خطبة الجمعة (328) 2 جمادى الثاني 1429هـ – 6 يونيو 2008م

مواضيع الخطبة:

* متابعة موضع الذلة *الإمام الخميني: الثورة والدولة *تذكير مهم سريع

نحن لا نستطيع أن نتصور مدى انحدارة الأمة والمنسحق الخطير الذي كان يمكن أن تصل إليه لو لم تحدث الثورة الإسلامية المباركة، ولولا أن قامت الدولة الميمونة. لقد كان العد التنازلي لمستوى الأمة سريعاً جدّاً وكل العوامل كانت كفيلة بأن تنحدر بالأمة انحدارة سحيقة مروّعة.

 

الخطبة الأولى

 

الحمد لله الذي رغّب في ثوابه وجنّته، وحذَّر من ناره وعقوبته، ولم يترُك لذي حُجّةٍ حجّة، ولا لذي عُذرٍ عذراً؛ هدى إلى النجدين، وأرسل الرسل مبشّرين ومنذرين، وأنزل الكتب بالحقّ المبين، وجعل في الأنفس آيات، وفي الآفاق بيّنات تستنطق العقول، وتستثير الفِطَر، وتنبّهُ من الغفلة، وتوقظُ من السَّكرة، وتدفع الشبهة، وتزيح الغموض، وهي قائمة في النفس ما حييت وكان لها تكليف، ومبثوثة في الكون دائماً وعلى كل طريق.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليماً كثيراً كثيراً.
عباد الله ألا فلنتّق الله؛ وإلا فليبحث العاصي عن ربٍّ غيره سبحانه، يمدُّه بالوجود والحياة والرزق، ويقوم على تدبيره ولن يجد، وليطلب حِمىً من دونه، وعاصماً من أمره، ومفرّاً من قضائه وقدره ولن يحصل، وليستغنِ عنه طرفة عين، وذلك مستحيل.
ومن طلب العزّ فليطلبه من الله فلا عزّ إلا عزُّه، ومن همَّه أن يستدفع الذل فليلجأ إلى الله إذ لا لجأ إلاّ إليه، ولا قدرة تقوم لقدرته.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبدالله خاتم النبيين والمرسلين وعلى آله الطيبين الطاهرين، اللهم اغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم إنّا نعوذ بك من خسارة النفس بمعصيتك، ونسألك تمام النجح بطاعتك، وأن تكفينا ما يؤذينا، وتوفقنا لما ينفعنا ولا يضرنا، ولما يزيدنا من قربك ورضاك يا أكرم من كل كريم، وأرحم من كل رحيم.
أما بعد فهذه تتمّة لحديث الموضوع السابق الذُّل:-:
“(لمّا عبّأ عمر بن سعد أصحابه لمحاربة الحسين عليه السّلام وأحاطوا به من كلّ جانب حتّى جعلوه في مثل الحلقة… فقام الحسين عليه السّلام ثمّ قال)…. ألا وإنّ الدّعيّ بن الدّعيّ قد ركز بين اثنتين بين القلّة(1) والذّلّة، وهيهات ما آخذ الدّنيّة، أبى الله ذلك ورسوله، وجدود طابت، وحجور طهرت، وأُنوف حميّة، ونفوس أبيّة، لا نؤثر مصارع اللئام على مصارع الكرام..”(2).
مصرع اللئيم في ذاته، ولبّ روحه، ومعناه وإنسانيته، أما مصرع الكريم فموضوعه جسدٌ من لحم ودم، أما الروح عنده فتعيش أقصى لحظة التعالي حين مصرع البدن، وتصل إلى قمّة مجدها في تلك اللحظة.
والذلّة على أكثر من ضرب:
هناك ذلّةٌ شخصيّة لا تمسّ دين الله في صورته العامّة بسوء.
وذلّة أخرى تصيب الدين بالوهن.
وثالثة ذلّة دنيا تُحافظ على كرامة الدين، أو على مصلحة المؤمنين، وتكون تضحية بسمعة الدنيا من أجل دين الله تبارك وتعالى.
الذّلّة الأولى مثالها أن يطلب الإنسان المباح كزواج من امرأة ولكنّه من أجل ذلك لا يُبقي ولا يذر من وسيلة تذلُّل واسترضاء وبذل ما لا يصح له بذله من نفسه وإن لم يكن يمسّ دينه إلخ إلا وأخذ بها. تجده يتوسل بالكلمة المُهينة، بالسعي الذي يحطّ من قدره في النّاص توصّلاً لهذا المطلب أو أمثاله، وإن لم يصل الأمر في هذا البذل وهذا التذلّل إلى ما يُصيب دينه، ويخلق كارثة لدينه، وهو من الذّل الذي لا ينبغي ولا يليق بالمؤمن إلا أن يترفّع عنه، وأن يطلب معالي الأمور وما يليق به من الرغائب وبالوسائل اللائقة.
الذلّ الثاني الذي فيه مهانة الدين، أن نجد رجلاً يحمل سمة الدين وعنوانه، ويمثّل في قلوب النّاس رصيداً ضخماً للدين، ويملك موقع تقدير واحترام في أوساط الأمة المتديّنة، وإذا به يقبّل الآناف والجباه ويتضعضع، ويستكين، ويهن أمام سلطان من السلاطين من أجل حطام دنيا أو ما إلى ذلك. هذا ذلٌّ يُسجّل وهناً على دين الله في نفوس المؤمنين، وقد يسقط قيمة الدين عند قسم منهم. ما أبشع هذه الصورة من الذلّ، وأشدَّ خطرها!!
وربما يتجاوز الأمر ذلك، وهو أن يُطلب منه التبرّي، وربما جاز التبري على مستوى الكلمة حين الاضطرار الخانق، لكن هذا العرض حينما يكون على أكبر فقيه في الأمّة، وعلى شاشة التلفاز، لو جرت الكلمة السطحية على لسانه انهزم الدين في نفوس الناس بانهزامه وهان، وذلّت الأمة، فعليه أن يتحمّل القتل من دون أن تجري الكلمة ولو كاذبة على لسانه.
{إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً}(3) جاءت في حقّ عمَّار رضي الله عنه كما هو المروي حيث قال كلمة الكفر تحت ضغط التهديد بالقتل، ولم يخطئه القرآن الكريم لاضطراره، وعدم جدية كلمته، واطمئنان قلبه بالإيمان. لكن لم يكن عمّار في الموقع الذي كنّا نتحدث عنه قبل قليل، والذي تتسبَّب مثل هذه الكلمة بلحاظه في هدم قيمة الدين وتوهينه في نفوس المؤمنين.
وهناك الذلّ الذي ضاق به صدر حجر بن عدي وأصحاب له في موقف الإمام الحسن عليه السلام من الصلح، وكم تحمّل الإمام الحسن عليه السلام من لوم وتجريح، وتناولته ألسن المخلصين فضلاً عن الألسن المغرضة، والإمام الحسن عليه السلام فوق كل الذين ناصروه إباءاً، وإباء الإمام الحسن عليه السلام يجعل الصلح عليه أمرّ من القتل، لكن لما كانت المصلحة الإسلامية حسب ما رأى تقتضي الصلح فقد صالح، وسليله الإمام الخميني أعلى الله مقامه قد تجرّع كأس الصلح كما يتجرع كأس السمّ أو أشد مرارة في حرب صدّام ضد الجمهورية الإسلامية الإيرانية.
فالذلّ على ضروب، ويأتي القول عن الإمام الحسين عليه السلام بما معناه “الموت أولى من العار” لكن “العار أولى من النار”، العار السطحي، العار الشكلي، العار الدنيوي، العار في نظر غير الملمّ بالدين ومصالح الدين، العار الشخصي الذي ينقذ الدين والذي كان في مثل موقف الإمام الحسن عليه السلام أولى من النار.
الإصرار من الإمام الحسن عليه السلام على الاستمرار في الحرب وفيها القضاء على الثلّة المؤمنة، والقضاء على ذكر أهل البيت عليهم السلام ليدفع عن نفسه الكلمة السيئة من جاهل أو مغرض رغم خسارة الدين الفادحة القاضية فيه ارتكاب النار دفعاً للعار. وهو ليس خيار المعصوم عليه السلام. الصلح كان فيه إنقاذ الدّين، وكان فيه العار الشخصي الدنيوي السطحي؛ وعليه جاء تطبيق “العار أولى من ركوب النار”.
“لا ذلّ كذلّ الطمع”(4).
هناك مذلٌّ للشخص في داخله وهو طمعه في الدنيا، في مالها، في زينتها، في مناصبها، في شهرتها، وهذا الطمع بعد أن يكون طبعاً في النفس، وملكة سيّئة من ملكاتها يكون ملازماً لها، فما يستتبعه من الذلّ ملازم، ودائم، فهذا الذلّ ليس كمثله ذل آخر في ملازمة النفس، ثم إنّ الطمع يفرض على صاحبه بذل أي ثمن ولو كان كل الشرف، ولو كان كل الدين، وليس بعد الدين من غال، فالطمع إذاً يستتبع أسطى وأقوى وأبشع وألصق وأدوم صورة من صور الذلّ.
“رضي بالذّل من كشف عن ضرّه”(5).
الكشف عن الضّر عند الناس، شكوى الفقر، شكوى المشاكل الشخصية، ربما سبب إهانة للشخص، استصغاراً لمن لا يقدّر، لمن لا يزن الأمور بالميزان الصحيح، ربما نال من شخصية المرء عند سامعي هذه الشكاوى. إكثار الشكاوى وعند غير أهل الشكوى يسجّل درجة من الذلّ على الشخص، على عكس ما إذا تصبّر الإنسان، وتحمّل، وظهر بمظهر القوّة، ومظهر الصمود فإنَّ شخصيته لا يُنال منها بسبب ما يراه الآخرون فيها من ضعف.
“من أحبّ الحياة ذلّ”(6).
كلنا يحب الحياة، ولكن هناك حبّاً للحياة ليس معه عقل، ولا دين، هو حبٌّ يصل إلى حدّ سلب الشعور بالكرامة، وهذا الحب الجنوني العارم بلا حدود، والذي يجعل صاحبه يقدّم الحياة على كل شيء مما يعتزّ به وأكبر ذلك الدين هو حبٌّ مذلّ.
من أحب الحياة هذا الحب حبّ كل سبب من أسبابها، وسلك كل طريق من الطرق ولو كانت منحطّة من أجل الحفاظ عليها، وبذل كل ما في وسعه وإن كان أكبر ما هو عليه وهو دينه في سبيل هذه الحياة.
والمرء الذي يحبّ الحياة هذا الحبّ فيكون الذليل في الحياة لا يرى الحياة بالمنظار الصحيح، إنه يراها حياة بدن، والحقّ كل الحق أن نرى الحياة حياة روح، وحياة معنى، وحياة كرامة، وحياة رسالة، وحياة مبدأ قبل أن نراها حياة جسد من لحم ودم.
“كل عزّ لايؤيده الدّين مذلّة”(7).
لو طلب النصر بالظلم والباطل، لو طلب الغنى بالظلم والباطل، لو طلب أي موقع يُظهره أعز الناس في الناس عن طريق معصية الله ففهم الحديث يقول لنا أنه هو الذليل، ويكفي أن صاحب هذا العزّ الكاذب ذليل عند الله عزّ وجلّ، والعزيز عند الصغير، الذليل عند الكبير أعزيز هو أم ذليل؟! العزيز عند السوقة، الذليل عند الصفوة، عزيز أم ذليل؟! إنه ذليل، كل الحكماء، كل الكبار في العقل، كل المتقدِّسين يرون هذا الأمر ذلاًّ، والعادي من الناس يراه عزّاً، ماذا نقول عن صاحبه عزيز أم ذليل؟! فكيف إذا كان الأمر أن الخلق يروني عزيزاً وأمّا الخالق فأنا عنده ذليل بهذا الفعل حيث طلبت العزّ عند الحقير طلبته عن طريق الذل والهوان في نظر العظيم. محكوم عليّ عند الله بأني ذليل، فأنا في الحق ذليل أم عزيز؟ أنا ذليل، وإن أجمع الناس بخطئهم وجهلهم ونظرهم القصير على عزّي لأني ملك، لأني الأشهر، لأني الأكبر ثروة.
وهذا الرجل الذي طلب العزّ من غير طريق الله وبمعصيته أين مآله؟ إذا كان مآله في أشدّ النّاس حقارة في النار فكيف يكون العزيز؟
“قال رجل للصّادق جعفر بن محمّد عليهما السلام: إنّه قد وقع بيني وبين قوم منازعة في أمر وإنّي أريد أن أتركه فيُقال لي: إنّ تركك له ذلّ فقال عليه السّلام: إ نّما الذّليل الظّالم”(8).
الموقف الواحد يأخذ به أحدنا فيكون به ذليلاً، ويأخذ به الآخر فلا يكون به ذليلا بمقياس الله سبحانه وتعالى، الأول لا يدخل في الخصومة انطلاقاً من الشعور بالضعة، من قبول نفسه بالهوان، من كونه يشعر بأنه الصغير، ومن تقديمه الراحة في ذلٍّ على التعبِ في عزّ فهو الذليل حقّاً، والآخر يترك الأمر والدخول فيه تنزّهاً وترفّعاً واشتغالاً بالمعالي فلا ينازع على قطعة أرض مع جاره مثلا أو ابن عمّه لا لخوف وما إلى ذلك، وإنما للترفّع وعلوّ الهمّة ومثله لا يقال عنه ذليل.
والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله الطيبين الطاهرين.
اللهم صل على محمد وآله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم أصلح ما فسد من أمور المسلمين، وقوِّم بلطفك من مُعْوجِّنا، وزد في إكرام محسننا، وتجاوز عن مسيئنا، وتب على عائدنا، واستر عيوبنا، واكشف كروبنا، وشاف مرضانا، واغن فقراءنا، ورد كيد الأعداء عنّا، وانصرنا بنصرك العزيز، واحفظنا بحفظك الأكيد.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ}

 

الخطبة الثانية

 

الحمد لله الذي لا يقضي إلا بعدل، ولا يقدِّر إلا بحكمة، ولا يحكم إلا بحقّ، وهو المتفضِّل على عباده. ومن تفضّله أن حبّب إليهم الإيمان رأفة بهم، وإكراماً لهم، ورفعة لشأنهم، وتوفيراً لحظّهم من الخير، وكرّه لهم الكفر شفقة عليهم، وتنزيهاً لهم عن الخسّة والدناءة، ونأياً بهم عن الشر. حمد ربنا لا يبلغه حمد حامد، وشكره لا يفي به شكر شاكر، وعفوه لا ييأس منه مسيء، وعقوبته عدل، وثوابه تفضّل، وجزاؤه فوق تطلّع المحسنين.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليماً كثيراً كثيراً.
عباد الله أوصيكم ونفسي الأمّارة بالسوء بتقوى الله وعدم الاطمئنان إلى ما تحدّث به النفس من زكاتها؛ فإنّها لكثيراً ما تخدع صاحبها فيعمى عن الخير، ويسقط في الشر، وينحدر بعد علوّ، وينحرف بعد استقامة، ويضلّ بعد هدى، ويسفل بعد رفعة.
ولئن أعطى امرؤ القياد من نفسه لهواه فقد أذهب قيمة عقله، وضاع دينه، وأُتلف شرفه، وانهدمت مروءتُه، وكان سيره عثاراً، وحياته خسارا، ومأواه نارا، وأبئس بها من مأوى وقرار.
اللهم اغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم. وأعذنا ربّنا من أن نبيع العقل بالهوى، والرشد بالسفه، والهدى بالضلال، والإيمان بالكفر، وأن نختار النار على الجنّة.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبدالله خاتم النبيين والمرسلين الصادق الأمين، وعلى علي أمير المؤمنين وإمام المتقين، وعلى فاطمة الزهراء الصديقة الطاهرة المعصومة.
وعلى الأئمة الهادين المعصومين حجج الله على عبادك: الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن المهدي المنتظر القائم.
اللهم صل على محمد وآل محمد، وعجل فرج ولي أمرك القائم المنتظر، وحفه بملائكتك المقربين، وأيده بروح القدس يارب العالمين.
عبدك وابن عبديك، الموالي له، الممهد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، وفقهم لمراضيك، وسدد خطاهم على طريقك وانصرهم نصرا عزيزا كريما مبينا ثابتا دائما.
أما بعد فهذه بعض كلمات:
الإمام الخميني: الثورة والدولة:
كانت على يده ثورة، وأقام بالثورة دولة، وكل منهما باسم الإسلام، وعلى خطّه.
ثلاثة أسئلة هنا:
1. ماذا كلّفت الثورة والدولة؟
2. ماذا أعطتا؟
3. أيهما أكبر، ما كلّفت أو ما أعطت؟
السؤال الأول: ماذا كلّفتا؟
شيء ممّا كلّفته الثورة والدولة هو هذا:
اضطرابٌ أمنيّ هائل مزلزل في إيران.
انقسامات حادة خطيرة على بعض المستويات.
دماء غزيرة عزيزة من رجال ونساء.
حرق ثروة هائلة.
خسارة البعض لدينه في الصراع.
سقوط شواهق من رجال كبار.
وقوع في سلبيات دينية من هذه الفئة أو تلك، ومن هذا أو ذاك.
ممارسة قتل بظلم من البعض لا نستبعده في حمئة الصراع.
عداوة القوى العظمى ومن يدور في فلكها.
فرض أنواع الحصار كالسياسي والاقتصادي والعلمي.
الاستهداف المباشر عن طريق العدوان العسكري.
محاولة فرض العزلة على الدولة.
حرب إعلامية شرسة واسعة.
التآمر المستمر على الحكم والإثارة الدائمة للداخل، وبث شبكات الإفساد.
كل هذا هو شيء مما كلّفت الثورة والدولة، ولا زالتا تكلّفان مثله.
السؤال الثاني: ماذا أعطتا؟
هذا مما أعطتا:
‌أ. إقامة دولة بصيغة إسلامية فقدها العالم الإسلامي لقرون متعاقبة وكادت تكون من المستحيلات حتى في ذهنية علماء الأمة ومثقفيها الإسلاميين.
‌ب. استقلال حقيقي لشعب مسلم وحكومة بلد مسلم عن التبعية الأجنبية فكرا، إرادة، سياسة، وفي مختلف الأبعاد.
‌ج. انتقل الشعب من خانة الإلغاء والتهميش التي كانت مفروضة عليه إلى المشاركة الفاعلة في صنع الواقع السياسي وغيره مما يؤمن به ذلك الشعب ويرضاه، ومما كان مغيّباً ومقصيّاً عنه في السابق.
‌د. اكتسب الشعب تصدّر الحركة الإسلامية في العالم، والموقع الأول في مواجهة الكفر العالمي، واحتل موقعاً مهمّاً جدّاً في الخارطة السياسية بما يفرض على الآخرين أن يحسبوا له ألف حساب بعد أن كان الكمّ التابع والمهمل.
‌ه. تحقق للدولة حكومة وشعبا مركز علمي وصناعي سبّاق ما كان يحلم به لو بقي الوضع السياسي الداخلي هو الوضع.
‌و. أحدثت الثورة والدولة إيقاظاً عاماً لروح العزة والكرامة والاستقلال لدى أبناء الأمة من مختلف التلاوين.
‌ز. أيقظت الثورة والدولة حسّ التدين وأعطت احتراما وتقديرا للدين في مختلف أوساط العالم.
‌ح. نشّطت الثورة والدولة بطبيعتهما وانعكاساتهما التلقائية الإيجابية ووسعت حركة المقاومة في الأمة لتخلّف الداخل، وعدوان الخارج، وتعمَّمَ فكر التغيير الصالح بصورة واسعة داخل الأمة وخارجها.
‌ط. أعطتا امتداداً للإسلام في أوساط الغير، بما خلقت من أجواء انفتحت بكثيرين على التدين به بعد دينهم الأول، أو حالة اللادين التي كانوا يعيشونها.
‌ي. هزم الطرح الإسلامي المنتصر والمنقذ الطروحات الأخرى المتنافسة على الساحة الإسلامية وقياداتها.
‌ك. أنقذتا من ضياع شبه كامل للأمة لو امتدت بها الحال السابقة مع مضاعفات التطور السلبي الخطير على خط الانحراف عن الدين، والبعد عنه، وتنامي الهيمنة الاستكبارية على الأمة.
نحن لا نستطيع أن نتصور مدى انحدارة الأمة والمنسحق الخطير الذي كان يمكن أن تصل إليه لو لم تحدث الثورة الإسلامية المباركة، ولولا أن قامت الدولة الميمونة. لقد كان العد التنازلي لمستوى الأمة سريعاً جدّاً وكل العوامل كانت كفيلة بأن تنحدر بالأمة انحدارة سحيقة مروّعة.
‌ل. أعادتا خلقا كثيرا إلى حظيرة دين الله تبارك وتعالى والخط العابد الصاعد إليه سبحانه بعد مغادرة غبيّة عن الإسلام، بعد انفصال خاسر عن الإسلام، بعد التيه الذي أصاب كثيرا من أبناء الأمة.
‌م. نشّطتا ووسّعتا ونضّجتا وعمّقتا الحركة الفكرية الإسلامية والإنتاج العلمي في إطار هذا الفكر، ودفعتا بالفقه إلى ارتياد مساحات جديدة، والانفتاح على آفاق الفقه الحركي، وفقه الدولة بما أثرى هذا البعد من الفقه، والذي كان يعاني من غياب كبير من اهتمام الفقهاء بالقياس إلى مسائله المستجدة إلا ما شذّ، لكون هذه المساحة من الفقه لم تكن محل الحاجة العملية في تقدير الكثير من فقهاء الأمة.
‌ن. استعادتا ثقة جماهير الأمة بنفسها ودينها وانتمائها، وقدرتها على العودة إلى صدارة الركب الحضاري من جديد.
‌س. رسَّختا الإيمان والثقة عند أبناء الأمة بقيادتها الدينية الصادقة المتمثلة في فقهائها الصالحين الأتقياء الأكفاء الورعين، وقدرة هذه القيادة على تحمّل الأمانة بصدق وثبات ومبدئية تمنع أصحابها من المساومة على مقدّسات الأمة ومصالحها العليا واستقلالها وكرامتها وكم من ثورات ودول تحت قيادات أخرى باعت الدين والأمة بثمن بخس وهي تحمل شعار الإسلام!!
‌ع. قطعتا يد الأجنبي عن التلاعب بثروات البلد الذي أقيمت على أرضه التجربة الإسلامية الحديثة الرائعة والتي هي في طريق التكامل إن شاء الله.
‌ف. قرّبتا وأكّدتا أمل الحكومة الإسلامية العالمية والنموذجية على يد قائم آل محمد صلى الله عليه وآله، وعجل فرج قائمهم، وأعطتا انشداداً أكبر، ورفعت من المستوى الفكري والنفسي والعملي ليوم الظهور المبارك.
‌ص. أوضحتا وبرهنتا بكل جلاء على صدق وأهمية وأصالة الأطروحة التي قدّمها أهل البيت عليهم السلام لمعالجة مشكلة زمن الغيبة عندما ربطوا الأمة وعيا وشعورا وموقفا عمليا بخط الفقهاء العدول ومرجعيتهم الشاملة. وكشف ذلك عن التخطيط الرائع والذي ينظر بعين الله للمستقبل، والذي كان على يد الأئمة عليهم السلام في زمن الغيبة.
السؤال الثالث: أيهما أكبر ما كلّفتا أو ما أعطتا؟ البذل أم الكسب؟
‌أ. المشروع ضخم، وقد كلّف الكثير بمقتضى حجمه وأهميته. وهو بذل لابد منه في كل المشاريع المماثلة والمشابهة، وكذلك ما هو أقل وزنا، وأخفض هدفا.
‌ب. الحرية والاستقلالية والكرامة الإنسانية والدين العظيم لا يعادله ثمن. والإنسان بإنسانيته وحريته وكرامته ومبدئيته ورساليته ودينه قبل أن يكون بما يأكل ويشرب ويلبس ويسكن، ونحن أمة تبيع دنياها بأخراها، ولا تبيع أخراها بدنياها، أمّة تضحي بضرورة الجسد لضرورة الدين والروح، ولا ترتكب العكس إلا بمقدار ما انسلخت عن هويتها.
‌ج. ولا طريق لتحرير الثروة، ورد العدوان عنها، وقطع يد سرّاقها والمستولين ظلما عليها وهم أكبر سرّاق العالم وناهبيه إلا بالبذل الكبير الذي يحفظ تدقِّق عائدها المستقبلي على مدى الأجيال المتعاقبة لصالح أصحابها أصحاب الأرض وتاريخها الحقيقيين.
إنه جيل واحد يضحي بشيء من ثروة البلد من أجل حفظ هذه الثروة لكل الأجيال القادمة، ومن أجل أن تتنامى على يده ويدها المخلصتين الحرتين الفاعلتين.
‌د. وإذا عانت البلاد التي استطاعت تحرير اقتصادها من الهيمنة والسطو الأجنبي من مشكلات اقتصادية للحروب المفروضة من العدو، وألوان الحصار والتآمر، والحاجة إلى الإنفاق على التسلح مما يحمي أمن البلاد فإن ذلك مرهون بوقت معيّن، وحتى التغلب على هذه المشكلات المثارة.
ولنتذكر حصار شِعب أبي طالب الذي نال من النبي صلى الله عليه وآله والهاشميين ما نال من سطوة الجوع والضعف، ولكن من نتائج ذلك الحصار أن قامت دولة عملاقة وكبرت الثروة في يد المسلمين حتى أصابت بعضهم بالجنون؛ جنون التلهّي بالدنيا، ونسيان الآخرة.
ولا يقاس ذلك بحالة الاستسلام للعدو الجاثم على صدر أي بلد وشعب والمستنزف لخيراته، والمتصرف فيها تصرف المالك المطلق، والذي لا يبقي للشعب المستعبد إلا الفتات الذي يسمح كعدوّه باستمرار استثماره له.
وأنت إذا نظرت إلى شعوب البلاد الغنيّة بثرواتها الطبيعية وما يستخرج منها، وما هي عليه من وضع معيشي وجدتها في جمهورها العريض فقيرة جدا بالقياس إلى طبيعيّ تلك الثروة ومصنّعها.
وأمّا البلاد الفقيرة بطبيعتها فلا ينقذها استعباد الطغاة العالميين من فقرها إذا لم تزدد بذلك فقرا على الفقر، وفاقة على الفاقة، هذا إلى جانب الذل المقيم، والهوان الساحق.
والطغاة لا يبحثون عن بلدان يعالجون فقرها، وإنما همهم بلدان يستثمرونها، ويستغنون بها، ويستثمرون شعوبها لمطامعهم.
تذكير مهم سريع:
هذا تذكير مهمّ، ونداء من نداء الدين لكل أب مؤمن، وأم مؤمنة، ولكل شاب وشابّة، وناشئ وناشئة، ودعوة جادّة يطلقها المسجد والحسينيّة ومشروعهما للتعليم الديني الصيفي لاغتنام فرصة التزود بموائد الفكر والروح التي يقدّمها هذا المشروع في جميع أنحاء البحرين لفلذات الأكباد من بنين وبنات لبناء وعيهم الإسلامي، وتقويم أخلاقهم، وتحصين ذهنيتهم ونفسيتهم من التأثيرات السلبية الفتّاكة بأبنائنا وبناتنا والناتجة من الثقافة الفاسدة، ومشاريع التخريب الفكري والروحي والنفسي التي تستهدف المجتمع الإسلامي كلّه.
هذا نداء لأولياء الأمور بأن يهتمّوا بأمر الأبناء والبنات من ناحية دينية، ويفرِّغوا ذمتهم أمام الله سبحانه وتعالى بدفعهم إلى الارتباط بالمسجد والحسينية في مشاريعهما الدينية الصيفية المأمونة.
وهذا نداء للمعلّمين والمربّين بأن يرغبوا في ثواب الله تبارك وتعالى ويبذلوا أقصى الجهد في تربية الجيل الناشئ التربية الدينية الحسنة، وأن يكونوا خير مؤتمن في الناس على أهم أمانة وهي أمانة الدين والإنسان.
وهذا نداء لكل القادرين على البذل الذي يقوّم هذه المشاريع للتطلّع لما أعده الله عزّ وجلّ من جزاء المحسنين، فلا يتركوها تعاني من أي عجز مالي ولو جزئي.
وهذا نداء للمجتمع كلّه بأن يعرف الضرورة البالغة، والقيمة العالية لهذه المشاريع، ومدى وجوبها الشرعي وهو وجوب حتميّ لا تساهل فيه. وأن يقدِّر لكل القائمين عليها، والمشاركين فيها، والداعمين لها بأمانة وصدق دورهم الكبير وخدمتهم الجليلة وعملهم الصالح في النهوض بهذا التكليف الكفائي الذي لو قصّر فيه المجتمع لعمّه سخط الله وعقوبته.
اللهم صل على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم أحينا محيا محمد وآل محمد، وأمتنا مماتهم، وابعثنا مبعثهم، وآونا معهم إلى جنة النعيم.
اللهم أعنّا على أنفسنا وعلى الشيطان الرجيم، وعل كل ضالّ مضل من الجنس والإنس أجمعين، وانصرنا على الكافرين والمنافقين .
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}

______________________________
1 – القلّة: قلّة العدد. وفي بعض النسخ السّلة.
2 – بحار الأنوار ج45 ص9.
3 – 28/ آل عمران.
4 – بحار الأنوار ج75 ص165.
5 – شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج18 ص84.
6 – بحار الأنوار ج6 ص128.
7 – ميزان الحكمة ج3 ص443.
8 – ميزان الحكمة ج3 ص443.

زر الذهاب إلى الأعلى