خطبة الجمعة (343) 1 ذو القعدة 1429هـ 31 أكتوبر 2008م

مواضيع الخطبة

*الإنسان العاقل *فتن وآيات *إلى أين اتجاه السياسة عندنا؟ *الاتفاقية الأمريكية العراقية

ما يُتمنى من الشعب العراقي بكل أحراره وغياراه، ويتوقع له، ويتوجب عليه وعلى حكومته أن يرفض أي اتفاقية تذلّ الإسلام وتذلّه، وتسخّره للأغراض الاستعمارية الدنيئة وتجعله رأس حربة في قلب محيطه وأمّته، وتعطي للأمريكي اليد الطولى على أرضه وثروته وإنسانه وأمنه. فيا أباة العراق وأسوده لا تلينوا في الأمر، ولا تستكينوا والله معكم وهو الناصر، وإنه لهو القوي العزيز.

الخطبة الأولى

الحمد لله الذي مَنَّ على الإنسان بمنَّةِ العقل العارف وأكرمه بها، وبه سبحانه كان الدليل عليه، والهادي لعبادته، وأرسل رسلاً مستنطقة للعقل، ومحتجَّة به، ومشيرة إليه، وأنزل كتباً هادية ومذكّرة به، وملتقية معه، ومؤازرة له، ومستنهضة لقواه، باعثة لمكنونه، مرتفعة بمستواه.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليماً كثيراً كثيراً.
أوصيكم عباد الله ونفسي القاصرة المقصِّرة بتقوى الله، ومجاهدةَ النفس على الاستقامة بعد الإيمان على طريقه، والعمل بطاعته، وتجنّب معصيته؛ فلا أولى من طاعة الخالق المالك الرازق، ومن إليه مرجع العباد، وكلُّ شيء صائر إليه، ولا أولى من تجنب معصيته، ولا أقبح في عقل ولا وجدان ولا عرف من مخالفة أمر الله، وانتهاك نهيه.
وإذا كان إحسان الوالدين يمنع في العقل والعرف من الاستخفاف بطاعتهما، ويقبّح في نظرهما مضادتهما فكيف بإحسان الله الذي لا يبلغه إحسان، وكل إحسان راجع إليه، وهو من الخالق الكامل الذي لا يعدله مخلوق؟!
يا محسن اعف عنّا نحن المسيئين من عبيدك وإمائك، وخذ بيدنا إلى طاعتك، واصرفنا عن معصيتك، وأحسن طاعتنا لك، وأخلص نيتنا في عبادتك، وأصدق إيماننا وثقتنا بك، وتوكّلنا عليك. اللهم واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين ووالدينا وأرحامنا ومن كان له حق خاص علينا منهم وارزقنا خير الدنيا والآخرة، وجنّبنا شرّهما، وصل على محمد وآل محمد، وارفع درجتهم عندك، وزدهم إكراماً من إكرامك، وفضلاً من فضلك فوق ما رزقتهم من جزيل عطائك يا أرحم الراحمين، ويا أكرم الأكرمين.
أما بعد أيها الحضور المؤمنون والمؤمنات الأعزاء:
فإن الإنسان كلّما أخذ بالعقل الفطري الذي وهبه الله لنوعه، وما انبنى عليه صحيحاً دلّه ذلك على الدّين القويم، وكلّما كان أكثر تفكّراً وتفهّماً وتعقّلاً كان أقرب إلى الاستقامة، وعلى طريق مصلحته الكبرى والغاية الأسمى لوجوده، وكلّما عمّ هذا التفكّر والتفهّم والتعقّل في صفوف الناس تحقّقت لهم فرص الحياة المتقدّمة الراقية الهانئة الكريمة، ونأوا بمجتمعاتهم عن المنزلقات، وحين تجمح بهم العواطف، وتستبدُّ بحياتهم الأهواء، وتسود أجواءهم الانفعالات يأتي كلُّ ما سبق على العكس، وتضطرب الحياة وتتردّى، وتضل بالناس السبل.
ومما جاء في العقل ما عن النبي صلّى الله عليه وآله عن الله تبارك وتعالى:”وعزّتي وجلالي ما خلقت خلقاً أعظم منك، ولا أطوع منك، بك أبدأ، وبك أعيد، لك الثواب وعليك العقاب”(1).
والحديث دال على أن الحياة المحكومة للعقل حياة فرد أو مجتمع صغر أو كبر لا تكون إلا حياة عابدة لله، مستقيمة على صراطه، وأن مفارقة خطّ الله، ومعصيتَه إنما تعني حالة ضلال، وغياب للعقل الفطري النوعي الكريم، ووضعية التعقّل الصحيح.
ومن عقل استقام رغم صعوبة الطريق، ولم يركبه الهوى وما كان له في حياته مكان، ولم يعظّم الدّنيا ولم يرها شيئاً إلاّ أن تثمر رضوان الله عزّ وجلّ، وتُكسب الآخرة، ولم يفارق الحقّ وإن ثقل، واكتسب الخلق الحميد والصفات الكريمة؛ فقد جاء عن علي عليه السلام في هذا كلّه:
“ثمرة العقل الاستقامة”(2)، “ثمرة العقل مقت الدنيا، وقمع الهوى”(3)، “ثمرة العقل لزوم الحق”(4)، “اَلعَقْلُ شَجَرَةٌ ، ثَمَرُها السَّخاءُ وَالحَياءُ”(5)، “العقل الكامل قاهرٌ للطبع السوء”(6)، “كسب العقل كفُّ الأذى”(7).
وقد جاء عن صفة أعقل الناس أحاديث عنهم عليهم السلام نقف على هذه الطائفة منها:
من هو أعقل الناس؟
1. عن النبي صلّى الله عليه وآله:”ألا وإن أعقل الناس عبدٌ عرف ربّه فأطاعه، وعرف عدوه فعصاه، وعرف إقامته فأصلحها، وعرف سرعة رحيله فتزوّد لها”(8).
ليس عقلا ذاك الذي يعمى عن الله عزّ وجلّ، وليس العاقل والحكيم من عرف الله ولم تأخذ به معرفته إلى طاعته سبحانه. تُختبر العقول في تجارب الحياة ومختبراتها على مستويات، إلا أن الاختبار الأكبر للعقل في هذه الحياة هو أن يطيع العبد ربّه أو لا يطيعه. فالأعمى أعمى البصر الذي لا يرى الشمس كيف أقول عنه بأنه مبصرٌ؟! والأعمى عن نور الله الذي لا ذرّة في الأرض ولا في السماء إلا وهي قائمة به ومن عطائه كيف أقول عن العقل الذي لا يراه وهو النور العام الذي يملأ الكون كلّه ولا نور إلا منه بأن صاحبه عاقل!
من هو العدو؟ الشيطان، جند الشيطان. حين يعادي الإنسان نفسه من أجل عدوّه، كيف تقول عنه بأنه عاقل! من لم يعادِ الشيطان، وجند الشيطان، يكون المعين على نفسه، وكيف يُعدُ من أعان على نفسه عاقلاً فضلا عن كونه أعقل الناس؟!
فأكبر كبير بعلمه وخبرته، وذكائه اللامع إذا صادق الشيطان وعادى الله تبارك وتعالى فهو ليس بعاقل.
“وعرف إقامته فأصحلها” أنا مسافر يومين أبحث عن أضخم الفنادق، وأنظف البيئات، ويكون همّي الأكبر أن أعثر على المكان المناسب، أما وأنا في وطني الذي أعيش فيه ستين أو ثمانين سنة فلا أعير مسألة السكن والمسكن أي اهتمام هل عندي عقل؟! صبّ الاهتمام على حياة يومين، وإهمال عمر ستين سنة، وثمانين سنة لا يعني عقلاً أبداً. وماذا تساوي دنيانا من أخرانا؟ واحد على بليون؟! واحد على ترليون؟! واحد على آلاف الترليونات؟! لا تساوي شيئاً. ماذا يساوي عمر محدود من الأبد؟! فحين لا يهديني عقلي أن أهتمّ بالآخرة، وأعمى عنها بأموال الدنيا وبريقها وزخرفها فهل أُعدّ عاقلاً؟!
“وعرف سرعة رحيله فتزوّد لها” أنا لا أدري متى أغادر هذه الحياة، أأُكمل هذه الخطبة أو لا أُكمل؟ لا أدري. أأسترجع نفسا آخر أو لا أسترجع؟ لا أدري. فإذا لم يكن لي العقل الذي أرى به الآخرة، وإمكان سرعة اللحاق بها فأنا لست بعاقل.
“أعقل النّاس محسن خائف، وأجهلهم مسيء آمن”(9).
إنسان محسن في كل أقواله وأعماله، متبع لله، فكيف يخاف؟ يخاف بأنه ليست له النفس التي يأمنها، وليست له القدرة التي يفي بها حقّ الله، فمن هنا وهناك كان له أن يخاف وهو محسن.
مقابله مسيء مخالف لله، مجترئ عليه، ومع ذلك لا يدخل قلبه أي خوف، فهو فاقد للعقل، وعلى أقل تقدير هو غافل، وفي سبات، وتحت التخدير، ويستولي عليه جهل عميق. مسيء مفرِّط في جنب الله ويمكن أن يكون رحيله اللحظة؛ ومع ذلك يأمن عقوبة الله، وأخذ الله، وبطش الله؟! أترى عاقلاً لا يفرّ من النار؟! أترى عاقلا لا يفر من الأسد العاجز عن مواجهته؟! أترى عاقلا يهوي على رأسه السيف ولا يعدل غروراً برأسه عنه؟! عقوبة الله ونار سجّرها لغضبه تتهدد هذا الإنسان، ومع ذلك يبقى أأمن؟! المجانين هم الذين لا يأبهون بالأخطار، والجهّال هم الذين لا يقدرون حقيقة المواقف.
“أعقل الناس أشدهم مداراة للناس”(10).
والإمام علي عليه السلام يقول في المرويّ عنه:”أعقل الناس أبعدهم عن كلّ دنيّة”(11).
أعقلهم لأنه يدرك قيمة نفسه، ويدرك شرفها، وهو من هذه الناحية أعقل الناس بالنسبة لكل الذين يهون عليهم أن يأتوا الدنايا.
“أعقل الناس من لا يتجاوز الصمت في عقوبة الجهال”(12).
هذا مورد من موارد التعقّل، وهو أنّ إساءة الجاهل إذا قوبلت بما يماثلها قد لا تؤدبه، وقد تستثيره إلى جهل أكبر، ففي العادةوما لم تأت العقوبة مسكتة للجاهل وضرورية يعامل العاقلُ الجاهلَ بالإعراض والصمت حتى لا ينزل إلى مستواه في نفسه وفي نظر الآخرين، ولئلا يأتي منه ما هو أحطّ وأقذر.
“أعقل الناس أقربهم من الله”(13).
ذلك لأنه عرف قيمة نفسه، عرف عظمة ربه، عرف دوره في الحياة، وكيف يسلك إلى كماله فكان العاقل.
2. “أعقل الناس من كان بعيبه بصيرا وبعيب غيره ضريرا”(14).
لكأنه أعمى عن عيوب الغير، أما عيوب نفسه فله بصر حاد لا يفوته شيء منها. هذا عقل. ولماذ هو عقل؟ عقل لأن صلاح نفسك ليس له غيرك، وأنت أملك لأن تصلح نفسك منك أن تصلح غيرك. ومن أصلح نفسه كان قدوة يمكن أن تنتج صلاح الآخرين.
3. “أعقل الناس من غلب جده هزله واستظهر على هواه بعقله”(15).
الذين يرون الحياة سدى هم الذين يضحكون كثيرا، ويحزنون قليلا، أما الذين يعيشون هادفية الحياة، ويرون لها غاية كبرى، وأنها دورة قصيرة تمثل أهم امتحان في وجود الإنسان فإنهم لا يسعهم أن يعطوا للضحك الوقت الطويل، ولا يدخلون في الهزل لساعات.
“أعقل الناس من ذل للحق فأعطاه من نفسه(16)، وعزّ بالحق فلم يهن عن إقامته وحسن العمل به”(17).
لأنه لا طريق آخر للإنسان يعطيه الشرف والعزة والكرامة والسؤدد والعاقبة الحميدة غير الحق.
“أفضل الناس عقلا أحسنهم تقديرا لمعاشه(18)، وأشدهم اهتماما بإصلاح معاده”(19).
المعاد القضية الكبرى المحورية، ومن غفل عنها فهو جاهل كل الجهل.
“أعقل الناس أنظرهم في العواقب”(20).
عن الإمام الكاظم عليه السلام:”إن لقمان قال لابنه: تواضع للحق تكن أعقل الناس”(21).
“أعقل الناس أحياهم”(22).
جاء وصف أعقل الناس في موارد متعددة بصفات قد تتراءى مختلفة فكيف نجمع؟ هذا أعقل الناس بكونه على هذا الوصف، وذاك أعقل الناس بكونه على وصف آخر، كيف أجمع؟
والجواب أن الاختلاف في وصف من هو أعقل النّاس إنما جاء لاختلاف الموضوع الذي يلحظه التوصيف بهذا الوصف في موقف الإنسان بالنسبة إليه فمرة يكون الموضوع هو موقف الشخص، وكيفية تصرفه في مورد خاص كأن يجهل جاهل عليه، أو في مورد حسن التدبير للمعيشة وعدمه، أو حسن التصرف في معاملة الناس وعدمه، ومرة يكون التفاضل من حيث العقل في مورد الحقائق الكبرى والأمور المصيرية كمعرفة الله سبحانه، ومعرفة النفس، وكيفية استثمار العمر.
اللهم صل على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم ارزقنا عقلا عاصما فعلا عن معصيتك، ورشدا لا نفارق به طاعتك، وهدى لا نضل بعده، وبصيرة لا نزيغ معها، واجعلنا من أحسن عبيدك حظا من خير الدنيا والآخرة، وسلمنا من السوء، يا رحمن يا رحيم، يا رؤوف يا كريم.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ، فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ، إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ}

الخطبة الثانية

الحمد لله أزلاً وأبداً حمداً دائماً لا ينقطع أبداً ولا يحصي له الخلائق عدداً. له الحمد فوق كل حمد، وله الثناء الذي لا يقف عند حد، ولا يبلغ وفاءه من خلقه أحد.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده رسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليماً كثيراً كثيراً.
عباد الله علينا بتقوى الله، ومن يتق الله ويطعه فلنفسه، ومن يكفر ويعصه فعليها، وإن الله لغني عن العالمين. وما بال العبد لا يتقي الله وهو لا يأمن الشر إلا بتأمينه، ولا يجد الخير إلا من عنده، ولا مجيب لمسألته إلا هو، ولا مفرَّ له منه لو عصى، ولا ملجأ له من دونه لو طغى؟! وما لهذا العبد لا يستحي من ربّه المحسن له، ولا يشكر نعمه، ولا يذكر آلاءه، وهو المالك لها بقاء كما هو المالك لها ابتداء ومن تلك الآلاء وجوده، وحياته، والعقل الذي يفخر به؟!
اللهم أتمم علينا نعمك، وأدمها لنا، ولا تسلبنا شيئا مما أنعمت به علينا، وأخرجنا من سوئنا كلّه، وارزقنا العافية عافية الدنيا والآخرة، واجعلنا من أحمد الحامدين، وأشكر الشاكرين، وأدومهم على حمدك وشكرك، اللهم واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبدالله خاتم النبيين والمرسلين، وعلى علي أمير المؤمنين وإمام المتقين، وعلى فاطمة الزهراء الصديقة الطاهرة المعصومة، وعلى الأئمة الهادين المعصومين حججك على عبادك، وأنوارك في بلادك: الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن المهدي المنتظر القائم.
اللهم صل وسلم على محمد وآل محمد، وعجل فرج ولي أمرك القائم المنتظر، وحفه بملائكتك المقربين، وأيده بروح القدس يارب العالمين.
عبدك وابن عبديك، الموالي له، الممهد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين، وفقهم لمراضيك، وسدد خطاهم على طريقك، وانصرهم نصرا عزيزا كريما قائما ثابتا.
أما بعد أيها الإخوة والأخوات المؤمنين والمؤمنات الأعزاء فإلى هذه الموضوعات:
فتن وآيات:
نقرأ هذه الآيات الكريمة:{ أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ، وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ}(23).
الآية الأخرى:{ وَلَوْلَا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ…}(24).
توجد معادلة إلهية في الأرض تقوم على سنة الابتلاء والافتتان اختبارا لصدق الإيمان، وعلى إبقاء حالة الاختيار، بحيث ترتفع هذه الحالة عند الإنسان أو لا تُضايق إلى الحد الذي يكاد يفتقد الإنسان اختياره، بحيث تكبر الضغوط على الناس فلا لا يمكنهم الوقوف أمام التيار والاحتفاظ بشيء من الإيمان. فقد تتصاعد الفتن المضلة إلى حد ما يشبه شل القدرة على الاختيار كما نفهم من الآية الكريمة {وَلَوْلَا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فَضَّةٍ….} غنى طاغ في جانب الكفر، فقر متقع في جانب أهل الإيمان يستمر طويلا طويلا يمكن جدا أن يضل الناس من حيث لا يتحمل الاختبار متحمل؛ هذا لا يكون. قد يوجِد وقتا يسيراً أو طويلاً بدرجة معينة يمكن أن يتحملها الخلق إلا أنه لا يوجد بشكل دائم وبدرجة لا يتحملها الناس.
الحضارة المادية ضغطت، تعملقت، كبرت، سمقت، امتدت، عرضت، طالت، أبهرت، استقطبت، أجنّت الناس، دوّخت العقول، صار لها أضواء مادية خاطفة، طال الوقت، وهنا يُخاف على الناس أن يخسروا أنفسهم، ويتحولوا إلى دمية صغيرة في يد المستكبرين العالميين، هنا لابد من تدخل للغيب، لابد من تدخل للرحمة الإلهية إنقاذا للعالم.
تعملق في المال، الاقتصاد، القدرة العسكرية، في السياسة، في الصناعة، في الزراعة، في العمران عند أهل الكفر، يقابله تخلّف في الجانب الإسلامي، في الأمة التي تؤمن بالله، ودينه، تستمر الشيوعية عملاقة، وتستمر الرأسمالية عملاقة، هنا يتساقط الكثيرون على طريق الإيمان، ومع طول الوقت وارتفاع مستوى الابتلاء تخرج مسألة الدين عن حدّ التحمّل.
إذاً لابد من درس وأكثر من درس يؤدّب المستكبر، ويُعلّم المستضعف ويكون حجة على الطرفين.
في مدى زمني عمره ثلاثون سنة يسقط الشاه ربيب أمريكا والغرب كله، ورجل إيمان ما كان يعرف في العالم، وإن عرفته قلة، يقوم مقام الشاه ويرعب العالم المستكبر الظالم كلّه، ويثير البشرى والأمل الكبير والثقة في نفوس المستضعفين.
يتفكك الاتحاد السوفيتي، وتسقط أطروحته، والترسانة العسكرية قائمة، من أسقط هذا الطاغوت؟ أيسعك أيها المسلم ألا ترى؟ الله يريد أن يقول لك لا قادر إلا الله، لا دائم إلا الله، لا غني إلا الله. يسقط الاتحاد السوفيتي ويطيح بصدام من زرع وجوده في المنطقة وانتصر له وأمده بأسباب الدمار، ويؤول الطاغوت إلى صورة مذلة مخزية كما شهد العالم، ويأتي نصر بعد نصر لحزب الله على إسرائيل القوة التي لا تقهر كما يقول تصور بشري تبهره القوة المحدودة عند بعض أهل الأرض على أنهم وقوتهم مملوكون لله وحده.
تتراجع العلمانية في تركيا، تهتز أوروبا وأمريكا لعابر محنة أولية، لإنذار إلهي أولي يتمثل في خلل مالي، هذا كله في كم سنة؟ في سنوات معدودات. لنرجع إلى الله، لنقول لا إله إلا الله، اعرفوا إسلامكم، فلنضع يدنا يد الذلة والضراعة في يد الله عز وجل(25) يد العزة والجبروت.
نعم، فحتى لا ينسى أهل الأرض ربهم، ويتخذوا من رموز الاستكبار إلها، ويعبدوا حضارة الطين في بحر ثلاثين سنة تحدث كل هذه الأحداث الكبيرة الهائلة.
إلى أين اتجاه السياسة عندنا؟
لحياة التقدم والرخاء والرقي والأمن والاستقرار والتلاحم الوطني والإنساني في المجتمعات طريق، ولما هو العكس طريق آخر، والنتيجتان لا تلتقيان كما أن الطريقين لا يلتقيان.
وكلُّ طريق يؤدي إلى ما اتجه بطبيعته إليه لا بما عليه دعاواه وإعلامه المزيّن له، والمدافع عنه. النتيجة من طبيعة الطريق، وليس من التصفيق للطريق، وزغردات الطريق.
ومنهج العدل والعلم والخلق الرفيع والدين القويم له نتائجه في العقول والنفوس والأوضاع، ولمغايره نتائج أخرى، والنوعان من النتائج لا يشتبهان.
وسياسة تتعمد خلق الأزمات، وتفرق المجتمعين حولها، تعطي نوع نتائج، وسياسة تعمل على حل الأزمات، واستقطاب المفترقين عنها نتائجها إيجابية مختلفة؛ ولا استقطاب من كلمة ساحرة خالفها فعل، إلا أن يكون المخاطَب مغفّلاً؛ فكيف إذا جاء الفعل والكلمة منفرّين؟!
وأوضاع الحكومات تقاس في الكثير في توجهاتها ونجاحها وإخفاقها، وما تبشّر به من مكاسب مريحة ونتائج مربحة، أو تنذر به من عواقب وخيمة، نتائج خاسرة بما عليه من أوضاع المحكومين من راحة وتعب، واستقرار واضطراب، وعلاقة إيجابية أو سلبية بالحكومات، وبما يجدونه من رضى أو سخط عليها.
وفي كل الأحوال تعد العلاقة السلبية المتشنجة بين الحكومات وشعوبها من أكبر عوامل الشلل والتخلف والهدم للأوطان، فلابد من تدارك العلاقة من هذا النوع بالتصحيح قبل فوات الأوان.
ولا يستطيع أحد أن يدعي لو أنصف بأن العلاقة بين الحكومة والشعب في بلدنا على ما يرام. وهو شيء مرغوب عنه، مطلوب عكسه.
وهناك مآخذ عدّة على الوضع السياسي تؤمن بها نسبة غالبة من الشعب بدرجة وأخرى منها:
1. عدم عدالة الدستور، وسلامة ولادته وشرعيته الشرعية الوضعية المستندة إلى الميثاق وبديهيات الديموقراطية.
2. التمييز الذي طال حياة السياسة، والمال، والاقتصاد، والثقافة، والتعليم، والاجتماع، والعمران، والبيئة، والجنبات الأخرى بما فيها جنبة الشعائر والعبادة.
3. التجنيس الظالم الذي يضيّق الخناق على أبناء الشعب ويحاصر وجوده وحياته على كل المستويات وعلى المدى المفتوح.
4. مطاردة شرسة لدور العبادة تستهدف السيطرة الفكرية، وتقليص ثم استئصال شعائر دينية ذات بعد تاريخي متأصل مديد عرفه الوطن وعاشه بكل وضوح وجلاء.
5. الإشاعة لمظاهر الفساد والتحلل الخلقي في صورة مشاريع وممارسات ومؤسسات راعية.
6. استشراء الفساد الإداري والمالي الذي ينهك وضع البلد.
7. الاستئثار والاستحواذ من غير وجه شرعي ولا قانوني على الحصة العملاقة من العنصر الطبيعي الرئيس من الثروة الأولية وهو الأرض بصورة مخلة جداً بحقوق عامة الشعب، وموقعة لهم في الحرج الشديد في حياتهم، وذلك من قبل أقلية متسلطة ومتنفّذة.
8. تشدد أمني لا يكتفي بمعاقبة مواقف الاعتراض بصورة مبالغ فيها، وعلى مستوى عقوبات جماعية تطال الآمنين في بيوتهم، بل يطال صاحب الكلمة الناقدة التي لا تخالف القانون. فيُستدعى ويجرجر ويحقّق معه.
9. إعلام يفاقم المشكلات ويزيد الطين بلّة، ويثير الفتن.
يجمع ذلك كلّه وغيره تطبيق حرفي بل ربما كان مبالغا فيه لما كشف عنه تقرير البندر حسب التسمية الصحفية وقت ظهوره من مؤامرة قذرة من أخطر ما عُرف من المؤامرات على الأوطان، وهو تطبيق قائم إلى اليوم على قدم وساق.
والمؤامرة المذكورة لم يكشف الحكم عن أوراقها، ولم تلق منه أية إدانة، وإنما حكم – أي الحكم – مَنْ كشف الستار عن جيفتها.
هذه التوجهات والشكاوى والاعتراضات يبديها الشعب بصورة شبه يوميّة، وهي التي تحدث المظاهرات والمسيرات والاعتصامات وتولد احتقانات وخلافات في الساحة، وتشغل المعارضة في البرلمان وتثير النزاعات، وتستتبع آثاراً سيئة كثيرة.ً
ومن المشكلات العويصة أن الحكومة تواجه من يطرح هذه المشكلات ولو بلغة هادئة إنكارا للخطأ، وإنقاذا للأوضاع من التدهور، وللوطن من الضياع بأن هذا الطرح من التضليل للرأي العام، ولكسب الشارع، واستغفال الناس واستغلالهم، وتركيز الزعامات، وهو خطاب يثير الفتنة، ويشجع على العنف، ويقسم الساحة. كل هذا يقال وكأن شيئا من المشاكل على الأرض لا يوجد، وكأنّ كل شيء على ما يرام، ولا خطأ على الإطلاق، وإنما هي الخطابات التي تختلق المشاكل اختلاقا وتنسبها إلى سياسة الحكومة.
لكن هذا الموقف الحكومي لا يحجب واقعا مستطيلا على الأرض معاشا يوميا لا يخفى على سمع ولا بصر، ويتحدث عنه الناس بلغة الأرقام، وتشهد به تصريحات بعض الرسميين في جوانب منه، ولا يمكن أن يمثل حلاً أو جزءاً من الحل لمشكلات تحرج حياة الشعب، أو يلغي الواقع المرّ من ذاكرة الناس الذين يكتوون بنار مشكلاته بصورة يومية.
وأقولها بصدق أننا نكره العنف وننبذه، ونحرص على سلامة الوطن ومصلحته، ولا نرى مصلحة في أن يعيش حالة استنزاف دائم في مواجهات مستمرة بين الحكومة والشعب، وأقولها كذلك مخلصا لابد من حل لمشكلات يعاني منها الناس، وتفسد عليهم حياتهم وتسلب منهم راحتهم وأمنهم، وتتنكر لكرامتهم، وتضيّق عليهم في دينهم.
وتأتي هنا كلمة الحكومة المتكررة أن هناك قنوات قانونية وعرفية لحل المشاكل، وليتَ هذه القنوات توجد. يقولون المجلس النيابي قناة قانونية، والحوار خارج البرلمان فيه خير وبركة.
ونقول: ولكن المجلس النيابي قناة فاعليتها بحسب التصميم الحكومي لها تابعة لإرادة الحكومة، وحتى توصياتها ورغباتها غير محترمة، والملفات الحسّاسة يُهدِّد من يهدد بأنها ستحدث زلزالا إذا طرحت في هذا المجلس. هذا لو فتح لها الطريق أن تطرح.
والحوار الجادُّ المنتج سعى إليه العلماء أكثر من مرة، وبذلت بعض الجمعيات السياسية جهوداً من أجله ولم يكن منه شيء.
فلتبحث الحكومة عن قناة تخلص من وضع المواجهات نهائيا.
ولو كان مجلس نيابي على الطريقة الديموقراطية الصادقة كامل الأهلية والصلاحية لأجدى، ولو كان حوار جادّ يترتب عليه إصلاحٌ لفتح أبوابا للعلاج والإنقاذ، وسد أبوابا للمفاسد والخسائر والكوارث.
أين الطريق؟ لسنا مع العنف نهائيا، وسيقولون غداً أن كلامي يبرر العنف، بينما أصرح مرة بعد المرة أننا لسنا مع العنف. لكن نريد حلا للمشكلات، ليست مشكلة ولا مشكلتين، المشكلات تترادف وتتفاقم.
الاتفاقية الأمريكية العراقية:
ما صار يتكشف بعض الشيء من خفايا الاتفاقية الأمريكية العراقية يظهر ما تريده أمريكا من فرض الهيمنة الاستعمارية الاستكبارية على العراق، وممارسة السيادة الفعلية الظالمة على أرضه وإنسانه، وتهديد الأمن القومي للأمة العربية والإسلامية بشنّ عملياتها العدائية من أرضه على البلدان المجاورة لتدخل العراق مع محيطه العربي والإسلامي في نزاعات ومواجهات تزيد في تفتيت الأمة، وتضاعف من ويلاتها واستنزاف جهودها وخيراتها في حروب بينيّة لحساب الغازي الأمريكي ومطامعه في المنطقة.
وما يُتمنى من الشعب العراقي بكل أحراره وغياراه، ويتوقع له، ويتوجب عليه وعلى حكومته أن يرفض أي اتفاقية تذلّ الإسلام وتذلّه، وتسخّره للأغراض الاستعمارية الدنيئة وتجعله رأس حربة في قلب محيطه وأمّته، وتعطي للأمريكي اليد الطولى على أرضه وثروته وإنسانه وأمنه.
فيا أباة العراق وأسوده لا تلينوا في الأمر، ولا تستكينوا والله معكم وهو الناصر، وإنه لهو القوي العزيز.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى وعلى آله الطيبين الطاهرين.
اللهم انصر من نصر الدّين، واخذل من خذل الدين، وأعزّ عبادك المؤمنين، وأذلّ الكافرين والمنافقين، واسلك بنا طريقك القويم، وصراطك المستقيم، واجعلنا من أهل رحمتك وكرامتك في الحياة الدنيا وفي الممات ويوم الدين يا أرحم من كل رحيم.
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 – بحار الأنوار ج1 ص117. تحف العقول ص15.
2 – ميزان الحكمة ج3 ص2054.
3 – المصدر نفسه.
4 – المصدر نفسه.
5 – غرر الحكم ودرر الكلم ص405.
6 – ميزان الحكمة ج1 ص294.
7 – المصدر ج3 ص2055.
8 – بحار الأنوار ج77 ص179.
9 – بحار الأنوار ج1 ص131.
10 – بحار الأنوار ج75 ص52.
11 – غرر الحكم.
12 – غرر الحكم.
13 – غرر الحكم.
14 – غرر الحكم.
15 – غرر الحكم.
16 – فإن الحق غلاب، ومن لم يعط من نفسه للحق هزمه الحق.
17 – غرر الحكم.
18 – في مساحة المعاش، التعامل مع إنفاق المال، مع إصلاح الشأن المادي للذات والأسرة نحتاج إلى عقل، والسرف ليس عقلا، والتقتير ليس عقلا، والركض وراء الثانويات مع إهمال ما هو الأساس ليس عقلا. يجوع بطنه، وتجوع بطون أفراد عائلته ويركب نفسه الديون الكثيرة من أجل سيارة فخمة، بعض أحبائنا راتبهم مائة وخمسون دينارا وفي اليوم الثاني من تسلّمه الراتب الأول يشتري سيارة بثمانية آلاف دينار عن طريق القرض. حبيبي هذا ليس عقلا.
19 – غرر الحكم.
20 – غرر الحكم.
21 – بحار الأنوار ج1 ص136.
22 – غرر الحكم.
23 – 2، 3/ القصص.
24 – 33/ الزخرف.
25 – هتاف جموع المصلين بـ(لبيك يا إسلام).

زر الذهاب إلى الأعلى