خطبة الجمعة (348) 6 ذو الحجة 1429هـ – 5 ديسمبر 2008م

مواضيع الخطبة:

*الحسنة والسيئة *إن لمجتمعك عليك حقّا *هكذا قال أهل البيت عليهم السلام

عزيزي لا تبق من غير مشاركة في جهود التصحيح والتقويم والتطوير النافع، والارتقاء بوضع المجتمع من خلال مشاركتك في مؤسسة دينية أو ثقافية أو اجتماعية أو اقتصادية خيرية مرضية ديناً، نافعة للناس.

 علينا أن نحاول دائما من منطلق الإسلام، ومن منطلق الإنسان، ومن روح الاعتراف بالجميل، والحفاظ على مصلحتنا ومصلحة من يعقبنا من أجيال بنين وبنات أن نسهم ما استطعنا في صنع البيئة الاجتماعية الصالحة، ورقيها وسلامتها وطهرها وتقدمها.

الخطبة الأولى

الحمد لله الحيّ القيّوم، المبدئ المعيد، المحيي المميت، الوارث الباعث، العليّ القدير حمداً لا يرقى له حمد، ولا يستحقّه من دونه أحد.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليماً كثيراً كثيراً.
أوصيكم عباد الله ونفسي المقصِّرة بتقوى الله، واغتنام الفرص في طاعته، فإن الأجل قاطع للعمل، والأيام تمضي، والفرصَ تمرّ مرّ السحاب، وعن عليّ عليه السلام:”ربّ مُستقبلٍ يوماً ليس بمستدبره، ومغبوط في أول ليله قامت بواكيه في آخره”(1)، فليس بيد أحدنا ضمانٌ أن يُكمل نهاره، أو يتمّ ليله، أو يبقى ساعته. وما أسود يوماً على صاحبه تخرج فيه روحه على معصية لله، وما أجمل أن تُختَم حياة امرئ بعمل صالح، ونيّة طاهرة.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى وعلى آله الطيبين الطاهرين. واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم لا تجعل عمرنا مرتعا للشيطان، ولا خاويا بالفراغ، ولا خسارة في الميزان، ولا جسرا للنيران، واجعلنا من أربح الرابحين بطاعتك، وأعظم الفائزين بمغفرتك وجنّتك ورضوانك ياأكرم من كلّ كريم، ويا أرحم من كل رحيم.
الحسنة والسيئة:
أما بعد أيها الإخوة المؤمنون والمؤمنات الأعزاء إنّ من عمل الإنسان ما هو حسنٌ وما هو قبيح، ولا يرضى الله عزّ وجلّ إلا ما هو حسن، والقبيحُ إنما هو من وحي الشيطان، ووسوسة النّفس الأمّارة بالسوء. وحُسْنُ العمل من الإنسان إنما هو موافقته لغاية وجوده، وملاءمته لكماله، وإسهامه في إعداده لسعادته، ونيل ما هو خيرٌ له في آخرته ودنياه.
ومن فضل الله على عبده، وشكره له على القليل من طاعته، وحثّه له على الحسن الجميل الذي فيه خيره وسعادته أنه يضاعف الحسنة، ويُتمُّ له حسنها الذي قد يأتي ناقصا على يد العبد، أو يزيده حسناً على ما له من حسن مكافأة له، فإذا كان للحسنة نور في النفس زاد الله بقدرته وكرمه نورها نوراً، وهداها هدى، وإصلاحها إصلاحا، وتصحيحها تصحيحا، ومحوها للسيئة محوا، وزاد في ثوابها الأخروي ثوابا.
يزيدُ الله الحسنة حسنا بمضاعفة أثرها الإيجابي في النفس، وبزيادة ثوابها في الآخرة، ونجد هذا في قوله تعالى:{وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ}(2).
وإذا كانت الحسنة تتلألأ نوراً في القلب، وتقوم هدى في النفس، وتعطي قوة في الصلاح، ودفعا لصاحبها لعمل الخير، وَتَظهرُ جمالاً معنويّاً وسيماء صلاح في الوجه، فإن السيئة لها ما هو خلاف ذلك كلّه كما ينطق به هذا الحديث الوارد عن النبي صلّى الله عليه وآله:”وجدتُ الحسنةَ نوراً في القلب، وزَيْناً في الوجه، وقوة في العمل، ووجدت الخطيئة سواداً في القلب، ووهناً في العمل، وشيناً في الوجه”(3).
وزين الوجه في الحديث إشراقة الإيمان يراها المؤمن من محيّا أخيه الصالح لا يحجبها عنه سُمرة بشرة، وشين الوجه ظلمة روح، تطفح على جبين أهل السيئات لا يخفّف منها بريق بشرة.
والحديث يعلن عن هذه الحقيقة وهي أن كلاًّ من الحسنة والسيئة ليست فعلا صادرا من النفس لا علاقة له بها بعد ذلك إلاّ أن تكتب لها ثواباً أو عقابا، وإنما الحسنة تبني النفس الصادرة منها بناء صالحا، وترفع من قابلية الخير فيها، وتعطيها صفاء ونقاء، على خلاف السيئة التي تهدمها، وتحطّ من قابلية الصلاح فيها، وتحدث فيها ظلمة وقتاما، وتؤول بها إلى خراب.
وهذه جملة من أحاديث أخرى مروية عن أهل بيت العصمة عليهم السلام في الموضوع ربما وقفنا عندها ولو قليلاً.
عن الإمام زين العابدين عليه السلام:”يا سوأتاه لمن غلبت أحداته عشراته”(4).
نعرف من معنى الحديث أن العبد يُجزى بالسيئة مثلها، وبالحسنة عشراً، والجزاء بالسيئة للسيئة عدل، وجزاء الحسنة بعشر إحسان، فالعبد الذي يكتسب في يومه إحدى عشرة حسنة، ويكتسب فيه كذلك مئة سيئة – والعياذ بالله – تغلب حسناته سيئاته. فلو مات في ذلك اليوم، وهذه حصيلة عمر التكليف الذي عاشه بأن كان ذلك اليوم هو أول أيام بلوغه فمعنى ذلك أن له مئة سيئة، ومئة وعشرين حسنة وبذلك تغلب حسناته سيئاته، وينجو من النار، ويدخل الجنة. إذاً ما أشقى عبداً، وما أخسّ نفساً، وما أظلمها وأقبحها أن تغلب سيئاتها مع هذه المضاعفة للحسنات، والاقتصار على جزاء السيئة بمثلها ما رصيدها من الحسنات.
نعوذُ بالله من أن يرتكب أحدُنا في يوم واحد عشر سيئات ولا تكون له حسنة واحدة فتغلب سيئاته حسناته.
عن الإمام الباقر عليه السلام:”ما أحسن الحسنات بعد السيئات، وما أقبح السيئات بعد الحسنات”(5).
الحسنات دائما حسنة، والسيئات دائما سيئة وقبيحة، لكن للحسنة بعد السيئة أثر كبير فيكون موقعها مهمّا جدّا، لماذا؟ لأنها تخلّص النفس من سيئاتها، وتذهب بأثر تلك السيئات، أما السيئة وهي قبيحة دائماً فيتضاعف قبحها بمقتضى موقعها بعد الحسنة لأنها تقهقر في الذات بعد تقدّم، وهبوط في المستوى بعد رفعة، وانحدار علن الطريق بعد استقامة، وبُعد عن الغاية بعد قرب، وقبح بعد جمال.
“إني لم أرَ شيئاً قط أشد طلباً ولا أسرع دركاً من حسنة محدثة لذنب قديم”(6).
الحسنة اللاحقة تلاحق الذنب القديم ملاحقة حتى تقضي عليه وتمحوه، فأنت لو كنت تركض لتدرك من سرق منك شيئا، أو اغتصب منك شيئا، فكيف ستركض؟ بقدر ما تستطيع، الحسنة تداركها للسيئة، وقضاؤها عليها أسرع منك في تلك الحال، فخير ما تعالج به السيئات وآثارها هي الحسنات اللاحقات، فهي تخلص الذات مما علق بها من قبائح، وتؤمّنها بعد رحمة الله من عذاب شديد.
وحديث آخر:”من عمل سيئة في السر فليعمل حسنة في السر، ومن عمل سيئة في العلانية فليعمل حسنة في العلانية”(7).
أحاول أن أتبع السيئة التي حدثت لي في السر بحسنة في السر، ومن عمل سيئة في العلانية فليعمل حسنة في العلانية، لماذا؟ السيئة في السر لها دلالة نفسية، ووراءها خلل في الشعور، ذلك أنّ النفس تعظّم المخلوق أكثر من تعظيمها للخالق، فتجبن عن السيئة أمام المخلوق، ولكنها لا تجبن ولا تستحي من الخالق، لها حياء من المخلوقين يمنعها من القبيح، وليس لها حياء من الله يمنعها من ذلك، وهذا خلل عظيم في الشعور، ماذا يعالجه؟ يعالجه توقير الله ومهابته بأن يأتي الإنسان بالحسنة بينه وبين الله لا يعلمها غيره لتكون خالصة لوجهه الكريم، ففي هذا تصحيح للشعور الذي دخله الخلل.
والسيئة في العلن تكشف عن فقد للحياء، وتهتّك شديد، فلا حياء لهذه النفس لا من خالق ولا من مخلوق. وفي السيئة في العلن نشر أكبر للرذيلة، وهي سبب لتجرّأ الكثيرين على الله تبارك وتعالى، وهتك حرمات دينه، فماذا يعالج ذلك؟ على صاحب السيئة العلن أن يأتي بالحسنة علناً فلربما استرجع النفوس التي أفسدها إلى طريق الصواب.
ومضاعفة الحسنة إلى عشر هناك درجة أكبر منها:”إذا أحسن المؤمن عمله(8)، ضاعف الله عمله لكل حسنة سبعمائة، وذلك قول الله تبارك وتعالى:{وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ}(9)”(10).
أبعد المضاعفة إلى سبعمائة يخسر ميزاننا في الآخرة؟ إذاً واسوأتاه. أعاذنا الله من ذلك.
اللهم صل وسلم على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم اجعلنا ممن يقدّم الحق على الباطل، والهدى على الضلال، والجميل على القبيح، والحسنة على السيئة، وامح عنا السيئات، وكفّر عنا الخطيئات، وضاعف لنا الحسنات، وبارك لنا في محيانا والممات، واجعل خاتمة أعمالنا خيرا، ومنقلبنا إليك رضيّا، يا من لا يرد سائله، ولا يخيّب آمله.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ، فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ، إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ}

الخطبة الثانية

الحمد لله الذي كتب على عباده سنَّة الابتلاء، ووعد الصابرين بحسن الجزاء، ولا صبر إلاّ بتوفيقه، ولا خير إلاّ من عنده، ولا استدفاع لشرٍّ إلاّ باللجأ إليه، والعدلُ فيما قضى، والحكمة فيما قدَّر والهدى فيما شرّع.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلم تسليما كثيرا كثيرا.
عباد الله ألا فلنتق الله، فإن نفسا لا تملك من أمرها شيئا حقَّ عليها أن تخضع لمن يملك منها كلّ شيء، ولا مالك لشيء إلا الله، ومن خير النفس وتقواها أن تُسلّم أمرها إلى الله العليم القدير الرَّحمن الرَّحيم، وأن لا تسخط من قضائه وقدره، وأن لا تطلب العافية إلا من عنده، ولا تخطّ لها شرعة ومنهاجا غير منهاجه وشرعته، وأن لا تفارق لحظة صراط طاعته إلى منزلقات معصيته.
اللهم أعنا على أنفسنا ولا تبتلنا بما لا صبر لنا عليه، وما يُرهقنا أمره، وارزقنا العافية في الدين والدنيا والآخرة والأولى فإنّ ذلك لا يؤودك، ولا ينقصُ من ملكك، وهو أهنأ لنا ونحن عبيدك الفقراء إليك، المضطرون إلى رحمتك، المتعلقون بكرمك يا أرحم الراحمين، ويا أكرم الأكرمين.
اللهم اغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات، ولوالدينا وأرحامنا وقراباتنا وجيراننا وأصحابنا ومن كان له حق خاص علينا من المؤمنين والمؤمنات أجمعين.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله خاتم النبيين والمرسلين وعلى أمير المؤمنين وإمام المتقين، وعلى فاطمة الزهراء الصديقة الطاهرة المعصومة، وعلى الأئمة الهادين المعصومين حججك على عبادك، وأنوارك في بلادك: الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن المهدي المنتظر القائم.
اللهم صل على محمد وآل محمد، وعجل فرج ولي أمرك القائم المنتظر، وحفه بملائكتك المقرّبين، وأيّده بروح القدس يارب العالمين.
عبدك وابن عبديك، الموالي له، الممهد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين وفقهم لمراضيك، وسدد خطاهم على طريقك، وانصرهم نصرا عزيزا مبينا قريبا ثابتا أبدا.
أما بعد أيها الإخوة والأخوات المؤمنين والمؤمنات فإلى عنوانين:
إنّ لمجتمعك عليك حقّاً:
من منّا يستطيع أن يعيش وحيداً، وأن يستغني عن كلّ أهله ومن حوله وعن كل مجتمعه في حياته؟
المجتمع أسرة وأهل وعشيرة وجيران ومخالطون، وأهل مسجد، وحسينية، ومدرسة، ومؤسسة ثقافية، وصحّية، وتجارية، وأهل مرافق ومصالح حياتية كثيرة لا يستغني عنها الفرد، ولا تكاد تستمر حياته أو تكون ميسّرة في غياب كلّ هذه المؤسسات والجماعات.
فالمجتمع ضرورة للفرد عدا أهل السوء والإفساد فيه. وهو محضن من محاضنك، ومحاضن أولادك وأولاد أولادك، وإنك لتحتمي به في موارد كثيرة، وتنتفع بخيره في كل حياتك. وكلما كان المجتمع صالحاً وناهضاً كنت أصلح به وأقوى وأقدر على مواجهة تحديات الحياة من كل نوع.
وصاحب الكرامة والمروءة يحاول أن يعطي أكثر مما يأخذ على أنه من المستحيل أو من النادر جدا أن يعطي الفرد لمجتمعه أكثر مما يأخذ.
وليس من الإنسانية أو المروءة في شيء أن يأخذ الفرد القادر من مجتمعه طيلة حياته كلّ شيء دون أن يقدِّم له أيّ شيء. وقليلون هم الذين لا يستطيعون أن يقدّموا للمجتمع شيئاً.
والمسلم كما يحاسب على صلاح نفسه فإنه محاسب على صلاح أسرته ومجتمعه والنهوض بهما.
ومؤسسات المجتمع الصالحة والمتطوعة على أنواعها تحتاجها كل المجتمعات، وفي مثل الأزمات المعيشية تظهر الحاجة الشديدة للمؤسسات الخيرية المعيشية على أنّها ليست أهم المؤسسات بصورة مطلقة وفي كل الظروف.
والفرد الذي لا يملك مالاً يسهم به في خدمة المجتمع ومعالجة بعض مشكلاته قد يملك علماً، ثقافة، رأياً، قوة بدنية، كلمة مسموعة، تكثيف حضور في حسينية، في ندوة، محاضرة، غير ذلك مما قد يمثل رفعاً للمستوى يصب في مصلحة المجتمع، أو نصرة للظاهرة الدينية، وتشجيعاً على أمور الخير، والعمل الصالح.
علينا أن نحاول دائما من منطلق إسلاميٍّ، ومن منطلق إنساني، ومن روح الاعتراف بالجميل، والحفاظ على مصلحتنا ومصلحة من يعقبنا من أجيال بنين وبنات أن نسهم ما استطعنا في صنع البيئة الاجتماعية الصالحة، ورقيها وسلامتها وطهرها وتقدمها، فإن قدرتنا على الحياة الآمنة الراقية النظيفة المريحة السعيدة، وقدرة أجيالنا اللاحقة على ذلك لا تنفصل عن مستوى البيئة الاجتماعية التي نعيشها وسيعيشها من بعدنا من بنين وبنات وأحفاد.
والإسهام في صناعة المجتمعات الراقية العابدة الكريمة المثمرة خيرا في الناس والأرض، يُمارسه الإنسان الصالح بما هو خليفة لله عز وجل قد كُلِّف من لدنه بهذا الدور الذي يُسأل عنه يوم الحساب. لن يكون السؤال عن الصلاة والصيام فقط. إنه ليأتي سؤالُ: ماذا قدّمت للمجتمع وقد قدّرك الله على إصلاحه؟
ليس الإسهام في إصلاح المجتمع وظيفة إضافية مزاجية خارجة من صلب الدور الأصل لحياة الإنسان.
إن الباذل لمال من ماله، لجهد من جهده، لوقت من وقته، لفكر من فكره، لجاه من جاهه، لشيء من مواهب الرحمن عنده لتصحيح أوضاع مجتمعه، ومعالجة مشكلاته، وللحفاظ على أصالته، والاقتراب به من هدى إسلامه، والأخذ بمقتضى إيمانه، والتخلق بأخلاق دينه، وتطبيق أحكامه، الساعي للارتفاع بمستوى أمّته وإثراء الحركة النافعة فيها لناصر لدينه، قائم بوظيفته، مؤدٍ لدوره، وفيّ لمجتمعه. ومن تخلّى عن ذلك فهو خاذل للدين، منكر للجميل.
عزيزي لا تبق من غير مشاركة في جهود التصحيح والتقويم والتطوير النافع، والارتقاء بوضع المجتمع من خلال مشاركتك في مؤسسة دينية أو ثقافية أو اجتماعية أو اقتصادية خيرية مرضية ديناً، نافعة للناس.
ومن كان لا يملك شيئا غير أن يحضر الحسينية، المحاضرة، الندوة النافعة ولو ليزيد من عدد الحضور تقوية للظاهرة الدينية الاجتماعية فحضر لهذا الوجه فهو ناصر للدين، مجاهد في سبيل الله، وإذا لم يحضر تساهلاً خاصة مع حاجة هذا التجمع إليه دخل في من خذل الدين، ولم يضع نعمة الله موضعها، وكان من المسؤولين.
لا تعش لنفسك فقط لأنك لا تعيش بجهدك فحسب.
هكذا قال أهل البيت عليهم السلام:
تجدون في العدد (188) السنة الرابعة من أعداد الحكمة الصفحة 5 جواباً لسماحة آية الله العظمى الشيخ الوحيد الخراساني (مدّ ظله) على سؤال وجّه إليه حول كيفية التعامل مع أبناء المذاهب الأخرى أنقله بنصّه كما جاء في الحكمة: (بسمه تعالى، كل من يشهد بوحدانية الله تبارك وتعالى، ويشهد برسالة خاتم الأنبياء صلّى الله عليه وآله، فهو مسلم، ونفسه وعرضه وماله كنفس ومال وعرض أتباع المذهب الجعفري مصون ومحترم ومحقون.
وواجبكم الشرعي أن تعاشروا كلّ من يشهد بالشهادتين – ولو اعتبركم كفّاراً – بالمعروف، وتتعاملوا معهم بالتي هي أحسن، كوإذا فرض أن يتعاملوا معكم بالباطل، فلا بد أن تلتزموا أخلاق أئمتنا، ولا تزيغوا عن طريق الحقّ والعدل الذي ألزمونا اتباعه.
ولو مرض منهم أحد فلا بد من عيادته وزيارته، ولو مات منهم ميِّت حضرتم جنازته وشيعتموه، ولو قصدكم بحاجة لبَّيتم وقضيتم حاجته، ولا بد أن تسلِّموا الحكم لله تعالى الذي يقول {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ(11) قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}(12)، وأن تعملوا بقوله تعالى{وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِناً}(13) والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته”.
1. هذه الفتوى الدينية، والتوجيه الواعي صادران من فقيه متضلع من أبرز فقهاء الطائفة اليوم. ولم يأت صدورهما عن اضطرار، أو إكراه، أو تقية لوضوح انتفاء كل ذلك، ووصول سؤال إلى سماحته بهذا الشأن لا يلزمه أن يجيب عليه جوابا يضطره إلى أن يقول ما لا يريد. كان يمكن له أن يسكت، لا يجيب على السؤال، أو يستدعي صاحب السؤال أن ليجيبه جوابا شفهيا، فهو ليس أمام ظرف اضطراري يجعله يقول كلاما قائما على التقية.
فهو كلام جدّي كل الجدية.
2. مضامين الفتوى واضحة جليّة لا غبار عليها، وليس فيها شيء من اللف والدوران، ولا ينقصه اعتماد الصراحة.
3. من مضمون الفتوى أن الإسلام الذي تترتب عليه حقوق المسلم على المسلم من احترام نفسه وعرضه وماله قوامه هذان الأمران الشهادة بوحدانية الله تبارك وتعالى، وبرسالة خاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وآله، وهي شهادة ظاهرية ينطق بها اللسان، أما التصديق القلبي فمتروك أمره إلى علم الله من غير أن يتأثر ترتب الحقوق المذكورة بواقع ما في القلب. هذه الحقوق تترتب على النطق بالشهادتين، وليس على تصديق القلب الذي لا يعلم به إلا الله سبحانه وتعالى.
4. تأكيداً وتشديداً على حق المسلم من المذاهب المختلفة أضافت الفتوى لابدية الالتزام بالتعامل الطيب والأخلاق الكريمة معه أخذاً بمذهب أئمة أهل البيت عليهم السلام وأخلاقهم، موضحة أن هذا هو طريق الحق والعدل الذي ألزموا شيعتهم به بعد إلزام الله تبارك وتعالى للناس به. وهذه المعاشرة بالمعروف مع المسلمين من كل المذاهب، والتعامل بالتي هي أحسن عمَّمتها الفتوى نصّاً حتى مع تكفير الآخر لك وتعامله مع تابع المذهب الجعفري بالباطل.
وهذا لا يمنع من بيان الحقّ، ودفع الشبهة عند الطرف الآخر عن المذهب، والدعوة بالتي هي أحسن، ورد الضرر عن النفس.
5. وإذا كان الطرف الآخر يقول بتكفير المتابع لمذهب أهل البيت عليهم السلام فهذا حسب الفتوى لا يبرر لك أن تكفّره ما دام يقول بالشهادتين ولم يأت منه ما يُعرف منه تماماً تخلّيه عنهما لما في هذا التكفير لو ارتكبته من مخالفة للآيتين الشريفتين.
6. فتوى عدم تكفير المسلم من أي مذهب وهو الناطق بالشهادتين تمثل حكماً أولياً لا ثانويا قائما على موضوع غير موضوع مؤدي الشهادتين من مثل موضوع التقية عن خوف أو مداراة وحفاظ على وحدة المسلمين، الفتوى ليست صادرة بروح التقية أو بروح الحفاظ على وحدة المسلمين، هذا حكم أصليٌّ من أحكام القرآن والسنة ليس راجعا للظروف الطارئة، وغير مربوط بها، إنه حكم سار في كل الأحوال والظروف بدلالة القرآن الكريم، وسيرة النبي صلى الله عليه وآله وأحاديث المعصومين عليهم السلام.
وبذلك يتبين أن هذه الفتوى هي فتوى مدرسة أهل البيت عليهم السلام، وهي فتوى ثابتة مطلقا، وليست فتوى فقيه كبير واحد أو مجموعة فقهاء من فقهاء مدرستهم عليهم السلام.
7. إن الكلام في الإسلام الذي تحفظ به الدماء والأعراض والأموال، ويقوم عليه مثل التوارث هو كلام عن الإسلام العام. وكل المذاهب تتحدث من بعد ذلك عن الإسلام الخاص الأعلى درجة والذي تُستحقّ به الجنة ويتفاوت المؤمنون – من مسلمين وكتابيين في وقت اعتبار كتبهم – في درجاتها بحسب تفاوت درجاته، ويؤخذ في الإسلام الخاص التصديق بالقلب، وخضوع الجوانح، والعمل بالجوارح. والإقرار بالإمامة والتصديق بها راجع إلى الإسلام الخاص الذي يُختلف على شروطه بين المذاهب لا الإسلام العام الذي تقوم عليه حقوق التعامل بين المسلمين في الدنيا.
وعلى كل مسلم أن يبذل قصارى جهده في التعرف على ما يرضي الله سبحانه وينجيه يوم القيامة، ويرفع درجته، وهذه مسؤولية يتحملها الإنسان بين يدي ربّه. وما يملكه أحد المسلمين للآخر أن يطرح عليه ما يراه حقّاً إذا قبل منه، أو ينشره للعموم بلغة علمية بعيدة عن التشنج والتوتر لو كان يرى في ذلك ما يقنع الآخر بمذهبه أو يرجو له الاقتناع، أو لإظهار ما تعيَّن عنده أنه الحق الذي يمكن أن يستفيد منه الغير اليوم أو غداً. أما المهاترات والتشنجات والتوترات فهي أمر مرفوض كل الرفض في مذهبنا.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على محمد وآل محمد، وافعل بنا ما أنت أهله، اللهم خلّصنا من أمراضنا وأسقامنا وهمومنا وكروبنا، وأنقذنا من كل سوء، وأدفع عنا كل شر من شر الدنيا والآخرة، ولقّنا خيرهما، واجعلنا في درعك الحصينة التي تجعل فيها من تريد. اللهم انصر من نصر الدين، واخذل من خذل الدين، وردّ كيد الظالمين والمفسدين عن عبادك المؤمنين والمسلمين يا من هو على كل شيء قدير، وبالإجابة حقيق جدير.
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 – نهج البلاغة ج4 ص91.
2 – 23/ الشورى.
3 – كنزل العمال ج16 110.
4 – بحار الأنوار ج75 ص139.
5 – بحار الأنوار ج68 ص242.
6 – المصدر ص243.
7 – بحار الأنوار ج75 ص199. والحديث عن الإمام الصادق عليه السلام.
8 – وإحسان العمل بأن يأتي تماما على حدّ الشريعة، ويأتي خالصا لله تبارك وتعالى، وأن يأتي على أكبر قدر من بذل الجهد والإتقان. هذا التقصد في تحسين العمل، في تجويد العمل، في إتقان العمل من أجل الله تبارك وتعالى يرتفع بالمضاعفة من عشر إلى سبعمائة.
9 – 261/ البقرة.
10 – بحار الأنوار ج68 ص247.
11 – يعني بغضهم الشديد لكم لا يحملكم على الانحدار عن صراط العدل. لا يحملكم البغض الشديد من قبل أحد المسلمين على أن تعاملوها بغير الطريقة التي أمر الله عز وجل بها.
12 – 8/ المائدة.
13 – 94/ النساء.

زر الذهاب إلى الأعلى