خطبة الجمعة (291) 21 جمادى الثاني 1428هـ – 6 يوليو 2007م

مواضيع الخطبة:

متابعة التفقه في الدين + المشكلة المالكية + غيرة على العلمانية ولا غيرة على الإسلام

إن للمسلم لديناً يعظم على نفسه حتّى ليبيعها من أجله، ولا يمكن أن يبيع دينه لا بالدنيا ولا بنفسه ذاتها.

الخطبة الأولى

الحمد لله الذي أرسل الرّسل لهداية العقول، وتنوير القلوب، وإصلاح النفوس، وإقامة القِسط، وجَعَلَ الطريق إلى ذلك معرفته، والإخلاص في عبوديّته، والاتّباع للحقّ المتكفّل ببيانه منهجه.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. لا يشركه أحد في خلق ولا رزق، ولا تدبير، وهو الإله الحق الذي لا ثاني معه، ولا وصف كوصفه، وهو المنزّه عن التركيب والتجزيء، والزيادة والنقص، وعروض العوارض، وطرو الطوارئ، وهو المجيد الحميد، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وزادهم تحية وبركة وسلاماً.
أوصيكم عباد الله ونفسي القاصرة الظالمة لنفسها بتقوى الله، والإصغاء إلى نداء رحمته بالانصراف إلى طاعته وعدم الاغترار بالشيطان الغوي الرجيم؛ فإنه لعدوٌّ مبين، وإن للشيطان منافذ للنفس حتى وهي مشتغلة بالطاعة، أو سالكة طريقها إليها، ولا عاصم منه إلا الله، واللجأ إليه، وما من لحظة تخلٍّ عن الاعتصام واللجأ والاستعاذة بالله إلا وهي لحظة سقوط للنفس، وانهيار وهلاك.
اللهم لا تخلِّ بيننا وبين أنفسنا أو أحد من خلقك طرفة عين، أو أقلّ من ذلك فنكون من الهالكين.
اللهم إنا نسألك الهداية والعصمة والتوفيق للصواب في كل الأمور، وحُل بيننا وبين من يؤذينا، وأعذنا من أن يصرفنا عن طاعتك قول قائل، ولوم لائم، أو أن يكون داعينا للأخذ بأمرك مدح المادحين، وإعجاب المعجبين، وثناء المثنين من خلقك وأهل المذلّة بين يديك.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبدالله خاتم النبيين والمرسلين، وعلى آله الطيبين الطاهرين. اللهم لا تجعلنا من أشقياء خلقك، وأهل عقوبتك في دنيا ولا آخرة.
أما بعد أيها المؤمنون والمؤمنات فهذه عودة للحديث في موضوع: التفقّه في الدين:
الكلمة عن الرسول صلى الله عليه وآله تقول:”مِن فقه الرّجل أن يصلح معيشته، وليس من حبّ الدّنيا طلب ما يصلحك”(1).
المنهج الإسلامي يعانق بين الدنيا والآخرة، والخطوة الصالحة في الدنيا خطوة في اتجاه الآخرة، والخطوة في اتجاه الآخرة لاتفصلك عن الدنيا الصالحة. إنه المنهج الذي لا منهج يقوم مقامه في الأرض على الإطلاق.
وإن للآخرة لفقها يصبّ في صالح الدنيا، وإن للدنيا لفقها لا ينفصل بها عن الآخرة في منهج الإسلام، فلا عجب أن تهتمّ النصوص الإسلامية بإصلاح أمر الدنيا، وببناء نظام سياسي واقتصادي واجتماعي ونظمٍ أخرى تتلاقى وتتوافى كلّها على مصلحة الإنسان، وإصلاح ذاته إسعاداً له في دنياه، وإعداداً له لمستقبل آخرته. وهذا حديث منها.
ومن فقه المعيشة في الدنيا أن يعرف الإنسان كيف يصلح معيشته، وأن يتحرك في اتجاه إصلاح معيشته، ولا يضع قوّة من قواه، ولا مالاً من ماله في غير موضعه المصلح لدنياه وآخرته.
إصلاح المعيشة بالتعرّف على طرق الإنتاج الأوفر، وبالأخذ بالجدّ في طلب المعاش الذي تصلح به الحياة الدنيا من غير أن يتحول المعاش إلى همٍّ أكبر يستقطب نفس الإنسان، ويستفرغ كلّ قواها.
الهدف هناك، الهدف بعيد، الهدف الآخرة، ولكن الطريق لإصلاح الآخرة هو الاستقامة على الطريق في الدنيا. والإسلام يريد أن يبني الفرد القوي، ويريد أن يبني المجتمع القوي، ومن أسباب القوّة أن لا تتدهور أحوال المعيشة عند الفرد والمجتمع.
وكلمة الحق تحتاج إلى قوّة، ومن بين أسباب القوّة التي يُستعان بها على انتشار كلمة الحق، واستقطابها لحركة الحياة، وسيادتها في الأرض أن نطلب صلاح المعاش، ولا يسمح أحدنا لنفسه أن يكون عالة حتى على أبيه أو ولده.
وإذا كان هذا الفقه من فقه الدنيا فإنه كما سبق لا ينفصل عن فقه الآخرة، فإن رجلاً يتحول إلى عالة على أحد من الناس مع قدرته على الكسب لا يكون القوي، والمؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف.
وليس من حبّ الدنيا طلب ما يصلحك، إنما حبّ الدنيا المفسد النفس هو أن تستهلك الدنيا النفسَ، وتستقطب مشاعرها، وتكون همّها الكبير الذي يصرف عن الله عزّ وجلّ.
نطلب الدنيا ولكن بلا ميل خاطرة، ولا ميل فكرة عن الله سبحانه وتعالى، عن الهدف الكبير وهو رضوان الله وطلب الجنّة.
“إنّ من الحقّ أن تتفقّهوا ومن الفقه أن لا تغترّوا…”(2). الكلمة عن علي عليه السلام.
الفقه حقٌّ على الرجل والمرأة وهو فقه الدّين والدنيا التي لم يفقها من قدَّمها على آخرته، والنفس التي تُصاب بالغرور هي نفس تمكّن منها الجهل ولم تنلْ شيئاً من الفقه، ومن أوّل الفقه أن نعرف أنفسنا، ومن عرف نفسه لا يمكن أن يصاب بالغرور. كيف يغترّ أحدنا وهو العبد المملوك لله سبحانه وتعالى بالكامل، وليست له أدنى استقلالية في ذاتٍ، في وجود، في حياة، في أثر.
“فقيه واحد أشدّ على إبليس من ألف عابد”(3).
عبادة العُبّاد حين لا تقوم على فقه وعلى فهم لقيمة الدين فهماً يعطيها الاعتزاز به، والتمسّك به في أشدّ الظروف هذه العبادة لا تحمي النفس من المنزلقات، وأمّة ليس فيها فقيه ما أسهل على الفكر الآخر أن يستحوذ عليها، ما أسهل على الغزو الفكري أن ينحرف بها عن الطريق، والفقيه الذي أعنيه هو كما تقدّم فقيه يعرف الإسلام في كل أبعاده، ويعتزُّ به، وهذا الفقيه خيمة أمّة، قلعة أمّة، هذا الفقيه جيش عرمرم في وجه الغزو الفكري والحضاري، هذا الفقيه يُعطي الشعور بالعزة والصمود والقوة والقدرة على مواجهة أي غزوٍ؛ كان غزواً عسكرياً أو غزواً حضارياً أو نوع من الغزو.
أما جهلة يسجدون ويركعون من غير فهم للدين، ومن غير فهم لأساساته، وما عليه وزنه الكبير، ومن غير التفات إلى ما عند الأمم الأخرى، والفراغ من أن ليس لذلك لها قيمة أمام قيمة الإسلام فهؤلاء لا يقوم بهم الدين، ولا حفظ منهم لكيان الأمة.
ولذلك علينا لكي نعتزّ بأنفسنا، لكي نقوى، لكي نصمد أمام أي غزو، وأمام الكلمات الساقطة من غير الدينيين أن نمتلأ ديناً، أن نتوفّر على فهم الدّين، أن يصدق انتماؤنا لدين الله وعياً وشعوراً غزيرين عميقين واسعين.
وفي سياق الحديث السابق تأتي الكلمة عن زين العابدين عليه السلام:”متفقّه في الدّين أشدّ على الشيطان من عبادة ألف عابد”(4).
أما إذا اجتمع الفقه والعبادة ولابد أن يجتمعا وإلا لم يكن هناك فقه، إذ العبادة لب الدين، ولكنّ العبادة التي هي اللبّ هي العبادة عن وعي، وعن توقير لله، وعن خضوع وخشوع، وعن شعور بالحاجة إلى الله في هذه العبادة، وهذا لا يكون إلا بفقه، ولا يكون إلا بمعرفة لله، ومعرفة لدينه.
أقول والهدف هو أن يجتمع الفقه والعبادة وإلا لم تكن هناك عبادة حقيقية، ولم يكن هناك فقه صادق.
وعن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم:”ما من شيء أقطع لظهر إبليس من عالم يخرج في قبيلة”(5).
تبقى القرية في حالة موات، والبلد كلّه في حالة موات، والأمّة كلها في حالة موات؛ فكراً، شعوراً، إيماناً، معرفة لعظمة الرب، معرفة لقيمة النفس، معرفة لقيمة الحياة، معرفة لقيمة الآخرة.
يبقى البلد الكبير، والأمة العملاقة في حالة تخلّف، في حالة موات، في حالة حيوانية ساقطة، تبقى الإنسانية في تلك الأمة نائمة، وبلا وعي لقيمة الحياة، وإن تقدّمت الصناعة والتكنولوجيا إلا أن الإنسان يبقى صغيراً ما لم يكن وعيٌ لما هو دور الحياة، وعي لما هي حقيقة الإنسان، وعي لشيء من عظمة الرب تبارك وتعالى.
نعم، ويأتي الدين، ويأتي الفقيه الصادق الذي يحمل فقها صادقاً واعيا، ويحمل إيماناً جادّاً، ووعيا كبيرا، وهمّة بالغة، يأتي الفقيه الرسالي والذي يعرف حقّ الله تبارك وتعالى ولا يخون الأمة، ولا تشتريه الأثمان، إلاّ رضوان الله والجنة، هذا الفقيه تعمر به الحياة، تنبعث به الأمة، يخرج الأمة من الظلمات إلى النور.
“ما من شيء أقطع لظهر إبليس” ييؤيسه، يسد عليه أبواب الغواية، يقف في وجهه بقوة، يدفع شبهاته ووساوسه.
“ما من شيء أقطع لظهر إبليس من عالم يخرج في قبيلة” أو قرية أو قطر أو أمة.
ويقول الحديث عن أمير المؤمنين عليه السلام:”لاخير في عبادة ليس فيها تفقّه، ولا خير في علم ليس فيه تفكّر، ولا خير في قراءة ليس فيها تدبّر”(6).
عبادة بلا تفقّه، بلا معرفة لعظمة الله عزّ وجلّ، بلا شعور بالعبودية أمام ربوبيته قد يكون فيها منٌّ على الله، وتكون مليئة بالغرور، ومليئة بالتصورات الجاهلية، قد يكون المعبود فيها جسماً كبيراً عريضاً في السماء الأولى أو في السماء الثانية بتصور خاطئ من أنه الله تبارك وتعالى، والعبادة عن غير فقه من فقه الفروع أيضاً ليست عبادة لأن العبادة لها حدود، ولها أحكام، ولا تستطيع أن تعبد الله إلا بالطريقة التي أمر، أما العبادة التي نخترع فهي مردودة علينا.
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم اجعل رجاءنا فيك لا في المخلوقين، وخوفنا منك لا من المربوبين، وسعينا إليك لا إلى المملوكين، ودليلنا دينك وشريعتك لا أقوال القائلين وآراء المتنظّرين، وارزقنا الهدى والعفاف والغنى والعمل بما تحبّ وترضى.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)}

الخطبة الثانية

الحمد لله الذي يعلم ذرّات الأرض والسماء، ووزن الكون وما حوى، ووزن الظلمة والنور، والظلّ والحرور، والفيء والهواء، ولا يغيب عن علمه شيء مما يأتي أو مضى، جلّ ربنا أن يجهل أو ينسى، وإنّ له لَلمَثَل الأعلى، وكلّ الأسماء الحسنى تبارك وتعالى.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلم تسليماً كثيراً كثيراً.
عباد الله أوصيكم ونفسي الأمّارة بالسوء بتقوى الله، واستعمال نعمه التي أنعم بها علينا في مواضعها، ومواضع نعم الله التي يرضاها وفيها صلاح عباده ما هي إلا طاعاته، إذ لاطاعته له سبحانه إلا وهي لصلاح العبد ومنفعته وكماله، أما الله فهو الغني الذي لا تنفعه طاعة المطيعين، ولا تضرّه معصية العاصين، ومن استعمل نعم ربّه الكريم العزيز الحميد في معصيته فإنما بنفسه أضرّ، ولنفسه عرّض للهلاك.
عباد الله لا نظلم “فيوم العدل على الظّالم أشد من يوم الجور على المظلوم” كما عن أمير المؤمنين عليٍّ عليه السلام، وما أكثر ما يظلم بعضنا بعضاً في القول والفعل، وإنّه في القول لأكثر، والله على كل شيء رقيب.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى وعلى آله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم أعذنا من أن نكون ظالمين أو مظلومين، واجعلنا عادلين ومحسنين، وارفع درجتنا في الدنيا ويوم الدين برحمتك يا أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبدالله خاتم النبيين والمرسلين، وعلى علي أمير المؤمنين وإمام المتقين، وعلى فاطمة الزهراء الصديقة الطاهرة المعصومة، وعلى الأئمة الهادين المعصومين: الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن المهدي المنتظر القائم.
اللهم صل على محمد وآل محمد، وعجل فرج ولي أمرك القائم المنتظر، وحفَّه بملائكتك المقربين، وأيده بروح القدس يارب العالمين.
اللهم عبدك وابن عبديك، الموالي له، الممهد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين وفقهم لمراضيك وسدد خطاهم على طريقك، وانصرنا نصراً عزيزاً مبيناً.
أما بعد أيها الملأ الطيّب من المؤمنين والمؤمنات فهذه بعض كلمات:
مشكلة المالكية:
حظائر الصيد البحري الواقعة محلّاً للنَّزاع في المالكية لماذا تتصاعد أحداثها؟ هل تلك الحظائر موافقة للمصلحة العامة وللقانون؟ فلتثبت السلطة ذلك، فإذا شهد لها الواقع الخارجي والقانون فسيسكت الناس، وإذا كان العكس بشهادة الواقع والقانون فلماذا تُكابر الجهات الرسمية، وتناقض المصلحة العامّة، وتساعد على مخالفة القانون، وتعاقب المنادين باحترام هذه المصلحة، والالتزام بالقانون الذي تنادي به تلك الجهات.
لماذا المحاباة للشخص على حساب الشعب؟ ولماذا الانتصار للمخالفة على حساب القانون؟ وهل للحكومة من بعد ذلك أن تحتج على أحد برعاية المصلحة العامة، وأن تطالب أحداً بالتزام القانون؟
أكان يمكن أن تقف جهة مسؤولة من الدولة الموقف نفسه لو كان صاحب حظائر الصيد مواطناً عاديا من بين المواطنين؟! أليس مع هذا الفرض ستُنكّل السلطة بهذا المواطن باسم المصلحة العامة ورعاية القانون؟ أليس في هذا تركيز مكشوف ومكثّف للطبقية الاجتماعية، وفرض لهيمنتها المطلقة التي تكسر القانون، وتلغي المصلحة العامة؟ أليس في هذا فتح لباب التمرّد العامّ على القانون؟ وهل هناك مسلسل طويل من المشاكل الجانبية المعدّة لإيذاء الناس وإذلالهم، وشغلهم بها عن مطالبهم الرئيسة ليأتي الحل أو نصف الحل أو ربعه لهذه المشكلة الجزئية أو تلك بعد طول عذاب بعنوان التكرّم والتفضّل لا لتتراجع قائمة المشاكل وإنما لتحلّ محلّ أي مشكلة واحدةٌ وأخرى أعصى منها.
كيف يكون الموقف الأمني من الاعتصام المرخّص به عنيفا وباغيا وانتقاميا على حد ما لم ينمَّ به ترخيص؟ وهل سيبقي توالي هذه المشاكل المستفزّة من صناعة الجهات الرسمية أو المتنفّذين، والتعامل القاسي المتعالي والأخذ بسياسة البطش وكسر العظم على مستوى مناطق بكاملها عند أي عملية إنكار للظلم وإن كانت مرخّصة. هل سيبقي ذلك من يتوانى عن الاعتصام والتظاهر للدفاع عن المصلحة والعدل والكرامة؟ معركة ضارية فيها تكسير عظام، وخنق قرية بكاملها بالغازات، واستنفار لمرّات لقوّات الداخلية لبثّ الرعب في نفوس الأطفال والعجزة وكل ذلك من أجل الإبقاء على حظائر صيد أُقيمت بصورة مخالفة للقانون، ومناقضة للمصلحة العامة.
لجهات الأمن دورها ولكن ليس الدور المساند لمخالفة القانون المساعد على تقويض المصلحة العامّة الفتّاكة بالمطالبين بالحق والعدل والإنصاف.
غيرة على العلمانية ولا غيرة على الإسلام؟!
أعزّت العلمانية في هذا البلد وذلّ الإسلام؟! حكمتم على الإسلام بالإقصاء عن قضايا الحياة للمجتمعات وهذا المجتمع بالذات، وحرّمتم على الإسلام الكلام في الظلم والعدل المتصلين بالسياسة العامة. حكمتم عليه بالإقصاء والإلغاء والتعطيل، وهذا هو الإسقاط والإماتة العملية للإسلام بالكامل.
ما أفتيتم به هو أن ليس للإسلام أن يعطي كلمة واحدة في قضية من القضايا العامة حتى على مستوى التنبيه والإرشاد، تريدون أن تكبّلوا الإسلام، أن تحجروا عليه، أن يبقى في الزوايا المظلمة، أن تهمّشوه، أن ترموا به وراء سور الحياة، أَوَنعطِيكُم ذلك؟! يفتي بذلك في المجتمع المسلم والمعترف رسميّاً بأن دينه الإسلام، وأن الشريعة الإسلامية مصدر رئيسي من مصادر التشريع، والذي جاءت أصوات ناخبيه قبل وقت يسير كما يعرف الكل تؤكد هويته وانتماؤه وخياره الإسلامي في قضايا الشأن العامّ والسياسة العامَّة بالصريح، فانتخابات المجلس النيابي ليست بعيدة عنا زمناً.
نعم، تؤكد هويته وانتماؤه وخياره الإسلامي بالصريح في قضايا الشأن العام والسياسة العامة، تفتون بذلك، وتشوّهون فهم الإسلام وتريدون أن لا يُستفزّ الضمير المسلم؟! ولا تتحرك الغيرة على الإسلام؟! تريدون أن يُصفّق لهجمتكم على الإسلام، أو يُبتسم لها، أو يسكت عليها عن ارتياح أو مجاملة؟! ما كنّا الذين نجامل على الدين.
ثمّ إذا أُسقطت العلمانية على مستوى الشعار استفزّكم الأمر، واستُنفرتم، وعبّرتم عن غيرة شديدة لم تحتمل الانتظار، كيف تعطون لأنفسكم أن تغاروا على مقدّسكم، وتستكثرون منا الغيرة على الإسلام الذي يجب أن لا تعدلوا به أنتم وأنتم مسلمون أمراً آخر على الإطلاق.
وما جاء بالوفاق إلى النيابي هي أصوات الشعب التي أُعطيت لها باختيار، ولم تُعطَ لغيرها باختيار كذلك. وقد طلبتم الوصول إلى النيابي كما طلبته الوفاق، وكان الخيار خيار الشعب، ويجب أن لا ينسى الكاتب الذي عرّض بوصول الوفاق إلى النيابي واعتبره عن اتفاق مع الحكومة أنه طلب الوصول على المكشوف كما طلبته الوفاق على المكشوف، ولا حاجة للوفاق للحكومة أن تعطيها كرسياً واحداً، وقد جاهدت الحكومة الوفاقَ جهادا مرّاً حتى لا يصل العدد الذي وصل إلتى النيابي، والكل يعلم هذا. وعليه أن لا ينسى دعم الوفاق لكتلته.
وهذه أمور لابد من التأكيد عليها بمناسبة ما نشرته بعض الأقلام العلمانية تعليقاً على الشعار الذي ردّ به هذا المسجد المبارك على التهجّم على الإسلام.
‌أ- كل التوافقات العملية عندنا لا يمكن أن تكون ممرّاً لقبول المساس بقداسة الإسلام وتشويهه، وإنقاص قيمته، والتقوّل عليه، وغشّ جماهيره في فهمهم له. لو قدّمتم لنا دولة لننسى الإسلام لا ننساه(7). ولا أدري ماذا قدّم هؤلاء لنا من جميل ليمنوا به علينا، والإسلاميون مبدئيون، والمصلحة والسياسة عندهم لا تنفصل عن نظر المبدأ، ولا تخرج عن مقرّراته. نحن عبيد الإسلام.
‌ب- الظلم ظلّ لا يفارق أي نظام أرضي من أي لون وبأي صيغة وتحت أي اسم إذا كان لا يعير اهتماما بشريعة الله. أي نظام لا يعير اهتماما بشريعة الله لا يمكن أن يفارقه الظلم. وأقول لكم: سلب اللقمة مشكلة لا تستقر معها حياة المجتمعات، لكن إسقاط الدين مشكلة أكبر، وهي تهدم الحياة، ولقد أسقطتم الدين في أكثر من نداء ومقال حين أكّدتم أن ليس للدين أي دور في قضايا الحياة. والذين لم يدركوا ضرورة الدين حتى من ناحية الحفاظ على مصالح الدنيا ولاستقرار الحياة الدنيوية للمجتمعات ربما علّمتهم الحياة بعد حين أن لا غنى لاستقرار الأرض وحفظ الحقوق عن دين الله.
‌ج- وكما للآخرين – كما يرون – أن يرفضوا سلطة الفتوى والحكم الشرعي والإسلام، وأن يعطوا لأنفسهم الحق في التعبير عن ذلك على مستوى الصحافة العامة، وأن يختاروا العلمانية لا غير، وأن يسقطوا الإسلام فإن لغيرهم أن يؤمن بحاكمية الله، ويكفر بحاكمية الطاغوت، وأن يلتزم بما يفهمه من كتاب الله وسنّة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم من وجوب الأخذ بهما في كل مساحة الحياة، وأن يعبّر عن ذلك. نحن نتعايش مع الأنظمة بأمر الدين ولكن إيماننا إنما هو بنظام الإسلام. من رضي فليرضَ ومن لم يرضَ فلا يرضَ(8).
‌د- أشارت بعض مقالاتهم وكلماتهم إلى شيء من غرور ربما أصيب به الإسلاميون، وأقول: لو قُدِّر لمؤمن أن يملك الدنيا بكاملها فضلاً عن توجّهٍ وآخر للرأي العام ما اغترّ بها. نحن تلامذة عليٍّ عليه السلام. إذا كان هناك من يركض وراء الدنيا ووراء الحكم فإن المؤمن الحقّ ليخاف من الحكم، وإنما سعيه للإصلاح، وإذا حكم حكم بشعور مرّ بالمسؤولية الكبرى. ومبدأيتنا ليست ظرفية.
‌ه- وعن الأولويات السياسية وتبدّلها قالوا ما يشير إلى أن الإسلاميين في ردّهم على العلمانية هل بدأت علاقتهم بالعلمانيين تتبدّل إلى علاقة بالحكومة؟ وهل سيتحول اتجاه الإسلاميين؟ الإسلاميون لا تُحوّل اتجاههم الظروف، الإسلاميون يستندون إلى قاعدة صلبة، إلى مبدئية مكينة، إلى إسلام حقّ، وهم يعرفون كيف يتصرفون مع الظروف، وكل ذلك من منطلق الإسلام.
وإذا سألوا هم عن تبدل الأولويات فإننا نسألهم عن تبدّل الأولويات، فهل يريدون من شتمهم للإسلام من هجمتهم على الإسلام أن يتقرّبوا لأحد بهذا؟ وإن اتجاههم بدأ يتحول، على أننا نقول بأن سكوتهم عن الإسلام نعرف منه أنه ليس استراتيجيا.
‌و- لسنا تكفيريين، ولا نحكم على ما في قلوب الناس، لأن ليس لنا علم بالضمائر، ولكننا نعلم أن العلمانية ليست الإسلام، وأن الإسلام ليس العلمانية. قالوا بأن العلمانية لا تعني الإلحاد، ولا تعني الكفر، أقول: عنت الإلحاد أو لم تعنه فإن الإسلام غير العلمانية… ومن يقول بالتطابق فعليه التوضيح، وعليه أن يلتزم بالإسلام الذي لا يمكن أن يحكم على نفسه بالإقصاء عن قضايا الحياة العامة كما هو ضروري من فهم الإسلام، وقد حكموا هم بإقصائه.
وأما عن الوضوح والغموض في الشخصيات وقد فالكاتب الذي أشار إلى ذلك نفسه يعرف من تجربة الوطني الأول أن كم كان هذا العبد عيسى صريحا شديد الصراحة معه ومع فريقه في مواجهة الكفر المواجه للإسلام، وكم كان هذا العبد كذلك صريحا شديد الصراحة في النقاش مع الحكومة، وكم قاوم وبكل قوة قانون أمن الدولة أكثر مما قاوم الفريق الآخر.
وأتذكر كلمة طارق المؤيد وزير الإعلام آنذاك حيث استنكر عليّ موقفي بقوله: يقولون أنك أشدّ من اليساريين في مواجهة القانون. فقلت له ما مفاده: ما قيل لك صدّقه. ويعرف الآخرون أن قانون أمن الدولة إنما سقط بموقف الإسلاميين في الأكثر. وإذا أرادوا أن يناقشوا فأنا مستعد لأناقشهم في ذلك، وليتذكر من يتذكر من الذي تغيّب عن جلسة التصويت، ومن الذي حضر استعداداً لإسقاطه، على أن الجلسة لم تنعقد وكان آخر مقابلة بيننا أنا وجملة من الأخوان من الكتلة الإسلاميَّة وبين الحكومة وقد يئست الحكومة على أثرها من أن تمرّر القانون، وأوقف عمل المجلس عند ذلك.
ذلك ما كان عليه موقفنا في وقت ما كنّا مهددين فعلا بقانون أمن الدولة، وأنا واحد وأضطر أن أقولها ممن تيأس أنت أيها المتحدّث والحكومة وغيركما من تنازله عن دينه وقناعاته الدينية لما هو غير الدين الحقّ، وأسأل الله عزّ وجلّ أن يصدّق هذا اليأس ويقيني العثار والخسار(9).
إن للمسلم لديناً يعظم على نفسه حتّى ليبيعها من أجله، ولا يمكن أن يبيع دينه لا بالدنيا ولا بنفسه ذاتها. والعصمة من الله وحده، ونرجو من الله الثبات، والإنسان في نفسه معرّض دائماً للسقوط ولذا نقول (اهدنا الصراط المستقيم)، (اللهم لا تكلني إلى نفسي ولا إلى أحد من خلقك طرفة عين). نعم العصمة من الله وحده، ولا حول ولا قوة إلا بالله العليّ العظيم.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على محمد وآله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم لا تجعلنا للظالمين عيناً ولا يداً ولا رجلاً، ولا تجعل لظالم علينا يداً ولا له إلينا سبيلا، وأعذنا من بغي الظالمين، وعداوة المعتدين، وبهت المفترين، وتقوّل المتقوّلين، وسوء ظنّ الظّانين، اللهم لقّنا خير الدنيا وخير الآخرة، واكفنا شرّ الدنيا وشرّ الآخرة يا مالك الدنيا والآخرة، ولا مالك لهما غيرك يا رحمن ياودود، يا من هو على كل شيء قدير.
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}

_________________________
1 – ميزان الحكمة ج 7 ص 534.
2 – المصدر نفسه.
3 – المصدر نفسه. عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.
4 – المصدر نفسه.
5 – المصدر ص 535.
6 – المصدر نفسه.
7 – هتاف جموع المصلين بـ(لبيك يا إسلام).
8 – هتاف جموع المصلين بـ(بالروح بالدم نفديك يا إسلام).
9 – هتاف جموع المصلين بـ(معكم معكم يا علماء).

زر الذهاب إلى الأعلى