خطبة الجمعة (330) 16 جمادى الثاني 1429هـ – 20 يونيو 2008م

مواضيع الخطبة:

*متابعة حديث العادة *المواطنة*الوضع الأمني *موقف الناس وموقف الحكومة*الفساد والوضع الأمني *بأيهما يأخذ المسلم؟

السكوت على غبن الحقوق، والإيغال في الظلم، والتهميش والإقصاء إنما هو على خلاف المواطنة الصالحة والإخلاص للوطن.

الخطبة الأولى

الحمد لله الحيّ الذي لا يموت، القدير الذي لا يعجز، الغالب الذي لا يُغلب، القاهر الذي لا يُقهر، القيّوم الذي لا يعيى ولا يغفُل، الجواد الذي لا يبخل، الجليل العظيم، العزيز الحكيم.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليماً كثيراً كثيراً.
أوصيكم عباد الله ونفسي الأمّارة بالسوء بتقوى الله، وتجنّب الغرور، والاحتراس من الكبر، والتبرّي من الزهو والعجب والفخر.
وعلام الغرور؟! ولِم الكبر؟! وبم الزهو والعجب؟! ومن أين الفخر؟! ألسنا العبيد المملوكين، الأرقّاء المقهورين؟! ألسنا الراحلين الفانين؟!
من أين الغرور، والكبر، و الزهو والعجب لمن يموتون ويقبرون حتى يختلطوا بالتراب وعندها يوطئون، وإذا بُعثوا للحساب والمساءلة بهتوا، وإذا خسِرت موازينهم عُذّبوا العذاب الأليم، وخلِّدوا في شقاء الجحيم؟!
من أين كل ذلك لمن حياتهم عرضة للأسقام والآلام، والنوازل والفجائع، والرزايا والبلايا، والهموم والغموم، وفضائح الذنب، وعيوب الإثم؟!
لا غرور لإنسان لا يدري متى الرحيل، وإلامَ المصير، وهل المنقلب إلى الجنة أو النّار، إلى النعيم أم السعير؟!
لا غرور إلا مع جهل وغفلة، ولا كبر إلا مع سفه وجنون، ولا فخر إلا من ناسٍ لربّه ونفسه، ومبدئه ومصيره، وما هو عليه من حال. ولا زهو ولا عجب إلا مع عمى في البصيرة، وفقد للشعور.
اللهم صل على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم إنا نعوذ بك من أن نضلّ وننسى، ونخسر البصيرة، ونعمى عن الحق، ونقع في التيه، فلا نجد إلى طريقك هدى، ولا من سخطك منقذاً، ولا من النّار مغيثا، ولا من العذاب مُقيلاً.
ربنا هب لنا رحمتك ورأفتك ولطفك وتحننك وتفضلك ومنّك يا أكرم الأكرمين ويا أرحم الراحمين.
أما بعد فهذه وقفة قصيرة مع موضوعنا السابق: العادة:
“الفضيلة غلبة العادة”(1).
“أفضل العبادة غلبة العادة”(2).
“بغلبة العادات الوصول إلى شرف المقامات”(3).
“غالبوا أنفسكم على ترك العادات وجاهدوا أهواءكم تملكوها”(4).
العبادة قد تأتي انسياقاً وراء العادة بلا حضور ذهن، ولا توجّه نفس، ولا حيوية روح، وهذه ليست أفضل العبادة وإنما هي عبادة من أخس مستويات العبادات، فكيف تقول الكلمة عن علي عليه السلام وهو الصادق “أفضل العبادة غلبة العادة”؟!
العادة قد تصل بالعبادة إلى حدّ الملكة، فلا تجد النفس في ممارستها العباديّة شيئاً من النفرة، وشيئاً من الاستثقال، إنما تأتيها مقبلة، مستأنسة، وحين تُؤتى العبادة في إقبال واستئناس مع حضور روح، وتوجّه صادق إلى الله عز وجل، ووعي بقيمة العبادة، ووعي بعظمة المعبود تكون أفضل العبادة.
فبما تخلقه العادة من جوّ تسهيلي للحضُور الروحيّ في العبادة، وصدق التوجّه، وعدم مقاومة النفس للطاعة والاشتغال بمقاومتها تكون العبادة أفضل العبادة عن طريق العادة أفضل عبادة.
“بغلبة العادات الوصول إلى شرف المقامات”
“غالبوا أنفسكم على ترك العادات وجاهدوا أهواءكم تملكوها” الهوى والعادة يتناصران في مواجهة النفس على حرفها عن الخط الإلهي القويم، ويصبح أمر مقاومة النفس للهوى والعادة أمراً صعباً، ويحتاج الإنسان إلى أضعاف ما كان عليه أن يبذله من جهد قبل تكوّن العادة في مواجهة وسوسة الشيطان والنفس، لكن لا يصل الأمر إلى أن تحكم العادة أحدنا إلى درجة أن يستحيل عليه تغييرها. صحيح أن الجهد يحتاج إلى مضاعفة، لكن يبقى الانتصار على العادة ليس مستحيلاً على الإرادة المؤمنة حين تستيقظ، وحين تحيا وتنشط.
ولابد من مراجعة النفس حيناً بعد حين لنجد ما تغلغل فيها من عادات سيّئة، وما احتلّ مكانا فيها من هذه العادات بحيث يعطّل سيرها إلى الله تبارك وتعالى لندخل مع كلّ عادة وجدت في داخلنا درجة من الترسّب في مواجهة حادّة لنقتلعها من الجذور.
النفس تستصعب على صاحبها حين تتشبّث بعادة من العادات لو حاول أن يتخلص من هذه العادة، ويصعب قود النفس إلى الطريق الذي يريد صاحبها في ظلّ ترسّب العادات المضادّة وتغلغلها، فما الحل؟
النفس الصعبة تحتاج إلى تذليل، إلى مطاوعة منها للعقل والدين من أجل أن تسلك طريقها إلى الله تبارك وتعالى.
فيأتي قول عليّ عليه السلام هذا المروي:”ذلّلوا أنفسكم بترك العادات…” ما دامت النفس وعاداتها فأنتم لا تستطيعون أخذها إلى ما تريدون، فلابد من مواجهة هذه العادات وتذليلها، والأمر كما سبق قد يحتاج إلى جهود مضاعفة مضنية.
“ذلّلوا أنفسكم بترك العادات وقودوها إلى أفضل الطّاعات، وحملوها أعباء المغارم، وحلّوها بفعل المكارم، وصونوها عن دنس المآثم”(5).
النفس تتعذّر بأنّها لا تقوى على الطاعة، وتوحي كثيراً لصاحبها بأنه الضعيف الذي لا يستطيع أن ينهض بالواجب، وهنا لابد من ترويضها، وأن نحمّلها عبء التكاليف، وندخل بها تجربة التكليف، وإن أبدت من دلالها الكثير في هذا المجال، وإن حاولت أن تعتذر كثيرا إلا أن علينا أن نكون المربّي الحكيم الناجح لها، وتربيتُها لا تتم إلا من خلال خوض تجارب التكاليف، وأن نحملها على فعل المكارم، وأن نصونها عن دنس المآثم وهي تحاول أن تنساقَ بنا إليها.
والنفس تلحّ وتلحّ من منطلق رغائبها وشهواتها على أن نتدنّس، على أن نأثم، على أن نتوحّل في مستنقع الرذائل والقبائح. فلابد من مواجهة حادة شديدة مع النفس لتستقيم.
الخيرُ عادة:
تقول الكلمة عن علي عليه السلام:”تخيّر لنفسك من كلّ خلق أحسنه فإنّ الخير عادة، وتجنّب من كلّ خلق أسوأه، وجاهد نفسك على تجنّبه فإنّ الشّرّ لجاجة(6)”(7).
لا تجدُ بعد شوط من المجاهدة وترويض النفس إلا وأنت على نفس خيّرة، ولا يجد أحدنا نفسه من بعد حين من الإهمال ومن ممارسة الأمور السيئة والخوض فيها إلا وقد شطت نفسه بعيداً عن خطّ الله تبارك وتعالى، وتحوّلت هذه النفس من كونها من أهل الخير إلى كونها من أهل الشر، فشرّ النفس كثيراً ما تبنيه عادات السوء، وخير النفس كثيرا ما نصل إليه عن طريق عادات الخير.
اللهم صل على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم لا تنسنا ربوبيتك وغناك عنّا، وعبوديتنا وفقرنا إليك، ولا تجعل للشيطان الرجيم علينا سلطانا، ولا للنفس الأمارة بالسوء منا استجابة، وارزقنا ذكرك وحمدك وشكرك، وإخلاص الطاعة لك، والاستغناء بك عمن سواك حتّى لا نذل ونشقى يا رحيم يا رحمن، يا حنان يا منّان، يا من هو على كل شيء قدير.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ، فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ، إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ}

الخطبة الثانية

الحمد لله الذي لا يغيب عنه أحد من خلقه، ولا ينسى لأحد رزقه، ولا يعتري الخطأُ تقديره، ولا يدخل الخلل تدبيره، تقديره فوق كل تقدير، وتدبيره أحكم تدبير، لا رادّ لما قدَّر، ولا معقِّب لما حكم، الحياة والموت بيده، ولا خير ولا شرّ إلا بإذنه.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليماً كثيراً كثيراً..
عباد الله علينا بتقوى الله، وأن لا يخرجنا عن خطّ التقوى رضاً أو غضب في صلح أو خصومة، مع قريب أو بعيد، وأن نعِفّ عن كلمة السوء وما يشين ويسقط بقدر قائله عند الله ثم المؤمنين، وأن نرتفع بمستوى الكلمة ولو في أشد لحظات الغضب أخذاً بقضية الإيمان والخلق الحميد، وارتقاءً بمجتمعنا المسلم، وإنقاذاً له من الانزلاق إلى الانحطاط، فإن انحطاط الكلمة ليأخذ بصاحبها إلى انحطاط الفعل، وإذا انحطّت الكلمة ممن خاصمك فلا تنحط على لسانك، واربأ بنفسك ما استطعت عن أن تُستدرج حتى تسفل الكلمة منك، ولنأخذ على أنفسنا بقوّة أن نحسن القول والصنيع.
وليكن دليلنا في مجال الكلمة قوله تعالى في كتابه الكريم:{… وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً}(8)، فنقولها كلمة طيبة نظيفة لائقة على حدّ ما نحبّ أن تُقال لنا.
وليذدنا عن القول القبيح والساقط قوله عز وجل في كتابه العزيز:{مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}(9).
اللهم صل على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
وأخلص نيتنا، ونقّ قلوبنا، وطهّر ألسنتنا، وأحسن قولنا وفعلنا واهدنا صراطك المستقيم، وارحمنا برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم صل على محمد عبدك ورسولك الصادق الأمين، خاتم النبيين والمرسلين، وعلى علي أمير المؤمنين وإمام المتقين، وعلى فاطمة الزهراء الصديقة الطاهرة المعصومة.
وعلى الأئمة الهادين المعصومين: الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن المهدي المنتظر القائم.
اللهم صل على محمد وآل محمد، وعجل فرج ولي أمرك القائم المنتظر، وحفه بملائكتك المقربين، وأيده بروح القدس يارب العالمين. اللهم انصره نصرا عزيزا مبينا ظاهرا، واجعلنا من أنصاره في غيابه وظهوره ياكريم يارحيم.
عبدك وابن عبديك، الموالي له، الممهد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين وفقهم لمراضيك، وسدد خطاهم على طريقك برحمتك يا أرحم الراحمين.
أما بعد فإلى هذه الكلمات:
المواطنة:
لا أريد أن أؤكد على وطنية جماهيرنا لأنّها غير قابلة للتشكيك بأي مقياس من المقاييس حتى تحتاج إلى التأكيد.
والمواطنة والوطنية لا تعني الموافقة على السياسة السقيمة على حدّ الموافقة على السياسة الصحيحة، ولا تعني السكوت على الظلم والموالاة لأي مشروع وإن كان فيه هلاك الوطن والمواطنين، كما في حالة المخطط الذي تحدث عنه تقرير البندر.
السكوت على غبن الحقوق، والإيغال في الظلم، والتهميش والإقصاء إنما هو على خلاف المواطنة الصالحة والإخلاص للوطن.
إن المواطن الصالح هو من يطلب الخير لشعبه وأرضه، ولا خير إلا في العدل الذي به حياة الأرض ومن عليها وما عليها. فالمطالبة بالعدل والإنصاف من صميم المواطنة الصالحة، ومقوّم رئيس للمواطن الصالح، فلا تجد مواطناً صالحاً يسكت على الظلم وهو قادر على إنكاره. والجماهير إنما تهفو للعدالة، وإذا طالبت فإنما تطالب بها.
والمواطن الصالح من لا يخون شعبه في فلس واحد، ولا يزرع الفتنة في أهل وطنه، ولا يبيع شبراً من أرض الوطن على أجنبي، ولا يمكّن له فيها بأي عنوان من العناوين بما يضر بالوطن بأي ثمن من الأثمان. والجماهير بريئة من كل هذا.
والمواطن الصالح هو من يقف مع استقلال وطنه، ومع أي انفراجة في الوضع السياسي العام تبشّر بشيء من مد الجسور وإعادة الثقة، وتحمل بارقة أمل في الاستقرار العادل، والاعتراف بالحقوق، واحترام الكرامة برغم ما يعانيه من ظلم واستهداف وإقصاء في وطنه(10). والتجارب تشهد بأن جماهيرنا هي كذلك.
الوضع الأمني:
يعاني الوضع الأمني من حالة قلق ليست في صالح الجميع، لكن الوضع الأمني القلق من مسؤولية من؟ من مسؤولية غياب دستور عادل أو متوافق عليه على الأقل، أم من مسؤولية المطالِبِ بهذا الدستور؟ من مسؤولية ممارسة التمييز الفاحش والعقوبات الجماعية ومشكلات المعيشة والإسكان والتجنيس والتآمر على الشعب ومواجهة المطالب الشعبية بالهجمات الشرسة على المناطق الآمنة والعقوبات الجماعية، ومسلسل التوقيفات والمحاكمات والعقوبات المشددة، أم من مسوؤلية من يبحث عن حل لمشكلات الوطن ولا يطالب إلا بالتفاهم والحوار السالك إلى الحلول الجذرية الصادقة؟! وكم طالبنا، وكم نصحنا بذلك.
هناك ملفات دائمة مؤرّقة كلّ ما فيها يهدد بتدهور الأوضاع، وبدل أن يخفف من شديد وطئتها تضاف إليها يوميا مشكلة؛ يوماً تقتطع مساحات شاسعة من النسبة الضئيلة المتبقية من أرض الوطن لصالح الشعب، ويوماً تُخرّب المصائد، وآخر تسدّ المنافذ على البحر، ومرة يراد مصادرة مساجد، وتخنق حركة دور العبادة والشعائر. وهناك صحف لا تكف عن الشتم والسب والتخوين والتكفير والتهديد.
الأمن الحقيقي والدائم ليس في السكوت عن المطالبة بالحقوق، وليس في قمع هذه المطالبة، وإنما الأمن الصادق في الاعتراف بالحقوق وتوفيرها ورعايتها. وإذا نبهنا على هذه الحقائق اعتُبر ذلك تحريضاً على العنف، وكأننا نكشف مغطى أو نتحدث عن بعيد، أو كأن الناس لا سمع لهم ولا بصر ولا تفكير، حتى يخفى عليهم الظاهر، ويغيب عنهم المكشوف.
إننا لانقول الكلمة الصادقة للتحريض، إنما نقولها تنبيها على الخطأ، ولأن تكون في الأمور في نصابها الصحيح.
وأين بداية المشكلة؟ وأين بداية الحل؟
دستور مختلف عليه في أول يوم ولد فيه لا يمكن أن يمثّل المرجعية القادرة على الحل، لابد من دستور عادل أو متوافق عليه بين الحكومة والشعب، والحل الصحيح الكامل إنما هو دائماً في العدل.
موقف الناس وموقف الحكومة:
شارك الناس برغم كل الملاحظات السلبية على المشاركة في التجربة النيابية والتي كنا نعرفها جيداً، وقلنا لعلنا نفتح بذلك نافذة على الحل لو تفهّمت الحكومة واجبها في إنجاح تجربة المجلس وهي تمسك بالقرار فيه.
وأصرت الحكومة على إبقاء النوافذ كلها مغلقة، وحوّلت المجلس إلى أداة تنفيذ لمآربها، ووأد وإدانة من خلال قوى الموالاة لمطالب الشعب.
ماذا تتوقع الحكومة من الناس إذا فرّغت النيابي من أي صلاحية فيها منفعة للشعب وحطّمت بذلك كل الآمال؟
هناك طرق وفروض:
طلب الحوار الجدي والمعالجة الهادئة عبر المنابر والندوات والمحاضرات واللقاءات.
الاحتجاجات السلمية الخالية حتى من حرق إطار سيارة واعتراض حركة المرور.
ومع صمم الآذان عن كل ذلك والرمي به في سلة المهملات ماذا يتوقع؟
أن تحرق اُطر السيارات فتتعطل حركة المرور بعض الوقت، وإذا أتى رد الفعل القاسي تصاعد الفعل، وكلما حصل تصاعد في الفعل، حصل تصاعد في رد الفعل ونصير إلى وضع أمني مقلق بصورة حقيقية.
فلماذا تسقط الحكومة القيمة العمليةَّ لأسلوب الكلمة الناصحة والمطالبة بالحوار فتؤزم الوضع؟!
لماذا اعتماد أسلوب القمع والغطرسة والفوقية المادية والزهد في أسلوب الحوار وردّ الدعوة إليه؟!
ماذا يريد النّاس؟
لا حديث لأحد عن مقاومة النظام في نفسه. كل الحديث عن المطالبة بحقوق المواطنة، وأن يُعامل المواطن على أساس ما يفرضه دستور عادل أو متوافق عليه من حقوق وواجبات على نحو المساواة.
وماذا يريد منا الحاكمون؟
أن نبارك ونمضي كل ما يصدر بحقنا نحن المواطنين من اضطهاد وظلم في ديننا ودنيانا، وأن نتحول إلى سائمة وأخس من سائمة لأن السائمة يهمها علفها. وما يراد لنا أن لا نحتجّ حتى على أزمة صراخ البطن وعري الظهر. وهل هذا ممكن في حق أي شعب فضلاً عن شعب ربّاه الإسلام وأدّبه وأعزه القرآن؟
يريدوننا طائفيين:
يجرنا الحكم بصحافته وإعلامه وتصرفاته وتصريحات من تصريحات رسميين كبار فيه إلى الطائفية جرّاً.. والطائفية نفق مظلم إذا دخله شعب لم يكد يخرج منه أو يفتح عينيه على النور، والدخول فيه تنكّرٌ للضرورة الإسلامية، وللعقل ولحق الوطن والأخوة الدينية.
وإننا لنأبى أن ندخل في هذا النفق، وأن نستجيب للوقوع في هذا الشرك الخبيث. لن نكون طائفيين، لن نكون إلا وحدويين صادقين مهما كانت المحاولات(11).
ونحن نبرئ الأخوة السنة على مستوى الشعب من الاشتراك في إثم التمييز، ونرى أن ما يصلهم من حقهم في جو التمييز هو أقل بكثير مما لهم ولإخوتهم في الوطن من حق وما يمكن أن يصل إلى الجميع في جو العدل والمساواة والإنصاف، وأن المستأثر بالفرص الكبيرة هم قلة من النّاس قد يدخل فيهم الشيعي أو السني ممن تأهل تماماً للتآمر على مصلحة الشعب.
وأقولها صادقاً أن لو كان التمييز موجهاً بالدرجة الأولى للإخوة السنة بدل الشيعة لكان لساني أطول وأنطق وأصرح في إنكار هذا المنكر، والاحتجاج عليه بالصورة التي لا أمارسها الآن لخوفي من توهم بعض الأخوة السنة أن الكلام عن التمييز ضد الشيعة يراد منه إنقاص حظّ السنة أو أنه نقض لمصلحتهم(12).
وأقولها مخلصا للشيعة والسنة كونوا أذكى وأوعى وأخلص من أن تستجيبوا لمحاولات إدخالكم في النفق الطائفي المظلم والتغذّي على جيفة الطائفية وإشعال فتنتها(13). وإنه لفاقد لدينه من استطاع أن يدرأ عن المسلمين في أي مكان هذه الفتنة فلم يفعل، أما من سعى لإيقاد نارها فهو عدوّ لله ورسوله والمسلمين شيعيّاً كان أو سنيّاً وأيّاً كان.
الفساد والوضع الأمني:
الفساد كلّه سياسيّاً، اقتصادياً، إداريّاً، خلقيّاً، دينيّاً كان أو غيره يجامعه ويلازمه فساد الوضع الأمني، ويخلق مواجهة دائمة بين قوة الحكومة والرأي العام، ولا يتوقف معه مسلسل الأزمات الأمنية حتى نصل إلى حد الكارثة، ونقع فيها. أتكلم عن وطن بكامله.
فالتفكير في إصلاح الوضع الأمني مرتبط في الحق بالتفكير في إصلاح الوضع السياسي وغيره. ولا يمكن أن نتوفر على وضع أمني مستقر من غير أن تكون هناك أرضية صالحة لهذا وهو وضع سياسي مستقر. لكنك إذا قلت هذه الحقيقة التي تفرض نفسها على كل الساحات في العالم قيل لك هذا لون من التحريض للشارع. ماذا نقول؟!
وهي حقيقة لابد أن تقال قبل أن يغرق الوطن كلّه في فتنة عمياء واسعة مقيمة، ويخسر الوطن حاضره ومستقبله.
أيتها الجماهير المباركة الكريمة المصغية لكلمة دينها، المقتدية بعلمائها، الحريصة على خير أمتها وشعبها ووطنها.. إن المطالبة بالحقوق الثابتة في دين الله، وبالعدل والإنصاف الذي لابد منه، واجب شرعي لا يمكن التخلي عنه(14)، وقد اختار العلماء وإياكم وليس للعلماء خيار منفصل عن خياركم، أن تكون مطالبتنا سلمية، وجادة في الوقت نفسه، ملتفتين إلى الحفاظ على الأخوّة الإسلامية وهي هدف من الأهداف الإسلامية الكبرى التي لا يمكن التفريط بها، أو إهمالها، مستهدفين صلاح هذا الوطن ومواطنيه بالإشادة – وليس بالتخريب، وليس بالإسقاط – والإنماء والإبقاء، بعيدين عن إرادة السوء والحكم وروح الانتقام والغلبة بالباطل. إنما يريده العلماء وتريدونه هو أن يعم هذا الوطن العدل وروح المساواة والإنصاف والأمن والإخاء والإيمان والخلق والمودة والرفعة والتقدم.
ونؤكد جديداً أن البداية السلمية لهذا الاتجاه الإيجابي هو دستور واضح عادل لتحتكم أيضا عندها الأطراف عند اختلاف المواقف.
أيتها الجماهير الكريمة كثيراً ما عبّرتم عن وعي لامع، وإرادة صلبة، وغيرة على الدين، واعتزاز بالكرامة، وإخلاص ووفاء لوطنكم، وموقف رشيد، وما هذا على المؤمنين بعزيز.
وقد عبرتم عن كل ذلك في موقفكم القريب بكل كفاءة وبما فيه الكفاية، ولتتوقف الفعاليات الاحتجاجية المتعلقة بالحدث الأخير عند الحد الذي صارت إليه، وحتى لا يتوهم متوهم أننا منشدون إلى بعض الخصوصيات الشخصية أكثر من القضايا والأهداف في ذاتها. لابد أن نخرج من الإطار الضيّق الذي يفرض على الشارع فرضا في بعض الموارد إلى فضاء القضايا العامة والمطالبة بتصحيح الواقع المخزي(15).
وأما عني فمع ما أعرفه عنكم من أن نظركم فيما بذلتموه من جهد ووقت وما أقدمتم عليه من مشقة إنما هو لله سبحانه وحده وليس لسواد عيني شخص معين لأن معبودنا جميعا هو الله الواحد الذي لا شريك له إلا أني ولارتباط خاص لي بهذا الحدث أجد أني محرجٌ جدا أمام سماحة العلماء الأجلاء وجميلهم الكبير، وأمام جميل هذا الشعب الكريم ووفائه وإخلاصه، وإني لأحكم على نفسي بحقّ بالعجز عن مقابلة هذا كلّه للسادة العلماء ولكم أحبائي الأعزاء بالشكر اللائق والتقدير المناسب. نعم لا أملك(16).
وإني لأرفع كف الضراعة إلى الله عز وجل بأن يثبكم خير ثواب، ويجزل لكم العطاء، ويمن علينا جميعا بالعز والكرامة.
بأيهما يأخذ المسلم؟
يقرأ المسلم في كتاب الله العزيز الحكيم:{فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً}(17).
ويقرأ {وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ}(18).
ويقرأ {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ}(19).
ويقرأ {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}(20).
وهو كفر في الظاهر ليس على حد الكفر المعروف المخرج عن الدين بصورة كلية.
والآية الكريمة تتكرر مع تنوّع في التذييل فأولئك هم الظالمون، وفي موقع آخر {فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}.
فيعلم أي المسلم، من كل ذلك، ومن نصوص كثيرة أخرى، ومن واقع الإسلام أنه مأمور من ربه الجليل العظيم بأن يأخذ بحكمه في أي مساحة من مساحات الحياة، وأينما وجد.
ويسمع المسلم من جهة أخرى من حكومات كثيرة في عالمه الإسلامي بأن لا تدخل للدين في السياسة، والمسجد الذي يتحدث في السياسة لابد أن يعاقب. وهذا من الحكومات إما بنحو الإنكار لتدخل الإسلام في السياسة وهو معلوم البطلان من الإسلام بالضرورة على مستوى التشريع النظري، والتطبيق العملي معا، وإما بنحو الرد على الله ورسوله بعد التسليم بأن الإسلام له تدخل في السياسة وهو أمر فظيع منكر فاحش.
فبأيهما يأخذ الإنسان المسلم؟ بما فهمه من كتاب ربه، أو بما تقوله هذه الحكومات؟
وهذه الحكومات التي تقول بأن لا تدخل للدين في السياسة، هل تلتزم بعدم تدخل السياسة في الدين؟ وهل تُبقي للدين مساحة من الحياة الخاصة على الأقل؟ لا، لا تبقي، فقد كانت مساحة ضيقة من حياة الفرد ومن علاقته بربه متروكة للدين مرحليّاً، ثم صارت السياسة تزحف في اتجاه هذه المساحة زحفاً سريعاً كاسحاً لطرد الدين منها، والرمي به خارج دائرة الحياة نهائيا.
ومسؤولية إيقاف هذا الزحف هي مسؤولية أمة الإسلام بكاملها على مستوى شعوبها المؤمنة. وبانّ زحف السياسة وصل مسألة الزواج والطلاق والإرث والوصية وصلاة الجماعة والجمعة والمسجد والحسينية وأوقافهما، وسيصل – إذا تُرك الحبل على الغارب – إلى صلاة المفرد وغسله ووضوئه وكل شيء من مثل ذلك واشباهه.
وأقول إن قرار وزارة العدل بالهيمنة على مسألة إنشاء المسلمين لمساجدهم والتحكم فيها، وسحب صلاحية الترخيص في هذا لا مجال من الأوقاف هو عدوان سافر من السياسة على الدين، وعدوان سافر منها على المذهب.
وقد قال العلماء بأنه لا صبر على السكوت على هذا القرار(21).
اللهم صل وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى وعلى آله الطيبين الطاهرين واغفر لنا ولاخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين.
اللهم أصلح ما فسد من أمور المسلمين، واجمع كلمتنا على التقوى، وانصر حماة دينك، والصادقين في الوفاء بعهدك، والمؤمنين بصدق وعدك، وأعز الإسلام وأهله، وأذل النفاق وأهله، ولا تجعل للكافرين على المؤمنين يدا، ولا غلبةً، كما لم تجعل لهم علينا في الدين والحجة سبيلا.
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}

_________________________
1 – غرر الحكم.
2 – غرر الحكم.
3 – غرر الحكم
4 – غرر الحكم
5 – غرر الحكم.
6 – واللجاجة المواظبة على الشيء وملازمته.
7 – غرر الحكم.
8 – 83/ البقرة.
9 – 18/ ق.
10 – هتاف جموع المصلين بـ(هيهات منا الذلة).
11 – هتاف جموع المصلين بـ(معكم معكم يا علماء).
12 – هتاف جموع المصلين بالتكبير، وبـ(معكم معكم يا علماء).
13 – هتاف الشيخ جموع المصلين بـ(لا شيعية ولا سنية كلنا أمة إسلامية)، و(وحدة وحدة إسلامية).
14 – هتاف جموع المصلين بـ(لبيك يا فقيه).
15 – هتاف جموع المصلين بـ(لبيك يا فقيه).
16 – هتاف جموع المصلين بـ(هل من ناصر مقاوم، لبيك عيسى قاسم).
17 – 65/ النساء.
18 – 49/ المائدة.
19 – 50/ المائدة.
20 – 44/ المائدة.
21 – هتاف جموع المصلين بـ(لبيك ياإسلام).

زر الذهاب إلى الأعلى