خطبة الجمعة (338) 13 شعبان 1429هـ – 15 أغسطس 2008م

مواضيع الخطبة:

*متابعة (استراحة روحيّة) *البلايين تنتظر يوم الظهور

إذا كان التطلّع هو تطلّعٌ إلى إنقاذ الحق من الباطل، والعدل من الظلم، والرحمة من القسوة، والإحسان من العدوان، والصدق من الكذب، فهذا التطلّع فيروحه ولبّه وعمقه وحقيقته إنما هو تطلّع ليوم الظهور؛ يوم الإسلام الصادق، والإمام الموعود عليه السلام.

الخطبة الأولى

الحمدُ لله فارج الهمّ، كاشف الغمّ، غافر الذّنب، ساتر العيب، رحمن الدّنيا والآخرة ورحيمهما. يُسأل ربُّنا ولا يَسأل، ويحاسِب ولا يُحاسَب، ويُلجأُ إليه، ولا لجأ منه إلى أحد غيره، لا يبرمه إلحاح الملحِّين، ولا تشتبه عليه أصوات الدّاعين، ولا تختلط في علمه حوائج المحتاجين، ولا يردّ التائبين الصادقين، ولا يدنو من عطائه عطاء المعطين.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليماً كثيراً كثيراً.
عباد الله ألا فلنتّق الله، ولنأخذ بالحق، ولنكن له أنصاراً، وَلْنَدَع الباطل ولنكن له أعداء، ومن قاوم الحقّ فهو في النتيجة مخذول، ومن قاوم الباطل فهو وإن طال الوقت منصور. فالحقّ قويٌّ غلاّب، فمن غالبه غلبه كما جاء عن عليّ عليه السلام في كلمة النهج “من غالب الحقَّ غلبه” وكم قامت من دول للباطل، وصارعت الحقّ بالرّجال والأموال والسلاح وكلّ حيلة تجدها؛ فبقي الحقّ متجلّياً، وبقيت حكومته في ضمير الإنسان، وذهبت تلك الدول مهبّ الرياح مفضوحة مخذولة مرذولة لا يحنّ لها ضميرٌ حيّ، ولا يأسَف عليها إنسان حرّ؟! وما أمريكا ولا روسيا ولا غيرهما بخارجةٍ عن هذا القدر.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى وعلى آله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين.
اللهم اجعلنا جميعاً من أهل الدين الحق الذين لا يستبدلون عنه باطلا، ولا يقبلون عنه تحوّلاً، ولا يدَّخرون في نصره شيئاً، وأعزّنا به، وأعزّه بنا يا علي يا عظيم، يا عزيز يا حكيم.
أما بعد فمع المناجاة في هذا الخطاب:
“فَأَحْيِه بِتَوْبَة مِنْكَ يا أَمَلِي وَبُغْيَتِي، وَيا سُؤْلِي وَمُنْيَتِي، فَوَ عِزَّتِكَ ما أَجِدُ لِذُنُوبِي سِواكَ غافِراً، وَلا أَرى لِكَسْرِي غَيْرَكَ جابِراً….”.
أكبر ما يفزع له المؤمن العاقل موتُ قلبه، وفقدانُه نورَ المعرفة بربّه، وأنسَ القرب منه، وفرح الاشتغال بطاعته، واللّذة بذكره، وصدق عبوديته الإرادية له، وصلته به، وطردُهُ من رحمته، وسقوطُه في عينه، وسخطُه عليه. ولذلك لا يحسّ بشيء من الذنب إلا وتسوءُ حاله، ويشتدّ خوفه، ويفزع إلى ربّه مهموماً مغموماً مكروباً تائباً إليه، مستغيثاً به، طالباً نجدته.
وقد قدّمت المناجاة ثلاثاً من الشكاوى المرّة لله عزّ وجلّ وهي ما سبّبته الخطايا من ثوب مذلّة، وما أحدثه التباعد عن طريق الله سبحانه من لباس المسكنة، وما أعقبه عظيم الجناية من موت القلب.
وفي مقام الاستغاثة وطلب الفرج للكرب من الله، والإنقاذ من الكارثة والخسارة انصبّ الاهتمام من الإمام عليه السلام على قضية إحياء القلب دون الوقوف عند مشكلة المذلّة والمسكنة.
والسّر في ذلك أن المذلّة والمسكنة والخطايا والتباعد، وكلّ أزمات الإنسان وخسائره المعنويّة في ذاته، والكثير الأكثر الأكثر من كلِّ المشكلات الحادَّة التي تعتري حياته الفردية والاجتماعية في مختلف أطرها راجعٌ إلى موت القلب والروح وأسقامهما وأمراضهما وما يصيبهما من أعراض سوء وعاهات وآفات.
فإذا حَييَ القلب وطهُر وزكا لم تكن خطايا، ولا تباعد عن الله، ولا ذِلة ولا مسكنة، ولا مشاعِرُ محبَطَة، أو مشاعر تسوليّة تقف عند أبواب العبيد، وتخاطِب القلوب الجافّة، وتستجدي من الأيدي المقبوضة الخاوية.
وإذا كانت قلوب النّاس حيَّة عامرة بذكر الله ونورِ معرفته وهداه لم يظلم أحدٌ أحداً، ولم يقسُ أحد على أحد، ولم يأت ضرر من إنسان لإنسان، ولم يَشْقَ الناس بعضُهم ببعض حتى تكثر المشكلات.
والقلب حتّى لو شارف على الممات فاستمسك بالتوبة إلى الله، واستشفع إليه بواسع رحمته، ولطيف إحسانه، وعظيم امتنانه، نادماً لتفريطه مخلَصاَ منقطعاً مؤملاً من قدرة ربّه وفضله الإنقاذ من الخطيئة، والخلاص من الإثم، والانتشال من الورطة كانت عودة الحياة أقرب إليه من لمح البصر، لأن الله يحول بين المرء وقلبه، ويحيي العظام وهي رميم، وأمر القلب وكل شيء بيده، ولا يحول شيء بينه وبين ما يريد، وهو مسبِّب الأسباب، ومالِكُها، ومفيضُ سببيّتَها، وإليه يرجع الأمر كلّه.
والتوبة من العبد إلى الله – وهي بتوفيقه – رجوع إليه: بالندم على التفريط، والإقلاع عن الذنب، وطلب العفو، وعزم البقاء على الطاعة، والنأي عن المعصية، وسؤال الهدى والإغاثة، ودوام التقويم، والتسديد، والتوفيق، والتثبيت على خطِّ التكليف، وإخلاص النيّة، وصدق العبودية، ورفع الهمّة، وعلوّ القصدِ، والطمعِ في مزيد من القرب، ووافر الكرامة.
وتوبة الربّ على العبد قبول أوبته إليه، ورجوعِه عن غيّه، وضمُّه إلى رحمته، وشمولُه بعفوه، ومغفرة ذنبه، وستر عيبه، ولطفُه به، ورفع منزلته عنده، وتقريبُه إليه، وتحبيبُ طاعته له في نفسه، وتقويتُه على الطاعة، وتهيئة أسبابها له، وتسهيل أمرها عليه، وتكريهُ المعصية في نفسه، وإبطالُ وساوس النفس، وحيل الشيطان دون أن تنال منه، وهدايته للحق، وتصبيره عليه، وإحداث الشوقِ إلى الله في نفسه، والاستغناءِ به عمن سواه. كل ذلك يفعله الله سبحانه وتعالى في توبته على عبده.
والتوبة من الله على العبد بهذا المعنى هي مطلوب قوله عليه السلام “فَأَحْيِه بِتَوْبَة مِنْكَ يا أَمَلِي وَبُغْيَتِي، وَيا سُؤْلِي وَمُنْيَتِي” في ضوء ما جاء من قوله عليه السلام بعد ذلك في السياق نفسه “فَوَ عِزَّتِكَ ما أَجِدُ لِذُنُوبِي سِواكَ غافِراً، وَلا أَرى لِكَسْرِي غَيْرَكَ جابِراً، وَقَدْ خَضَعْتُ بِالإنابَةِ إلَيْكَ وَعَنَوْتُ بِالاسْتِكانَةِ لَدَيْكَ” الذي يفيد تلبُّس العبد بالتوبة إلى الرب، وتحلّيه بها، وتعلّق أمله بربّه دون سواه بأن يغفر له الذنب، ويجبر الكسر، وينقذ من الخسارة، ويصحح الوضع، ويرفع المستوى.
وانظُرْ إلى هذا النداء وَقِفْ عنده “يا أَمَلِي وَبُغْيَتِي، وَيا سُؤْلِي وَمُنْيَتِي”.
والقلب الوعيّ الفقِه ُ يقف بكل آماله وأمانيه ومنها ما هو أبعد الآماني والأمنيات، وأكبرها، وأعسرها على التحقيق، وما هو الميئوس من نيله منها على يد غير الله؛ يقف بها على الله ولا يتجاوزه، وهي عنده يسيرة، ولا شيء على الله إلا وهو يسير. ولا يقف مطلب وإن صغر عند غير الله مستقلا؛ إذ لا استقلال لأحد دونه في علم أو قدرة أو إرادة، ولا تحقّق لشيء إلا بإذنه.
ونداء يا أملي وبغيتي، ويا سؤلي ومنيتي وراءه يقين القلب المؤمن الذي لا يخالطه شرك بأن الله تبارك وتعالى هو منتهى أمل الآملين ولا ينتهي أمل إلاّ إليه، وكيف لا تستقر عنده الآمال، وكيف تتجاوزه إلى غيره، ويُؤمَّلُ مِن بَعدِه فيمن سواه وقدرته مطلقة، ومشيئته مطلقة، وإرادته لا يقف في وجهها شيء وكل الأشياء منقادة إليه، وكل ما دونه ومن دونه محدود مقهور مجبور لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضرّاً ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً؟!
احذر عزيزي أن ترفع كفّك الضّارعة لغير الله، أن تعلّق أملاً على غير الله تبارك وتعالى، وإن كان الرسول صلى الله عليه وآله، فالرسول لا يملك إلا ما ملّكه الله سبحانه وتعالى.
ومن تعلّق به رجاؤك وأمَلُك كان له انقيادُك وطاعتك وعبادتك، وما تعلّق أملُ أحد بآخر مع الله سبحانه إلا وكان في ذلك شرك في الشعور، وقام عليه شرك مساوٍ في العمل.
إنّ الإنسان ليبدأ وليداً لا تعلّق له إلاّ بأمِّه وبحنانها وعطفها وشفقتها وما كتب الله له عندها من غذاء اللبن، وإنّه لينشدُّ إليها ولا يريد أن يفارقها لأنّها محطّ أمله، ومنتهى رجائه، وعندها ما تحتاجه حياته، ويرى فيها حماه ولجأه. ولذلك يكون كل انشداده إليها لا لأحد سواها. فمن أمّلته ارتبطت به، وانصعت له.
ويستمرّ هذا الانشداد من الوليد حتى تسمح له ظروفه بشيء من الاستقلال عن أمّه فيخِفّ الارتباط.
ثمّ يرى في أبيه محضناً آخر، ومصدر عطاء وحماية، وتتعلقُ به آماله فيقوى به انشداده حتّى يقوم على قدم في بعض أموره فيخِّفّ الارتباط.
وكلّما رأى هذا الإنسان وفي أي مرحلة من مراحل عمره أن فردا او جهة تملك القوة والغنى وروح العطاء الذي يحتاجه، ولا حياة له إلا به كلّما اتّجهت لها آماله، واستمسك بها رجاؤه، فكان إليها سعيه، وبها تعلّقه، وطلب رضاها، وحَرَصَ على التقرّب إليها.
وكثير من النّاس تنتقل بهم الآمال من محطة إلى محطة، والولاء من جهة إلى جهة تبعاً للرؤية المتجدِّدة بالنسبة لمصدر القوّة والغنى والمدد والعطاء لأن قلوبهم لم تقع من الأول على الحق المطلق الغني القوي المتين.
والأكثر من النّاس يبقون أطفالاً فكراً أو شعوراً، مُنحبساً نظرهم في دائرة الأسباب، ويعطونها ما ليس إلا لمسبّب الأسباب وحده، ومتقوقعاً في إطار المحدود ينسبون له ما ليس إلا للمطلق الحق وهو الله وحده.
الوليد والطفل لو انطلق إدراكه، وانفسحت رؤيته، وامتدّ شعوره ووعى أن لبن الأم وحنانها وقوّتها وقلبها الشفيق ليست هي مصدره الأصل، ولا يعود فضله الأول إليها لتعلّق منه القلب وأمله ورجاؤه بالله عزّ وجلّ قبل تعلّقه بأمّه، وكان تشبّثه بالعلاقة بربّه قبل تشبّثه بها وأقوى وأشد وأمتن.
وهكذا بالنسبة لكلّ آمل وراج فلو انكشف ما على البصائر من غشوات العمى لكانت الآمال كلّها منتهية إلى البارئ العظيم واقفةً عليه، غير مستقرّة إلا عنده، وهو منتهى كل قوة، ومصدر كل غنى، وإليه مردّ كلِّ خير، وقدرته وإرادته وراء كل حادث.
وإذا كان الله تبارك وتعالى المُؤمَّلَ الوحيدَ في النفس لم يكن لها معبود سواه، ولا اشتغالٌ بغير طاعته وذكره وشكره.
وكلّ مؤمَّل غير الله تذوب الآمال فيه وتتبخّر إلى لا شيء، وينحسر الرجاء وتقوم الخيبة مقامه، وينكشف أنه رجاء في السراب، وأمل في العدم إذا تبدّل جهل النفس علماً، وضلالها هدى، وعماها بصيرة. فليس من مؤمّل في ذاته على الإطلاق إلا الله، وهو الحق الأوّل الكامل المطلق، لا أول معه، ولا كامل، ولا مطلق سواه.
تعليم النبيّ إبراهيم عليه السلام إلى النّاس أن تقدُّمَ الرؤية يطيح بالآمال في أي شيء من دون الله كان ذلك الشيء مثل الكوكب الهادي، والقمر المنير، والشمس بما هي عليه من غنى ونور أكبر منهما، أو كان ذلك الشيء هو الأكبر في عالم الإمكان على الإطلاق، وأنّ الرؤية لا تصدق أتمّ صدق فيما تتعلق به من قوة وغنى وجمال وعطاء حتى تتجاوز المحدود إلى غير المحدود، والأسباب إلى المسبّب، وأن الآمال المترشّحة عن الرؤية لمصدر القوة والغنى والجمال والعطاء لا تثبت ولا تستقر، ولا تنجو من الاهتزاز، ولا يَأمن صاحبها من أن يراها كاذبة وسراباً إلاَّ بأن تكون الرؤية للقوة والغنى والجمال الأول المطلق، والعطاء الإلهي الكريم، وأن تكون الآمال قائمة عليها.
وإنّنا نحن النَّاسَ لنعاني دائماً من درجة وأخرى من عمى البصيرة، وإلاَّ لرأينا الله دائماً بقلوبنا في كل الآنات، وفي كل الأمور من بين يدي كل شيء ومن خلفه محيطاً به، لا معدل له عن قدرته، ولا مخرج له من قبضته، ولا تفلّت له عن مشيئته، ولا قيام له إلا بإذنه، ولم تحجبه عنّا الأسباب فتنالَ من خوفنا وأملنا ورجائنا وشكرنا وشوقنا في ذاتها منظوراً إليها بما هي عليه من قوة أو جمال أو عطاء نظرة استقلال، ولكان حمدنا، وشكرنا، وطاعتنا، وخوفنا، وشوقنا كلّه أصلاً إليه، ولم نجرؤ عل ارتكاب معصية من معاصيه، ولا على التخلّف عن طاعة من طاعته، وإذا شكرنا أحداً أو رجوناه أو خفناه أو أطعناه فإنما يكون ذلك تبعاً لشكره ورجائه وخوفه وطاعته بما هو المصدر الأوّل لكل شيء وأمر، ونيلِ خير، وكفاية شر.
نعم لولا عمانا لما انحدرنا لحظة عن خطّ حبِّ الله وخشيته وطاعته.
والذين لا يُعمي أبصارَهم جمال المخلوقين، وقوُّتهم وغناهم، وإرادتهم، وفاعليتهم، وإحسانهم، وعطاؤهم وهو المحدود المعار عن جمال الخالق وقوته، وغناه، وإرادتِه، وفاعليته، وإحسانه، وعطائه وهو الحقّ المطلق الدائم إنما هم قلّة في النّاس وهم المعصومون عليهم السلام.
“عميت عين لا تراك عليها رقيبا”(1) هذه حقيقة؛ فالعين التي تخفى عليها رقابة الله عزّ وجلّ مصابة بالعمى والرَّين والغِشاوة.
والإمام زين العابدين عليه السلام وهو المعصوم؛ بصيرته لا ترى مؤمَّلاً غير الله، ولا تُعلِّق بمن سواه أمنية، ولا تتوجَّهُ إلى غيره بطلب ولا بُغية. “فَأَحْيِه بِتَوْبَة مِنْكَ يا أَمَلِي وَبُغْيَتِي، وَيا سُؤْلِي وَمُنْيَتِي…”.
اللهم صل على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم لا تبقِ في قلوبنا ذرّة من إلحاد أو شرك أو نفاق أو رياء، أو حسد أو حقد مما لا ترضى، أو نية سوء، واجعلها مطمئنة آنسة بذكرك، حامدة لك، شاكرة لأنعمك، مسرورة بلقائك، يا رحمن يا رحيم، يا أنيس الذاكرين، ويا قرة عين المشتاقين.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ، فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ، إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ}

الخطبة الثانية

الحمد لله الذي لا يُعطِّل شيءٌ إرادته، ولا يُعرقِلُ مشيئته، ولا يحرف له قَدَراً، ولا يقدِّم ولا يؤخّر من دون إذنه أجلا. كلّ الأشياء جارية في نظامها بقَدَرِه، ماضية إلى غاياتها بمشيئته، مؤتمرة في مسار تكوينها بأمره، منتهية بنهيه، بَدؤها منه، ومنتهاها إليه، وحساب المكلّف منها عنده.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليماً كثيراً كثيراً..
أوصيكم عباد الله ونفسي الخطَّاءة بتقوى الله، وأن نرى المعروف معروفا ونرضاه لنا منهجاً، ونتخذ من أهله أهلاً، ونرى المنكر منكرا ونهجره هجرا، ونُسدي لأهله نصحاً. فإن يكن ذلك نجا العاملون بالمعروف، الناهون عن المنكر يوم الفزع الأكبر، وشاركهم في النجاة تائبون من أهل المنكرات، وإن تكن الأخرى هلك الجميع.
وفي الدّنيا إذا غرق الجميع في السيئات، أو سُكِت عن المنكر توسَّع وامتدّ وغطّى، فأغرق سفينة الحياة بنتائجه الكارثية الماحقة، وذاق من مرِّها الجميع.
اللهم اجعلنا عاملين بما أمرت به، مفارقين لما نهيت عنه، ساعين في الناس بالخير والنصيحة، منتهين إلى رضاك، فائزين بالكرامة من عندك، والثواب الجزيل من فضلك، والدرجة الرفيعة في مستقرّ رحمتك يا متفضِّل يا حنّان يا منّان يا أجود الأجودين.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبدالله الصادق الأمين خاتم النبيين والمرسلين، وعلى علي أمير المؤمنين وإمام المتقين، وعلى فاطمة الزهراء الصديقة الطاهرة المعصومة.
وعلى الأئمة الهادين المعصومين حججك على عبادك، وسفن نجاتك: الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن المهدي المنتظر القائم.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على محمد وآل محمد، وعجل فرج ولي أمرك القائم المنتظر، وحفه بملائكتك المقربين، وأيده بروح القدس يارب العالمين.
عبدك وابن عبديك، الموالي له، الممهد لدولته، والعلماء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين وفقهم لمراضيك، وسدد خطاهم على طريقك، و انصرهم نصرا مبينا عزيزا مبينا قريباً دائما.
أما بعد أيها الأخوة والأخوات المؤمنون والمؤمنات الأعزاء فمع ذكرى مولد إمام العصر عليه السلام وعجَّل الله فرجه:
البلايين(2) تنتظر يومَ الظهور:
لقد ضاقت الأرض بما رحبت على بلايين المستضعفين في هذا العالم، وغامت واسودّت أجواء الحياة في نَاظِرَيَ النّاس، ذلك أن الأرض صارت محكومة لقيم المادة بعيداً عن قيم الروح والإيمان وخطّ الله عزّ وجلّ، وحلَّت عبادة الطاغوت بالحديد والنار، والترغيب والترهيب، والتجويع والإتخام محل عبادة الله عزّ وجل في المساحة الأكبر من أوضاع الحياة وعند شرائح واسعة منتشرة في المجتمعات.
وغياب القيم المعنوية، وحكم الطاغوت من نتيجته الحتمية التي لابد منها أن تتأزم أوضاع الحياة وتثقل على النفوس وتتجاوز بسوئها قدرة التحمّل عند غالبية النّاس.
والإنسانية اليوم في غالب أبنائها تحت الضغط الهائل غير المُحتَمل الذي تواجههم به أوضاع الحياة بين يأس قاتل، وتمرّد مقموع، وتطلع موهوم.
إنه التطلّع إلى الخلاص على يد الديموقراطية الغربية المزعومة المكذوبة في منشئها، المهزوزة الفاشلة في نفسها.
إن الديموقراطية الغربية التي تفرض على العراق مثلاً اتفاقية تستعبده، وتحتلّ أرضه وسماءه، وتهين إنسانه، وتلغي استقلاله إلى أجل غير مسمّى كما تحاول أمريكا إنما هي ديموقراطية كاذبة، ووسيلة جديدة لتسويق قضية الاستعمار والاستغلال والاستعباد للشعوب والأمم.
الديموقراطية التي لم تُخرِّج إلا حكومات طاغوتية قاسية تعيث في العالم فساداً، وتجري على يدها أنهارُ من دماء الشعوب، وتسرق لقمة الجياع من سكّان الأرض لشهوة جمع المال وتكديسه، وتتلذذ ببكاء الثكالى وتضوّر المحرومين إنما هي ديموقراطية زائفة كاذبة.
والديموقراطية التي لا تقوم على المنظومة الفكرية والمبادئ الخلقية الإلهية وحقّ الله عزّ وجل ورقابته لا يمكن أن تنتج العدل وتقيم الحق، وتنتصر لإنسانية الإنسان وتعرف له كرامته في مجال السياسة أو غيرها؛ ومتى كان للشوك أن ينبت العنب، ومتى كان لما انفصل عن الله سبحانه أن يتنزّل على النّاس بالرحمة؟!
الديموقراطية عاجزة عن أن تصنع ضميراً طاهراً، وتجذّر في نفس الإنسان قيماً عالية، وتبعث روح عدل وإحسان وتضحية وإيثار ورحمة ورأفة، وكل ذلك تحتاجه حياة العدل والإخاء والمودة والاستقرار. وبدونه لا تستقيم الحياة على الخط.
الديموقراطية حتّى في منشئها إنما هي احتراب مال الشركات التجارية العملاقة، ومكر وخداع غير شريف، ووسائل كثيرة قذرة على السلطة ويدخل في ذلك الكذب والدّس والتآمر والتشهير بظلم، والدعاوى العريضة الفارغة والمهاترات، وبيع الشعوب، وإثارة الحروب، وتقوم على الهيمنة الإعلامية على أكبر قدر ممكن من الرأي العام لا على التنافس العلمي والعملي بين البرامج السياسية المتواجهة. هذا شأن الديموقراطية وأمّا عن النظام الفردي الأرضي فهو أسقط من ساقط، وأفظع من فظيع.
والديموقراطية وهي هاجرة محرقة يلجأ إليها الناس من نار الدكتاتورية الفردية الطاغية.
عالَمُنا في ظلّ النظام الفردي وكذلك ما يُدّعى أنه ديموقراطي كذباً عالمان: عالم من المستكبرين الطغاة المتبذخين، وعالم من المستضعفين المنهوكين الجوعى المسحوقين، وكل منهما مضغوط ومسحوق لمشاعر الصراع، ومستعبد لأوضاعه، ولا يعرف قيمة الإنسانية التي ينتمي إليها، ولا يعرف طعم لذةٍ حقيقية في الحياة التي يعيشها.
وقلّة من النّاس هي التي تعرف هدفها ومنهجها وقيمتها وتشعر بلذة دورها الرسالي، وخطّها الذي آمنت به مصيبةً للواقع، منشدّة إلى الحقّ الجلي، وإن كان ذلك وسط متاعب جمّة ومعاناة مستمرة مما تلقي به الأوضاع المزرية المرهقة لحياة صنعها الاستكبار في الأرض بعيداً عن النهج الإلهي الحق من ظلال سوداء ثقيلة يطال عذابها كل إنسان.
والتطلع إلى الخلاص تطلّع مشروع مبرّر تُدفع إليه البلايين من الناس دفعا قويّاً بضغط الظروف المأساوية التي يولدها الانحراف والظلم على المستوى الإنساني والمعيشي على حد سواء.
أما التطلع إلى الديموقراطية منقذا فهو من تمسّك الغريق بالطحلب، والزبد الذي يذهب جفاء.
وإذا كان التطلّع هو تطلّعٌ إلى إنقاذ الحق من الباطل، والعدل من الظلم، والرحمة من القسوة، والإحسان من العدوان، والصدق من الكذب، فهذا التطلّع في روحه ولبّه وعمقه وحقيقته إنما هو تطلّع ليوم الظهور؛ يوم الإسلام الصادق، والإمام الموعود عليه السلام.
فتطلّع البلايين للخلاص الذي إنما يدفع إليه حسب الواقع بُعد المسيرة البشرية عن الله، والانحدار عن خط دين الحق، وإقصاء القيادة الربانية الرشيدة والتي يمثّل المعصوم عليه السلام النموذج الأعلى لها عن موقع الصدارة إنما هو تطلّع إلى الإسلام المضيّع، وقيادته المغيّبة.
ولو وصل الإسلام بصورته الحقيقية إلى البلايين، وتعرفت على معالم القيادة الإلهية على واقعها لكان انتظار الناس على مستوى العالم وبصورة صريحة وبصوت مرتفع للإسلام لا للديموقراطية، وللقائم (عج) لا لزعامات الأرض المصطنعة والتي لا تلتقيه على خطّه الصاعد القويم.
ولهذا لا تجد جاهلية القرن عدوّاً لها كالإسلام، ولا تجد أثقل عليها من الحديث عن القائم عليه السلام ومقتضياته، وهي لا تبذل جهودا مضادة على جميع مستوياتها وفي العالم كلّه كما تبذل في مواجهة الإسلام وتشويهه والكذب عليه، ومحاولة تزييفه ومسخه، ومزجه بالرديء الساقط، وإسقاطِ رموزه وقياداته، والتقوّل عليها وتغييبها، ولا تترك شيئاً في الوسع إلا وبذلته للحيلولة بين الصورة الحقيقية للإسلام وقياداته وبين جماهير الأمة المسلمة فضلاً عن جماهير العالم.
وهنا تكبر مسؤولية الرساليين فيما يتعلق بتبليغ الإسلام ونشره وتوصيله وعرضه على العقول والأفئدة بما هو عليه من حُسن وصدق وأصالة وإخلاص وكفاءة وشمولية وعلم وروعة وتخطيط ودقة منهجة ورحمة ورأفة.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى وعلى آله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، اللهم انصر من نصر الدين، واخذل من خذل الدين، وأنزل غضبك بمن ناوأه وحاربه وكايده، وناصب حماته ودعاته وأهله العداوة، وطلب لهم السوء والمضرة فإنه لا خاذل لمن نصرت، ولا ناصر لمن خذلت، ولا رادّ عمن عاقبت، يا قوي يا عزيز يا متين.
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 – هذه الجملة وردت في دعاء عرفة المشهور. بحار الأنوار ج 95 ص226.
2 – أقول البلايين وليس خصوص الشيعة، أو عموم المسلمين فحسب.

زر الذهاب إلى الأعلى