خطبة الجمعة (299) 24 شعبان 1428هـ – 7 سبتمبر 2007م

مواضيع الخطبة:

*حديث في الفرح *التعدي على خاتم الأنبياء والمرسلين (ص) *ماذا ستفعل الحكومات *اتحاد يوم الصوم والفطر وتعدده

ولو كانت لهذه الأمة هيبة كافية كما كانت لسقط شعار حريّة الصحافة في الغرب أمام هيبة هذه الأمة. يوم أن كانت هذه الأمة أمة كبيرة عملاقة بإسلامها ما كان الغرب ليجترأ عليها بكلمة واحدة، فقد كان ملوك الغرب يتوددون إلى خلفاء المسلمين حتّى بعد انحطاط قدر الخلافة كما في أيّام دولة الأندلس.

الخطبة الأولى

الحمد لله الحاكم للخلق بقدرته، المهيمن على الأشياء بعظمته، المدبر للموجودات بحكمته، القاضي في عباده بعدله، القابل من أهل طاعته باليسير، المكافئ بالجزيل، والعافي عن الكثير.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليماً كثيراً كثيراً.
عباد الله أوصيكم ونفسي الخطَّاءة بتقوى الله والأخذِ بمعالي الأمور، والتخلّي عن سفاسفها، والانشداد إلى الأهداف النبيلة الكبيرة، لا الأهداف الساقطة الحقيرة؛ فنفسُ المرء وحياته تعظُمان حيث يعظم الهدف، وتتفهان حيث يتفه الهدف، وما كان لغير الله وللدنيا فهو من التافه، وما كان لله والآخرة فهو من العظيم، وما قيمة شيء يفنى، ولا يُنقذ من النّار، ولا يُكسِب الجنّة؟! وكيف يقِلُّ ما لا يفنى من الخير، ولا يناله ظنُّ الظّانين من النّعيم؟!
اللهم صل وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى وعلى آله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
ربَّنا صغِّر في قلوبنا الصغير، وكبّر الكبير، ولا تجعلنا نُقدّم حقيراً على عظيم، ولا فانياً على باقٍ، ولا زيفاً على حقيقة، واجعل نظرنا صائباً، وخيارنا رشيداً، وعزمنا عالياً، وعملنا سديداً، ونيتنا صالحة يا رحيم يا كريم.
أما بعد فهذا حديث مختصر في موضوع الفرح:
قد ترضى النّفسُ بما يحصل لها إلى حدّ الشعور باللّذة والانتعاش، وذلك لملاءمته لمشتهاها وأمنيتها، وهذا فرحٌ وسرور، وقد يكون الفرح بحقٍّ وعن واقع، وقد يكون بباطل وعن وهمٍ، وتصوّرٍ خاطئ لما هو خير النفس وما فيه سلامتها وسعادتها، فرُبّ مفرحٍ للنّفس لو صحّت لأحزنها، ورُبّ محزن لو علمت لأفرحها، فليس كل ما يفرح له الإنسان فيه خيره، وليس كلّ ما أحزنه هو شرّ {وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}(1).
وإنّما الفرح بالخير، والحزن للشّر، ولو أصاب الإنسان العلمَ بالخير وبالشّر لما أخطأ في فرحه وحزنه، ولكنّه كثيرا ما لا يصيب.
والدين يعلّمنا متى نفرح ومتى لا نفرح في موارد رئيسة مهمة، ومتى نحزن ومتى لا نحزن في مثل تلك الموارد. والفرح بالحقّ يركّز في النّفس الحق، والفرح بالباطل يغرس فيها الباطل أكثر وأكثر، والفرح بما هو عظيم تعظم معه النّفس، والفرح بما هو حقير تحقر معه النّفس.
وفي موضوع الفرح إليك بعض النصوص:
{إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا}(2).
قارون صاحب الثروة الهائلة فرح بثروته بما هي ثروة ودنيا، ووراء فرحه بذلك تصوّر خاطئ وقد أدرك قومه ذلك ولاحظوه عليه. كان يتصوّر أن الاحتماء بالمال، وبه الرّفعة والسموّ والخلود.
المال شيء خارج، ومهما عظم الخارج ما لم ينعكس على النفس بسموٍّ داخلي، وبرفعة داخليّة، بوعي، بنزاهة، بعلوّ هدف، بانضباط شعور، بشموخ همّة فإنّ هذه العظمة تبقى شيئاً خارجاً عن الذّات. وأن يكون القصرُ عظيما، والحقل عظيما، والسيارة عظيمة لا يعني أن النفس قد عظمت.
إن لعظمة النفس أسباباً لا نجدها في المادّة وتضخّمها في الخارج، إن عظمة النّفس تعتمد على رؤية صحيحة دقيقة فسيحة، وتعتمد على مشاعر نبيلة كريمة، وهمّة عالية، وإرادة خيّرة فولاذية.
عظمة النفس في قدرتها على الاستقامة على خطّ الله الصاعد تبارك الله وتعالى، وأين بريق المادة في الخارج وتعملقها وتضخّمها من كلِّ ذلك؟!
كان قوم قارون ينصحونه بالتوازن في النظر، والشعور، والموقف، والأخذ بالحقّ في كل ذلك، والنتيجة لقارون وراء فرحه بالمال، وانشداده إليه، وتعظيمه له، ونسيانه ذاته، عبوديته، وربوبيّة ربّه كانت نتيجة وخيمة قاتلة، فيها هلاك نفس، وذهاب دنيا، وأكبر من ذلك مصير إلى النّار.
هذا فرح لموضوع من الموضوعات الصغيرة وانشغالٌ به، وهذا الفرح يحوّل النفس إلى نفس صغيرة يضمر فيها الشعور بما فيه العظمة حقّا، تجفّ منابع الخير، تضيق النظرة، تتكلّس الذّات، تتحوّل النفس النورانية الشريفة إلى ما يشبه الوجود الطيني في كل مشاعرها، وفي كل رؤاها وخواطرها.
{ذَلِكُم بِمَا كُنتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَمْرَحُونَ}(3).
وقد يقال في المرح أنه أشدّ من الفرح درجة.
والانسياق وراء الأفراح، وطلب السرور من أي مصدر لا يستقيم مع إنسانية الإنسان، وليس في صالحه، فمن الفرح ما هو أشرٌ وبطرٌ يؤدّي إلى نتائج وخيمة، من نحطاط القدر، وتحوّل الذّات إلى حجر من أحجار النّار، وأن يسجر عليها فيها، ويُسحب المرءُ في جهنّم. كلّ ذلك نتائج لنوعٍ خاصٍّ من الفرح هو الفرح بغير الحق.
زواج قد يكون مفرحا وهو بغير الحقّ، صداقة تفرح قد تكون بغير الحق، وظيفة تفرح قد تكون بغير الحق، نصرٌ مفرح قد يكون بغير الحق، ما أكثر ما يكون مما يفرح الناس مما هو غير حقّ حيث يكون فيه بيع للدين، ونسيان للآخرة، وإعراض عن الله العظيم.
“ربّ طرب يعود بالحرب”(4) عن أمير المؤمنين عليه السلام.
والطرب مفرح مبطر، مخرج عن حدّ الاعتدال، مسكر، ولكن قد يفيق السكران بالطرب على محنة من حربٍ لا يخرج منها إلا خاسراً.
“ما بالكم تفرحون باليسير من الدّنيا تُدركونه، ولا يحزنكم الكثير من الآخرة تُحرمونه؟!”(5).
“ما بالكم تفرحون باليسير من الدّنيا تُدركونه” مال، وظيفة، منصب، جاه، سمعة في الناس. وكلّ عظيم من أمور الدنيا وأشيائها حقير إذا قيس بما هو من الآخرة.
“ولا يحزنكم الكثير من الآخرة تُحرمونه؟!” بيت يُبنى من الحرام يفرح صاحبه. يُفوّت عليه قصوراً لا تعد ولا تحصى في الجنّة، يفرح للأول ولا يحزن للثاني. وظيفة يتسلّق إليها بذلّ نفسه، وببيع دينه فتكون مصدر فرح كبير من أفراحه، إلا أن هذه الوظيفة هي ما سيسلك به إلى جهنّم، يفرح بالأول ولا يحزن للثاني.
ولا يضيق عليك التصوّر أن تصل إلى العديد العديد من هذه الأمثلة التي نسكر فيها من أجل الدّنيا وننسى قيمة الآخرة.
“(من كتاب لأمير المؤمنين عليه السّلام إلى عبدالله بن العبّاس): أمّا بعدُ فإنّ المرء لَيفرح بالشّيءِ الّذي لم يكن لِيفوته، ويحزن على الشّيء الّذي لم يكن ليصيبه، فلا يكن أفضلَ ما نلت في نفسك من دنياك بلوغُ لذّة أو شفاء غيظ، ولكن إطفاء باطل أو إحياء حقّ، وليكن سرورك بما قدّمت، وأسفك على ما خلّفت، وهمّك فيما بعد الموت”(6).
رزق الدنيا لا يفوت، ما كان من رزق لأحدنا فهو مضمون، والرزق ما نفع لا ما أضرّ. ينبغي أن يكون الفرح لأمر غير متوقّع، وبعيد المنال، لا للأمر العادي المضمون، والرزق من الشيء المضمون، ونحن نفرح بهذا المضمون المكتوب الذي لو لم نلاحقه للاحقنا، ونحزن للشيء الذي لم نكن لنصيبه، وليس بمكتوب، ويستحيل على الإنسان أن ينال ما لم يكتبه الله له في هذه الحياة، ولد لم يكتبه الله له في هذه الحياة، درجة من درجات الدنيا لم يكتبها الله له في هذه الحياة. نحزن لفوات ذلك، على أن ذلك الشيء لا يحصل عن طريق كلّ أيّ من الأسباب، وما كان ينبغي لشيءٍ لابد أن يحزن الإنسان له، وإنما يجب التصبّر والانصراف بالهم عمّا هو ميؤوس منه، ولا ينبغي الهلع هنا ولا الحزن.
الحزن على شيء تستطيع أن تناله فتفرّط فيه، والآخرة هي مما يستطيع العبد أن يناله، فكلما فرّطنا فيه من الآخرة كان مورد الحزن، وكلما فاتنا من الدنيا مما ليس بمكتوب لنا تقول لنا الأحاديث لا ينبغي أن يكون مورد حزن.
يقول عليه السلام كما هو المنقول عن النهج:”فلا يكن أفضل ما نلت في نفسك من دنياك بلوغ لذّة أو شفاء غيظ، ولكن إطفاء باطل أو إحياء حق” ما سيخلّدك سعيداً؟ ما سيرفع شأنك عند الله عزّ وجل؟ ما سيعطيك السموّ في ذاتك؟ ما سيكتب لك نعيما لا يفنى؟ هو أن تطفئ باطلاً، وتحيي حقّاً.
أما أن تبلغ لذّة، أو تشفي غيظاً من غيظ الدنيا فهذا كلّه إلى ذهاب، فما يفرح له العاقل المؤمن هو أن يطفئ باطلاً أو يحيى حقاً، وليكن سرورك بما قدّمت لآخرتك من عمل خير، وأسفك على ما خلّفت من أشياء لم تستثمرها لآخرتك، وأبقيتها للدنيا لا تطلب فيها رضا الله سبحانه وتعالى، وعلى ما خلَّقت من عمل سيء يؤاخذك به الله يوم القيامة.
وليكن همّك فيما بعد الموت. تجاوز بيتك، تجاوز رصيدك المالي، تجاوز هموم الدّنيا إلى الهمّ الأكبر، همّ الآخرة. نعم لابد أن تصلح دنياك، استطراقاً لصلاح آخرتك، لا تفرّط في شيء مما يصلحك في الدنيا أو يصلح أسرتك، أو قريتك أو أمتك، ولكن كلّ ذلك بنظر الآخرة، وكل ذلك بهمّ رضوان الله سبحانه وتعالى.
اللهم صل وسلم على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم اجعل حياتنا سعيدة، ومنقلبنا مباركا، وخير أعمالنا خواتمها، وخير أيامنا يوم نلقاك، اللهم اجعل يوم لقائك يوم سرورنا الأكبر، وفرحنا الأعظم، وبشارتنا العليا التي لا يعقبها سوء أبداً يا حنّان يا منّانُ يا كريم.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3)}

الخطبة الثانية

الحمد لله الذي وفّق أهل الطاعة لطاعته، وأقام الحجة على أهل معصيته، ودعا إلى الجنّة وذاد عن النّار، وعدل بين الأبرار والفجّار، والأخيار والأشرار، وهو المحسن لكل العباد، والمتفضّل على جميع الخلائق، وله الشكر الذي لا ينقضي، والحمد الذي لا ينتهي، والطاعة الدائمة بلا انقطاع.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليماً كثيراً كثيراً.
علينا عباد الله، وأهل إحسانه بتقوى الله وطاعته إذ لا تُغني طاعة مع معصيته، ولا تضرّ معصية مع طاعته، ولا يقوم مقام رضاه رضا، ولا يُسيء كغضبه غضب، ولا يحتمل غضبَ الرب أحد.
وإنّ أصنافاً من النّاس عدَّتهم الأحاديث الأبغض إلى الله عزّ وجل، فإيانا أن نكون من هذه الأصناف. وممن وصفتهم الأحاديث بهذا الوصف من يأتي:
“أبغضكم إلى الله المشّاؤون بالنميمة، المفرّقون بين الأخوان، الملتمسون للبُراء(7) العثرات”(8) عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم).
وعن الباقر عليه السلام: “قال موسى عليه السلام: ياربّ. أي عبادك أبغض إليك؟ قال: جيفة بالليل بطّال بالنّهار”(9) .
وعن الصادق عليه السلام: “أبغض العالم المتجبِّر”(10).
وعن علي عليه السلام: “إن أبغض العباد إلى الله خَلْقِ الله عبدٌ اتقى النّاس لسانه”(11) فحّاش، يرمي الأعراض، سليط اللسان، بذيء، يقذف النّاس بلا حساب.
أعذنا ربنا من أن نكون من المستحقين لغضبك، المتعرّضين لعقوبتك، وشرّفنا بطاعتك، وأسعدنا بمحبتك، واجعلنا من أهل ودِّك وقربك ورحمتك وكرامتك وإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين. اللهم اغفر لنا ولهم وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم صل وسلم على حبيبك المصطفى محمد بن عبدالله خاتم النبيين والمرسلين وعلى علي أمير المؤمنين وإمام المتقين، وعلى فاطمة الزهراء الصديقة الطاهرة المعصومة، وعلى الأئمة الهادين المعصومين: الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن المهدي المنتظر القائم.
اللهم صل على محمد وآل محمد، وعجّل فرج ولي أمرك القائم المنتظر، وحفَّه بملائكتك المقرّبين، وأيّده بروح القدس يارب العالمين.
عبدك وابن عبديك، الموالي له، الممهد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين وفقهم لمراضيك وسدد خطاهم على طريقك، وانصرهم نصراً عزيزاً مبيناً قريباً.
أما بعد أيها الإخوة والأخوات في الله فهذه بعض كلمات:
التعدّي على خاتم النبيين والمرسلين (ص):
التعدّي المتكرّر من الغرب على مقام رسول الله صلى الله عليه وآله في صور بالغة السخف له دلالتان: سخف الحضارة المادية للغرب، وعنجهيتها، وسقوطها الخلقي، وحيوانيتها، وفقدها للذوق الإنساني الرفيع. حضارة ماديّة بذيئة، قولها فحش، وفعلها فحش، وهدفها سيء، وأثرها في الناس قتّال.
إنسان يحيى إنسانيته لا ينزل إلى هذا المستوى من الحظيظ ليتناول أكبر شخصيّة إنسانية في الأرض بما لا يتناسب مع أيّ إنسان عادي. هذه دلالة.
الدلالة الثانية: أن عالمنا الإسلامي وصل إلى حدِّ، فقد الهيبة، عالم بلا هيبة. بلا شخصية محترمة، لا يملك عمليّاً من العزّة والكرامة في نفسه ما يفرض ذلك على غيره، ولهذا سبب، والسبب الكبير البُعد عن الدين، والارتماء في أحضان الغرب من قبل الأعم الأغلب من حكومات المسلمين.
عالمنا الإسلامي يعيش في كثير منه فقد ثقة، هزيمة نفسية، صغاراً في الذّات، نظرة حقارة للذّات، وكلّما ابتعدنا عن دين الله، دين العزة والكرامة والشموخ، أو كان تراخٍ في الارتباط بهذا الدين، وكلّما ارتبطت الحكومات بالإرادات الغربية، وكان وجودها متوقّفاً على إرادة الغرب، كلّما سقطت قيمة عالمنا الإسلامي في نظر الطرف الآخر، وكلما تمادى في سخريته وهزئه بنا، وطمع في تجريح أكبر قادتنا وليس أكبر من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأي شخصية بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يمكن أن تُحترم في العالم كلّه!
ولو كانت لهذه الأمة هيبة كافية كما كانت لسقط شعار حريّة الصحافة في الغرب أمام هيبة هذه الأمة. يوم أن كانت هذه الأمة أمة كبيرة عملاقة بإسلامها ما كان الغرب ليجترئ عليها بكلمة واحدة، فقد كان ملوك الغرب يتوددون إلى خلفاء المسلمين حتّى بعد انحطاط قدر الخلافة كما في أيّام دولة الأندلس.
ماذا ستفعل الحكومات؟
الوعي عند الشعوب الإسلامية والشعوب العربية وصل درجة لا تقبل السكوت على الظّلم والتهميش، وهذا واقع جديد يدخل في المعادلة بين الحاكمين والمحكومين بما هو عنصر جدوى يفرض ضريبة على الحكومات، وكلّ يوم يأتي الوعي فيه في ازدياد.
الشعوب الإسلامية يزداد وعيها بإسلامها، والارتباط بالإسلام يرفع من درجة الوعي، والعزة، والكرامة، والشموخ، ويعطي ثقة عالية بالنفس، ويفرض شعورا رسالياً ودورا إيجابيا في الحياة، وهذه الشعوب صار وعيها السياسي يتعملق يوما بعد يوم، وصار وعيها الحقوقي يتعملق يوما بعد يوم، وصارت إرادتها تكبر وتتعاظم ولا تقبل أن تتراجع وتتقهقر، هذا واقع جديد ينبغي للحكومات أن تحسب له حسابا كبيرا.
والحكومات من جهتها تستعظم السقف الحالي من مطالب الإصلاح وهو سقف هابط، وكلما ساء الحال وتعطّلت هذه المطالب فسقف المطالب سيكون في ارتفاع واتساع، فماذا ستفعل الحكومات عندئذ؟
اليوم توجد أزمة بين الشعوب والحكومات، ودرجة الوعي على ما هي عليه الآن، وسقف المطالب هو ما عليه الآن، وهو ليس بالرفيع ولا المتجاوز، فكيف إذا اشتد الوعي أكثر، تصلّبت الإرادة أعظم، وكان مضاء العزم أكبر وارتفع مستوى المطالب، وكبر الطموح، واتّسعت وتركّزت ثقافة الحقوق؟!! ماذا ستفعل الحكومات عندئذ؟
يمكن أن تأتي هنا فروض:
‌أ- فرض انتظار تراجع الوعي أو الإرادة عند الشعوب، وفيما يظهر بصورة كبيرة، وبعد ما قطعته الصحوة الإسلامية من شوط في واقع الأمّة هذا الفرض ساقط؛ فرض أن يتراجع الوعي، وأن تلين الإرادة عند شعوب الأمّة فرض لا قيمة له في حساب الاحتمالات. الوعي في ازدياد، والإرادة في اشتداد، فتعويل الحكومات على أن يتراجع وعي الشعوب أو أن تلين إرادتها في المطالبة بالحقوق تعويل غير علمي.
‌ب- الاعتماد على التضليل والتلهية الإعلامية، والوعود المعسولة المؤجّلة لمرات ومرات، وهذا الفرض كسابقه لا يمتلك وجاهة في حساب الاحتمالات، ذلك لانكشاف اللعبة السياسية عند الحكومات، ولكونها لأنها أصبحت معرّاة النوايا والأهداف والتكتيكات، وكذلك لتعاظم وعي وإرادة الأمة.
‌ج- الاعتماد على سياسة فرّق تسد، وقد أصبحت هذه السياسة مكشوفة، وإن كانت لا زالت فاعلة في أوساط لا بأس بها، ولكن تعاظم الوعي، ومرور الأيام سيسقط هذه اللعبة أيضاً، وسينكشف للمناصر للحكومات من هذا أو ذاك من مكونات الشعوب أنّه مظلوم كما هو صاحبه.
‌د- الخيار الأمني المتشدد، وهذا يعني أن يُحرق الملايين من أبناء الأمة الإسلامية. قضية المطالب اليوم ليست قضية مئات من الناس أو ألوف، قضية شعوب عريضة، وقضية ملايين من أبناء الأمة كل شعوب الأمة في تحرّك، وفي تحفّز لتغيير وقعها السيئ الذي نعرضه عليها الحكومات، ومعنى الأخذ بالخيار الأمني المتشدد أن تحترق الحكومات والشعوب.
ولماذا تختار الحكومات قولة لا للإصلاح؟
1. أثرة وجشع، وجنون مادي، عندك خمسة ملايين، عندك عشرة ملايين، تصر على أن تصل إلى مائة مليون، إلى مائة مليار، وصلت إلى رقم المليارات، ولا زلت تطلب المزيد جهلاً واستكباراً في الأرض!!
2. خوف ارتفاع سقف المطالب، يخافون من أنه لو حقّقوا هذه المطالب الصغيرة لجاءت بعدها مطالب أكبر، ولكنهم لا يدرون أن ذلك أحسن من الانفجار الذي إذا حصل لا يقنع بأي مطلب من المطالب؟، ولا يتوقف إلاَّ بإزالة الحكومات.
3. الاعتماد على الدعم الخارجي، حيث يرون أنهم مُستغنون عن الشعوب، وهذا وهم، والدعم الخارجي ليس مضمونا دائما، والدعم الخارجي لا يصمد إلى الأخير أمام إرادة الشعوب إذا زحفت.
4. اعتقاد الفوقية، فإن حكّاما في البلاد العربية والإسلامية يعيشون الروح الفرعونية، ولهم كثير من فرعون الذي قال أنا ربكم الأعلى، ولكن الواقع يبرهن لكل صغير وكبير من الناس أنه ما هو إلا عبد من عبيد الله، وأنه ما هو إلا رقم في كبيرة من الناس لو اجتمعت بكاملها ما روَّق قضاء من قضاء الله وأنه بغيره أكثر منه بنفسه.
وأقول قبل ذلك بأن النهاية للإصلاح، ومن لم يقبل الإصلاح فهو مضطر لأن يقبل التغيير.
محليّاً المطالب مجمّدة، والأزمات في ازدياد، تعرفون كم ازدادت الأزمات، وكم هي متراكمة، اقتطاع، وانقطاع، وتلوث بيئي، وردم غير مسؤول، وحتى أزمة لحوم، إلخ، تنضاف إلى الأزمات الكبيرة أزمات صغيرة مؤجّجة وتمسّ المواطن العادي الذي قد لا تنبهه بعض المشاكل المركزية.
مطلوب لمصلحة البلد، لمصلحة الحكومة، لمصلحة الشعب، للحاضر، للمستقبل أن يكون إصلاح، وإصلاح جدّي، وكبير، وسريع.
اتحاد يوم الصوم والفطر وتعدده:
الاختلاف في الهلال ربما هزّ يقين عدد من الناس في المذهب والدين والعلماء والفقهاء، والناس مستويات، وهذا القدر من الانفعال، ومن ردّة الفعل فيه تجاوز كبير على العقل، وعلى الدين، وعلى العقلانية وعلى المصلحة، أقولها وهو مما لا ينبغي .. على الإطلاق.
نعم على المؤمنين بذل الجهد ما استطاعوا لتوحيد الموقف من الهلال، المؤمنين وأن يوظّفوا كل إمكاناتهم مقدّمة لتوحيد الأمر، وليس لهم أن يقصّروا ثم إذا جاء موقف الاختلاف سبّوا وشتموا.
ولابد للمؤمن من هذا الوعي الآتي:
1. فرق بين الإسلام الواقعي والإسلام الاجتهادي، الذين يطلبون من الإسلام الحاضر، نفس النتائج الكبيرة المترتبة على الإسلام المتلقّى مباشرة من رسول الله صلى الله عليه وآله عندهم وهم، ذاك إسلام واقعي، وما عندنا إسلام اجتهادي صحيح أنه لابد أن نتعبّد به، ولكن يبقى فرق بين عطاءات الإسلام الواقعي في حياة الناس وهي عطاءات كلها إيجابية، وبين عطاءات الإسلام الاجتهادي، على أن الإسلام الاجتهادي له عطاءات لا تبلغه اطروحة أخرى في الأرض، وليس قليلاً أبداً ما يقدّمه الإسلام الاجتهادي من إنقاذ وتخليص للبشرية من الأزمات، وما يعطيه من نتائج إيجابية كبيرة. هذا فرق.
2. فرق آخر: فرق بين زمن الحضور والغيبة، وزمن الغيبة زمن التمحيص والغربلة، لماذا؟ لأن المشاكل والأزمات تكثر لغياب الإسلام الواقعي، وغياب القيادة المعصومة، وعدم اجتماع الناس حتى على قيادة الفقيه العادل الواحد. وماذا يحكم الساحة الإسلامية اليوم؟ ما يحكم الساحة الإسلامية اليوم الأطروحات الغربية والاطروحات الشرقية، وهذه الأزمات هي أزمات اطروحات أجنبية، الساحة الإسلامية تحكمها جاهليات، وهذا له إفرازاته الخطيرة، الإسلام مهمّش، فكيف يحَّمل الأطروحات الحاكمة في النّاس؟!
فرق بين زمن الحضور والغيبة، وهو زمن التمحيص والغربلة، وزمن التمحيص منخل أو غربال كما في تعبير الأحاديث يسقط منه خلق كثير من المسلمين، والمؤمنين، زمن الغيبة زمن التحديات، زمن أحداث ضخمة غير مطاقة، فهو يمثّل منخلاً وغربالاً يسقط منه خلق كثير من المؤمنين فضلا عن غيرهم.
مع وجود المعصوم اليوم لا يكون هذا الاختلاف، مع استمرار الإمامة المعصومة إلى الإمام الثاني عشر بلا انقطاع، لو أعقب زمن الأئمة زمن الفقهاء العدول فإن الأمة ستكون مهيئة الاجتماع على فقيه واحد أعني الأمة كل الأمة ليس شيعة أو سنة حيث مع هذا الغرض لا يوجد هذا الإنقسام وستجمع الأمة كلها على قيادة واحدة، وفقيه واحد عادل وستكون النتيجة مختلفة حتى في مسألة الهلال.
3. فرق بين تطبيق الجزئية الإسلامية الواحدة في جوّ يُطبّق فيه الإسلام كاملا ومن تطبيقها في جوّ آخر ليس من صناعة الإسلام. الجزئية الإسلامية الواحدة مرة تطبق في جو إسلامي كامل، وتطبيقها عندئذ سهل جداً، الصبر عن الزنا لمن لم يستطع الزواج المبكّر، يتطلّب درجة من التحمّل في الجو الإسلامي: في جو الإيمان، جو النظافة، جو العفاف، جو الستر، بينما يتطلب أضعاف تلك الدرجة من التحمل في جو التهتك، في جو السفور، في جو الميوعة إلخ. التوقّف عن الربا، والنظام الاقتصادي المعاش هو نظام إسلامي، والإسلام معاش بكامله، ليس شيئا عسيراً، ولا يتطلب درجة عالية من الإيمان جداً، بينما التوقف عن الربا في مثل الواقع القائم يتطلب درجة عالية من الإيمان والصبر والتحمل.
فرق كبير جداً بين تطبيق أي جزئية من الجزئيات الإسلامية وأي موقف من مواقف الإسلام في جو إسلامي كامل وفي ساحة يحكمها الإسلام، وبين أن تطبق هذه الجزئية في جو معادٍ تماما، ومن صناعة إطروحة جاهلية.
الجو الآن جو عزلة مفروضة على الإسلام، وتطبيقك للإسلام في أي جزئية من جزئياته يتطلّب منك أن تتحمل كلفة أكبر؛ لذلك فالقابض على دينه اليوم كالقابض على الجمر في يده، وأجره مضاعف.
الإسلام لا يدّعي أنه قادر على حلّ الأزمات بتطبيق جزئية منه أو جزئيتين، الإسلام يضمن للمجتمع حياة تعيش الرفاه والاستقرار والتقدم الروحي والنفسي والعقلي والمادي حين يطبّق بكامله، إما أن يُطبّق من الإسلام جزئية أو جزئيتان أو نظام من أنظمته دون البقية كما في تطبيق النظام العبادي وحده مثلا فذلك لا يعطي معه الإسلام الضمان بأن يحل أزمات الأرض، على أنه يجب تطبيق أي جزئية من جزئيات هذا الدين العظيم، أو أي نظام من نظمه ما أمكن حتى لو استحال تطبيق وحداته الأخرى.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله وآله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم طهّر قلوبنا من النفاق، وعملنا من الرياء، وألسنتنا من الكذب، وعيوننا من الخيانة، واجعل همّنا رضاك؛ اللهم اكتب الغلبة والنصر والعزة والظهور والكرامة للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات.
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 – 216/ البقرة.
2- 76، 77/ القصص.
3 – 75/ غافر.
4 – ميزان الحكمة ج7 ص 426.
5 – المصدر نفسه.
6 – المصدر ص 427.
7 – جمع براء بالفتح.
8 – ميزان الحكمة ج1 ص 435.
9 – المصدر نفسه.
10 – المصدر نفسه.
11 – المصدر نفسه.

زر الذهاب إلى الأعلى