خطبة الجمعة (324) 3 جمادى الأول 1429هـ – 9 مايو 2008م

مواضيع الخطبة:

*مواصلة في حديث ذكر الله *المسجدان المعطلان *حلول أو سجون

أقول أوقفوا الملاحقات والمحاكمات، وفرّغوا السجون، وافتحوا باب الحوار بحسن نيّة، وبعزم الإصلاح الجدّي المُرضي الذي يحفظ سلامة العباد والبلاد، ولا تؤزِّموا البلد أكثر مما عليه تأزمها بخيار عسكرة الجو العام ومناخات الوطن، والتصعيد الأمني القولي والفعلي، ولا تعبثوا بأخوّة المسلم للمسلم، وتبعثروها وتهدموها لأهداف سياسية من النوع المحرَّم.

الخطبة الأولى

الحمد لله الموجود بنفسه، وكل الأشياء من دونه لا وجود لها إلا به، وهي خاضعة لتقديره، وبقاؤها وفناؤها بيده، وتأثيرها مملوك له، ولا سبيل لها للخروج من سلطانه، ولا حيلة لها في الاستقلال لحظة عن عطائه، وهي عدم محض بدون مدده.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليماً كثيراً كثيراً.
عباد الله أوصيكم ونفسي الخطَّاءة بتقوى الله الخالق الرازق، القادر القاهر الذي لا يُغني عنه شيء، ولا يحمي منه شيء، ولا عظمة كعظمته، ولا إحسان كإحسانه.
وليتذكّر متذكّر أننا ملحوقون للموت، مطلوبون للحساب، مجازَون غداً بما كسبت أيدينا من خير أو شر، وأنَّ كتاب ربّنا لِما يعمل العاملون لا يغادر كبيرة ولا صغيرة إلاّ أحصاها، وأنّ ربح هذه الحياة من ناتجها كله إنما هو العمل الصالح، والنية الكريمة المخلصة لله وحده، وكلّ ما عدا ذلك ضياع وخسار.
نعوذ بالله من قبح العمل، وسوء النيّة، وقلّة الزاد، ومشقّة الطريق، ووحشة القبر، وغضب الرّب، وعسر الحساب، وهول يوم القيامة، وأن يكون المتحوَّل إلى النار.
اللهم صل وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى وعلى آله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وارحمنا برحمتك، وارحمنا برحمتك، وتب علينا بفضلك وكرمك، واهدنا صراطك المستقيم.
أما بعد أيها الأعزاء من المؤمنين والمؤمنات فهذا حديث آخر في موضوع ذكر الله:
“كان نقش خاتم عيسى عليه السّلام حرفين اشتقّها من الإنجيل: طوبى لعبد ذكر الله من أجله، وويل لعبد نسي الله من أجله)”(1).
حديث آخر عن الرسول صلى الله عليه وآله “أولياء الله الذين إذا رؤوا الله ذكر الله”(2).
وثالث عنه صلى الله عليه وآله:”خياركم الذين إذا رؤوا ذكر الله…”(3).
ورابع هوعنه صلى الله عليه وآله كذلك:”أفضلكم الذين إذا رُؤوا ذكر الله تعالى لرؤيتهم”(4).
ويأتي أيضا القول المنقول عنه صلى الله عليه وآله:”خياركم من ذكّركم بالله رؤيته، وزاد علمكم منطقه، ورغّبكم في الآخرة عمله”(5).
حاصل الأحاديث في موضوعها الرئيس هو أن هناك فئة تُذكّر رؤيتها بالله سبحانه وتعالى، فئة تتسم بخضوع وتواضع العبودية، وعليها مسحة جمال وبهاء، وروعة إيمانية، ولها حظٌّ من جمال وجلال وإن كانا محدودين.
أتاها كل ذلك من هيبة الله العظيم، ومن عز التعلق به سبحانه، ومن الانعكاسات النورانية والجمالية والجلالية لجهة الربوبية.
أولئك أناس لهم قلوب تستمطر دائما من فيض الله، قلوب مفتوحة على عطاءات الله، متعلّقة به، مسترفدة من كرمه وفضله، يملؤها جمال من جماله، ونور من عطائه. وهذا الزاد في القلب يطفح على معالم الشخصية الخارجية، ويقدّمها في النّاس نوراً هادياً، رزانة ووقاراً، كرما وإيثارا، يقدّمها مشعل هداية، ومنبع عطاء.
واحدهم في شخصيته بعدان وتواضع ينبع من شعور غزير بالعبودية، انكسار دائم في أشد الظروف المغرية بالاستكبار، فليكن الظرف ظرف نصر، ظرف عزّة ظاهرية وشهرة طاغية، إلا أن تلك القلوب مشغولة عما يغر من الدنيا بما تتيقن به من عبوديتها وقنيّتها لله سبحانه وتعالى، منزهة أن تشعر بعزّة مفصولة عن الله، كيف وهي تعيش إيمان هذه القضية بالكامل (لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا).
والبعد الآخر هو أن التعلق بالله وكما مر يمنح نورا، ويصنع قوّة، ويحدث للنفس انفتاحاً خيّرا، وملكة عطاء بلا ترقّبِ جزاءٍ إلا من الله حتى لترتفع نفس أمير المؤمنين علي عليه السلام فيأتي عمله كلّه صالحاً لا لعطاء ماديّ في الآخرة فضلا عن الدنيا، وإنما هو من العشق لله سبحانه وتعالى، والانبهار بجماله وجلاله.
بلى لابد أن تكون لتلك الصلة ولذلك التعلق انعكاس نوراني على شخصية المؤمن الحق فيُذكّر بكرم الله، وعطاء الله، وجمال الله، وعظمة الله.
وإذا كانت عظمة أمير المؤمنين عليه السلام الكبيرة وهو المحدود، وعظمة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله قبله وهو المحدود لا يملك البرفسور ولا الفقيه الفذ، ولا الباحث عن الجمال نفسه أمامها دون أن يخضع فكيف بعظمة الله سبحانه وتعالى!!
“(في حديث المعراج) … ودم على ذكري. فقال: ياربّ وكيف أدوم على ذكرك؟ فقال: بالخلوة عن النّاس وبغضك الحلو والحامض وإفراغ بطنك وبيتك من الدّنيا”(6).
ونحن نعرف أن هناك آية قرآنية كريمة تقول {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ}(7). نعم، يصح هذا وذاك، والقرآن هو الهادي الأول.
الخلوة من النّاس ليست خلوة جسم، ولا تعني المقاطعة للآخرين، الإسلام أبو الاجتماع، يريد صناعة أمة قائمة، فاعلة، رائدة، فكيف يأخذ بالمؤمن إلى العزلة، وبالعناصر الإيمانية المشعّة إلى الانزواء، الأمر ليس كذلك، إنها خلوة قلب من بغض الناس، من تعظيم الناس، من خوف الناس، من رجاء الناس، من الاستغناء بالناس عن الله عزوجل, من اتخاذ الشريك لله منهم مثلا.
إذا تخلّى قلب من السجود لمال الناس، لثناء الناس، من الخوف من أخذهم، من الخوف من تشهيرهم، من الخوف من سوء ظنّهم متّكلاً على الله كان هو القلب الذاكر دائماً.
وبغض الحلو والحامض هو بغض لحرام الدنيا وفضولها، وهو ترفّع وتنزّه عن التعلّق النفسي إلى حد الاندكاك، أو إلى حد إلى أن يوصل الحلو والحامض إلى نسيان أحكام حلال الله وحرامه، وأن يكون الحلو والحامض هو ملهاة الحياة عند هذا الإنسان التي تصرفه عن الله.
أما نيلك الحامض والحلو بما يعينك على طاعة الله، ويجعل منك الإنسان المؤمن القوي المصارع لجبهات الكفر والنفاق فقد يصل إلى حد الواجب، ومنه ما هو واجب قطعاً.*
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}(8).
لا مغني عن الله، لا علاقة تُنجي وتغني عن العلاقة بالله عزّ وجلّ، وللأموال والأولاد موقع كبير في النفس ، لها موقع عزيز في القلب، والأولاد منّا، والأموال فيها حياتنا فيما ننظر، وفيما عليه الواقع المعتاد، ولسنا ملومين أن نحبّ ولدا، وأن نطلب مالا، وقد دفع الإسلام لطلب المال، والاعتزاز بالولد والتضحية من أجله، لكن إذا تعملق الولد في القلب، واحتلّ شيئاً من موقع الله فيه، وإذا كبرت الأموال على النفس ونالت منها ما لله وحده فهنا الكارثة، وهنا الشرك، وهنا عقوبة الله عزّ وجلّ وهو المقدّر للعقوبة بالحق والعدل.
أما إذا ملأ الولد والمال مساحة القلب، واحتلّه هذا أو ذاك أو هما معا بالكامل وكان التقديم لهما على أمر الله ونهيه فهو تخلٍ عن علاقة العبودية لله سبحانه وتعالى والدخول في عبودية المال والولد.
“كلّ ما ألهى عن ذكر الله فهو من الميسر…”(9) عن الرضا عليه السلام.
“كلّ ما ألهى عن ذكر الله فهو إبليس”(10) عن علي عليه السلام.
“عن النبي صلى الله عليه – وآله – وسلم في قوله:{يا أيها الذين آمنوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عن ذكر الله} هم عبادٌ من أمّتي الصّالحون منهم لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وعن الصّلاة المفروضة الخمس”(11).
أيضاً “عن ابن عبّاس رضي الله عنهما في قوله {يا أيها الذين آمنوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عن ذكر الله} قال: هو الرّجل إذا نزل به الموت وله مال لم يزكّه ولم يحجّ منه ولم يعط حقّ الله منه يسأل الرّجعة عند الموت ليتصدّق من ماله ويزكّي…”(12).
سياسة، إعلام، أي معركة من المعارك، زوج، ولد، منصب، شهرة علمية، شهرة اجتماعية، شهرة سياسية، أي شيء من أشياء هذه الدنيا، أي أمر من أمورها، ونبت حبّه في نفس العبد، وأخذ بمجامع القلب، واستولى عليه فهو إبليس، وهو ميسر من حيث الدور والوظيفة والنتيجة وهي الخسران، والحشر مع إبليس.
اللهم صل على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم ارزقنا تمام العقل والدين، وبصيرة الدنيا والآخرة، وهدى الصالحين، واسلك بنا مسلك المتقين، واجعلنا من حزبك المخلصين، واحشرنا في عبادك الراضين المرضيين يا أرحم الراحمين، ويا أكرم الأكرمين.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالْعَصْرِ، إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}

الخطبة الثانية

الحمد لله الموجود بلا فناء، الحيّ بلا انتهاء، الملك بلا انقضاء، المدبِّر بلا شريك، القادر بلا عجز، القيّوم بلا فتور، السلطان بلا حد. كل شيء مستجيب لقدرته، خاضع لمشيئته، مقهور لإرادته، وهو العليّ العظيم.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وزادهم تحية وبركة وسلاماً.
عباد الله علينا بتقوى الله فهي السبيل إليه، وفيها معرفته، وبها تنال رحمته ورضوانه والكرامة لديه. وخير ما يصنع النفس الصنع السويَّ ويقوِّمها، ويعلو بها إلى الأفق الكريم البعيد التقوى. ولا تجد نفس هداها وعلاها ونجحها ما فارقت طاعة الله، وخسرت تقواها. وإن الفجور لينحدر بالنفس حتى تسفل عن قدر حشرة، وتسقط عن قيمة حجر. ولا هادي إلاّ الله فلنطلب منه الهدى والتوفيق لطاعته وتقواه، ونتوكل عليه وهو أرحم الراحمين.
نعوذ بالله من عمى البصر والبصيرة، وضلال الطريق، وخسارة العمر بخسارة الجنّة، وأن نسعى بقدمنا إلى النار بالدخول في طاعة الشيطان، ومتابعة هوى النفس، وموالاة أهل الباطل، ومؤاخاة الفجّار.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى وعلى آله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى الصادق الأمين محمد بن عبدالله خاتم النبيين والمرسلين، وعلى علي أمير المؤمنين وإمام المتقين، وعلى فاطمة الزهراء الصديقة الطاهرة المعصومة.
وعلى الأئمة الهادين المعصومين حجج الله على عباده: الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن المنتظر القائم المهدي.
اللهم صل على محمد وآل محمد، وعجل فرج ولي أمرك القائم، وحفه بملائكتك المقربين، وأيده بروح القدس يارب العالمين.
عبدك وابن عبديك، الموالي له، الممهد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، وفقهم لمراضيك، وسدد خطاهم على طريقك وانصرهم نصرا عزيزا مبينا كريما ثابتا دائما.
أما بعد أيها الأِخوة المؤمنون والمؤمنات فإلى حديث حول موضوعين:
المسجدان المعطّلان:
مسجد صعصعة، ومسجد الشيخ إبراهيم مسجدان قديمان لهما مكانتهما الدينية والتاريخية الخاصة، ولا يصح أن يهمل شأنهما، أو يُتركا للخراب، أو يكونا في وضع متخلّف مظهراً، أو يتعرّضا لمنازعة في يوم من الأيام.
فلابد من تجديد بنائهما بالسرعة المطلوبة وهذا ما أجمع عليه تقدير جهات رسمية منها صاحبة الاختصاص والولاية في القانون وهي دائرة الأوقاف الجعفرية، وهو محل المطالبة الشعبية والعلمائية بالخصوص، والموضوع لا يقبل الإرجاء والتأجيل والمماطلة، ولا يستدعي التطويل ولن يُنسى أو يُهمل.
ونؤكد من جديد أن البناء إنما يكون باسم الجهة المختصّة قانونياً وهي دائرة الأوقاف الجعفرية من أين كان التموين للمشروع.
ولابد أن نذكر في هذا السياق قضية مستغربة مثيرة وكأنها من بالغ غرابتها من صنع الخيال على كونها واقعاً قائماً على أرض هذا الوطن.
القضية أن أهالي منطقة البحَير من المحافظة الوسطى الدائرة السابعة بالرفاع قد مضى على طلبهم تخصيص قطعة أرض لبناء مسجد يقيمون فيه الصلاة قرابة ربع قرن كما يذكرون والأبواب أمام طلبهم موصدة، والنوافذ مغلقة.
والمذكورون مواطنون أصليون من مواطني البحرين، ولم يحتلُّوا منطقة سكناهم احتلالاً رغماً على أنف الدولة، وهم مسلمون على حدّ إسلام أبناء الأمة.
فهل تستطيع الدولة أن تُنكر هذه القضية شبه الخيال، أو تبررها التبرير الديني والوطني المقبول؟ أعدل هذا أو ظلم؟! مساواة أو تمييز؟! تهدئة أو إثارة؟! ما أغنى الدولة عن هذه الممارسات الصغيرة الخطيرة!!
حلول أو سجون:
1. في البلاد مشاكل وأزمات مؤرقة توتر العلاقة بين الشعب والحكومة، ولا يسع أحداً إنكارها ولو بينه وبين نفسه.
وقائمة هذه المشكلات طويلة منها الأصل والمترشح.
من هذه المشكلات غياب دستور متوافق عليه وولادته طبيعية، فهذا الدستور المتوافق عليه ذو الولادة الطبيعية غائب. وهي مشكلة أمٌّ كما نُبِّه عليه من هذا المنبر مراراً في الظن. ومشكلة الظلم الفاحش البيّن في توزيع الدوائر الانتخابية، والتجنيس السياسي الغاشم، التعطل، الغلاء، قلة الأجور، الفساد المالي، الفساد الإداري، الفساد الخلقي، مواجهة الوعي والالتزام الديني والمؤسسة الدينية الشعبية من مسجد وغيره بمشاريع الميوعة والتحلل والاستهتار الخلقي والبدع والشذوذ، وبالمضايقات وسن القوانين المناهضة، وزرع روح الفتنة الطائفية البغيضة بين اخوة الإسلام والوطن وتغذيتها وإلهابها، والاتجاه بها إلى نقطة التفجير، والعياذ بالله العظيم من شر ذلك وكل شر.
2. ما يؤدي إليه هذا الواقع السيء المتخم بالمشكلات صور:
‌أ. سكوت الناس من أنفسهم على الواقع السيء المرّ، والمشكلات الخانقة؛ ليسوء الواقع بدرجة أخطر، ويصل إلى حد الكارثة القاضية، والانهيار العام لجملة الأوضاع في الوطن.
وهذا السكوت ممتنع في نفسه بحسب طبيعة الأمور، وممتنع ديناً وعقلاً وعقلائياً.
وإنما يتوقع السكوت المطبق لو فقد الناس إرادتهم بالكامل من الداخل، أو شُلّت قدرتهم تماماً على الحركة في الخارج.
‌ب. طلب سكوت الناس تحت فاعلية البطش الحكومي، واستخدام القوة بصورة مسرفة في وجه أي حركة، وأي خطوة احتجاجية، أو أي كلمة منكرة.
وهو أسلوب ربما ضاعف من أزمة الوطن، وزاد في رقعة المواجهات، وسرّع بالأوضاع إلى صورة التداعيات الخطيرة.
وهذا الاحتمال له من الشواهد على أرض أوطان كثيرة ما يجعله ذا قيمة عالية جدّاً.
وأوضاع تصل إلى هذا الحد لا رابح فيها الربح الحقيقي المريح والثابت.
وممارسة هذا الأسلوب لتثبيت الظلم ظلم على ظلم، وهمجية على همجية، لا تليق بحكومة إنسانية فضلا عن حكومة من أهل الدين. وهو أسلوب قتّال لا ينجو من شره صاحبه كما تقول الأمثلة الكثيرة في الماضي والحاضر من حياة الحكومات والمجتمعات.
‌ج. غير هاتين الصورتين المحكوم عليهما بالفشل والخطورة أن تحسن الحكومة النية، وتأخذ بالخيار النافع المربح للجميع، وتتحرك إرادتها السياسية في اتجاه تخليص الوطن كله من ورطة الأزمات بالحوار الجادِّ المخلص المجدي المفضي إلى الاتفاق على حلول حقيقية للمشكلات، وعلى صور للإصلاح الجدّي يبدأ بمعالجة أزمة الدستور، ونظام توزيع الدوائر الانتخابية، ويعالج بسرعة مشكلتي التجنيس والتمييز الحادتين، وينهي التخوفات الحقيقية التي أثارها تقرير البندر بخطوات ومطمئنات عملية كافية.
والدستور لا تُعالج مشكلته لمسات خفيفة سطحية في هذه الزاوية الضيقة والشكلية من زواياه أو تلك على تقدير تحقق هذه التعديلات والملامسات. الدستور الذي يُمثّل عامل استقرار قوي وأساسي للبلد يحتاج إلى ولادة طبيعية، ومعالجات جذرية، ووضوح كاف في مقام تقرير الحقوق والواجبات، وتوافق شعبي واسع يعطيه قيمة عملية بالدرجة الضرورية لاستقرار الوطن.
أما إذا اختارت الحكومة توالي الإثارات، وفتح باب السجون والتحقيقات والمحاكمات والإدانات، وما تشهده السجون من تعذيب وإهانات، والاستعمال المفرط للقوة في مواجهة أي احتجاج شعبي، وانتهاك حرمة المساكن فقد اختارت الطريق الوعر الذي لا ينتج إلا استمرار الأزمات والمتاعب الجمّة لهذه الأرض وأهلها وهي منهم، ولن تجني مع غيرها من هذا الخيار إلا شرّاً متصاعداً وخسائر فادحة.
3. والناس اثنان متملق نفعي كاذب، وغيره.
والمتملق الكاذب المتسأجَر بالمال يتحرك بلا قيم، ولا يهمه أمر دين، ولا يفكر في مصلحة وطن، ولا ينطلق إلاّ عن أنانية وجشع، ونظرة مادية آنية ضيّقة، وهو ليس صديقاً لأحد، وليس بالأمين الذي يعتمد عليه.
وكم هم الذين سيشتريهم مال الحكومة حتى يُغنوا عن الشعب بأكمله وجميع فئاته؟! ألف، ألفان، عشرة آلاف، تبقى الأغلبية ساخطة.
أما غير المتملق فهم ثلاثة:
‌أ. من لا تُرضيه ولا تغضبه إلا الدنيا، ومن لا همّ له فيها إلا هي، أو من يتركّز همّه في الأكثر عليها، ولا يمكن أن يسكت أمام من ينازعه على غنائمها، أو يحرمه من فرصها.
‌ب. من يكتفي من الدنيا بما لا يكتفي به غيره منها، ولا يعبأ كثيرا لها بعد قضاء ضرورياته وحاجاته المعتادة، ولا يلتفت إلى أثر اختلال العدل فيها على الدين، لا يملك العقلية والالتفاتة إلى الترابط بين اختلال العدل وفساد الدين في الناس، ولكنه حريص على دين نفسه، والسلامة الدينية لبيئته.
‌ج. من يدرك قيمة العدل في نفسه، ويؤمن بضرورته، ويعرف الترابط بين سلامة الدين والدنيا، ويهمه أن يعيش الناس راحتهم في الدنيا وسعادتهم في الآخرة.
ولتنظر الحكومة من أبقت من هؤلاء الثلاثة في دائرة صداقتها، والثقة بها، ولم تظلمه في دينه أو دنياه، ولم تؤذه أذى شديداً فيهما؟! لا الطالب للسعة في دنياه أو التوفّر على ما يقوّمه فيها براض عنها، ولا المشفق على دينه سالماً منها عليه.
أمّا طالب الصلاح والإصلاح لمجتمعه في دينه ودنياه فحظّه من ظلم السياسة المأخوذ بها حالياً هو الأكبر، فهو لا يُمكنُ أن يرضى، ولا يمكن أن يسكت.
نهبُ الثروة الطبيعية المشتركة، انخفاض الرواتب، التعطّل، سرقة الأموال المنقولة، التحايل على الميزانية العامة لجيوب الكبار والمتنفذين، أزمة السكن الحادّة… إلخ القائمة وهي طويلة، هل يمكن أن يسكت عليها من يطلب أن يعيش معيشة مادية كريمة حلالاً، أو من يفكر في العدل في الناس؟!
ومظاهر الفحشاء والابتذال والتخطيط للانحدار الخلقي، وإفشاء أنواع المنكرات، وتعدد مشاريع المسخ الديني، ومحاصرة الحالة الدينية العاديّة، والسب والشتم للمؤمنين، وتحريف أحكام الله، وإحلال البديل الجاهلي حتى في دائرة وصية المتوفى المسلم وميراثه والتي بتّ الحكم الشرعي فيها الأمر بتّاً واضحاً لا لبس فيه على الإطلاق، والإصرار على طرد الشريعة حتى من الحياة الأسرية المحدودة… والقائمة هنا طويلة جدا أيضا، هذا كلّه يرضي المتدين، ويريح ضميره، ويسكّن أعصابه؟!
لتنظر الحكومة إلى أي عاقبة يقود هذا الواقع، وإلى أي نتيجة يريد أن ينتهي بالوطن كله إليها؟!
عليّ أن أقول أوقفوا الملاحقات والمحاكمات، وفرّغوا السجون، وافتحوا باب الحوار بحسن نيّة، وبعزم الإصلاح الجدّي المُرضي الذي يحفظ سلامة العباد والبلاد، ولا تؤزِّموا البلد أكثر مما عليه تأزمها بخيار عسكرة الجو العام ومناخات الوطن، والتصعيد الأمني القولي والفعلي، ولا تعبثوا بأخوّة المسلم للمسلم، ولا تبعثروها وتهدموها لأهداف سياسية من النوع المحرَّم.
اللهم صل على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات مغفرة حتماً جزماً برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم اجعلنا من الهداة المهديين الصالحين المصلحين، ولا تجعلنا في الضالين والمضلين من اخوان الشياطين.
اللهم إنا نعوذ بك من ظلمة القلب، وحلكة النفس، وعتمة الروح، وفساد الضمير. اللهم أضىء قلوبنا بنور معرفتك، وأذهب الرجس عن نفوسنا بلطفك، واجعل أرواحنا مشرقة بحبك وذكرك وقربك يا أرحم الراحمين، وأكرم الأكرمين.
اللهم انصرنا وجميع المسلمين والمسلمات نصراً عزيزا ظاهرا مبينا واسعا مقيما، يا من هو على كل شيء قدير.
اللهم اكف لبنان وجميع البلاد الإسلامية السوء والغرق في مضلات الفتن، وأنقذها مما بدأت تقع فيه من محذور كبير، واقطع أيدي الطغيان والنفاق المتآمرة على لبنان، ووحدة أبنائه ودينه وأمنه ومصالحه، وعلى أي بلد آمن من بلدان المسلمين، وهي الأيدي الآثمة التي لا تفتأ تكيد بالدين والإنسان ومصالح الشعوب والأمم.
اللهم اهزمهم هزيمة نكراء، وانصر الإسلام والمسلمين بكل مذاهبهم، وأعز الإسلام والمسلمين بكل مذاهبهم، واغفر لنا ولكل مسلم ومسلمة، ومؤمن ومؤمنة برحمتك يا أرحم الراحمين.
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 – بحار الأنوار ج14 ص 247.
2 – كنز العمال ج1 ص 418.
3 – المصدر السابق ص 419.
4 – المصدر السابق.
5 – المصدر السابق.
6 – الجواهر السنية ص 192.
7 – 32/ الأعراف.
* إن بعض الحلو والحامض هو بغض للنفس أن تستغرقها او تستهويها أصناف الطعام والشراب وطعومها وألوانها وما يشبه ذلك، وتمثل لها همّاً في الحياة.
8 – 9/ المنافقون.
9 – المكاسب المحرمة للسيد الخميني ج1 ص 244.
10 – ميزان الحكمة ج2 ص 975.
11 – الدر المنثور ج6 ص 226.
12 – المصدر السابق.

زر الذهاب إلى الأعلى