها معرفتك وتقواك، والشوق إليك، والتعلّق بطاعتك، واسلك بها، وبكل جانحة من جوانحنا، وجارحة من جوارحنا سبل رضوانك يا أكرم من كلّ كريم، ويا أرحم من كلّ رحيم.
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله خاتم النبيين والمرسلين، الصادقين الأمين، وعلى علي أمير المؤمنين وإمام المتقين، وعلى فاطمة الزهراء الصديقة الطاهرة المعصومة.
وعلى الأئمة الهادين المعصومين، حججك على عبادك، وأنوارك في بلادك: الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن المهدي المنتظر القائم.
اللهم صل على محمد وآل محمد، وعجّل فرج ولي أمرك القائم المنتظر، وحفه بملائكتك المقربين، وأيده بروح القدس يارب العالمين.
عبدك وابن عبديك، الموالي له، الممهد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين وفقهم لمراضيك، وسدد خطاهم على طريقك، وانصرهم نصرا عزيزا مبينا.
أما بعد أيها الإخوة والأخوات الأعزاء فإلى هذه الكلمة:
الوضع الأمني إلى أين؟
1. الوضع الأمنيُّ ويتبعه الاقتصادي والسياسي والاجتماعي والعمراني والثقافي والأخلاقي والديني وغيرها إلى أين؟ إلى مزيد من التدهور والانتكاس أم إلى بداية ازدهار وانتعاش؟ كلّ ذلك إلى تدهور وانتكاسة. وهذا ما يؤسف له شديدا وهذا ما هو قائم، وهذا ما هو متوقع إلا أن يرحم الله، ورحمة الله قريب من المحسنين.
لماذا التدهور والانتكاسة؟
إذا كانت انتكاسة، فالبداية هي انتكاسة وفوضى الوضع الأمني، أما البقية فتتبعه.
ولماذا انتكاسة الوضع الأمني؟
2. المشاكل المؤرّقة من الجانب الحكومي، والشاملة لجانب الدين والدنيا، والملهبة لظهور الناس وضمائرهم في ازدياد على الأيام وإن كان شعار أن الحقبة حقبة الإصلاح مرفوعاً بقوّة على المستوى الإعلامي الرسمي.
ابدأ من الخروج العملي على الميثاق، والخلل الدستوري لتمرّ بالتمييز الظالم، وبالتجنيس الإضراري، وبالاستحواذ على الثروة إلا الفتات، بالدوائر الانتخابية، الفرز الطائفي المقيت، هذا إذا لم نتحدث عن اضطهاد طائفي، التضييق الديني والمذهبي، بل المصادرة المذهبية، مشاكل البطالة والإسكان، وهكذا حتى تذهب بك المشكلات بلا توقّف لأنها تزداد ولا تتراجع.
3. كلما زادت حدّة المشكلات وزاد عددها وأصابت بنارها الحارقة عددا أكبر ازدادت المعارضة وجهر صوتها، وعبّرت عن نفسها بصورة أجلى، وتعمّق فقد الثقة بين الشعب والحكومة واتسعت رقعته.
4. وهنا يأتي الأسلوب التقليدي للحكومة: تهم ضخمة خطيرة، سجون، تحقيق بأسلوب ثابت معروف عانى منه الكثيرون الذين خضعوا للتحقيق، وهو تحقيق وأسلوب لا يفشل ولا لمرة واحدة في انتزاع الاعترافات التي يستهدفها والوصول إلى النتائج المطلوبة له، والمرسومة سلفا. ويتبع التحقيق والاعتراف نوع خاص من المحاكمات التي لا تأتي نتيجتها إلا في صورة الإدانة والأحكام المشدّدة مع ما يصاحب ذلك ويتعقبه من احتجاجات تواجه بالقمع الشديد والعقوبات الجماعية القاسية.
5. تتكرر هذه الصورة مرة بعد أخرى لا لتتراجع المعارضة، أو تتوارى، أو تنام طويلا بل لتكبر وتتسع، ويعلو صوتها، وتكون مواجهات جديدة وهكذا.
6. والمشكلة التي تقطع الطريق على الحل، وتصعّد من حالة التوتّر أنّ أي مطالبة شعبية بالإصلاح ومعالجة الفساد من داخل المجلس النيابي، أو من الجمعيات السياسية، من المسجد، من الشارع، من موقع الكتروني، من أي لسان يعدّها الإعلام الحكومي، والموقف الحكومي كذلك تآمراً وخيانة إرهاباً لابد أن يواجه بقوانين جديدة صارمة، وإجراءات عقابية مشدّدة، وحرمان رزق، وتهديد وإرعاب ومطاردة. وقد مرّت سنوات منذ أسس الخلل الدستوري بعد الميثاق لحالة الخلاف، ومناشدات عقلاء المجتمع من مؤسسات أهلية وأفراد وجماعات لا تتوقف داعية الحكومة إلى الحوار الهادئ والجاد والمخلص، بينما الحكومة لا تعطي لكل هذه النداءات والمناشدات أي أذن صاغية، وإذا فتحت الحكومة نادراً نافذة ما للحوار لا تفتحها إلا بتوقيت خاص، وفي ظروف سياسية محسوبة، وللتلميع السياسي الذي قد يدعو إليه ظرف معيّن بصورة ضرورية وعاجلة لتسدّ هذه النافذة نهائيا بعد ارتفاع المقتضي العابر وحالة الضرورة المؤقّتة.
7. الدورة الجديدة من الاعتقالات المتوالية التي أودعت دفعات من شباب الوطن السجون، وانتهت إلى الآن باعتقال الأستاذ حسن مشيمع وفضيلة الشيخ محمد حبيب المقداد والدكتور عبدالجليل السنكيس الذي أفرج عنه مع ضمان محل الإقامة، وعدد من الشباب في إطار الاحتجاجات الأخيرة هي إحدى حلقات المسلسل الأمني الذي تفرزه السياسة الخاطئة للحكومة، وإصرارها على الحل الأمني مستبعدة أسلوب الحوار، والأخذ بخطوات إصلاحية جادّة، والتوافق على معالجة الملفات العالقة.
وهذه الحلقة من المسلسل لن يترشح عنها إلا زيادة الاضطرابات الأمنية حسب المقروء، وضراوة المواجهات، وكأن المستهدف منها أساساً إنما هو صبّ الزيت في النار.
8. نشدد لأكثر من وجه ديني وعقلائي، ولمصلحة هذا الوطن العزيز ومواطنيه، ولاستقرار الحالة الأمنية على ثلاثة أمور محددة وواضحة:
1) تخلية سبيل الأستاذ حسن مشيمع وفضيلة الشيخ محمد حبيب المقداد وكل الدفعات الشبابية الذين ارتبط توقيفهم بأحداث الساحة منذ بدايتها وبما يشمل التداعيات الأخيرة المترتبة على سجن الأستاذ ورفيقيه بلا قيد ولا شرط، وبصورة عاجلة.
2) اتخاذ خطوات ومبادرات إصلاحية على الأرض من الجانب الحكومي.
3) التخلي عن الخيار الأمني والعقاب الجماعي، وتفعيل أسلوب الحوار الجدي المنتج لصيغة متوافق عليها بين الحكومة والشعب تسدّ باب الهزّات الأمنيّة والتوتّرات، وتنتج الفرصة لقيام علاقة مستقرّة بين الشعب والحكومة تتصف بكونها أقرب إلى الإنصاف والعدل.
9. من اللائق جداً أن تكون الحكومة قد توصَّلت إلى أن المطالبات الحقوقية لن تتراجع باعتماد الخيار الأمني وسياسة كسر العظم، وأن هذه المطالبات تنطلق من حكم الضرورة الفعلية، والضمير الشعبي الحيّ ولذلك فهي لا تتأثر في جدّيّتها وحرارتها واستمرارها بالظروف الإقليمية والعالمية ولا العلاقات بين الدول في الأكثر، ولا بالكلمات الإعلامية والتهدئات الشكلية، وأن الحل في الإصلاح العملي الذي يجب أن يكون واقعاً مشهوداً، وحلّ المشكلات القائمة لا غير.
القانون فوق الجميع:
الدول لها طريقتان في التعامل مع الشعوب: طريقة تتمثّل في أن الأصل هو القانون، والعصا تتبعه وتسنده. العصا من أجل تطبيق القانون، والقانون هو الأصل. لا غنى لأي حكومة عن عصا، لكن هناك حكومة تعتمد القانون أصلاً، وهمّها المحافظة على القانون، وتحكيمه في إدارة الأمور، أما العصا فدورها ثانوي، ومن أجل تطبيق القانون.
وهناك دول تتجه اتجاهاً آخر، الأصل عندها العصا، والقانون تابع لها، ويساندها، وكلما احتاج إعمال العصا إلى قانون جاء القانون كما تشتهي العصا.
وهناك طاعتان: طاعة عن رضا، وطاعة عن عصا، وطاعة الرضا عن وعي وكرامة وحقٍّ هي طاعة الأحرار، أما الأخرى فهي طاعة العبيد(7).
طاعة الرضا لا يمكن أن تقوم إلا على قناعة، ومن أسباب هذه القناعة أن يكون هناك قانون محترم، يجد احترامه من داخل النفوس، وحتّى ينال القانون الاحترام، ويكون فوق الجميع هناك شروط:
‌أ- أن يكون من جهة محايدة، والجهة التي هي فوق كل الاتهامات، وكل الشبهات، والمنزّهة كل التنزيه عن الميل بغير حق، وعن الجور، والجهل وعن كل سوء ونقص وقصور، إنما هي جهة الله تبارك وتعالى. فحيث يؤمن الناس بأن هذا القانون هو قانون الله، وبعد أن يعرفوا الله لابد أن ينال ذلك القانون الاحترام من داخل النفوس.
وإذا لم يكن قانون إلهي وسلك الناس مسلكا آخر في طلب القانون فلا أقلّ من أجل أن ينال القانون درجة من الاحترام في النفوس من أن يكون متوافقا عليه، ولو من الأكثرية وهي الطريقة المأخوذة فيما يسمّى بالدول الديموقراطية حيث تسنّ المجالس النيابية الشعبيّة بحقٍّ القوانين لتلك البلدان، وكون المجالس النيابية شعبية بحق يعني نزاهة قانون الانتخاب والعملية الانتخابية بكاملهما.
‌ب- أن يكون القانون عادلاً: لو خرج هذا القانون من أصدق هيئة تشريعية نيّة، وجاء خطأً وعن قصور أن القانون جائر فإن هذا القانون الذي يُكتشف أنه جائر لا يمكن أن ينال الاحترام، وهنا تتدخل قوة العصا وليس احترام القانون في ضبط الأمور لو أريد الاعتماد عليه.
إذا أردنا قانونا عادلا فهل يمكن للقانون أن يخلق العدل المجرد كونه أخذ واقع القانون؟ وهل الظلم ينقلب عدلاً بتشريعه؟ إذا شرّع أي مجلس نيابي الظلم وجوّزه وقنّنه هل يكون هذا القانون عادلاً؟ أنت تحجّني بالقانون، ليس لك أن تحجني بالقانون إلا أن يكون هذا القانون عادلا، والعدل قبل القانون، وليس القانون قبل العدل، القانون الصالح وليد العدل، وليس العدل وليد القانون.
‌ج- أن يكون أخلاقيّا وواقعياً: لو جاء القانون عادلا من كل جهاته، لكن لم يقدّر طاقة الإنسان، فهو غير واقعي، وبالتالي فهو غير عادل لأنه لم يزن الإنسان أو المجتمع الوزن الدقيق، ولم ينسّب تنسيبا دقيقا بين الأحكام التي يتناولها وبين موضوعها وهو الإنسان. هذا القانون لا يمكن أن ينجح على المستوى العملي.
قوانين الله تبارك وتعالى لو جاءت فوق طاقة البشر، وتجاوزت حدود المقدور ما كان يمكن أن تُطبّق.
‌د- أن تطبقه الحكومات على نفسها، ونحن نرى أن الاستيلاء على الثروة مخالفة للقانون، أن اقتطاع الأراضي الواسعة مخالف للقانون، أن الفساد المالي مخالف للقانون، أن عدم العدل في التوزير مخالف للقانون، أن التمييز في التوظيف مخالف للقانون، وتستطيع أن تعد عشرات من القضايا مما تمارسه الحكومة وهي صارخة بمخالفة القانون(8).
‌ه- أن يطبّق على المحكومين بعدل ومن غير تمييز، والتمييز بين المحكومين واضح في هذا البلد فاضح صارخ مزعج مؤلم.
التجنيس:
في النظرة الواعية مشكلة فئة من المجتمع مشكلة للمجتمع كلّه، والنظرة السطحية قد لا تعي هذا بالنسبة لكثير من المشكلات، أما التجنيس بصورته القائمة فهو منطلقاً ليس مشكلة خاصّة بفئة أو منطقة أو طائفة من المجتمع. إنه ابتداء مشكلة الجميع، إنه مشكلة للمجتمع كلّه للنظرة السطحية فضلا عن النظرة المعمّقة، مشكلة للمتدين وغير المتدين، لهذه المنطقة وتلك، لهذه الطائفة والطائفة الأخرى، بل لهذا الجيل وللجيل الذي بعده.
وعليه فإن مسيرة اليوم التي دعت إليها الجمعيات السياسية الست تعني الجميع، ومن مسؤولية الجميع، وتحتاج هذه المسيرة إلى مشاركة أكبر عدد ممكن لتكون شاهدا شاخصا حيا لا يُنكر على الرفض العام الشعبي للتجنيس الظالم الذي يطال بظلمه وأضراره البالغة كل الشرائح والفئات والمكوّنات لهذا الشعب.
والموقف الآخر له دلالة أخرى. عدم المشاركة الواسعة ستكون له دلالته الخطيرة وشهادته السيئة(9).
اللهم صل على محمد وآل محمد، واغفر لنا وللمؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم أخرج أمة الإسلام من سوء الحال إلى حسن الحال، ومن الضيق إلى السعة، ومن الذّل إلى العز، ومن الضعف إلى القوة، ومن الفرقة إلى الوحدة، واجمع كلمتها على دينك وولايتك وتقواك. اللهم انصر من نصر الدين، واخذل من خذل الدين، وأحلل غضبك بالقوم الظالمين.
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 – 1/ النساء.
2 – الأصول من الكافي ج2 ص150.
3 – المصدر نفسه.
4 – المصدر نفسه ص151.
5 – 21/ الرعد.
6 – الأصول من الكافي ج2 ص151.
7 – هتاف جموع المصلين بـ(هيهات منا الذلة) و(معكم معكم يا سجناء).
8 – هتاف جموع المصلين بـ(يسقط من أجل الدولة قانون أمن الدولة).
9 – هتاف جموع المصلين بـ(لبيك يا فقيه).

زر الذهاب إلى الأعلى