خطبة الجمعة (319) 27 ربيع الأول 1429هـ – 4 ابريل 2008م

مواضيع الخطبة:

*متابعة موضوع الذكر لله *الفتنة لعنة قاسية *أمة إسلامية ونظام علماني

لو التفت الناس كل الناس، والحكومات كل الحكومات، والفئات كل الفئات، والشعوب كل الشعوب لرأوا في العدل الذي أمر الله به السعة والخير والأمن والراحة، وأن في الظلم الذي نهى عنه سبحانه الضيق والشر والتعب والقلق، وأن عمر الدول لا يقصر بعدل، ولا يطول بظلم، إنما هو العكس.

الخطبة الأولى

الحمد لله ذاكر الذَّاكرين، وشاكر الشَّاكرين، ومجزلِ ثوابِ المطيعين، وقابلِ توبِ التّائبين، ومُعيذِ المستعيذين، وكاشف كرْبِ المكروبين، وغوث المستغيثين، ومجير المستجيرين، وهو الربّ الذين لا ربّ سواه للعالمين.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلم تسليماً كثيراً كثيراً.
أوصيكم عباد الله ونفسي الأمَّارة بالسّوء بتقوى الله، وأن لا يصرفنا صارفٌ عن غاية الحياة من الاستعداد للآخرة بإعداد النفس الإعدادَ الذي يؤهلها لمنازلها الكريمة، ومقاماتها العالية. ولا مُعدّ للنَّفس لترقى، ولا صناعة لسموّها ورفعتها وكمالها غيرُ طاعة الله.
ولابد في طاعة المولى الحقّ تبارك وتعالى من الأخذ بدينه، وعدم مفارقة شريعته، والصبر على أمره ونهيه. وإنه لا طاعة على خلاف شرع الله، وإن بذل المتنكبون عنه ما بذلوا، وأجهدوا أنفسهم ما أجهدوا، وعانوا من ذلك ما عانوا. فلابد في طاعة الله عز وجل من التقيّد الدقيق بشريعته، والخضوع لأمره ونهيه من غير تزيُّد ولا انتقاص.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى وعلى آله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم ما عرّفتنا من الحقّ فحمّلناه، وما قصرنا عنه فبلّغناه، اللهم اجعل لنا من دينك دليلاً لا نعدل عنه، وطريقاً لا نزيغ عنها، ولا تجعل لنا إرادة في غير ما أردت، ولا هوى في غير ما حكمت، ولا أخذاً بغير ما قضيت، ولا ميلاً إلا لما شرعت.
أما بعد فالحديث لا يزال في موضوع ذكر لله:
تقول الآية الكريمة:{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ، الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ}(1).
الآية الكريمة تتحدث عن قلوب حيَّة لا يعتريها فتور، ولا يمرّ بها نسيان ولا سهو، ولا يصرفها عن الله صارف، قلوب تبقى دائما مشدودة لبارئها سبحانه وتعالى، متّصلة بذكره. هي على أي حال، وفي أي ظرف، في رخاء أو شدّة، أصحابها في قيام أو قعود، وفي أي وضع، وفي حركة أو سكون لا تنفصل عن ذكر الله سبحانه وتعالى.
ولا حياة لقلب إلا بهذا، – وكما تقدّم – إنّ أي لحظة تمرّ بالقلب لا يعيش فيها ذكر الله سبحانه وتعالى تكشف عن كونه في موت أو سبات.
“… قال موسى عليه السّلام: ياربّ إنّي أكون في حال أُجلّك أن أذكرك فيها(2). قال: يا موسى اذكرني على كلّ حال”(3).
لا استثناء لأي حال من حالات العبد المتنوّعة التي منها حال صلاة، ومنها حال قضاء الحاجة المعروفة، ومنها حالات أخرى. لا استثناء لأيّ حال من كل هذه الحالات بالنسبة لذكر الله سبحانه وتعالى، فإنَّه وإن كان البدن في حالة ترجّس وتنجّس إلا أن القلب يجب أن يكون طاهرا. يكون البدن أحياناً مشدوداً إلى حاجات الطين، إلا أن القلب يجب أن يكون متجاوزاً الأرض إلى السماء.
البدن قد يتّضع، ولكن القلب يجب أن يكون دائماً في ارتفاع، وارتفاع القلب لا يمنع منه أن يعتري البدنَ وضع وضيع، لأننا بقلوبنا ولسنا بأجسادنا. وما ضرّ المرء أن يمرّ بلحظة غليظة من لحظات المادة في تعامله مع حاجات بدنه إلا أن قلبه شفّاف.
وطهر القلب، وخلوصه، وصفاؤه، وتلألؤه إنما هو بذكر الله سبحانه. فالشخص وهو على قضاء الحاجة، أو يأكل، أو كان في مقاربة من المقاربات التي يُستحى منها ينبغي له أن لا يفارق قلبه ذكر الله.
وإذا راجعنا آداب الشريعة وجدنا لظرف قضاء الحاجة أذكاراً، ولمقاربة الرجل أهله أذكارا، ولوجدنا للحظة الأكل ذكرها، فليس للحظة من لحظات المادة أن تستغرق قلب المؤمن، وإنما يبقى قلب المؤمن فيما ينبغي متجاوزاً دائماً حدود المادة والأرض ليكون مشدودا مطلقاً إلى أعظم عظيم، إلى ربّه تبارك وتعالى.
أقرأ الحديث ثانية “قال موسى عليه السّلام: ياربّ إنّي أكون في حال أُجلّك أن أذكرك فيها، قال: يا موسى اذكرني على كلّ حال” قلبك حين يذكرني سيغطي شرفه، وجماله ما قد تتحسس منه من نجس عارض للبدن، ولا تمتد نجاسة البدن إلى القلب الطاهر حين لا يصحب هذه النجاسة مخالفة للشريعة.
الآية الكريمة تقول:{… وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ…}(4) هذه صفة من صفات الإنسان المؤمن ذكراً كان أو أنثى، فالآية الكريمة في معرض إجلال المؤمنين ومدحهم وذلك بأنّهم يُحافظون على إنسانيتهم، ويحافظون على كرامتهم، ويحافظون على رفعتهم بالذكر الكثير لله المتعال.
“الذّاكر في الغافلين كالمقاتل في الفارّين”(5).
الغافلون غلبهم الشيطان ففرّوا من وجهه هزيمة، وانصرفت قلوبهم عن ذكر الله سبحانه، أما الذّاكر في وسط هؤلاء من أهل سوق مشتغلين بسوقهم، أو من أهل جدل سيّء مشتغلين بجدلهم، ومن أهل أي مشغلة استولت عليهم مشغلتهم فهو صامد في وجه الشيطان، وكلُّ المغريات، وكل الملهيات لم تحدث له صدوداً عن ذكر الله تبارك وتعالى، والشيطان هو الذي يفر من وجهه.
حين يثبت المؤمن أمام كل الظروف على ذكره فهو صامد، وهو قوي، وهو غلاّب، على خلاف من ينصرف قلبه عن ذكر الله سبحانه وتعالى لأي عارض.
{… أَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي}(6).
فذكر الله هو الغاية الكبرى من كل عبادة لأن ذكر الله هو وظيفة القلب، وبه حياة القلب، ولا حياة للقلب إلا به، وما يوجد شيء في الإنسان له أهمية القلب، وما الإنسان إلا بقلبه، فإذا كانت الجوارح في صورة ذكر والقلب ساهٍ فهذا إنسان غير ذاكر، فحتى يكون الإنسان إنساناً ويكون حيّاً لابد لقلبه أن يكون مشتغلاً بالذكر، وما ذكر الجوارح إلا بخلفية من ذكر القلب، فإذا كان القلب ذاكرا، واستجابت الجوارح لذكره كانت بذلك ذاكرة كذلك.
“لاتزال مصلّياً قانتاً ما ذكرت الله قائماً وقاعداً أو في سوقك أو في ناديك أو حيثما كنت”(7) عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.
لحظات الذكر في السوق، في النادي، في كل مجمع، في الخلأ، في الملأ تعني التوفّر على عطاء الصلاة وغايتها، ألم تكن غاية الصلاة هي الذكر؟ فحيث يكون ذكر القلب في أي لحظة، وأمام أي ظرف يستغرق الكثيرين ويصرفهم عن ذكر الله سبحانه وتعالى فهذه صلاة؛ صلاة بمعنى التوفر على غاية الصلاة، ثم إنَّه من بعد ذلك تبقى الصلاة الفريضة لابد منها، ولا يغني عنها ذكر آخر، وتبقى للصلاة قيمتها الخاصة من حيث الذكر.
“إنّ موسى بن عمران عليه السّلام لمّا ناجى ربّه عزّ وجلّ، قال: ياربّ أبعيد أنت منّي فأُناديك أم قريب فأُناجيك؟ فأوحى الله جلّ جلاله: أنا جليس من ذكرني”(8).
ماذا يعطيك الجليس الرحيم، الشفيق، العظيم، القادر؟ هل يعطيك إلا قوّة، إلا لطفاً، إلا راحة، إلا سكينة، إلا خلقا كريما، إلا أنسا شديدا، إلا شعورا غامرا بالغبطة، وهل من معطٍ لكل ذلك أكثر من الله إذا ذكرته؟ “أنا جليس من ذكرني”.
هو سبحانه وتعالى البعيد بشأنه، وعلوّه، وبجلاله وجماله وكماله، إنه البعيد عن كلّ التصورات، عن كل الأوهام، عن كل التخيلات، وإنه القريب بقدرته، برحمته، بعطائه، بإرادته المتحكمة في كل شيء، بسلطانه، بإحاطته، برقابته، فهو البعيد كل البعد، وأبعد بعيد، وهو القريب كل القرب وأقرب قريب.
ومثل الحديث السابق “قال موسى: ياربّ أقريبٌ أنت فَأُناجيك؟ أم بعيدٌ فَأُناديك(9) فإنّي أحس صوتك ولا أراك فأين أنت؟(10) فقال الله: أنا خلفك وأمامك وعن يمينك وعن شمالك(11)، يا موسى أنا جليس عبدي حين يذكرني وأنا معه إذا دعاني”(12).
اللهم صل على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم. يا أهل المغفرة والرحمة، والكرم والجود والإنعام تفضّل على فقراء عبادك، وأهل معصيتك، والفاقة إليك، ومن أمرهم بيدك بخير ما تفضّلت به على من رحمت من عبادك، اللهم جنّبنا الشر كله، ولقّنا الخير كلّه يا أرحم الراحمين.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ (4)}

الخطبة الثانية

الحمد لله ذي العزّ والجلال، والعظمة والجمال، والقهر والجبروت، والمجد والآلاء، والكرم والجود والنعماء.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وزادهم تحية وبركة وسلاماً.
التَّقوى التَّقوى عباد الله، وَلْنَعْرِفْ أنفسنا عبيداً له، مملوكين بالملك الحق الصدق، الشامل الطلق لقبضته وقدرته، لا يصح لنا أن نخرج عن طاعته، ونستكبر عن عبادته، أو أن نشرك به شيئاً.
وَلْنَعْرِفْ أنفسنا بأن الله العلي العظيم قد كرّمها، وأراد لنا أن نحفظ لها شأنها، ولا نستبدلها من بعد كرامتها خِسَّة، ومن بعد عزّها بعبادة الله، ذُلاً بعبادة غيره، ولا نقبل لها ثمناً دون الجنّة التي لا تُنال إلا بعبادة الله الواحد الأحد، والذّل بين يديه، وطلب عفوه ومغفرته ورضوانه.
ربنا اغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم. اللهم أخرجنا من ذلّ المعصية إلى عزّ الطاعة، ومن عبادة الأوثان إلى عبادة الرَّحمن، ومن ولاية العبيد إلى ولاية الحميد المجيد، ومن ظلمات الجهل إلى نور المعرفة، ومن حبّ الدنيا إلى حبّ الآخرة، ومن الطمع في مرضاة الخلق إلى الطمع في مرضاة الخالق.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبدالله خاتم النبيين والمرسلين وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصل وسلم على علي أمير المؤمنين وإمام المتقين، وعلى فاطمة الزهراء الصديقة الطاهرة المعصومة.
وعلى الأئمة الهادين المعصومين: الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن المهدي المنتظر القائم.
اللهم صل على محمد وآل محمد، وعجل فرج ولي أمرك القائم المنتظر، وحفه بملائكتك المقرّبين، وأيده بروح القدس يارب العالمين، اللهم اجعلنا من أنصاره في غيبته وحضوره.
عبدك وابن عبديك، الموالي له، الممهد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين وفقهم لمراضيك، وسدد خطاهم على طريقك، وانصرهم نصراً عزيزاً مبيناً قريباً.
أما بعد يا أخوة الإيمان فإلى هذه المحاور:
الفتنة لعنة قاسية:
الفتنة لعنة قاسية على أيّ شعب، وعلى أيّ أمة اعترتها.
قد تبدأ الفتنة غير مسموعة ولكنها تتفجر إذا تفجّرت مدوية، وإذا شبت نارها لا تكاد تُطفأ.
وإذا انطلقت انطلقت مجنونة لا حساب فيها لربح ولا خسارة، ولا مصلحة ولا مفسدة، ولا حاضر ولا مستقبل.
عمياء لا ترى وحدة دين، ولا مذهب ولا وطن ولا نسب.
فاجرة منفلتة على يد الكثيرين لا تُعير اهتماماً لقيم، ولا تفرّق بين حقّ وباطل، وحرام وحلال.
محطِّمة تأكل ما بنته السنون، وإن كان اشتعالها لأيّام أو حتّى لساعات.
تبدأ في الكثير كلاميّة، وإذا ما وصلت حدّ الشتم والسب العلني، والإساءة المتكرّرة على مستوى الكلمة، والتهريج، والكذب، والتطاول، والألفاظ الساقطة، والإهانات، والإثارات السيئة المتعمّدة؛ أنذرت بذلك – والعياذ بالله – بتحريك كل وسائل الانتقام، وأدوات الهلاك المدمّرة.
وهذا البلد الصغير في جغرافيته، القليل في عدد سكانه يحتضن – ومع الأسف الشديد – أكثر من فتنة، وينذر بأكثر من انفجار فيه فساد ودمار وهلاك.
والفتنة الطائفية في مقدّمة هذه الفتن المحرقة، ولهذه الفتنة رافدان: رافد العصبية المذهبية المنغلقة، ورافد المصلحة السياسية الضيّقة. والرافد الثاني يوظف الأول بكفاءة عالية، ويوجهه بدقة إلى المستوى الذي يطمئن أنّه لا يتجاوز حدّ السيطرة، والقدر الذي لا يؤثر على المصلحة السياسية المنظور إليها سلباً أو هكذا يُخيّل له.والاطمئنان المذكور ليس بعيدا عن الواقعية والصواب في الحالة الراهنة، وإن كان لا ضمانة على الإطلاق لأن يبقى الأمر كذلك، أو حتى يطول عمر الثقة الظاهرية غير المرتكزة على أساس متين بين مصدر الرافد الأول ومصدر الرافد الثاني.
على كل حال، هناك طرف قويّ يدير اللعبة السياسية، ويتحكّم في المسألة السياسية بدرجة كافية حتى الآن، وهو يعدّ الطائفية وسيلة من وسائل تلك اللعبة، وترجع إليه بالدرجة الأولى مسؤولية توتير الوضع الطائفي وتأجيجه أو التخفيف من غلوائه وتصاعده.
وتعتمد صناعة التوتير للوضع الطائفي وسائل عديدة من أقلام مأجورة وصحف ومواقع التكرونية، وميزانيات ضخمة، ومنح مواقع سياسية، وتسهيلات، ووظائف عالية، وهبات، ومشاريع تمييز على الأرض، وأما الاختلاف المذهبي فهو المنفذ والورقة المستخدمة لخلق وضع طائفي متأزّم مقصود وليس أكثر من ذلك.
ولو التفت الناس كل الناس، والحكومات كل الحكومات، والفئات كل الفئات، والشعوب كل الشعوب لرأوا في العدل الذي أمر الله به السعة والخير والأمن والراحة، وأن في الظلم الذي نهى عنه سبحانه الضيق والشر والتعب والقلق، وأن عمر الدول لا يقصر بعدل، ولا يطول بظلم، إنما هو العكس.
والمشير بالعدل هو الناصح الأمين، والمشير بالظلم ساع بالشر والغش وطالب للفساد.
ولحدّ الآن فإن الفتنة الطائفية لم تدخل النفق المسدود الذي لا يسمح إلا بالانفجار، ذلك لأن طرفا محددا وهو الحكومة لا يزال قادراً على التحكم في الأمر كما سبق، ودرأ الخطر، ووأد الفتنة من حيث سطرته على مصدر الرافد الأول، ومن حيث إمكانه الأخذ بطريقة العدل والإنصاف والإصلاح، وطلب الاستقرار السياسي عن هذا الطريق المربح المريح بدلاً من الطريق الوعر المظلم المخيف المليء بالمغامرات غير المحسوبة، والمجازفات الكارثية.
ويبقى إمكان التحكم في إشعال الفتنة إلى حد التفجّر وعدمه مهددا بالتغيرات غير المنظورة، والظروف المفاجئة، والمعادلات المستجدة التي يتعذر على الإنسان أن يحيط بها علما وخبرا.
أمة إسلامية ونظام علماني:
أصوات نشاز تدعو الأمة الإسلامية إلى احتضان النظام العلماني في السياسة. ما معنى أمة إسلامية؟ هل الأمة الإسلامية هي أفراد ينتمون إلى الإسلام عقيدة، ويعيشون حالة التعبد الفردي المنفصل عن حركة الحياة، ويبنون حياتهم العامة على قاعدة غير قاعدة الإسلام؟
ومعنى آخر: أن الأمة جماعة إنسانية تعيش أوضاعا حياتية عامة ومشتركة في بعدها الفكري والثقافي والنفسي والأخلاقي والاجتماعي وغيرها، وفيما تقيمه من حضارة منطلقة من رؤية الإسلام وأهدافه، وقيمه وأحكامه وأخلاقيته.
ماذا يقول الكتاب والسنة هنا، كتاب الله مليء بالآيات التي تدل على أن الأمة الإسلامية هي بالمعنى الثاني لا بالمعنى الأول. والكتاب دلالاته واضحة بيّنة على أن الإسلام يحتضن نظاما سياسيا من سنخ قاعدته الأصل. النظام السياسي في الإسلام هو فرع عقيدته، وفرع شريعته، فرع أخلاقيته ومنطلقه وهدفه، ومكوِّن من مكوّنات شريعته.
والحديث طافح بكل ذلك، والسيرة شاهد حيّ شاخص على الأرض، وأن رسول الله صلى الله عليه وآله قد أقام حكومة الإسلام، ومثله أمير المؤمنين علي عليه السلام، والخلفاء الراشدون كلّهم أقاموا الحكومة باسم الإسلام، وإن كنّا نختلف في بعض تفصيلات الحكومة الإسلامية وأساس شرعيتها.
النظام السياسي العلماني: نسأل: ما هي مساحة عمل النظام السياسي اليوم؟ هل بقت زاوية من زوايا المجتمع، هل بقت مساحة ولو صغيرة ضيّقة من مساحات الفكر، من مساحات العمل، من العلاقات، من الحقوق، من الواجبات غير محكومة للنظام السياسي؟ لو استطاع النظام السياسي القائم اليوم في الكثير من بقاع الأرض أن يحكم أنفاس الناس لحكمها، لو استطاع أن يتحكم في نسمة الهواء، فيما نحتاجه من أكسجين لفعل، المساحة الحياتية العامة وحتى الكثير من الخصوصيات الفردية أصبحت محكومة للنظام السياسي.
فإذا قلت إسلام ونظام سياسي علماني… أمة إسلامية بمعنى أنها تعيش الإسلام، ونظام سياسي علماني، أفلا يعني هذا التهافت، ألا يعني الضدين اللذين لا يجتمعان، ألا يعني النقيضين اللذين يستحيل عليهما الاجتماع؟ كم هي من مغالطات ومن خدع ومن ألاعيب قد تمرّر على ذهن بعض الشباب الخيّر؟!
الحقّ أنه إمّا أمة معترفة بعبوديتها لله سبحانه، بوصفها أنها أمة، أو أمة مستكبرة على الله، وتمارس حريتها في التشريع والحكم قبال حكمه وتشريعه.
أي علمانية يعنون؟ علمانية لا تتسع لحزب العدالة والتنمية في تركيا، لماذا؟ لا لأنه إسلامي صرف، وإنما لأن له شمّة إسلامية، ولأنه متّهم بأن له تاريخا إسلاميا بدرجة من الدرجات الخفيفة.
وأي علمانية؟ هي علمانية تريد أن تعزل رئيس تركيا المنتخب انتخابا ديموقراطيا حرا وأن تحاكمه بجريمة أن زوجته تغطي شعر رأسها بقطعة من قماش، هذه هي العلمانية التي تجتمع مع الإسلام وتسمح ببقاء الإسلام، وببقاء الهوية الإسلامية للأمة!!
نعم، هكذا يسعون لمغالطتنا، وهكذا يحاولون أن يخدعونا، وهكذا يريدون أن يسرِقوا الإسلام منا ليرموه به في البحر(13).
ثم إنهم قالوا أن غياب المعصوم عليه السلام يعني الإذن في تخلّي المسلمين عن مسؤولية الإسلام السياسية، ويعني السماح بانقلاب الأمة وتحولها من الهوية الإسلامية إلى الهوية العلمانية، وكتاب الله عز وجل يقول:{أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ…} توبيخ {… وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ}(14).
اللهم صل وسلم وزد وبارك على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم احملنا على عفوك ولا تحملنا على عدلك، والطف بنا في أمر الدين والدنيا واهدنا سواء السبيل. اللهم شاف مرضانا، وأغن فقراءنا، وفكّ أسرانا، وزوّج العزّاب منّا، واحفظ مسافرينا، وآمن خائفنا، واهد ضالّنا، وانصر المجاهدين في سبيلك وادرأ عنهم كل سوء يا قويّ يا عزيز، يا رحيم يا كريم.
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 – 191/ آل عمران.
2 – وتعرفون مثل هذه الحال.
3 – بحار الأنوار ج90 ص153.
4 – 35/ الأحزاب.
5 – بحار الأنوار ج74 ص84.
6 – 14/ طه.
7 – كنز العمال ج1 ص446.
8 – بحار الأنوار ج90 ص153.
9 – المناجاة للقريب، وإذا كان الآخر بعيدا فتناديه، ترفع صوتك.
10 – صوتك المؤنس، صوتك المطمئن، نعم لهم أسماع وقلوب تسمع من رحمة الله صوت رحمة، ومن عناية الله صوت عناية، وتحس من يد عناية الله عز وجل رأفة ولطفاً.
11 – بقدرتي، بعلمي، بعنايتي، بلطفي، بجبروتي، برأفتي، بقدرتي، برقابتي.
12 – كنز العمال ج1 ص433.
13 – هتاف جموع المصلين والشيخ بـ(لبيك يا إسلام).
14 – 144/ آل عمران.

زر الذهاب إلى الأعلى