خطبة الجمعة (300) 7 شوال 1428هـ – 19 أكتوبر 2007م

مواضيع الخطبة:

استضاءات قرآنية *أولاً: النيابي جزء من حل أو تأزيم *ثانياً: تطبيع حادث أو مواصلة تطبيع

التطبيع مع إسرائيل انعطافة خطيرة في تاريخ الأمّة المستهدفة من أمريكا وإسرائيل والغرب، فأن ترتمي في أحضان عدوّ ينحرك نحراً ليس أكبر منه هزيمة واستسلاماً.

الخطبة الأولى

الحمد لله الذي يُمهِلُ طويلاً، ويغفِر كثيراً، ويُعطي جزيلاً، ويقبل من المستغفرين، ويُبدِّل السيئات بالحسنات للتائبين.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليماً كثيراً كثيراً.
أوصيكم عباد الله ونفسي الخاطئة بتقوى الله، وعدم متابعة الهوى فإنّها ضلال، ولا تقود إلاّ إلى خسار. وما عَدَلَ أحدٌ عن حكم شرعي في أمر كبير أو صغير إلى ما خالفه، وقدّمه عليه إلاّ كأن آخذا بالهوى، ظالماً لنفسه، مُرضِياً للشيطان. ولا تقوى ولا إيمان في تعدّي حدود الله، والتساهل في الأخذ بأحكامه، والتغاضي عن أوامر ونواهي شريعته. فالتقوى ملازمها التقيّدُ المطلق للحكم الشرعي.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى، وعلى آله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم اجعلنا لا نعبد سواك، ولا نطيع من في طاعته معصيتك، أو لا تنتهي طاعتُه إلى طاعتك، ولا نقدِّم إلاّ من قدّمت، ولا نؤخِّر إلاّ من أخّرت، فإن العبادة لك وحدك، والطاعة لك لا لمن سواك؛ إذ لا شريك لك في خلق ولا تدبير ولا رزق، ولا عطاء ولا منع ياربّ يا رحيم يا كريم.
استضاءات قرآنية:
أما بعد أيها الأخوة المؤمنون والمؤمنات الأطايب فهذا شيء من الاستضاءة بنور آيتين كريمتين من آيات الكتاب العزيز هما الثامنة والثلاثون والتاسعة والثلاثون من سورة الدخان:{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (38) مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ}(1).
1. الكون وكلّ شيء فيه كبُر أو صغر، حيّاً كان أو غير حيٍّ لم يُخلق لعباً ولا لغاية غير سديدة. وحاشا العظيم على الإطلاق أن يصدر منه لعب أو باطل(2) مما يخالف الحكمة، وما له غاية هي سوء. واستعمال ضمير الجمع في قوله سبحانه{مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} فيما يظهر أنه استعمال لإظهار العظمة الحقّة تعليلاً لنفي اللعب، ولكون الخلق بالحق.
2. وقول من قال:{إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ}(3) متنافٍ تماماً مع نفي اللعب في الخلق والخلوّ من الغاية فإنّ الحياة للموت والعدمِ المحض والنهائي فحسب خاصةً مع دافع البقاء والخلود في كيان الإنسان، وتألقات الروح عنده، وتجاوز الإدراكات والشعور الذي يغنى به حدود المادة وحاجاتها وكلَّ جُدُر المكان والزمان لعبٌ بيّن تنفيه الهادفية الحكيمة للخلق التي تؤكّدها عظمة الخالق.
3. وإن إهمال الإنسان التفكير في الغاية من الحياة أو التّخلّي عن مراعاتها عملاً، والتعامل مع الحياة الدنيا منقطعة عن السياق الكوني العام الهادف، ومبتورة عن الامتداد الأبدي وعن صلتها بالحياة الأخرى، وهدف التحضير لها، والاشتغالَ بالأهداف الصغيرة واللّذات العابرة في إطارِ الحياة الدنيا لعبٌ واضح، وعقلية عبثيّة ستُواجِه صدمة قاسية بموافاة الأجل المحتوم الذي يُفضي إلى الحياة اللاحقة وينتقل بنا مرحليّاً إلى يوم المعاد الذي لا موت بعده ولا نفاد.
4. ولا يقوم لعبٌ مقام جدّ، ولا وهمٌ مقام حقيقة، ونتيجة هذا وذاك لا تستويان؛ فبيتُ اللعب لا يُغني عن بيت الجد، وطائرة اللعب، وسفينة اللعب، وسيارة اللعب، لاتقوم مَقام ما للجدّ من هذه الأشياء، ومثل ذلك مزرعة اللعب، وأكل وشرب اللعب، وسباحة اللعب. وأيُّ شيء هو للعب ومن صناعته، ومن وحيه لا يسمن ولا يغني عما كان من صناعة الجد ووحيه وبهدفه.
فحياةٌ تُتّخذ لعباً وهزواً وعبثاً وتنفصل عن وعي الآخرة وهمها وهدفها والاستعداد والإعداد لها لا يمكن أن تُحقِّق غاية الحياة التي يقتضيها الخلق وهيّأ الحياة للإنسان من أجلها الخالقُ.
المشروع الثقافي الضخم، والمشروع الاجتماعي العملاق، والمشروع السياسيّ الهائل، وكلُّ المشاريع الأخرى الكبيرة والمتميّزة والتي هي من جِدِّ الدنيا، ومن ميادين السِّباق الصارم بين أهلها، وإسقاطُ دولة وإقامة دولة مكانها كلُّ ذلك ما انفصل عن النظر إلى الآخرة وغايتها لعب وعبث بلحاظ ما للحياة كلها من هدف تنادي به فطرة الإنسان، وأفكاره الأصيلة، وأشواقه العميقة وتطلعاته البعيدة، ومساره التكاملي في البُعد المعنوي الأرقى من وجوده.
وهو هدفٌ يرتبط تحققٌّه ببناء الذات وتطويرها والجِدّ في حركتها التكاملية، وإنفاق ساعات الحياة ولحظاتها ونِعمِها المتاحة على خط هذا التطوير والتكامل لها وهو خط العبادة الشّاملة المطلقة والخالصة لله سبحانه تأهيلاً للنفس لسعادة الأبد وحياة الهناء والخلود.
فاعرف أيُّها المؤمن لأيّ شيء تكدح، وعلى أي خطٍّ تجاهد، ولأي هدف تتّجه، وكيف تُنفق الطاقة والمال والزمن، وبأيّ وعي تعيش الحياة وعلاقاتها والصراعات فيها، وتتعامل مع كل خيرها وشرّها، وتحوّلاتها وتقلباتها وكل ما فيها. ضع أمامك دائما أن الآخرة هي الهدف.
اللهم صل وسلم على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم بارك لنا حياتنا واجعلها كما أردت لا كما يريدها لنا الشيطان الرجيم والنفس الأمّارة بالسوء، لتكون رابحة محقِّقة لتكاملنا، مُفضية إلى رضاك، مؤدّية بنا إلى جنتك ومَقام الكرامة لديك يا رحمن يا رحيم يا أكرم من كل كريم.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ (4) }

الخطبة الثانية

الحمد لله العليّ القدير، العزيز الحكيم، الذي يحكُمُ ولا يُحكَم، ويقضي ولا يُقضى عليه، ويكون ما يريد لا ما يريد غيره.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليماً كثيراً كثيراً.
عباد الله علينا بتقوى الله فليس للمخلوق أن يستكبر على الخالق، ولا للمرزوق أن يخرج عن طاعة الرازق، وليس للضعيف أن يضادّ القوي الذي لا مصدر لرفع ضعفه إلا هو، ومن للمربوب إذا استعلى على الربّ؟! وكيف لمن نفعه وضره بيد ربه أن يدير ظهره إليه؟! التقوى التقوى إشفاقاً على أنفسكم عباد الله ورحمة بها وإلاّ فمن أين الخير لنفس لم تتق الله، ومن يدرأ عنها عذابه؟!
اللهم صل وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبدالله خاتم النبيين والمرسلين وعلى آله الطيبين الطاهرين.
اللهم اجعلنا من أهل التوفيق للطاعة، والبعد عن المعصية، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والإعانة على الخير، والكفِّ عن الشر، والنطق بالحقّ والصدق، والنزاهة عن الباطل والفحش والكذب والخيانة يا أرحم الراحمين، ويا أكرم الأكرمين.
اللهم صلّ وسلم على حبيبك المصطفى محمد بن عبدالله خاتم النبيين والمرسلين، وصلّ وسلّم على أمير المؤمنين وإمام المتقين، وعلى فاطمة الزهراء الصديقة الطاهرة المعصومة، وعلى الأئمة الهادين المعصومين: الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن المهدي المنتظر القائم.
اللهم صل وسلم على ولي أمرك القائم المنتظر، وعجّل فرجه، وسهّل مخرجه، وحفه بملائكتك المقربين، وأيده بروح القدس يارب العالمين.
عبدك وابن عبديك، الموالي له، والممهد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين وفقهم لمراضيك، وسدد خطاهم على طريقك.
أما بعد أيها الإخوة والأخوات في الله فهذا حديث قصير في موضوعين:
أولاً: النيابي جزء من حلّ أو تأزيم:
يجوز هذا ويجوز ذاك، والنيابيُّ المطلوب هو جزء من حل، وانفراجة حقيقية مريحة. وكان يمكن ذلك لو جاء النيابيّ دستوريا، وجاء الدستور على خطّ الميثاق. لو جاء النيابي بتركيبة طبيعية يفرزها الواقع الشعبي، ومن غير أن تتدخل فيها السياسة الفوقية الفاعلة لكان النيابي جزءا من حلّ فعلاً.
أما النيابي المشرَّع فكان بطبيعته جزءاً من المشكلة والتأزيم. نعم هو كذلك في حدّ نفسه وبلحاظ ذاته، لأنه لم يمكن له بهذا اللحاظ أن يأتي عادلاً وممثّلاً للحالة الشعبية الصادقة.
أما النيابيّ الفعلي وهو من إفراز النيابي المشرَّع فيحمل عيب سابقه تماما، لكن ومع ذلك يمكن أن يكون جزءا من حلّ أو جزءا من المشكلة والتأزيم كما سبق وذلك مرتبط بإرادة الحكومة وموقفها.
فبرغم التركيبة السقيمة للمجلس النيابي ومحكوميته لمجلس الشورى إلا أنه لو صحّت إرادة الدولة وأرادت الإصلاح فعلاً لأمكن أن يكون هذا النيابي جزءاً من الحلّ ولو بدرجة بسيطة.
وقد أحرجت التجربة الشعبية المشارِكةُ الحكومة جداً وفضحت موقفها العمليّ المنافي لقضية الإصلاح، وسيتبرهن هذا جدا جدا لو انتهى المجلس النيابي من غير عطاءات إيجابية فعلية واضحة. وعندئذ يُستبعد أن يعود المجلس النيابي بما هو عليه من تركيبة اليوم.
لابد للحكومة أن تحترم المشاركة الشعبية التي وضعتها على المحك، وسجّلت عليها الحجّة الواضحة.
وإن دخول المعارضة كان للحل لا للتأزيم، ولبناء الثقة لا لهدمها، ولإنجاح التجربة لا لإفشالها، وللوصول إلى التفاهم والصيغة المقرّبة لا لقطع الطريق على الحوار، والعودة إلى المواجهة، وكل ذلك يعتمد على موقف الحكومة، ويمكن أن يثبت على مستوى الواقع، ويمكن أن يُنسف كلّه من خلال موقف معاند تقفه الحكومة؛ الحكومة التي تمسك بمفاتيح الحل والتأزيم بحسب التركيبة الحالية للمجلس النيابي، وخاصة مع انضمام مجلس الشورى تحت قبّة المجلس الوطني ومتلاكه حق التصويت.
ومن الخطورة جدا على العلاقات السياسية بين الشعب والحكومة أن يحصل يأس من جدوى النيابي من خارجه أو داخله أو هما معاً.
ويستبعد جدا أن يعود الشعب إلى صناديق الاقتراع لا لشيء إلا لتلميع سمعة الحكومة، فإن الآمال التي عُلِّقت على التجربة القائمة إذا خابت تبيّن أن المشاركة من جديد لن تكون إلا لوظيفة التلميع لصورة النظام.
نعم، على المجلس أن يُبرهن على نتائج إيجابية تتمثّل في مكاسب شعبية واضحة تصبّ في مصلحة الوطن كلّه، وبصورة سريعة، قبل أن يستحكم اليأس من جدواه فتتعمق أزمة الوطن، وتتسع الفروق، وتتوتر العلاقات، ويدفع الجميع الضريبة الثقيلة وهي الشيء المرفوض دينا وعقلا وعقلائيا وعلى أساس من مصلحة الوطن.
ثانياً: تطبيع حادثٌ أو مواصلة تطبيع:
التطبيع مع إسرائيل والذي تتحدث عنه التصريحات والبيانات الرسمية في دول عربية مختلفة ومنها البحرين حادث وجديد أو هو مواصلة لتطبيع قائم سارٍ؟
الجديد هو التطبيع أو الإعلان والمجاهرة به؟ بالنسبة لهذا التطبيع ماذا وراءه؟ هل جديد سرّه أنْ تغيّرت إسرائيل؟ تغيّرت عقليتها؟ تغيّر هدفها؟ تغيّرت أخلاقيتها؟ تغير لون تعاملها؟ حتّى على المستوى الرسمي هناك إقرار بأن موقف إسرائيل لم يتغير. إسرائيل عدو حضاري ثابت، ولا يمكن أن تتخلى عن عدائها للإسلام والمسلمين، ولا يمكن لها أن تقبل بأن تتحقق مصلحة هذه الأمة.
هل هذه الحقيقة خافية على الأنظمة الرسمية العربية، والعدد الأعظم من الدول الإسلامية؟ طبعا لا، والكل يعرف أن إسرائيل عدو استراتيجيٌّ كما كانو يعبّرون.
هل هناك ضغط من أجل التطبيع لا تستطيع الأنظمة مقاومته؟ أم هي الرغبة الذاتية عند الأنظمة في التطبيع؟ يمكن أن يُدّعى أن هذا وذاك صحيح.
أين الأمّة؟ الأمّة مغيّبة، ماذا غيّبها؟ تربية الأنظمة لها، قسوة الأنظمة عليها، تجهيل الأنظمة لها، تهزيل الأنظمة لها، أين الأمّة؟ أين احتجاجاتها؟ أين مظاهراتها؟ مسيراتها، شجبها، استنكارها، إظهار رفضها؟ سواء كان للأمة وزنٌ عند الأنظمة أو لم يكن؟!
التطبيع مع إسرائيل انعطافة خطيرة في تاريخ الأمّة المستهدفة من أمريكا وإسرائيل والغرب، فأن ترتمي في أحضان عدوّ ينحرك نحراً ليس أكبر منه هزيمة واستسلاماً.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى وعلى آله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم لا تمنعنا سيبك وعطاءك الكريم، وهب لنا مزيداً من رحمتك، ووفّقنا لخالص طاعتك، وواضح سبيلك، وجنّبنا معصيتك، وهب لنا معرفتك، وانته بنا إلى رضوانك والمقام الرفيع عندك، ولا تجعل حياتنا نصبا، ولا مماتنا سيئا، ولا منقلبنا خاسرا، ولا حظّنا من خير الدارين قليلاً، وازونا عن الشر وادرأه عنّا الشر، وأقبل بنا على الخير واكتبه لنا يا أكرم الأكرمين ويا أرحم الراحمين.
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 – 38، 39/ الدخان.
2 – والغاية غير السديدة هي من الباطل.
3 – 35/ الدخان.

زر الذهاب إلى الأعلى