خطبة الجمعة (294) 12 رجب 1428هـ – 27 يوليو 2007م

مواضيع الخطبة:

* متابعة موضوع التفكر * قضية البلغاريات* انتخابات تركيا * يريدونها كنائس * التجنيس الظالم * هندرسون لا أهلاً ولا سهلاً

إذا عجز النيابيُّ عن ترتيب حلّ مع الحكومة لمشكلة التجنيس بما يجنّب الوطن كلّه خطرها لسبب تصلّب الموقف الحكومي مثلاً فلابد أن يأتي دور الشارع بكل شرائحه ومكوّناته، وبكل ما يملك من وسائل الضغط السلمي قبل فوات الأوان، وتصاعد المشكلة إلى الحدّ الذي يهدد الجميع، ويقود الوطن كلّه إلى نتائج كارثيّة بالغة الخطورة، والأمر لا يحتمل الانتظار.

الخطبة الأولى

الحمد لله ذي النِّعم السَّابغة، والرّحمة الواسعة، والمِنن السّابقة، والحكمة البالغة، والحجّة القاطعة، والعزّة الدَّائمة، والقدرة الكاملة، والقوَّة المتينة، والعظمة المنيعة، والسلطان الشَّامل، والملك الذي لا يزول.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليماً كثيراً كثيراً.
أوصيكم عباد الله ونفسي القاصرة المقصّرة بتقوى الله، وأن يكون طلبنا لخير الآخرة أكثر من طلبنا لخير الدنيا فلا يقاس قليل بكثير، ولا فانٍ بباقٍ، ولا مشوب بخالص؛ وإنّ الآخرة لهي دار البقاء والجزاء العظيم، والنعيم المقيم، والسعادة الخالصة.
وها هي الدنيا أمام ناظرينا قوّتها إلى ضعف، وصحتها إلى مرض، وشبابها إلى هرم، والعقل فيها إلى خرف، والحركة إلى سكون، وأهلها يفنَون، وملكها يزول، وعزّها ينتهي، ودولتها لا تدوم. فمن أين يأتينا الخطأ في التقييم والتقدير لو لا الغفلة والنسيان، والإهمال والتضييع. ألا فليأخذ كل عبد حذره فإن الأيام لا تهادن طويلاً، والدنيا ليست بالتي تمكث الكثير.
اللهم صل وسلم على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرّحيم. ربّنا أعنّا على أنفسنا وعلى الشيطان الرجيم وجنده الغاوين، واهدنا ولا تضلّنا فنقدِّم الدنيا على الآخرة، أو نشتري التي هي أدنى بالتي هي خير يا كريم يا رحيم.
أما بعد فهذه بقية حديث قصيرة في موضوع التفكّر:
تقول الكلمة عن عليٍّ عليه السلام وهي تعطي درساً في تحصيل العلم وتوسّعه:”فضل فكر وتفهّم، أنجع من فضل تكرار ودراسة”(1).
العملية التلقينية وشرح الشارحين، ومطالعة ما أنتجته الأقلام كلّ ذلك لا يكفي للتعلُّم. التعلّم في خطوته الأكثر جدّية، في خطوته المنتجة، والتي تضيف إلى الفكر فكراً، وتتقدّم بمستوى الفكر عند الإنسان إنما هي عمليّة التفكّر، والتفهّم، والتأمّل فيما نسمع، وفيما نقرأ، فيما أنتجه الآخرون، المتعلّم الحق لا يقف من كلّ ما كُتب موقف المتلقّي المستسلم وإنما يحاول دائماً أن ينظر فيما كتبه الآخرون، وأن يُعمل فكره ليقبل ما يصحّ عنده، ويرفض ما لا يصحّ، ولينتهي به النظر إلى إضافات جديدة تُثري العملية العلمية عنده وعند الأمة.
هذا هو توجيهٌ علويٌّ، وعليٌّ عليه السلام مصدر لا يشكّ في توجيهه، وهذا ما انتهى إليه الفهم البشريّ المتقدّم وهو أنّ العملية التعليمية في جوهرها الأصل هو أن تحرّك عقل المتعلّم لينمو ويُعطي ويتقدّم.
“من أكثر الفكر فيما تعلّم أتقن علمه وفهم ما لم يكن يفهم”(2).
وكلّنا طلاّب، صغيرنا وكبيرنا، الصغير في الابتدائي، والكبير بعد تجاوز كل المراحل الدراسية المعروفة هم طلاّب، والطلبُ الجادّ والمتقدّم هو أن تحاكم أفكار الآخرين لا في عمليّة إظهار للعضلات، ولا لمحاولة إنتاج الدعاوى الفارغة، وإنما في محاولة التفهّم الموضوعي لأفكار الآخرين، والاستسلام أمام صحيحها، ومناقشة ما تكون عليه ملاحظة، وإضافة ما يمكن إضافته من جديد. هذا وكثيرا ما أنتج المتقدّمون فكرا متيناً قويّا عملاقاً.
وهنا خطران على المتعلّم: خطر الاستسلام الدائم لكل ما يقرأ ويسمع، وخطر الاستكبار على ما يقرأ وعلى ما يسمع، ومحاولة الوقوف – وإن كان عن عنادٍ – أمام فكر الآخرين.
يضيف عليه السلام:”لا علم كالتفكّر”(3).
فهذه جملة كلمات من أمير المؤمنين عليه السلام تدفع بنا على طريق التفكّر والتأمّل والنظر ومحاكمة القضايا في كل أنواعها.
“كان أكثر عبادة أبي ذرّ رحمة الله عليه التفكّر والاعتبار”(4).
التفكّر في النِّعم، في النِّقم، في آيات الآفاق، في آيات الأنفس، في المبدأ والمصير، في الآيات المقروءة، في التاريخ، في تحوّلات الحياة والاجتماع، في ما يمرّ عليه مما كان يتنافس عليه النّاس بالأمس، ويتقاتلون عليه، ويدخلون في معارك طاحنة من لقمة عيش استُغني عنها، أو ثوب بالٍ آل أمره إلى المزبلة، أو سيّارة فاخرة صار مزهوداً فيها، أو حتّى قصر مشيد تحوّل إلى خربة.
هو هذا ما يتنافس عليه المتنافسون من أهل الدنيا، وما عليه التقاتل، وما عليه العداوة، وكثيراً ما هدم هذا التنافس علاقات رحمية متينة، وتقاتل عليه الإخوان والأقرباء من الناس. حين تفكّر تجد أنما استهدفك واستقطبك من لذائذ دنيويّة صار مآله إلى المزابل والقُمامات، وإلى منظر تفّر منه النفس، والنفسُ تنفر وتفرُّ من أفخر مائدة مرّ عليها يومان في المزبلة، والنفس تزهد في لقمة لذيذة بعد مضغها، والنفسُ تزهد فيما يخرجه البطن من بقايا أكل من أسفل أو أعلى وهذا ما يتنافس عليه النّاس. إذا فكرنا هذا التفكير، وتأمّلنا هذا التأمل فلن تنال منا الدنيا الإعجاب الكثير، ولن يحّل الهدف الدنيوي الصغير محل الهدف الأخروي الكبير، ولن نكون عبيدا لأهل الدنيا من دون الله تبارك وتعالى تَهافتا على ما في أيديهم.
نعم، كان أبو ذر يمرّ بالمقابر فيقف عندها، يتأمّل في الجمال المدفون، في القوّة العضلية المبعثرة، في الفكر المتقدّم لدماغٍ أنتج الكثير فإذا بالدماغ المنتج يتحوّل إلى تراب، أو إلى صديد قبل ذلك.
في المقابر عبرة، في المقابر أبطال، في المقابر جمال فتّان، في المقابر أصحاب فكر عملاق، في المقابر أشرار وأخيار، في المقابر من أقاموا دولاً، ومن قادوا جيوشاً، ومن حقّقوا الانتصارات، في المقابر من استقطبوا قلوب الملايين، ولكن كلّ ذلك لم يجدِ ولن يجدي لأحد، وإذا كانت هذه النهاية فلابد من التفكّر في قيمة هذه الحياة، وفيما يستقبل الإنسان بعدها.
أبو ذر كان يمرّ بزينة الحياة في عنفوانها، في بهرجها وزخرفها، ويفكّر إلى متى تبقى هذه المفاتن؟ وأيّ يوم ينتظر هذه الفاتنة، أو هذا البطل، أو هذا الملك، أو هذا القائد، أو هذا الحاكم، أو هذا العالم؟
يستوقفه منظر هرم كيف ولّى عنه شبابه، ويستوقفه منظر شاب مفتول العضل، وأنه إلى كم ستبقى له قواه، وكم سيبقى مخموراً بقوّة شبابه. وما يدريك ما يختمر في داخل ذلك الشّاب البطل من مرض يُهدّد حياته؟! يمرّ بالطفل الوليد فيراه أنه بدأ رحلته للآخرة ومفارقة الدنيا، يمرّ بالجمال الذي تعجُّ به ملامح ومعالم وجه، يمرّ بصباحة وجوه، وبفتنة وجوه فيقف قليلا ليعلم بأن هذا الجمال لا يبقى، وأن الشيخوخة تأتي عليه، وأن غرور الجميل بجماله لا بد أن يذهب. كلُّ الأرصدة في يد هذا الإنسان من قوّة، من جمال، من مال، من شهرة لا يبقى منها شيءٌ.
كان أبو ذر يمرّ بالقوي، ويمرّ بالضعيف، فيدرس حالة القوي وأنه هل كسب قوّته بيده، هل أعطى لنفسه القوّة والصحّة أم هي هبة من الله عزّ وجلّ وعارية؟! أما كان يسهل على الله عز وجلّ أن يجعل هذا القويّ ضعيفاً، والضعيف قويّاً؟!
أبو ذر له درس في كل حبّة تراب وذرة، وفي كل شجرة باسقة، وفي كل نبتة صغيرة، وفي كل طفل وليد، وفي كل شيخ كبير، له درس في حالة زواج، وفي حالة نزع. في كل الحالات للمطالع دروس، وللمطالع آيات، والمتأمّل المتفكّر لا تخونه الحقيقة، ولا يُصاب بالغرور، ويكتسب الحكمة.
ولذلك يأتي عن الصادق عليه السلام:”تفكّر ساعة خير من عبادة سنة {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ}(5)”(6).
والإنسان بلا ذكر هو بلا عقل، بلا حكمة، بلا خيار صحيح، بلا رشد، والتذكّر بالتفكّر، والعبادة التي تخلو من فكر لا تفيد تذكّراً، ولا تمثّل جوّاً صالحاً للتقرّب الحقيقي لله سبحانه وتعالى. فلذلك كان تفكّر من ساعة التفكّر الذي يقود إلى الله، التفكّر الذي ينتهي بهذا الإنسان إلى الحقّ الأكبر، إلى العظمة الإلهية المتعالية، التفكير الذي هو تفكير لا يقف بصاحبه عند الحقائق القريبة، وعند الأسباب الظاهرة، التفكّر الذي يعطي ذكراً لله، ويعطي ذكرا للنفس، ويعطي ذكرا للآخرة، ويعطي ذكرا للحق، ويعطي ذكراً للباطل، وقوّة على الأخذ بالحق، وعلى مفارقة الباطل خيراً من عبادة سنة.
فعبادة لا تقوم على تذكّر ولا على تفكّر ولاعلم هي عبادة شبه خاوية، أما التفكّر الحق فإنه يقود إلى العبادة الحقّة. الإنسان يكون بعيداً عن العبادة بمسافات، مدبرا عن الله عز وجل كل الإدبار، وتفكير ساعة يحدث له نقلة كبيرة هائلة فيتحوّل إلى عبد مخلص لربه الكريم العظيم.
وتعرفون القصة التي تدور حول أخوين أخٍ عابد وأخٍ فاجر، العابد أصابه غرور من جهل وغفلة فتحول لساعته إلى فاجر، الفاجر دخل في التفكير فتحوّل لساعته إلى عابد بوعيه، الأول لم تكن عبادته عن وعي وتفكّر، أما الثاني فتفكر وتذكر فأقلع عن المعصية، وعندما دخل محراب العبادة عن وعي فإن هذا الوعي فيه عصمة وهي من الله عز وجلّ.
“من قلّ أكله صفا فكره”(7).
أحاديث تصبّ في هذا الاتجاه، وليس المقصود أن تُقلّل من الأكل إلى حدّ الضرر، إنما أن تتجنب الشبع الذي يعطّل العقل، ويعطّل حركة الروح.
في الصوم صبر على الجوع وإن اشتدّ ما لم يبلغ حدّ الضرر، كأن يسبب مرضاً، أو يبطئ برء مرض، أو يزيد من مرض فعندئذ لا يصح الصوم، وهذه واقعيّة من واقعيّة الإسلام، وشيء من جمعه بين حقّ الدنيا وحقّ الآخرة.
ولنحذر التفكّر في هذا الأمر:”من كثر فكره في الّلذات غلبت عليه”(8).
والوقت لا يتسع لوقفة عند مثل هذه الأحاديث الشريفة التي فيها درس كبير، وبسرعة: أي خاطرة معصية تمر عليك حاول أن تتخلص منها سريعا بالاستعاذة بالله سبحانه وتعالى وتذكّره وتذكّر العاقبة، واستجمع كل قواك الفكرية، وكل إيجابياتك الروحية لتتخلص حالا من خاطرة المعصية فإنها إن تمكث معك تسرّبت إلى داخلك، ونالت من صفائك الروحي شيئاً. والوقت غير متسع.
اللهم صل وسلم على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم. اللهم اجعلنا ممن لا تراه إلا في مواضع رضاك، وعلى ما تحب لعبادك المصطفَين الصالحين الأخيار، ومن كتبت لهم سعادة الدنيا والآخرة، ودرأت عنهم مكروههما، اللهم لقّنا الخير وجنّبنا الشر، يا أكرم الأكرمين، وافعل بنا ما أنت أهله يا أهل الفضل والإنعام والإحسان والمواهب العظام، والعطايا الجسام.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3)}

الخطبة الثانية

الحمد لله الذي لا شيء إلا وهو مفتقر إليه، متعلّق برحمته، معتمدٌ على جوده وكرمه، محكوم لقدرته، خاضع لمشيئته، منتهٍ إليه، مستجيرٌ بحماه، مستغيثٌ بقوته، الحمد لله الذي لا مضاد له في ملكه، ولا منازع له في حكمه، ولا رادَّ لقدره.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وزادهم تحية وبركة وسلاماً.
عباد الله علينا بتقوى الله وملازمة طاعته، والاستعانة على ذلك باستذكار عظمته، وجزيل عطائه، وكبير نعمته، وحسن ثوابه، وأليم عقابه، وغناه وفقرنا، وقوته وضعفِنا، وعزّه وذُلّنا. عباد الله علينا بالتذكّر بأننا إلى الحساب صائرون وأنه ما من يوم أو ساعة أو لحظة نقضيها إلا وباعدتنا عن الدنيا وقرّبتنا من الآخرة، ولعمرٌ تهدمه اللحظة ليس بكثير، وإنّ المدّة الطويلة تنقص كلّ يوم وكل ساعة وكل لحظة لشيءٌ قصير.
اللهم صل وسلّم على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التوّاب الرحيم، اللهم ارزقنا توفيق الطاعة، وبعد المعصية، وسلامة الدين والدنيا، والمنزلة الرفيعة عندك، وكرامة الأولى والآخرة إنك على كل شيء قدير.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبدالله خاتم النبيين والمرسلين الصادق الأمين، وعلى علي أمير المؤمنين وإمام المتقين، وعلى فاطمة الزهراء الصديقة الطاهرة المعصومة، وعلى الأئمة الهادين المعصومين: الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن المهدي المنتظر القائم.
اللهم صل على محمد وآل محمد، وعجل فرج ولي أمرك القائم المنتظر، وحفَّه بملائكتك المقربين، وأيده بروح القدس يارب العالمين.
عبدك وابن عبديك، الموالي له، الممهد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين وفقهم لمراضيك وسدد خطاهم على طريقك، وانصرنا نصراً عزيزاً مبيناً.
أما بعد فهذه بعض مواضيع:
قضية البلغاريات:
تطالع تفجيرات نيويورك وحادث طائرة لوكربي، وحادث البلغاريات في ليبيا وتقارن فتجد أن المواطن الغربي في الغرب، وعلى المستوى الرسمي في أكثر بلادنا العربية والإسلامية عزيزٌ كريم، وإنسان مُقدّر وله قيمة عالية، أما المواطن العربي والمسلم فهو عندنا وفي الغرب دون ذلك. جعلنا مواطنينا في درجة متأخّرة في القيمة الإنسانية، وفي حقّ المواطنة عن المواطن الغربي إن كنا نعترف لإنساننا بقيمة إنسانية.
كان من أجل هيبة أمريكا والإنسان الغربي أن ألغت أحداث نيويورك قوانين وشرّعت قوانين، وجعلت الأمريكيين يتخلّون عن شعار حقوق الإنسان، وشنّت حروباً ظالمة، وفتحت سجوناً من نمطٍ جديد يُعامل فيه الإنسان معاملة الحيوان بل بصورة أخسّ بدرجات.
تلك أحداث أدخلت العالم في فوضى أمنية، وحوّلت بلاد المسلمين إلى ساحة رعب، وساحة مستباحة.
وحادث لوكربي استنزف الخزينة الليبيبة، وعانت منه ليبيا من عقوبات صارمة، والمقراح لا يزال سجيناً.
أما البلغاريات فيؤخذن إلى بلغاريا سالمات مكرّمات يُستقبلن على أعلى المستويات هناك، والتعويضات ليس من جيب أي دولة أوروبية حسب تصريحات الأوروبيين.
أحداث نيويورك وهي مُدانة لكن من أتى بها كان يجد التبرير بشكل ما، وأنّها ردٌّ على العدوانية الأمريكية، ونحن لا نرضى بمثل هذا الردّ، لكن جريمة البلغاريات ما تبريرها وهي اغتيال حياة أطفال أبرياء، وجريمة نشر مرض من أخطر الأمراض ممن اؤتمن على حياة أولئك الأطفال، ويتقاضين أجراً على الأمانة التي قد ارتكبن خيانةً لها.
أين الضمير الغربي وحقوق الإنسان والعدالة من قضية البلغاريات؟! كيف يحمي الضمير الغربي الجريمة؟! ويحتضن المجرمات إلى هذا الحد؟! ويستقبل المجموعة المجرمة الخائنة استقبال الأبطال، ويطلق سراحهن حالاً على أنهن مظلومات؟!
وهنا سؤال عن منشأ قيمة الإنسان الغربي في الغرب وهو إنسانيته، ولأن الشرقي حيوان فلا كرامة له، أم أن التقدير ليس لإنسانية الإنسان غربيّاً أم شرقيّاً لأن الإنسانية لا قيمة لها وإنما أساس التقدير الغربي عصبيّة العرق والدم والمكان؟! وما خبر الطبيب الفلسطيني في حادثة التلوّث بفيروس الايدز، وكيف جاءه الشرف والتقدير والحماية، هل شفعت له عروبته، هل شفع له إسلامه إن كان مسلما؟ لا، رفقته وزمالته للبلغاريات، ونيله شرف الجنسية البلغارية، فإذا أردت أن تكون عزيزاً كريماً في بلدك العربي الإسلامي فابحث لك عن جنسية أوروبية لتكون الإنسان الكريم فيه.
انتخابات تركيا:
تركيا أشد البلاد الإسلامية علمانية بصناعة كمال أتتورك، والعودة إلى الإسلام ظاهرة طافحة في تركيا، وهي ظاهرة عامّة على مستوى شعوب الأمّة.
وحزب العدالة والتنمية إنما تمّ اختياره لمنجزاته الماديَّة على الأرض من ناحية، ولعدم دخوله في حالة الغلوّ العلماني، والتصاقه بشيء من الدعاوى الإسلامية في ظاهره وانتمائه إلى جذور إسلامية كما يقولون وأنه يرفض التطرّف العلمانيّ وإن لم يمثّل الإسلام.
وهناك حزب السلامة وهو أقرب منه للإسلام، لكن فرص النجاح في تقدير الشعب التركي وقبول الغرب والعلمانية له فرص غير متاحة، ولذلك فإن نجاح حزب السلامة في الانتخابات ما كان ليعطيه البقاء في الحكم، ولابد أن يحدث زلزال ينتهي به حكم حزب السلامة في تركيا، لذلك يأتي الاختيار على حزب العدالة والتنمية.
وانتكاسة النظام العلماني المتشدد في تركيا وفشله الذريع مع إمكاناته الإعلامية الواسعة، وتاريخه الطويل، وصوته المرتفع، ودعم الجيش له نتيجة مرّة، ولطمة قاسية تتلقّاها العلمانية في كل البلاد الإسلامية.
ومن حقّ هذه النتيجة أن تُعطي درساً واضحاً لتلك القوى، وهذه ليست المرة الأولى للتصويت للأقرب للإسلام، فعندما يتاح للشعوب الإسلامية أن تعبّر عن نفسها ولو بمقدار فإنّها لا تختار على الإسلام شيئاً. الجزائر، أفغانستان، العراق أمثلة في هذا السياق، ولتجرّب أنظمة الحكم في كل البلاد الإسلامية أن تعطي الخيار للشعوب فإنها ستجد حتماً أن الشعوب إسلامية، وخيارها إسلامي.
يريدونها كنائس:
تذوب في السياسة، وتحلّ ما تحل، وتحرّم ما تحرّم، يريدون المساجد كنائس، وأئمة الجماعة فيها قساوسة ينتهي بهم الأمر إلى أن يُحلّلوا الزواج المثلي. نعم قد حلّلت بعض الكنائس، وبعض القساوسة والرهبان مسألة الزواج المثلي، وهو ما اشتهته السياسة هناك، ولا ندري إلى أين تصل السياسة في هذا البلد أو ذاك البلد من مشتهياتٍ تخالف دين الله، وأنتم تعرفون أن من علماء البلاط في بعض البلاد الإسلامية من يفتي حسب هوى الحكومات والرؤساء والسلاطين وإن كان على خلاف المسلّمات الإسلامية، وكل ذلك نتيجة طبيعية لارتباط عالم الدين بالجهات الرسمية وخضوعها لها، ولسيطرة السياسة الدنيوية على المسجد.
جرّبت السياسة المال، واستخدمته لتطويع المسجد، وقد أقدمت على استعمال العصا في بعض البلدان الإسلامية وهي هنا تتحرك في هذا الاتجاه، ذلك لتفريغ المساجد من محتواها، ولتلحق بركب السياسة اللاهث وراء أمريكا التي يسمّونها بالقطب الوحيد وهي عند البعض بدل الرب الواحد الأحد تبارك وتعالى.
عصفوران ترميهما السياسة بحجر واحد عن طريق الاستحواذ على المسجد: نيل رضا أمريكا، وهو أمنية كبيرة لها، والتخلّص من صوت المسجد المعارض لظلم الأنظمة للشعوب، واستهتارها بحقوق الإنسان وبالثروة.
وقرار شنق المسجد لابد أن يواجَه بإرادة شعبية عامّة، والمسجد ليس للإرهاب، وليس للفرقة، وكذلك هو ليس لمباركة ظلم الأنظمة الرسمية، وتبرير سياساتها المتخلّفة الجائرة، وليس لتخدير الشعوب، ولا يجوز له أن يكون شيطاناً أخرس.
وإن العالم الإسلامي أمام خطرين ساحقين هما: إرهاب جارف يجعل لغة العنف والرعب اللغة الأولى والأخيرة في التعامل مع الآخر، وتيّارٌ رسميّ داخل الأمّة يقوم بعملية تحريف وإقصاء واسعين للإسلام لحساب أمريكا ومصالحه الدنيوية.
التجنيس الظالم:
التجنيس في البحرين تجنيس ظالم، فاحش، عدواني، تآمري، غير مقبول، ولا يصح السكوت عليه. إنه ضد الشعوب بسنّته وشيعته، بفقرائه وأغنيائه، بكل شرائحه ومكوّناته، وآثاره التدميرية واضحة على المستوى المادي والمعنوي، وهي تشمل توسّع البطالة، وتضيّق الخدمات الصحيّة وخدمات الكهرباء والماء، والتدهور الأمني، والتسيب الخلقي، والتفكك الاجتماعي، وغير ذلك من الظواهر السلبية المستجدّة.
التجنيس ورقة سياسية تضغط بها الحكومة على الشعب وتهدده، والشعب من منطلق حرصه على وجوده ومصلحته يجد نفسه مضطراً لمواجهته.
والتجنيس مرتبط بأكثر من فضيحة تآمرية تفوح رائحتها مع الأيام.
وإذا عجز النيابيُّ عن ترتيب حلّ مع الحكومة لمشكلة التجنيس بما يجنّب الوطن كلّه خطرها لسبب تصلّب الموقف الحكومي مثلاً فلابد أن يأتي دور الشارع بكل شرائحه ومكوّناته، وبكل ما يملك من وسائل الضغط السلمي قبل فوات الأوان، وتصاعد المشكلة إلى الحدّ الذي يهدد الجميع، ويقود الوطن كلّه إلى نتائج كارثيّة بالغة الخطورة، والأمر لا يحتمل الانتظار.
هندرسون لا أهلاً ولا سهلا:
الشعب يقول لك يا هندرسون ومعك كل الذين جاؤوا ليشاركوا في المؤامرة على هذا الشعب وسلبه، وتضييق الخناق عليه، وتمزيق لحمته، وزرع العداوة والحقد بين الإخوة في الدين والأرض من أبنائه: لا أهلاً ولا سهلاً، وأبئس بمقدمك المشؤوم البغيض أيها السفّاك الظّالم(9).
والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين.
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبدالله خاتم النبيين والمرسلين. ربنا اغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم. اللهم لا تجعلنا للبلاء غرضا، ولا تجعل حياتنا نصبا، ولا منقلبنا سيئا، ولا أصحابنا الفجّار، ولا مأوانا النار، ربنا اجعلنا من أهل الحق والصدق والسعادة في الدارين فإنك الرب الكريم الغفور الرحمن الرحيم.
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 – ميزان الحكمة ج7 ص 451.
2 – المصدر نفسه.
3 – المصدر نفسه.
4 – المصدر ص 542.
5 – 9/ الزمر.
6 – المصدر 543.
7 – المصدر ص 544.
8 – المصدر نفسه.
9 – هتاف جموع المصلين بـ(الموت لهندرسون).

زر الذهاب إلى الأعلى