خطبة الجمعة (346) 22 ذو القعدة 1429هـ – 21 نوفمبر 2008م

مواضيع الخطبة:

*الأخوّة الإيمانية *أمريكا أوباما وبوش: *أنظمة سياسية بلا هوية: *أهو الاستكبار؟

ما يهم العالم من الأمر المتعلق بأمريكا وهي الدولة القويّة ماديّاً المؤثرة على أوضاع الأض سلبا وإيجابا هو أن تكون عاقلة ولو بمقدار لا مجنونة، أن لا تقف بالدرجة التي عرفت بها مع الظالم ضد المظلوم.

الخطبة الأولى

الحمد لله الذي قضى بالعدل وأوجبه، وتفضّل بالإحسان ودعا عباده إليه، وحبَّب إليهم الاجتماع على الحقِّ، والتعاونَ على الخير، والأمرَ به، والنهيَ عن الشرّ، والأخذَ بما فيه المحبَّة بينهم، والسعادة لهم مما فيه رضاه، ونيل الكرامة لديه.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليماً كثيراً كثيراً.
أوصيكم عباد الله ونفسي الغافلة بتقوى الله الذي لا غنى لنفس عن رحمته طرفة عين، ولا تقوم السماوات والأرض لغضبه، ولا يعزب عن علمه شيء، ولا يضيع عنده مثقال ذرة، ولا أقلُ من ذلك من عمل صالح يأتيه عبد من عباده في إعلان أو إسرار، وفي ليل أو نهار، ولا مفرّ من قضائه، ولا مهرب من عقوبته.
اللهم صلّ وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله خاتم النبيين والمرسلين، وعلى آله الطيبين الطاهرين.
اللهم إنّه لا حول ولا قوة إلا بك، ولا توفيق للطاعة، ولا نجاة من المعصية إلا برحمتك، ولا هدى إلاّ من عندك، ولا ينفع شيء عبداً حلّ عليه سخطُك، وحكمت عليه بعقوبتك، فارزقنا توفيق الطاعة، وبُعد المعصية بمنّك، ولا تخرجنا من هدى إلى ضلال، ومن بصيرة إلى عمى، ومن حقّ إلى باطل، وزدنا من هداك، وضاعف لنا البصيرة، وقوّنا في الحقِّ، ونجّنا من سخطك، ولا تجعلنا من أهل عقوبتك يا عفوُّ يا كريم، يا غفور يا رحيم.
أما بعد أيها الأعزاء المجتمعون على مائدة الإسلام المعطاء؛ مائدة صلاة الجمعة وذكر الله العظيم فإن للإسلام نظاماً اجتماعيّاً قويَّ الأساس، عاليَ البناء، عميمَ الخير، ثابتاً على الزمن لا يبلى، قائماً على أصول خلقية كريمة ضاربة الجذور في نفس الإنسان، مهتدياً بهدى التوحيد آخذاً بمبدأ العدل والإحسان، والتعاون على البرّ والتقوى، والنصيحة في السرّ والعلن، مقدِّراً مكانة الإنسان، مستهدفاً تمتين الأواصر الإنسانية النبيلة، عاملاً على الابتعاد بحياة المجتمعات عن حالات الفوضى والتفكك والشتات، والكيد بالباطل، والمكر السيء، والإضرار بالآخر، مستفيدا من علاقات النسب والمصاهرة والإخاء الإنساني، وعلاقات المكان والزمان، والصداقة والمصاحبة، والتعارف في توظيف دقيق هادف مثمر كريم يعتمد التشريعَ لأحكام إلزاميَّة، وسنن وآداب ووصايا، والاستثارةَ لمنابت الخير، وأصولِ الخلق الكريم وحبِّ الفضل والفضيلة في النفس الإنسانية، والتربيةَ الصالحة الهادفة وسائل على طريق الرقيّ بنمط العلاقات المريحة النافعة بين الإنسان وأخيه الإنسان مما يساعد هذا المخلوق فرداً ومجتمعاً على الارتفاع بمستوى حياته بكاملها.
وإنَّ رابطة الإيمان هي أقدس الروابط بين العباد في الإسلام، وإنّ الأخوّة الإيمانية أطهر الأخوات وأزكاها وأبعدها عن التصنّع الكاذب، والمجاملات الخادعة، وهي سبيل من السبل المعينة على الهدى، والاستقامة، وطلب الصلاح، وتقوم على الاختيار الواعي، والنظر السديد، ويدفع إليها هُفوُّ النفس الطاهرة إلى جمال الطهر في النفس الأخرى، وتعانق الرُّوحين من حيث إشراقة الإيمان التي تغنيان بها، وتتشوّفان إلى مزيد.
وقد حثّت الأحاديث على طلب هذه الأخوَّة، وشدَّدت على قيمتها الخاصَّة، والاعتزاز بها، وعدم التفريط فيها تأكيداً على رابطة الإيمان، وإعطائها حضوراً منتشرا قويّا فاعلا في حياة الناس لتكون للإيمان كلمتُه العليا، وتنطبع أجواء المجتمع الإنساني بطابع العلاقات الإيمانيّة المشرقة المشِعَّة الصادقة التي هي الأقدر على توحيد النّاس، وإذابة الفوارق، ورفع الحواجز، والدفع إلى الخير، والنأي بالإنسان عن الشر.
وقد قرَّر القرآن الكريم هذه الأخوَّة وثبَّتها، وأوجب الحفاظ عليها، ومراعاةَ حقِّها، وحذّر من الانحدار عن صراط التقوى بإهمال شأن هذه الأخوّة، والتهاون في حرمتها بقوله تعالى {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}(1).
وهذه جملة من نصوص الحديث في موضوع الأخوَّة الإيمانية بالخصوص، والأخوّة الصالحة بصورة عامة فلنستمع إليها لما فيها من هدى ونور:
عن النبي صلى الله عليه وآله:”… ومن جدد أخاً في الإسلام بنى الله له برجاً في الجنّة…”(2).
هناك أخوّة مستجدّة لمسلم سابق، وهناك أخ وأخوّة مستجدّان حيث يسعى المسلم لإدخال فرد من أفراد المجتمع الإنساني في جنّة الإيمان، ويقيم الأخوّة الإيمانية الخاصّة بينهما. والصورتان كلّ منهما تعني إضافة في بناء المجتمع الإسلامي الصالح، وتعطي قوّة لهذا المجتمع، ولذلك يكون الجزاء برجاً في الجنّة، وهو برج يحمي من كلّ سوء يمسّ الروح، يمسّ القلب، يمسّ النفس، يمسّ الإرادة، يمسّ البدن، يمسّ سعادة الإنسان.
ولأن الإسلام يريد الإنسان فردا على إسلام قويم، كما يريد أن يكون مجتمع إنساني عاملٌ لله، كلّ أوضاعه عادلة، فإنه يحرص على أن لا تبقى مسلماً فرداً، عليك أن تطلب دائماً بناء المجتمع الإسلامي ولو بأن تضع الحجر الأولى لهذا البناء الشامخ بأن تكسب أخوّة الإنسان المؤمن، وتقيم وحدة اجتماعية أولية تنطلق بقوّة وفاعلية لبناء المجتمع الإسلامي الكبير.
الأخوّة الإيمانية في الإسلام للبناء، للتطوير، للتفاعل الإيجابي على المستوى الفكري والروحي والعملي، وتبادل العطاءات على المستوى الإيماني والنفسي وكل مستوى نافع من أجل التقدّم بمسيرة الحياة.
“النظر إلى الأخ في الله عزّ وجلّ تَوَدُّه عبادة”(3).
… نظرك لأخيك المؤمن يُثبّت العلاقة بينكما، ويدفع بها إلى الأمام، ولأنها نظرة الحبّ الخالص التي تقوم على طهر الإيمان، والصفاء والصدق، فهي قادرة على صنع المشاعر الكريمة في نفس الآخر، وعلى أن تنبت مشاعر حبّ مماثلة لابد أن تطفح في تعامل الآخر معك.
لا يكفي أن تنشئ أخوة مع الطرف الآخر من المؤمنين، وإنما يُراد لك أن ترعى هذه الأخوة وحقوقها، وأن تغذّيها وتسقيها من أجل أن تترعرع شجرتها. وإنه يراد لك أن تقوي هذه العلاقة، أن تكون شجرة وارفة الظل، ومثالاً حيّاً للعلاقات الإنسانية الكريمة من أجل أن ينتشر النموذج الطيّب الرائع لهذه العلاقات في المجتمع المؤمن ليكون أقوى مجتمع، وأطهر مجتمع، والمجتمع النموذجي الذي يشعّ بالخير على كل العالم.
“استكثروا من الإخوان فإن لكل مؤمن شفاعة يوم القيامة”(4).
وهذا أثر أخروي يستحق الحرص الشديد من المؤمن عليه على أن الشفاعة وحتّى أكبر شفاعة تحتاج إلى قابلية محل واستعداداً وأهليّة في المشفوع له؛ وإلا فمن أغضب الله عزّ وجلّ غضباً يخرجه عن رحمته فإن الشفاعة لا تجدي معه.
“رب أخٍ لك لم تلده أمك”(5).
ربما كان أصدقَ أخوّةً من أخيك من صلب أبيك، ورحم أمك، يكون لك عند كل شدة، يحفظ عيبك، يستر عورتك، يذود عنك، يسرُّك لقاؤه، لا يبخل عليك بشيء إلا ما أمر الله عزّ وجلّ بالبخل به وهو العرض والدين. والأخوّة الإيمانية إذا صدقت عند الإثنين، وتحقّقت بينهما رابطة الإيمان فعلاً كانت القاعدة والأساس المتين الذي تقوم عليه المعاملات الصالحة والتفاني في سبيل الآخر.
لقد كان الواحد من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله عند لحظة الاستشهاد وهو في أشد حالات العطش يقدّم صاحبه على نفسه بالماء.
“الجفاء يفسد الإخاء”(6). والكلمة واضحة.
“شرّ الإخوان من تُكلّف له”(7).
العلاقة الإيمانية ليست علاقة دنيويات، ومطامع مادية، إنما هي علاقة روحين عشقت كل منهما الأخرى، واندغمت بها، ورأت فيها جمالاً يجتذبها.
فلذلك وإن كان الأخ المؤمن أسخى الناس على أخيه بماله ودنياه، إلا أن كل طرف منهما ليس له مطمع ماديٌّ في صاحبه.
“أعجز الناس من عجز عن اكتساب الإخوان وأعجز منه من ضيع من ظفر به منهم”(8).
الأخ في الله كلمته تصحيحية هادية، له إشعاعه، له نصحه، له نضجه، له إخلاصه، فهو كنز كبير من المعنويات، وكنز كبير من العطاءات الثرّة الخالدة، فأنت تضيّع بتضييعه كنزاً هو أغلى وأثمن من كنوز المادَّة..
“سلوا القلوب عن المودات فإنها شواهد لا تقبل الرِّشا”(9).
تختبر أخاك المؤمن في حبه لك بما تجده من ودّه في نفسك، فبمقدار ما تجد من ودٍّ لصاحبك فإن صاحبك له ودٌّ لك بهذا المقدار أو أزيد، أما الرشوة بالكلمة المجاملة، ورشوة العطية الكاذبة فإن قلب المؤمن لا ينغش بها.
“خير إخوانك من عنَّفك في طاعة الله سبحانه”(10).
وأكبر مكسب يترتب على أخوّة الإيمان أن تهديني وأهديك، أن تنصحني وأنصحك، أن تصحح لي وأصحح لك من غير تشويه سمعة، من غير إيذاء، من غير تعالٍ، من غير إهانة.
“المؤمن أخو المؤمن عينُه ودليلُه لا يخونه ولا يظلمه ولا يغشه، ولا يَعِدُه عدة فيخلفُه”(11).
فالمؤمن يقوم مقام أخيه المؤمن في الذود عنه، وحماية شخصيته، ودفع كلمة السوء عنه، وتصحيح الشبهة التي تحوم عند البعض حوله، يده يده، تدفع عنه، وعينه عينه حيث يحرس أوضاعه وشخصيته، وهو دليله الدليل الصادق الأمين المخلص الذي لا تصدر منه كلمة إلا عن إخلاص، ولا مشورة إلا عن صدق.
ثم إنه إذا وعد هذا المؤمن أخاه المؤمن لم يخلفه ما أمكنه الوفاء، وما قيمة كل الأشياء أشياءِ الدنيا مما أذن الله عز وجل وأيُّ شيء منها يعزّ على المؤمن الحق أن يبذله لأخيه في الإيمان؟!
“من لم يرغب في الاستكثار من الإخوان ابتلي بالخسران”(12).
إذا كان المؤمن كنزا وفيرا، ثمينا غاليا فكيف لا يكون الزهد فيه زهدا في الخير وهو من الزهد الخسارة؟!
“لا تُذهب الحشمة بينك وبين أخيك وأبق منها(13)، فإن ذهاب الحشمة ذهاب الحياء وبقاء الحشمة بقاء المودة”(14).
أبق في تصرفك، في انطلاقتك مع أخيك، في ترسلك في التعامل معه ما يحفظ بينكما الحياء الذي تذهب بالشرف خسارته.
“ملعون ملعون رجل يبدؤه أخوه بالصلح فلم يصالحه”(15).
وهو صلح ليس على حساب دين الله، وليس على حساب النقاء الإسلامي، صلحٌ يقوم على التنازل عن الذات ولا يقوم على التنازل عن الدين.
اللهم صل وسلم على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم اهدنا فيمن هديت، وتولّنا فيمن توليت، وبارك لنا فيما أعطيت، وقنا شر ما قضيت، واجعلنا من المتقين الأخيار، الصالحين الأبرار، والناجين من النار، الفائزين برضوانك والجنّة يا متفضّل يا محسن يا جواد يا كريم.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ، وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً، فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً}

الخطبة الثانية

الحمد لله الذي مِنَنُه ابتداء، وعفوُهُ تفضّل، وعقوبته عدل، وقضاؤه حقّ، وإحسانه عميم، وثوابه عظيم، يشكر من عباده قليل طاعتهم، ويغفر الكثير من ذنوبهم، لا يُبلغ شكره، ولا تُعدُّ نعمه، ولا يحاط بإحسانه.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وزادهم تحية وبركة وسلاماً.
عباد الله علينا بتقوى الله التي هي حقّ له على العباد، وهي معراجهم إلى رضوانه، وفيها النجاة والفرج والمخرج؛ فعن النبي صلى الله عليه وآله:”لو أن السماوات والأرض كانتا رتقا على عبد ثم اتقى الله لجعل الله له منهما فرجا ومخرجا”(16).
تنسدّ كل طرق السماء، وكل طرق الأرض، ولا يبقى أي منفذ، وتنفتح أبواب السماء والأرض ويكون روحٌ ومخرجٌ إذا اتقى العبد ربّه. وعن الإمام علي عليه السلام:”من اتّقى الله سبحانه جعل له من كلّ همٍّ فرجا، ومن كلّ ضيق مخرجا”(17) وهل يضيق أمرٌ على الله، وهل السماوات والأرض إلا بيده، وهل القلوب إلا ملكه، وهل يمتنع على قدرته شيء؟! ومن أين لغير الله أن يجد لنفسه أو غيره من كربٍ فرجا، ومن ضيق مخرجا؟!
اللهم ارزقنا التقوى وخيرَها وبركتها وهداها، وأسعدنا بها في الدنيا والآخرة يا كريم يا رحيم.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله خاتم النبيين والمرسلين، وعلى علي أمير المؤمنين وإمام المتقين، وعلى فاطمة الزهراء الصديقة الطاهرة المعصومة، وعلى الأئمة الهادين المعصومين حججك على عبادك، وأنوارك في بلادك: الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن المهدي المنتظر القائم.
اللهم صل على محمد وآل محمد، وعجل فرج ولي أمرك القائم المنتظر، وحفه بملائكتك المقرّبين، وأيّده بروح القدس يارب العالمين، واجعلنا من أنصاره في غيبته وحضوره برحمتك يا أرحم الراحمين.
عبدك وابن عبديك، الموالي له، الممهد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين وفقهم لمراضيك، وسدد خطاهم على طريقك.
أما بعد أيها الإخوة والأخوات الأعزاء فإلى هذه العناوين:
أمريكا أوباما وبوش:
ما يهم العالم من الأمر المتعلق بأمريكا وهي الدولة القويّة ماديّاً المؤثرة على أوضاع الأرض سلبا وإيجابا هو أن تكون عاقلة ولو بمقدار لا مجنونة، أن لا تقف بالدرجة التي عرفت بها مع الظالم ضد المظلوم، أن تقلّل من شرَه الإفساد للعالم، أن يخف دعمُها للحكومات المستعبدة لشعوبها، أن لا تتقطع نفسها حسرات إذا استطاع شعب أن يستردّ شيئا من حرّيته، أن لا تكون حربا دائمة على قِيَم السماء وعبادة الله تبارك وتعالى في الأرض، وأداة فتك للضمير الفطري الطاهر للإنسان، أن لا تكون المصدّر الأكبر للأخلاق الحيوانية الهابطة، أن تتراجع في مواجهتها لإنسانية الإنسان، وفي دورها المحموم المسعور في نشر الفتن وتأجيج الحروب العدوانية غير الأخلاقية وقيادتها، أن تتقدم في المسارات النافعة كلّها لا من أجل العدوان على الآخرين وتدمير حياتهم. نريد لأمريكا أن تتقدم ولكن لا أن تهلك العالم، أن تتصحح عن حقّ سمعتُها ولو بعض الشيء عند عقلاء العالم ومنصفيه والمستضعفين من أبنائه، أن تبحث عن نظام اقتصادي يُثريها ولا يُنهك اقتصادات العالم، ولا يهزّ أخلاقياته بعد أخلاقياتها.
لا يتوقع العالم من أمريكا أوباما أن تنقذه من مشكلاته وتحوّل دنياه إلى جنّة وشقاءه إلى نعيم، وأن تكون داعية الحقّ والعدل والأمن والسلام، والفاعلة له، ولكنه يطالب، وبعضه قد يأمل أن لا تكون أمريكا هذا الرجلِ أمريكا سلفه بوش للجور، للفساد، للحروب الظالمة، لدَعم الأنظمة المستبدّة، لمحاربة القيم الإلهية التي لا غنى لحياة الناس عنها، وأنها إذا لم تكن مع حقّ الشعوب في الحياة الحرَّة الملتزمة الكريمة أن لا تكون ضدّها وبالصورة الفظيعة التي تمارسها.
أنظمة سياسية بلا هوية:
هناك على مستوى التصور والافتراض أنظمة سياسية دينية صادقة، ودينية أخرى، وأنظمة أرضية تتفاوت على اشتراكها في استقلالها عن السماء منطلقا وفلسفة ومنهجا وهدفا في تكييف شرعيتها وأسلوب علاقتها مع شعوبها، ومدى سُلطويتها وإحكام قبضتها، والوسائل المعتمدة لبقاء هيمنتها، وإمكان مساءلتها ومحاسبتها.
وهذه الأنظمة الأرضية منها ما هو واضح الهُويَّة معروف الانتماء ومنها ما لا يكاد تكون له هوية محدّدة. وهذا الأخير هو أصعب الأنظمة على الشعوب، والمبتلى به منها من أشقى الشعوب وأتعبها بسببه.
هناك نظام يعلن إسلاميته، أو علمانيته، شيوعيّته أو رأسماليته، دكتاتوريته أو ديموقراطيته، ويبقى عملا عندما أعلنه عن نفسه، وتكون محاسبة المحكومين له على أساس من هويته المعلنة والملتزمة، وكذلك محاسبته وجزاؤه ومؤاخذته لمن يحكمهم.
ويكون خيار المحكومين في علاقتهم مع النظام الذي حدَّد هويته والتزم بها قائما على رؤية واضحة قبلوا به أو لم يقبلوا، تفاعلوا معه أو لم يتفاعلوا، صبروا عليه أو لم يصبروا، هادنوه أو قاوموه.
ويتعبك نظام يتعامل مع شعبه تعامل الأنظمة الدكتاتورية، ويرفع عن نفسه شعار الديموقراطية، ويأخذ بسياسة مناهضة للإسلام ولكنه يتبرقع بشيء من المظاهر الإسلامية، ويتنكر للعدل الإسلامي وللمساواة التي ينادي بها الإسلام، ويرفع شعار الإسلام في وجوه معارضيه ويتحدث عن طاعة أولي الأمر الواجبة على الشعوب تجاه حكوماتها، وينكر على الشيوعية تشدّدها ويمارس القبضة الحزبية الحديدية والقمع الشيوعي المبالغ فيه، ويعلن انتماءه إلى النظام الاقتصادي الحر ويصادر الحرية الاقتصادية وكلّ فرصها لفئات عريضة من المجتمع، ويتحدث لك إعلانه عن الآخرة ومشاريعُه للسياحة وغيرها تسحَقُ قيم الدين وتهرب بالعقول والمشاعر عن فكر الآخرة وحسّها ومثلها، وفي الوقت الذي ينادي فيه بشعار الحرية الدينية والتسامح الديني ويفتح الباب لممارسة الطقوس المسيحية واليهودية والوثنية يحارب شعائر مذهب حقّ من المذاهب الإسلامية ويخنق حرية دور العبادة ويطارد إنشاءها وعمارتها.
هذا النوع من الأنظمة يحاكم الناس وأوضاعهم استنادا إلى منطلقاته المتعارضة، ولا يَعدَمُ منطلقا من المنطلقات المتعددة لتثبيت الحجة على شعبه لأن كل المنطلقات، كل الأطروحات مفتوحة أمامه – كما يرى – على طريق هذا الاحتجاج: يحاكم العلماني على أساس الإسلام، والمؤمن بالإسلام على أساس العلمانية، ويرفع في وجه هذا شعار الحرية الشخصية، وفي وجه ذاك شعار التمسك بالدّين مثلاً، بينما لا يملك الشعب المحكوم لنظام من هذا الطراز أن يحاسبه على أساس من قاعدة منضبطة، فإن تحدثت معه عن الانفلات غير الأخلاقي مذكرا له بالإسلام قال لك هذه رجعية، وعقلية قديمة، وحالة انغلاق مزرية، وإذا أردت أن تحاسبه في السياسة على أساس ديموقراطي قال لك لنا ديننا وتقاليدنا وعاداتنا ولا نأخذ من الديموقراطية إلا ما وافق ذلك كلّه، فلا تعرف أن مثل هذا النظام رأسمالي أو اشتراكي أو إسلامي، ملكي وراثي منغلق أو ديموقراطي منفتح، هو أي شيء من هذه الأشياء أي طرح من هذه الطروحات إذا أراد أن يحجك، وهو الشيء الآخر بين كل الانتماءات والهويات حين تريد أن تحتج عليه. بشيء منها.
حقّاً إن هذا النوع من الأنظمة متلاعب بالشعوب، ومتعب لها، ومراوغ في تعامله معها، ولا يعطي بطبيعته فرصة للتفاهم لفقد الضابطة الواضحة المحددة التي يَرجع إليها في نمط حكمه للناس، والمدرسة التي ينتمي إليها.
هذا النوع من الأنظمة لابد له أن يحدد هويته وانتماءه المدرسي من ناحية سياسية وإلا كان لابد أن تسود العلاقة بينه وبين الشعوب التي يحكمها صفة الفوضى في غياب قاعدة محددة، ومدرسة معروفة للاحتكام في حالات الاختلاف.
أهو الاستكبار؟
كان المجلس النيابي يمارس طرح السؤال على بعض الوزراء فيما يختص بمشكلات ومواضع الغموض في وزارة هذا أو ذاك مما يظهر منه مخالفة القوانين، والخروج على متطلبات الوظيفة ومقتضيات الأمانة، ويحضر الوزير المجلس ليدلي بإجابته شفهيّاً أو يناقش في إجابته المكتوبة بصورة تنظمها اللائحة الداخلية للمجلس.
وقد جدَّ أن امتنع الوزراء عن حضور المجلس لهذه المناقشات وأصروا على تقديم إجابة مكتوبة ليغلق موضوع السؤال عند هذا الحدِّ، وفي ذلك إسقاط لأدنى صلاحية من صلاحيات المجلس والتي يقررها الدستور الذي تطوّق به الحكومة رقاب الناس، وتحتج به عليهم وإن كانوا غير راضين بطبيعة الاحتجاج وبالدستور نفسه قبل ذلك لعدم ولادته الصحيحة.
وأسئلة النواب التي دفعت الحكومة لاتخاذ هذا الموقف المخالف للدستور، والذي يخل بصلب العلاقة بينها وبين المجلس تتعلق بموضوعات حساسة مثل التدقيق في أراضي الدولة وغياب مساحات كبيرة منها، ومواضع الخلل في إنفاق الميزانية، وميزانية الديوان الملكي، إلخ، والامتناع عن حضور المجلس، واستقبال مناقشة النواب في مورد الأسئلة والإجابة عليها هو لأمرين مجتمعين أو لأحدهما على الأقل، وكل الفروض تعني أمراً كبيراً ومصيبة فادحة.
والأمران هما:
1. أن الوزراء من طبقة النبلاء والسادة، والنواب من طبقة المنبوذين والعبيد، وأن رح الاستعلاء والاستكبار تمنع السادة الوزراء من الصبر على الدخول في مناقشة مع طبقة العبيد المنبوذين. وإذا كان كذلك فلماذا يقبل أي وزير دخول الوزارة في ظل مادة دستورية تفرض عليه أن يسمع لسؤال النائب ويجيب عليه ويتلقى ملاحظة النائب على إجابته للمرة والمرتين؟ ولماذا يُشكَّل مجلس نيابي من طبقة دونية يؤذي السادة الوزراء، ويتطاول عليهم حتى يطالبهم بأن تجمعهم معه جلسات مشتركة، ويخضعهم للمساءلة؟!
2. أن الدخول في مناقشات تتعلق بهذه الموضوعات من شأنه أن يكشف عن فضائح من النوع الثقيل المحرج بما يعرّيه من سوءات كبيرة فاحشة.
والقول هنا أن الحكومة التي تفقد صبرها أمام مجلس مسلوب الصلاحيات الجدّية كيف بها أمام مجلس كامل الصلاحيات؟!
والسؤال المتعلق بصعوبة الجمع والتعامل بين الحكومة ومجلس مسلوب الصلاحيات الجدية فضلا عما لو كان كامل الصلاحيات هل هو من خلل في تشريع المجالس النيابية واتخاذها مؤسسة رسمية لابد منها في النظام الديموقراطي أو من قصور في الحكومة وتقصير تخشى بسببه المحاسبة؟
لا أحد يختار الفرض الأول، والحكومة نفسها لا تستطيع ادعاءه.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله خاتم النبيين والمرسلين وعلى آله الطيبين الطاهرين، اللهم اكفنا ما كفيت المرحومين من عبادك سوء الدُّنيا والآخرة، ولقّنا ما لقّيتهم من خير الدنيا والآخرة، اللهم كثّر قلّتنا، واجمع شملنا، وارتق فتقنا، ووحّد كلمتنا، وقوّ شوكتنا، وانصرنا على من ظلمنا، وارزقنا هدى لا نضلّ معه أبدا، ونصرا لا تُعقبه هزيمة، وعزّاً لا يخالطه ذُلّ لغير وجهك الكريم، وغنى لا يذهب به فقر يا أغنى من كل غني، ويا أقوى من كل قوي، ويا أعز من كل عزيز يا رحمن يا رحيم يا جواد يا كريم.
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}

___________________________
1 – 10/ الحجرات.
2 – بحار الأنوار ج72 ص260.
3 – ميزان الحكمة ج1 ص40.
4 – المصدر ص39.
5 – المصدر ص38.
6 – غرر الحكم ص91.
7 – ميزان الحكمة ج1 ص47.
8 – نهج البلاغة ج4 ص4.
9 – ميزان الحكمة ج1 ص47.
10 – المصدر ص46.
11 – بحار الأنوار ج71 ص268.
12 – ميزان الحكمة ج1 ص39.
13 – هناك ترسل يحدث بين الأخوين المؤمنين، ولكنه يبقى في حدود الأدب، والخلق، والوقار، والاتزان من غير أن يقود هذا الترسل إلى حالة من الانهيار في البعد الخلقي وعلى مستوى الحياء. وما الأثر إذا ذهب الحياء؟ طبعا هو خسارة شخصية كبرى فإن الحياء عصمة عند الإنسان من كثير من الذنوب، وإلى جانب ذلك فإن سفح ماء الحياء في العلاقة بين الأخوين يؤدي إلى فسادها. والذي تبذله ليس هو الحياء الذي لا يجوز بذله، والحشمة وهي بمعنى الحياء استعملت في الحديث بمعنى التبسط في التصرف والمعاملة.
14 – ميزان الحكمة ج1 ص39.
15 – بحار الأنوار ج71 ص236.
16 – التفسير المعين ص568 عن البحار ج70 ص285.
17 – ميزان الحكمة ج4 ص3637.

 

زر الذهاب إلى الأعلى