خطبة الجمعة (280) 1 ربيع الثاني 1428هـ – 20 ابريل 2007م

مواضيع الخطبة:

متابعة موضوع العمل + الإصلاح بضريبة وبلا ضريبة + الغنى الحرام + تزوير أخطر من تزوير العملة

وحقّاً أقول لكم: بأن الأمة التي لا تعتز بهوّيتها، ولا تذود عنها يهزأ بها الآخرون ويحتقرونها، أما الأمّة التي تحترم مقدّساتها وتذود عن كرامتها فتفرض احترامها على الآخرين.

الخطبة الأولى

الحمد لله له الأسماءُ الحسنى والصفات العليا، ومنه النِّعمُ والآلاء، وبيده الإماتةُ والإحياء، وعنده الحسابُ والجزاء، ولا مبدأَ إلا منه، ولا مرجِعَ إلا إليه.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم تسليماً كثيراً كثيراً.
أوصيكم عباد الله ونفسي الخاطئة بتقوى الله، والاستقواء على جهل النفس وجهل كل جاهل بطاعته، والاستغناء به عمن سواه، وطلب الأنس بذكره ومناجاته؛ فإنَّ في طاعة الله زادَ هدىً ونورٍ وقوّةٍ تسمو به النفوس، وتقوى الإرادات، وتثبت على الصراط، وهو المغني عن كل شيء ولا يُغني عنه شيء، وهو مالك الخير والشرّ، وأنسُ النفس ووحشتُها بيده، وحاشا أن تخالط ذكره وحشة، وحاشا أن يغيبَ عن ذكره الأنس، أو لا يكمل أنس من ذكره. ومن أين الأنس لمن لم يرد له سبحانه وتعالى أنساً والأمر كلّه بيده؟!!
اللهم صل على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنَّك أنت التّواب الرحيم، اللهم نوِّر قلوبنا بمعرفتك، وكمِّلنا بطاعتك، وآنِسنا بذكرك، وارزقنا عفوكَ وغفركَ، واكفنا قِلاكَ وطردك يا أكرم الأكرمين، ويا أرحم الراحمين.
أما بعد أيها المؤمنون والمؤمنات الكرام فمع متابعة أخرى للحديث في موضوع العمل في استعراض لبعض النصوص الهادية:
تقول الكلمة عن علي عليه السلام:”المداومة، المداومة!، فإنّ الله لم يجعل لعمل المؤمنين غاية إلاّ الموت”(1).
إنها حياة الكدح والجهاد في سبيل الله، لم تُخلق الدنيا للهوٍ ولا عبث، إنما خُلِقت للتحضير لأكبر مستقبل، وأخطر مستقبل، وأدوم مستقبل، ولا يقبل الإسلام العظيم لهذا المسلم أن يُمضي لحظة من العمر في فراغ، فكلّ لحظات العمر، كل ثوانيه يجب أن تُعبّأ في الإسلام بالعمل الصالح، ولا يتوقف العمل عند الإنسان المسلم الواعي في صحّة ولا مرض، في غنى ولا فقر، في أمن ولا خوف، وحتّى عند الاحتضار إذا ما التفت إلى ذكر الله سبحانه وتعالى، وفي ذكر الله عمل القلوب، وعمل القلوب أشرف الأعمال.
أي مبدأ يُعدّ الإنسان للعمل الجادّ هذا الإعداد، ويضعه على طريق العمل الصالح بهذه الصورة؟!
وتقول الكلمة عن الصادق عليه السلام:”العمل الدّائم القليل على اليقين، أفضل عند الله من العمل الكثير على غير يقين”(2).
وتقول الكلمة الأخرى عن الباقر عليه السلام:”أحبّ الأعمال إلى الله تعالى ما دام عليه العبد، وإن قلّ”(3).
هناك نوعان من المداومة؛ مداومة للعمل بكلّ أنواعه الخيّرة، والتي يجب أن تستوعب العمر كلّه، ومداومة أخرى ترتبط بالعمل الصالح من نوع واحد، والمداومتان يدعو لهما الإسلام ويؤكّد عليهما.
المداومة الثانية تُعطي للاستمرار على العمل من النوع الواحد ولمدّة لا تقصر عن سنة قيمة خاصّة.
ماذا في المداومة على العمل الواحد؟
نحن نعرف أن المداومة على أنواع العمل الصالح في كل العمر استثمار كبير إيجابي للعمر، لكن ماذا في المداومة والاستمرار على العمل الصالح الواحد طوال سنة؟ هذه المداومة تحارب الفتور والكسل، وهذه المداومة تنطلق من يقين بقيمة العمل، وهذه المداومة وراءها حبٌّ لله سبحانه وتعالى والعمل الصالح، ولا ندري فربّما كان للعمل أثر كبير نافع على الروح والنفس لا يكتمل ولا يظهر بأتمّ صورة إلا من خلال هذه المداومة لما يحدثه من تراكمات وانعكاسات إيجابية على النفس والروح.
ربما كان للعمل الصالح الواحد تأتيه مرة واحدة انعكاس إيجابي بمقدار، ولكنك وأنت تمارسه سنة كاملة يحدث لك من تراكمات الأضواء والأشعاعات ما يعطيك قفزة في مستوى الروح.
فهناك أحاديث تقول لنا بأن من ارتبط بعمل صالح فليداوم عليه سنة، ويحمل بعض الحديث في هذا المجال تعليلاً لهذه القضية بأنّ ليلة القدر ينبغي أن توافيَك وأنت على هذا العمل الصالح، ولأننا نعرف أن ليلة القدر خير من ألف شهر، فسيكتسب هذا العمل الصالح قيمة مساحة كبيرة جداً من الزمن هي بمقدار العمر وقد تفوق العمر، فحتى لا يفوت هذا الأثر الكبير الهائل فلنُوافِ بعملنا الصالح ليلة القدر التي لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى.
فيقول الحديث عن الصادق عليه السلام:”من عمل عملاً من أعمال الخير فليدم عليه سنةً ولا يقطعه دونها”(4).
ويقول الحديث الآخر عنه عليه السلام:”إذا كان الرّجل على عمل فليدم عليه سنة ثمّ يتحوّل عنه إن شاء إلى غيره وذلك أنّ ليلة القدر يكون فيها في عامه ذلك(5)، ما شاء الله أن يكون”(6) من مضاعفة العمل، وزيادة الحسنات، ومن مقدَّرات السنة بتمامها.
ولنلتمس وجهاً آخر لهذه المداومة على العمل الصالح لمدةسنة فإن تربية سنة كاملة للنفس ترتبط فيه بهذا العمل الصالح يحدث لها استئناساً منها للاستمرار عليه مدة أكبر.
أما الحديث القائل عن الصادق عليه السلام: “العمل الدّائم القليل على اليقين، أفضل عند الله من العمل الكثير على غير يقين”(7).
فإننا نستضيء به لنتعرّف على أن العمل في ضوء اليقين أكثر عطاءً، والتفاعل الروحيّ معه أكبر من التفاعل مع العمل الصالح عن غير يقين، وإن انعكاس العمل الصالح على النفس إنما يكون بقدر انشدادها إليه، والانشداد إلى العمل الصالح والرغبة فيه، والتفاعل معه إنما يكون بمقدار تعظيم الله وتوقيره ومعرفته، ومعرفة قيمة هذا العمل الصالح، وإنما يربّينا من العمل الصالح في الأكثر نيّتُه، والانشداد إليه، وإيمانُ النفس بما يوصل إليه من رضوان الله سبحانه وتعالى ورحمته، بهذا يكون العمل الصالح على اليقين أكثر عطاءً، وأنفد في الأثر الصالح في الروح، وأشدّ بناءً لمستوى النفس.
و”(من وصايا أمير المؤمنين لابنه الحسين عليهما السّلام): يا بنيّ أوصيك… بالعمل في النّشاط والكسل”(8).
وللعمل في النشاط قيمة ومردود، وللعمل في الكسل قيمة ومردود. العمل في النشاط تنطلق فيه النفس متفاعلة، مشتاقة، حاضرة الوعي، طموحة للنتائج الكبيرة من عند الله سبحانه وتعالى، وكلّما تفاعلت النفس مع العمل كان العمل أكثر عطاءً كما سبق.
النشاط هو ظرف حضور الوعي، وحضور الشعور الإيجابي، وتأجُّج الرغبة، وكلّ ذلك يُساعد على أن يثمر العمل الصالح آثاراً إيجابية أكبر على مستوى النفس والروح.
والعمل في الكسل فيه مواجهة للنفس، فيه مواجهة لتحدّي الشيطان ووسوسته، فيه قطع للنفس عن الاسترخاء، والاستجابة لحالات الكسل، ولحالات الخمول، فيه نقلة للنفس، وتصيير لها من الخمول إلى النشاط، وتصبير لها على صعوبة الطاعة والعمل الصالح. لذلك تأتي وصيتهم عليهم السلام “بالعمل في النّشاط والكسل”.
وقد لا تستطيع أن تمارس عمل ظرف النشاط في ظرف الكسل، فظرف الكسل قد يكون له نوع عمل، وظرف النشاط له نوع عمل آخر، وعلينا أن نستثمر العمل كلّه، ونتذكر أن أوقات الكسل هي من العمر، فلو أُهملت هذه الأوقات لكنّا احتمالاً قد أهملنا أكبر مساحة في العمر، فلا أضمن أن أوقات نشاطي أكثر من أوقات كسلي، فعندما أُلغي العمل في كل أوقات الكسل يكون الكسل قد سرق من حياتي أكبر مساحتها، وأعطيت للكسل أن يتغلغل في مشاعري، وأن يفرض نفسه على إرادتي، فلكي تكون الإرادة أكبر من الظروف لابد أن نفرض أنفسنا على الظروف.
ويأتينا درس آخر في قضية العمل منهم عليهم السلام:”كان عليّ بن الحسين صلوات الله عليهما يقول: إنّي لأُحبّ أن أقدم على ربّي وعملي مستو”(9).
تأتي أحاديث في هذا السياق لتؤكّد أن العمل المتقن، العمل التام المستوي، العمل الذي راع فيه صاحبه أن لا يبقي فيه ثلمةً ولا ثغرة هو العمل الأكثر قبولاً عند الله سبحانه وتعالى. هذا درس كبير للفرد، ودرس كبير للجماعة، ودرس كبير للأمة على مستوى العلم، على مستوى العمل، في زراعة أو صناعة أو سياسة أو اجتماع، وفي كل الحقول، كيف نسابق الأمم، كيف نتقدم الأمم، كيف نتمتع بحرية لا تقهرها الأمم، كيف نستطيع أن يكون قرار أمتنا بيدها ما لم نداوم على العمل، وما لم نتقن العمل؛ عمل الدنيا وعمل الآخرة؟!!
وإن عمل الدنيا في الإسلام لشيء موصول بعمل الآخرة، ويحمل قيمةً من قيمة العمل الأخروي حيث يكون لوجه الله، وحيث يكون لقوّة الإسلام، ولبناء الأمّة الإسلامية، ولتقدّمها.
نعم، تتظافر أحاديث في هذا المجال لتنتقل بالإنسان المسلم إلى مستوى العمل الأرقى فرداً كان أو أسرة أو جماعة أو أمّة من أجل أن يكون الفرد المسلم هو الأقوى، ومن أجل أن تكون الأمة المسلمة هي الأرقى.
ودرس آخر من أحاديثهم عليهم السلام في هذا المجال يأتي من أجل تأكيده هذا المنقول الإمام علي عليه السلام:”إنّ فضل القول(10) على الفعل هجنةٌ(11)، وإنّ فضل الفعل على القول لجمالٌ وزينةٌ”(12).
من أجل أن تنزه عن لون قريب من ألوان الكذب، عن لون قريب من ألوان الرياء، من أجل أن نبتعد عن الدعاوى الفارغة، عن الاستعاضة بالخيال عن الواقع علينا أن لا يزيد قولنا في الخير على عملنا في الخير نفسه، وإذا زاد الفعل على القول كان في ذلك جمال للشخصية، وزينة معنوية كبرى، ووجد الناس في الشخصية صدقاً وجدّاً، أما إذا زاد القول على الفعل وجد النّاس من خلال هذا شخصيّة تعيش الأحلام، وتحاول أن تكتسب بطولة في الخيال، بينما تكون مهزومة أمام الواقع. من أجل أن تبرهن على أنك قوّي، وعلى أنك جادّ، وعلى أنّك صادق اطلب أن يكون عملك في الخير أكثر من قولك، وأيّنا في الكثير الكثير من هذا؟!
اللهم صل على محمد وآل محمد، واغفر لنا وتب علينا، وعلى والدينا وأرحامنا، وإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، ومن أحسن إلينا إحساناً خاصّاً منهم إنك أنت التواب الكريم، الرحمن الرحيم.
اللهم باعد بيننا وبين السوء، ولا تفرّق بيننا وبين الخير، اللهم أدم هدانا، وزد في تقوانا، واكفنا ما يؤذينا ومن يؤذينا، وارزقنا الرضا، وهب لنا منك رحمة واسعة ورضوانا.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ (4)}

الخطبة الثانية

الحمد لله العليّ القدير، السميع البصير، لا مفرَّ من قدره، ولا مهرب من علمه، ولا خير إلا منه، ولا محذور إلا بإذنه، وكلّ شيء محكوم لإرادته، منساقٌ لمشيئته، مقهور لقدرته، بيده أمره، ومنه مبدؤه، وإليه منتهاه.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم وزادهم تحية وبركة وسلاماً.
عباد الله ألا فلنتّقِ الله الذي بيده نواصي العباد، ومالهم من أمرهم في قبال قدرته شيء، ووجودُهم وحياتُهم من فيضه، ولا مطعم لهم، ولا مشرب، ولا مأوى، ولا ما يكنّ من حرٍّ ولا برد، أو يحمي من مرض، أو يعالج من سقم، أو يدفع من سوء، أو يمنع من خطر إلا من رزقه.
وما أحقَّ بمالك الأمر كله ان يُحذر ويُتّقى، وتكون له الطاعة والقربى، وما أجدر بالفاقد المملوك حقّاً وصدقاً حياةً وموتاً ورزقاً أن يخاف مالكه ويخشى.
اللهم اغفر لنا ولوالدينا وأرحامنا وكل مؤمن ومؤمنة ممن أحسن إلينا إحساناً خاصّاً، ولجميع المؤمنين والمؤمنات، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم بارك لنا في ديننا ودنيانا، واحفظ علينا نعمك، وزدنا من فضلك، ولا تجعلنا هدفاً لنقمتك، وشماتة أحد من خلقك، ولا وقوداً لنار غضبك، ولا محرومين من ذكرك، ولا ساهين عن شكرك، ولا متوانين عن طاعتك، ولا راغبين عن الجهاد في سبيلك، ولا الظَّانين سوءاً بقضائك وقدرك، ولا المنصرفين لحظة عنك إلى من سواك يا كريم يا رحيم.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على حبيبك المطصفى محمد بن عبدالله خاتم النبيين والمرسلين، وعلى علي أمير المؤمنين وإمام المتقين، وعلى فاطمة الزهراء الصديقة الطاهرة المعصومة.
وعلى الأئمة الهادين المعصومين: الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن المهدي المنتظر القائم.
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرج ولي أمرك القائم المنتظر، وحفّه بملائكتك المقربين، وأيده بروح القدس يارب العالمين.
اللهم عبدك وابن عبديك، الموالي له، الممهد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدون الغيارى، والمؤمنون والمؤمنات أجمعون وفقهم لمراضيك، وسدد خطاهم على طريقك، وانصرهم نصراً عزيزاً مبيناً.
أما بعد يا إخوة الهدى من مؤمنين ومؤمنات فإلى بعض كلمات في السياسة والاجتماع:
الإصلاح بضريبة وبلا ضريبة:
هناك إصلاح عامٌّ وجذريٌّ، بينما هناك إصلاح يرتبط بحقلٍ من حقول الاجتماع أو الاقتصاد أو السياسة وغيرها، وقد يكون هذا الإصلاح سطحيّاً. ونجد إصلاحاً ينطلق تلقائيّاً من حكومة من الحكومات، وبتقدير شخصيٍّ منها للمصلحة، ومن منطلق الإيمان بقيمة الإصلاح، ومن خلال ارتباط هذه الحكومة بأطروحة تؤمن أساساً بقضية الإصلاح وقيمة الإنسان.
بينما قد نجد قضية إصلاح لا تكون إلا عن مقاومة ومجاهدة، وقد يستنزف هذا اللون من الإصلاح كثيراً من جهود شعب وحكومة، وكثيراً من مال، وكثيراً من بناء حضاريّ قام على الأرض.
وهناك إصلاح مشهود مكثّف، يفرض نفسه على الأبصار والأسماع، بينما يأتيك إصلاح من نوع آخر شحيح وبالقطّارة، وربما كان إصلاح متّفق على أنه إصلاح، يُقابله إصلاح آخر يُختلف على طبيعته باختلاف أنظار الأمم والشعوب والحضارات كما في إصلاح اقتصادي يقوم على سياحة منفلتة تدوس القيم، وتهدم الدين، أو من إصلاح نوع حرّيّة تتيح للإنسان أن يمارس شهوته على المكشوف بحيث تُفسد حياة الإنسان المعنوية، وتجهض فاعلية القيم في النفس، وتأخذ بالإنسان على طريق الحيوان، هذا اللون من الاقتصاد أو الحرية يُعدّ إصلاحاً عند أمّة وإفساداً عند أمّة أخرى.
الإصلاح الحقلي المرتبط بحقل معيّن بينما تبقى سائر حقول الحياة مهملة، يعشعش فيها الجهل والظلم والتخلّف، هذا اللون من الإصلاح لا يكاد يصمد، ولابد أن يذوب في الجوّ العام الفاسد.
وإصلاح عن مقاومة طويلة، وعن مواجهات ساخنة، وعن منازلات دائمة يُكلِّف ضريبة ثقيلة، ولا يكاد تقوم عليه ثقة ولا استقرار.
الإصلاح الذي لا يأتي إلا بعد أمد طويل من المقاومة المستمرّة المكلفة، والتي تترك جراحات في الطرفين أقول عنه بأنه لا يكاد يبني ثقة، ولا يعطي أمناً.
وإصلاح القطّارة الذي لا تكاد تشهده عين لا يقنع، ولا يُعبأ به، وهو لا يستطيع أن يُهدّأ أو يعالج.
أما عن الإصلاح المختلف عليه؛ فعلى من يتبنّى نوعاً من الإصلاح تختلف عليه الأمم والشعوب والحضارات أن يراعي الخصوصية الحضارية والدينية والعرفية للمجتمع المستهدف بهذا اللون من الإصلاح.
وإذا كانت أي حكومة جادّة في مسألة الإصلاح، وتريد الإصلاح فعلاً فلماذا تبعِّد الطريق؟! ولماذا تختار أن تكون ضريبة الإصلاح ثقيلة على الشعب، ثقيلة على الحكومة، ثقيلة على الحاضر، ثقيلة على المستقبل، ثقيلة على مصالح الدين، ثقيلة على مصالح الجسد؟! إنه خيار غير رشيد بالمرّة، فإذا كانت نيّة صادقة للإصلاح فلا بد أن تكون مبادرة، ولا بد أن تكون مسارعة، ولا بد أن يكون جدٌّ، ولا بد أن يكون الإصلاح مكثّفاً حتى تشهده الأبصار والأسماع، وحتى يفرض نفسه على أي فرد من أفراد الشعب إقناعاً وتصديقاً.
قد تخاف بعض الحكومات من هذا النوع من الإصلاح المكثّف المشهود، وتتحسّب، وتظنّ سوءاً بأنه سيُغري بطلب المزيد، المقوّض لها. ولماذا تُوضع حدود أمام حركة الإصلاح؟! ولماذا يُحجّم الإصلاح؟! أَوَليس من حقّ كل الأمم، ومن حقّ كل الشعوب أن تعيش أرقى حالات الإصلاح؟! وهل يُطلب خير من الظُّلم؟! وهل يُفتقد خير في العدل؟! وهل يعطي الظُّلم استقراراً للحكومات وأمناً لها، وقوة وفاعلية وهيبة ومكانة من بين الحكومات الأخرى؟! وهل يُعطي شيءٌ لأمّة من الأمم، أو لشعب من الشعوب قدرة على الفاعلية الإيجابية، وعلى الصنع المجيد، وعلى إقامة واقع عملاق متقدّم أكثر مما يُعطيه العدل، وأكثر مما يُعطيه الإصلاح؟!(13) لماذا الخوف من الإصلاح، والإصلاح الكبير؟ وهل كُتب على الإنسان أن يستعبده الإنسان؟! وأن يُقزِّم حياته؟! أليس من حق كل الأمم، ومن حق كل الشعوب أن تبلغ أبعد وأقصى غاية في التقدّم والمجد؟!
وإن التجارب لشاهدة بأن الإصلاح يعطي الاستقرار، ويعطي الأمن، ويعطي الثقة، وأن إصلاح القطّارة لا يبني ثقة، ولا يقنع أحداً، ولا يوقف حركة ولا انتفاضة.
الغنى الحرام:
هناك ألوان من الغنى الحرام لا أستعرضها، ولكن هذا واحد من أوضح ألوانه. في وقت يُطلب فيه شبر الأرض بأغلى الأثمان، والناس العاديون يبحثون عن موطئ قدم لسكناهم، تُمنع الأرض التي للمحتاجين بحكم الربّ تبارك وتعالى عن المحتاج، وتُقدّم هدية على طبق من ذهب لغنيّ متبذّخ، أو باحث عن غنى طافر سريع يُسعفه في ذلك تنفّذه الجديد، ومَلَقُه الكبير.
تحقّق لك غنى واسعاً ومفاجئا أرض بمساحة لا تحلم بها تبيع نصفها في أيّام، وتقيم بثمنه الضخم مشاريعك الاستثمارية على النصف الآخر، وأنت تحرم بذلك عشرات الأسر من المحتاجين من أن يجدوا لهم قطعة أرض صغيرة يقيمون عليها مأواهم، وتشارك في شقاء شعب، واضطراب أوضاعه، وسوء حياته.
إنه غنى الراحة لا يكلِّف جهداً ولا عرقاً. غنى مسروق من جماهير محرومة وعلى حساب ضروراتها. غنى فيه فقرهم وحرجهم وعذابهم وشقاءهم الثقيل. غنى مفسد للضمير، ومستعبد لصاحبه، وجريمة في حق الآخر. غنى يمثّل لغة صارخة بليغة في الظلم. غنى لا يلتقي مع إصلاح، ولا ترضى به شريعة سماوية، ولا قانون أرضي فيه شيء من عدل، وشيء من مراعاة المصلحة العامة. غنى يبعثر آمال الفقراء من أبناء الشعب ومحروميه. غنى يقيم طبقية فاحشة سيّئة لا يقوم معها أمن ولا استقرار، ولا تسمح للأخوّة أن تطلع برأسها على الأرض. غنى تحاربه شرائع السماء، وينكره الضمير، وترفضه مسلّمات العقل الصحيح.
سدُّوا باب هذا الغنى الحرام نهائيّاً، واعطوا للمحتاجين من أرض الله حاجتهم بلا منٍّ ولا إهانة قبل أن يأتي الظلم على ما بنته أيدي الجميع.
تزوير أخطر من تزوير العملة:
تزوير العملة خطير على الوضع الاقتصادي لأي بلد وخاصة إذا كان بكميات كبيرة، ولذلك يُحارب محاربة شديدة، ويعاقب عليه عقاباً صارماً. وأخطر منه تزوير الحقائق، وقلب المفاهيم، ووضع أسماء الأمور والأشياء على أضدادها لتشويش فكر حضاري قويم، وزعزعته وإسقاطه، وسرقة العقول المؤمنة به، والقلوب المحتضنة له.
ويتعرّض الفكر الإسلامي، والمفاهيم الإسلامية، والسلوك الإسلامي، وتتعرّض طرق الاستدلال المتعلّقة بالنصوص الإسلامية، والبناء الفكري القائم عليه إلى عمليات تشويه وتزوير واسعة متعمّدة في وقتنا الحاضر، وهي عمليات تشترك فيها أطراف من خارج الأمة وداخلها، رسمية وغير رسمية، وحتّى من المحسوبين على الدارسين الإسلاميين ممن سقطوا ضحايا للأطماع الدنيوية، أو لم يكن لهم الاستعداد المبكّر الكافي لمواجهة الفكر الآخر.
والكلام هنا عن لون تزوير واحد فاضح سافل حيث يُسمّى المجون فنّاً، والهبوط السلوكيّ ثقافة، وضروب من الفحشاء إبداعاً، والممارسات الحيوانية القطّّة صناعة رفيعة راقية، والضعف الغريزي تقدّما، والترويج للفساد حريّة، وحيث يكون التحشيد الهائل للمال والرجال والنساء والجهد والإعلام وكل الوسائل المتاحة لتركيز عملية التزوير وتوسيعها وإشاعتها، وإساءة استعمال الكلمة في غير ما وُضعت له في صورة تحريف مكشوف ممقوت للاستغفال والاستغلال وترويج الباطل.
إخوتي.. أخواتي..
هنا خطورة بالغة جدّاً، من خلال الاستعمال الخاطئ المتعمّد للألفاظ في غير المفاهيم الموضوعة لها، في غير المعاني الموضوعة لها. إنه ليمكن أن يُسرق وعي الناس، ويمكن أن يُسرق انتماؤهم لحضارتهم، ويمكن أن يُهرب بهم عن عقلهم الحضاري، وعن خطّ انتمائهم الأصيل بهذا اللون الخبيث الماكر من التزوير.
إنّه في مواجهة هذا العمل التخريبي علينا أن نُسمّي الأشياء بأسمائها، وأن نستعمل اللفظ فيما وُضع له، وخاصة إذا كانت التسمية والاستعمال مما ورد في كتاب الله المجيد والسنة المعصومية المطهرة؛ حيث الدقة والأمانة والعصمة من الخطأ في هذا الاستعمال والتسمية، فما هو إيمان يجب أن نُسمّيه إيمانا، وما هو فسق يجب أن نُسمّيه فسقاً، وما هو علم وثقافة وحقّ، أو ما هو جهل وانحراف وباطل ولهو وعبث وفاحشة علينا أن نُبقيه على حقيقته، ونعطيه عنوانه الصحيح من غير مغالطة تهزأ بالعقول، وتتعامل معها باستغفال متعمّد.
فما سُمّي بربيع الثقافة واشتمل على ما هو سلوك رخيص هابط، وممارسة ساقطة، ومنكرات سخيفة يجب أن يأخذ اسمه الصحيح المعبِّر عن هذه المفردات السلوكية أو الفكرية السخيفة حتى لا تقع المغالطة، ويُمرّر التزوير.
ولكم أن تقفوا على هذه المفارقة الآتية:
في البحرين، بلد الإسلام والإيمان والتاريخ الإسلامي المجديد تُستنفر جمعيات ومؤسسات للدفاع عن ربيع الثقافة أو السخافة الموبوء بالمنكرات والرذيلة، المتحدّية للدين والقيم والذوق والعرف، وتخفت أصوات كثيرة لا تحمي الوجود الخلقي بكلمة.
وفي الهند يهبُّ الهندوس غضباً، يتظاهرون، ويحتجّون ضدّ قبلة ممثل أمريكي لممثلة هندوسية في الهند، وقد شارك في أعمال الغضب حزب شيف سينا الهندوسي، وأدان القبلة بشدة الناطق باسم حزب بهاراتا أجاناتا القومي الهندوسي باعتبار أنها ليست جزءاً من التقاليد الهندية.
وما حدث في ربيع الثقافة مواجهة لمسلّمات خلقية إسلامية، ولعرف عريق ممتدّ قروناً. ربيع السخافة فيه مواجهة لضمير شعب، ولخلق شعب، ولحياء يرضاه الله عزّ وجل عرفه هذا الشعب.
وحقّاً أقول لكم: بأن الأمة التي لا تعتز بهوّيتها، ولا تذود عنها يهزأ بها الآخرون ويحتقرونها، أما الأمّة التي تحترم مقدّساتها وتذود عن كرامتها فتفرض احترامها على الآخرين. ولا بد من التنبيه إلى أن الإصرار على أخذ المنكرات الهابطة واقع الظواهر المستفحلة الواسعة لا يتحرك من مجرد غرائز بهيمية منفلتة يمكن أن تشبع نهمها ولو حراماً بغير كل هذا الضجيج والتبجّح والاستنفار والتظاهر والعدوانية ضد القيم وإنما منطلقه السّيّء الواضح الأهم إرادة إحلال أنماط حضارية ساقطة أجنبية محلّ الأنماط السلوكية والفكرية المنتمية لحضارة الأمّة ودينها، وهنا الخطورة. وهذا منطلق يحتّم علينا مواجهة مثل هذه العملية من المسخ الحضاري، إنه مسخ حضاري يجب أن يُواجه بجدّية وعقلانية وصبر ووعي وتكاتف.
اللهم صل على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين مغفرة جزماً حتماً برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم اجعل لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات ومن يعنينا أمره عزماً ثابتاً بالغا في الخير، وعزوفاً دائماً كافيا عن الشر، وذدنا عن مواقعة معصيتك أو مفارقة طاعتك، وأعذنا من الميل إلى أعدائك، والزهد في أوليائك، واجعلنا من جندك، وأكرمنا بنصرة دينك، واجعلنا من حزبك فإن حزبك هم المفلحون. اللهم زدنا من فضلك ديناً ودنيا يا ولي العطاء، والمن، والجود، والإحسان، يا علي يا عظيم، يا رؤوف يا رحيم.
{ إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 – ميزان الحكمة ج7 ص 15.
2 – المصدر نفسه.
3 – المصدر نفسه.
4 – المصدر ص 17.
5 – لا بد أن ستحدث ليلة القدر في سنته التي يداوم فيها على عمل.
6 – المصدر نفسه.
7 – المصدر نفسه.
8 – المصدر ص 16.
9 – المصدر نفسه.
10 – بمعنى زيادته.
11 – بمعنى عيبٌ وقبح.
12 – المصدر ص 18.
13 – وهل يؤلف القلوب، ويرضي النفوس، ويقر العيون في النتيجة النهائية مثل العدل، والإنصاف، والمساواة، وإشاعة روح الأخوَّة؟!

زر الذهاب إلى الأعلى