خطاب الوحدة ( آية الله قاسم )

من خطب الجمعة لسماحة آية الله الشيخ عيسى أحمد قاسم

[1]

المجلس العلمائي رفع شعار الوحدة لهذا العام وهو”نحو وحدة وطنية وإسلامية جامعة”. لماذا هذا الشعار؟ هذا الشعار يستهدف ثلاثة أمور:

1) لقد وصلنا إلى أسوأ حالة من حالات الفرقة والشتات وهي حالة التأصيل للفرقة والشتات، والتأصيل للاحتراب، حتى أصبح الاحتراب بين المسلمين ديناً، وصار قتل المؤمن للمؤمن، المسلم للمسلم سبباً لدخول الجنة، ولم تصل الأمة في يوم من الأيام إلى حالة أخطر من هذه الحالة. أمام هذا التأصيل لحال الفرقة والشتات والاحتراب لابدّ من تأصيل للوحدة بين أبناء أمة الإسلام وهو جاهز قرآناً وجاهز سنةً وجاهز تأريخاً للمسلمين. وواضح أن الوحدة الإسلامية دين، وأن الدين ناقص بلا اعتقاد وجوب الوحدة الإسلامية والعمل من أجلها.

فالهدف الأول لطرح هذا الشعار أن نشتغل بحالة من التأصيل للوحدة الإسلامية الجامعة ليتحول الإيمان بها في ذهن الإنسان المسلم وفي نفسيته إلى إيمان حيّ فاعل متحرك على الأرض. الحالة الإسلامية في هذا الاتجاه تتعرض لتشويه خطير جداً، يعادي القرآن والسنة وتاريخ المسلمين ويخالف ذلك كله تماماً وذلك من خلال واقع التأصيل للفرقة والشتات و الاحتراب.

2) أن تأخذ حالة الإيمان الفكري بضرورة الوحدة من ناحية دينية حالة شعور يملأ على النفس أقطارها، ويعطي الإنسان القدرة على الفاعلية والحركة في اتجاه التضحية من أجل قيم الوحدة، ومن أجل واجب الوحدة، ومقتضياتها.

3) أن نعيش نوعاً مشروع الوحدة في كل مجتمعنا بمعنى أن تعيش هذه الفئة مشروعاً وحدوياً معيناً، والفئة الأخرى تعيش مشروعاً آخر مثلاً، وتلك المؤسسة تطرح مشروعاً ثالثاً ونفعله. يتحرك الشعار من أجل أن تطرح مشاريع وحدوية تستقطب اهتمام الساحة، ولعلها تصل بالساحة إلى درجة من الاقتراب من هذا الواجب العظيم وهو واجب الوحدة.

نحن نعلم تماماً بأن المشكلة أكبر بكثير لمعالجتها من أن يطرح شعار، وينشط لهذا الشعار ويأخذ تمحوراً كبيراً من المسلمين لسنة أو سنتين أو ثلاث حتى على مستوى الأمة فضلاً عن مستوى بلد صغير أو مؤسسة محدودة، ولكن لابد من الإسهام. نحن لا نطمع بهذا الشعار في حل المشكلة، بقدر ما نطمع في الإسهام في هذا الحل، والقيام بالامتثال الواجب الإلهي في هذا الاتجاه.

وبمناسبة طرح هذا الشعار يكون على المجلس الإسلامي العلمائي الذي تبناه أن يطرح برنامجه العملي الذي يعبِّئ الحالة الفكرية والنفسية والعملية في اتجاه مصلحة هذا الشعار.

على المجلس الإسلامي العلمائي أن لا يطرح شعاراً من دون أن يطرح برنامجه العملي الذي يعطي الفاعلية لهذا الشعار ويترجمه على المستوى العملي. والمسؤولية ليست مسؤولية المجلس العلمائي وحده، سواء وفَّى بواجبه أو قصر فإن المسؤولية مسؤولية الجميع. الشعار دعوة لكل المجتمع، لكل أبناء الوطن، ولكل مؤسساته أن يتعاونوا على الخير وأن يدخلوا في مشاريع وحدوية وأن تكون لهم خطواتهم العملية التي تترجم شعورهم بالحاجة إلى الوحدة وإيمانهم بما دعا إليه القرآن الكريم والسنة المطهرة من هذا التعليم الضروري الكبير.

الشعار دعوة للمجتمع ولمؤسساته وأفراده بأن يقولوا القول الحسن وأن يفعلوا الفعل الحسن وأن يطرحوا المشاريع والبرامج الرشيدة والتي تغذي الشعور بواجب الوحدة وتفعّلها. وهنا تتحمل الحكومة بخصوصها ومن بعد ذلك المجلس النيابي واجباً خاصاً في هذا الاتجاه. سبق أن قلت بأن مشكلة الفرقة والتمزق والشتات في هذا الوطن أكبر أسبابها الموقف الحكومي والخلاف على المسألة السياسية، الخلاف والنزاع في المسألة السياسية ينعكس بآثار سلبية مدمرة على المجتمع كله، ويخلق خلخلة كبيرة في الصف الإسلامي سنيّه وشيعيّه، وسنيّه سنيّه، وشيعيّه شيعيّه، ويخلق مواجهات حادة لا مبرر لها وإنما هي مواجهات موهومة. كل ذلك مسؤولية يتحملها الخلاف السياسي المنطلق من موقف الحكومة. الحكومة والمجلس النيابي مسؤولان أن يعملا بروح تعاونية ووحدوية، ونية صالحة، وجهد مضاعف لصالح هذا الشعب ووحدته وإخائه وتقدمه.

“مقطع من خطبة الجمعة: 13 محرم 1428هـ ق”.

[2]

أورد سماحته جملة من النصوص ثم علق عليها بقوله:

في ضوء النصوص السابقة يمكن لنا أن نقول بأن الوحدة الإسلامية واجبةٌ شرعاً وبكل وضوح واطمئنان، ومن ناحية عقلية فإن حفظ مصلحة الإسلام، وحفظ كيان الأمة، والرقيَّ بمستوى الأمة، والتقدم بها، وصون الإسلام من العدوان الخارجي كل ذلك واجبٌ شرعيٌّ، وهو متوقّفٌ على وحدتها فتكون الوحدة واجباً في العقل.

ثمّ توجد الضرورة العملية. هناك عدوانٌ شرسٌ على الأمة بكل مذاهبها، هناك عملية سحق خارجي، هناك عملية تصفية، محوٌ لوجود هذه الأمة، استيلاءٌ عليها، استعبادٌ، سلبٌ لحريتها، هذا العدوان الشرس وهذه الهجمة الظالمة لا يردعها شيءٌ كما هي الوحدة، فالضرورة قاضيةٌ بالوحدة بين المسلمين.

هذا كلام في ما هو الواجب، أمَّا في ما هو الواقع فتصوّراً يمكن للأمة أن تكون متّحدةً، ويمكن لها أن تكون مفترقةً، ويمكن لها أن تكون محتربةً، والاتحاد قوّةٌ، والافتراق ضعفٌ، أما الاحتراب فانتحار.

وإذا كان هذا هو التصور فإن واقع الأمة ـ خارجاً ـ بين أمرين: بين الافتراق والاحتراب، الافتراق كاد يكون مستولياً على الساحة بكاملها؛ الافتراق على أساس المذهب، وعلى أساس القومية، وعلى أساس الطبقة، وعلى أساس حاكمين ومحكومين كاد أن يستولي على الساحة الإسلامية بكاملها، والاحتراب بدأ ينشط ويتحول إلى ظاهرة ممتدة؛ تتمدد وتتوسع لتستوعب المساحة الكبرى من واقع المسلمين وحياة المسلمين، هذا هو الواقع.

ما الأسباب؟

– يظهر لي أن من أقوى الأسباب لهذا الواقع المرير المهترئ والمستعر والمدمّر هو فتح باب الاجتهاد بصورة مبتسرة، ووجود اجتهادات قاصرة ومجتهدين صغار كثر، والإخوة السنة الذين كانوا يسدون باب الاجتهاد أصبح باب الاجتهاد عندهم مفتوحاً على مستوى طالبٍ جامعيٍّ، على مستوى إنسانٍ غيورٍ عن الدين ليست له أية عقليةٍ فقهيةٍ تؤهّله للاجتهاد، صار الاجتهاد من ناحيةٍ عمليةٍ حقّاً حتى للمثقفين العاديين، وهذا منتشر عند الإخوة السنة وقد يمتد إلى المحيط الشيعي.

– قصر النظر العملي الموضوعي، هناك من يحمل شيئاً من الفقه أو يعطي لنفسه حق الاجتهاد من غير أن تكون له بصيرةٌ عمليةٌ ولا يعرف تشابكات الواقع وما تنتجه فتاواه من مخاطر مدمرة.

ولا بد أن ندخل في حسابنا هنا التربية السيئة، أصحاب المصالح السياسية التي يذهب بهم الجشع والطمع والدنيوية إلى حد التضحية بالأمة وبكل مقدّس وبكل غالٍ عليها حفاظاً على مصالحهم السياسية والمادية، وما أكثر حكومات العالم العربي والإسلامي من هذا النوع في هذا اليوم!!

– العملاء الأجراء للأجنبي على مستوى الأفراد والمؤسسات والحكومات.

– الدور التخريبي المباشر للأجنبي وهيمنته السياسية على البلاد الإسلامية، وقدرته على فرض آرائه وسياسته على هذه الحكومة وتلك الحكومة.

“مقطعٌ من خطبة الجمعة: 29 ذي الحجة 1427هـ .ق”.

[3]

ما هو متعلّق الوحدة كما تظن؟ أن نتحول شيعةً كلنا؟! أن نتحول سنةً كلنا؟! مطلبٌ ليس دونه خرط القتاد كما يعبّر الفقهاء، وإنما دونه حصد الرقاب.

لا يمكن بأي حال من الأحوال ـ وتحت أي ضغطٍ ـ أن يتحول العالم الإسلامي كله إلى شيعة، أو أن يتحول إلى سنة، وإذا أردنا الوحدة على مستوى تفصايل العقيدة فإن الصحابة كما سبق لم يكونوا على رأيٍ واحدٍ في هذا الأمر، وإذا أردنا وحدةً إسلاميةً على مستوى الفروع الفقهية فالصحابة إذن لا يشكلون أمةً واحدةً، والمذاهب السنية الأربعة لا تشكل أمةً واحدةً، والمذهب الشيعي نفسه في اجتهاداته المختلفة لا يشكّل أمةً واحدةً.

إما أن نقبل بأننا كنا ونحن في أحضان الإسلام بعد حياة الرسول(ص) أمماً، وبقينا أمماً، وسنبقى أمماً، وذلك للاختلاف الفقهي، وفي بعض تفاصيل العقيدة، وفي دقة الرؤية التوحيدية وعدم دقتها، وأن علينا أن يحصد أحدنا الطرف الآخر إلى آخر واحد، وإمَّا بأن نقول بأن كل هذه الاختلافات لم تعدد الأمة في ماضيها، ولا تعدِّدها في حاضرها ومستقبلها، والأمر كذلك.

إننا أمةٌ واحدةٌ عقيدةً وفقهاً، والاختلاف في بعض دقائق العقيدة، والفروع الفقهية لا يقسمنا إلى أمتين أو أمم.

الموحدون الشيعة ليسوا على فهم واحدٍ للتوحيد، والموحدون السنة ليسوا على فهم واحدٍ للتوحيد، فإذا كان التفاوت في دقة الفهم لقضية التوحيد مقسّماً إلى أمم فنحن لسنا أمتين فقط، وإنما أممٌ متكثرةٌ.

وقد سبق أن النبي(ص) مسلمٌ وهو على توحيده أكملِ توحيد، وأن الأعرابي الذي آمن بالأمس أو اليوم مسلمٌ وهو على ما هو عليه من توحيد ضبابي غائم، وذلك من ناحية الحقوق العامة الدنيوية للمسلم على أخيه المسلم.

وإذا كانت العقيدة لا يمكن أن نتوحد عليها بمالها من دقة بالغة، فهناك قضايا كثيرةٌ جداً يمكن أن نتوحد عليها، ويجب أن نتوحد عليها.

الحفاظ على الأمن الوطني لكل بلد من بلدان الإسلام، قضية تهم الجميع، وفقدها يضر بالجميع، ولا أمر يقتضي الاختلاف في الحفاظ على هذه القضية.

إقامة العدل في أرض الإسلام، والأخذ بالمساواة في الحقوق والواجبات، المساواة بمعناها الدقيق، وليس بمعناها السطحي الساذج، إقامة العدل في أرض الإسلام، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مواجهة الظلم والفوضى من أي مصدر كان من حاكم أو محكوم، من سني أو شيعي، هذا كله يمكن أن نتوحد عليه.

حماية الدين والأمة من الأجنبي، أمرٌ يهم الجميع، وغيابه يضر بالجميع، ولا عائق إذا أنصفنا يعيق عن الأخذ بالوحدة في هذا المجال.

التقدم بمستوى الأمة وأوطانها، وحلُّ مشكلات الجهل والفقر والمرض إلى آخر المشكلات، وهي مشكلات تضايق الجميع، وتضرُّ بالجميع، من مسؤولية الجميع، والتوحد عليها لا يقف أمامه عائق.

تبليغ الإسلام في خطوطه العامة، وكذلك أن تبلّغ الإسلام كما تفهم، وأُبلِّغ الإسلام كما أفهم، تبليغي وتبليغك يخدمان الإسلام العام، ويُقلِّلان من موجات الكفر وامتداداتها في البلاد الإسلامية على الأقل.

نقطةٌ أخرى ومحورٌ آخر: الوحدة الوطنية ووحدة الأمة.

هل العلاقة بين الوحدة الوطنية ووحدة الأمة علاقة انسجام، أو علاقة تهافت وتعارض؟

هل حفاظي على أمن البحرين فيه تهافت مع حفاظي على أمن الأمة؟ اعتزازي بالبحرين فيه تهافت مع اعتزازي بالأمة؟ ولائي للبحرين بالمعنى الذي يرضاه الله يتهافت مع ولائي للأمة؟ أم أن العلاقة بين كل ذلك هي علاقة توافق وانسجام؟

حين نأخذ الولاء، والمصلحة، والنصرة إلى آخر هذه الأمور بالمعنى الإسلامي فلا تهافت، وحين نأخذها بالمعنى الجاهلي فالمسألة تؤول إلى التهافت، ونحن مسلمون، وعلينا أن نأخذ الأمور بمالها من معنى في الإسلام.

قوة الأمة في وطنها الكبير من قوة الأمة في أوطانها الصغيرة كما أن مصر ملك الإسلام فالبحرين ملك الإسلام، وكما أن تركيا ملك الإسلام فعمان مثلاً ملك الإسلام، وعزة الأمة مترابطة، وانتصارها مترابط، والعكس مترابط، فكلما عزّ وطن من هذه الأوطان، وكلما نهض وطن من هذه الأوطان، كلما حقق نصراً كلما كان ذلك يصب في صالح الوطن الكبير، والعكس بالعكس.

نقطةٌ أخرى في هذا المجال وهي التعددية على مستوى الإسلاميين والآخر في الوطن الواحد من بلاد الإسلام، وعلى مستوى الأمة، وعلاقة ذلك بالوحدة والفرقة.

في البحرين توجد قوى إسلامية، وتوجد قوى غير إسلامية، يوجد مسلمون ويوجد نصارى ويهود، فكيف تكون الوحدة الوطنية في ظل الإسلام؟

صدر الإسلام لا يضيق بخير على الإطلاق، إذا كانت الوحدة على شر فالمسلم لا يدخل فيها طرفاً سواء كان الطرف الآخر مسلماً أو غير مسلم، وإذا كانت الوحدة على هدى وخير وفيها صلاح الإنسان، وكل صلاح للإنسان فيه رضا الله عز وجل، فهذه الوحدة يبادر إليها المسلم سواء كان الطرف الآخر مسلماً أو غير مسلم.

إقامة الحق والعدل في الأرض، العدل في الحقوق والواجبات، مناهضة الانحراف الخلقي، والانحطاط الإنساني يدخل فيه المسلم أيّاً كان الطرف الآخر، فنحن من منطلق الإسلام مستعدون دائماً للوحدة حتى مع غير المسلم فيما هو خير، فيما هو صلاح؛ لأن في ذلك مرضاة الله تبارك وتعالى.

“مقطع من خطبة الجمعة: 6 محرم 1428هـ .ق”.

المصدر: مجلة رسالة القلم – العدد 11 – رجب الأصب 1428هـ

زر الذهاب إلى الأعلى