خطبة الجمعة (273) 5 صفر 1428هـ – 23 فبراير 2007م

مواضيع الخطبة:

متابعة موضوع التوحيد + وضعنا السياسي والأمني المحلي

لسنا مع رغبة التصعيد الأمني، ولا مع حالات الاستفزاز من أيِّ طرف، لسنا مع العنف والعدوانية والتطرف من أيِّ طرف، وفي الوقت نفسه نُصرُّ على حق التعبير السلمي عن الرأي والمطالبة الشرعية، والشرعية قبل كلِّ شيء، والدستورية من بعد ذلك بالحقوق الثابتة. ونحن نقف ضد قوانين التكتيم والتكبيل والتدجين القسري.

الخطبة الأولى

الحمد لله الذي أظهر الخلائق بقدرته، ويسّر الدلائل على ربوبيته، وهو المنزَّهُ عن مجانسةِ ما خلق، المُبرّأ عن ملامسة ما برأ، وعن مقتضيات الإمكان والمحدودية كلِّها وهو واجب الوجود، وفوق كلِّ الحدود، وخالق كل محدود.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم تسليماً كثيراً كثيراً.
عباد الله أوصيكم ونفسي الأمارة بالسوء بتقوى الله، والسَّبْق إلى طاعته، والأخذِ بتعاليم دينه، وأحكام شريعته. ألا لا خير يُطلب بعيدا عن طاعة الله، ولا خير يفوت من أخذ بطاعته، فهي طاعة العليم الخبير، العدل الحكيم، الرؤوف الرحيم، القدير الذي لا يُعجزه شيء وليس مثل قدرته شيء.
اللهم صل على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم ارزقنا أخلص طاعات المطيعين، واجعل طاعتنا لك دائمة، وجهادنا فيك ثابتاً، وميلنا إليك عمن سواك قائما، واسلك بنا إليك، وأنلنا رضوانك يا كريم.
أما بعد أيها الملأ الطيب فلا زلنا في مواصلة مع موضوع التوحيد في ضوء نصوص من الكتاب والسنة نقتبس منها اقتباساً يسيراً، وهو حديث يهتم بالتنبيه والإشارة والإيقاظ:
{فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ}(1).
{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنتُم بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ}(2).
والآية الأولى تقول: {فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ}، ومن بعدها {خُلِقَ مِن مَّاء دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ}(3).
يكفي هذا الإنسان لأن يذعن لله تبارك وتعالى عقلاً وشعوراً وسلوكاً، أن يراجع بدايته وما قبل البداية؛ ما قبل بدايته الأولى المتواضعة كان عدماً محضاً، وكانت له بداية من تراب أو قبل التراب، وفي مرحلة متقدمة كانت بدايته النطفة، الماء الدافق، يخرج من بين الصلب والترائب.
وهو في هذه البداية لا حراك، لا إرادة، لا فكر، لا شعور، لا تصميم، لا أي مظهر من مظاهر الحياة. وفي كل مراحله السابقة لا يتوهّم أنه يملك حولا ولا طولا، وإن كان في كل وجوده هو كذلك.
هذه هي تلك البداية التي توقف الإنسان أمام ضعفه ووهنه ومسكنته، وأنه مُدَبَّرٌ لله تبارك وتعالى، وهي تكفي جداً جداً لمن يحمل ذرة من العقل أن يطأطأ برأسه، أن تطأطأ كل حياته الإرادية من أولها إلى آخرها إلى إرادة الله سبحانه وتعالى.
هذا الإنسان يعلم وجداناً – كما سبق في حلقةٍ متقدمة – أن كل الذين يشتركون معه، وأن كل شيء يشترك معه في فقد الوجود من الداخل لا يستطيعون أن يعطوه من أنفسهم وجوده، ولا يستطيعون أن يعطوه حياته.
ماءٌ خُطِّط، ماءٌ شُحن بالاستعدادات الفكرية والشعورية، وبالقدرة على الخلق والإبداع، بقدرة الله سبحانه وتعالى، من صمّمك؟ من رسم خريطة وجودك؟ من قدّرك هذا التقدير؟ من لاءم بين كل أعضائك؟ أجزائك؟ خلاياك؟ ذراتك؟ من صمم ذرتك الأولى؟ من أعطى كل تلك الذرات قابلية الحياة، وقابلية النمو، وقابلية الإبداع؟
إن الآيات الكريمة لتلفتُ نظرنا إلى بداية الطين، بداية التراب الذي ندوس عليه ونمر عليه غير مكترثين، ولقد كنا منه، وإليه سنعود.
ثم تلفت نظرنا إلى مرحلة أخرى هي أقرب إلينا في وجودنا الحالي، وهي مرحلة النطفة، وهي مرحلة يشهدها الأب من ابنه، ولا يستطيع الإنسان إنكارها حين يرى نفسه وهو الآن على هذه القدرات، وعلى هذه الفعاليات، وعلى ما هو عليه من إبداع، واختراع. فلير أحدُنا الفتنة ماذا كان قبل سنوات يسيرة، أنت قبل عشرين سنة؛ قبل ستة عشرة سنة، قبل أقل من ذلك أو أكثر لم تكن إلا الطين، لم تكن إلا الهباءات المنتشرة، والذرات المتناثرة في هذا الكون العريض، ثم لم تكن إلا النطفة التي لو لم تصل إلى مقرّها في الرحم لكانت في خرقة من خرق تُرمى في المزابل.
{إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ}(4) النطفة لا تُرى بالعين المجردة، تعجّ بهندسة الخلق والإبداع، والتكوين العجيب، فيها العبقرية، فيها المهندس الضخم، فيها الفيلسوف المحلق، فيها الإمام الطاهر، فيها الأماني، فيها المشاعر، فيها الطموحات، فيها الإيمان، فيها الروح القتالية، فيها روح الإحسان، فيها مشاعر ومشارب، وأفكار وأفكار، وخواطر وخواطر، وروح تتجاوز الكون كلّه، ولا تقر إلا حيث تصل بشعورها، وبوعيها إلى الخالق العظيم الواحد الأحد.
تأتي الكلمة عن الصادق عليه السلام لتضعنا أمام صورة مبسّطة تزوّدنا بالإيمان العميق “والعجب من مخلوق يزعم أن الله يخفى على عباده” عقل مفلس، روح منغلقة، قلب صلد، وجدان ميت، عين عمياء تلك التي لا ترى الله سبحانه وتعالى في كل ذرة من ذرات هذا الكون، وفي كل حركة من حركاته، وفي كل سكنة من سكناته.
“والعجب من مخلوق يزعم أن الله يخفى على عباده وهو يرى – أي الإنسان، المخلوق – أثر الصنع في نفسه بتركيب يبهر عقله، وتأليف يُبطل حجته(5)، ولَعمري لو تفكّروا في هذه الأمور العظام لعاينوا من أمر التركيب البيّن(6)، ولطف التدبير الظاهر، ووجود الأشياء مخلوقة بعد أن لم تكن، ثم تحوّلها من طبيعة إلى طبيعة، وصنيعة بعد صنيعة، ما يدلهم على الصانع” ودلالة كل هذه الأشياء على صانعها إنما هي بصنعه، وبدلالته تبارك وتعالى.
هل اخترت صورتك؟ هل اختار لك أبوك صورتك؟ هل اختار لك إمكاناتك العقلية؟ إمكاناتك النفسية؟ هل قدّرك أحد من مثلك هذا التقدير؟ هل كنت أنت الذي قد اخترت موقعك في هذا الكون؟ كيف جئت بنفسك ولم تختر أن تخطط وجودك كما تريد؟ ومن الذي يدّعي أنه خططك هذا التخطيط، وقدرك هذا التقدير؟ {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ}(7) عن علم، عن حكمة، عن تدبير، عن هندسة، عن خبرة، عن إحاطة تامة بكل ذرة من ذرات الكون، وبكل ما فيه. {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}.
ليست هناك يد أخرى أبدعتك هذا الإبداع، وقدّرتك هذا التقدير، فلابد أن يكون كل ركوعك، كل سجودك، كل طاعتك، كل استجابتك، كل حبّك، كل شوقك لله وحده تبارك وتعالى {اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ}.
من بعد ذلك ألست العبد الذي تجب عليه طاعةُ الرب؟ ألست الحر أمام كل الآخرين من غير الرب؟ والعبد أمام الواحد الأحد؟ وهكذا يريدك الإسلام أن لا تتخذ رباً إلا الله تبارك وتعالى، لأنه هو الذي خلق، وهو الذي دبّر، وهو المعبود بالحق وحده.
تقول لنا الآية الكريمة {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ}(8) فكّروا في قدرة أخرى قد أخرجتكم من حالة الموت إلى حالة الحياة، ومن حالة العدم إلى حالة الوجود، وبعثت فيكم الروح في لحظة من اللحظات، فكّروا في قدرة محدودة، مخلوقة، محدثة تستطيع من داخلها وبإرادتها المستقلة غير التابعة لله أن تقدم لكم ذلك.
الآيات الكريمة تحمل أدلة فلسفية، والمعنى الطافح منها هي أنها تستنطق الفطرة. لله كتاب داخل الإنسان، لله حجة داخل الإنسان، وآيات التدوين تستنطق هذا الكتاب، تستنطق لغة الفطرة، تستنطق ضمير الفطرة، تستنطق وعي الفطرة وفهمها، ووعي الفطرة يعمل الظالمون دائما على إلغائه، ولغة الفطرة تعمل الأوضاع السيئة دائماً على قبرها.
الآيات الكريمة تريد أن تضعك أمام ذاتك، أن توفر لك وعي ذاتك، أن توفر لك اكتشاف ذاتك، أن تضعك أمام طبيعة وجودك لتتبوأ المكان الكبير لترتبط بالهدف الصحيح، لابد أن تعرف نفسك، ومن بعد ذلك ستعرف هدفك، وستعرف منهجك الذي يوصلك إلى هذا الهدف. ما لم نعرف أنفسنا سنبقى نجهل قيمتنا، ونجهل هدفنا، ونجهل المنهج الذي يتناسب مع هذه القيمة، ومع هذا الهدف.
{يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ}(9) نحن أحياء وقد خرجنا من تراب {وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ}(10) من مظاهر إخراج الميت من الحي هذا الشجر الباسق الذي يستوقد به الناس، ويدخل في العمارة التي تشيدها يد الإنسان، وهو ناتج الحياة التي سرت في البذرة فصارت نبتة، ثم تحولت إلى شجرة سامقة تخدم بجماديتها عمارة الإنسان وصناعته.
والحمد لله رب العالمين.
اللهم صل على محمد وآله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم بارك لنا ديننا ودنيانا، وأصلح لنا شأننا كلّه، واحفظنا بعينك التي لا تنام، واكنفنا بركنك الذي لا يرام، وأدخلنا في عزك الذي لا يضام، يا قوي يا عزيز يا رحيم يا رحمن.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)}

الخطبة الثانية

الحمد لله الذي لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض، وليس على علمه خافية أبداً، لا تشتبه عليه الأصوات، ولا تختلط عنده المسئلات، وهو مجيب الدعوات، وولي الباقيات الصالحات.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله؛ صلى الله عليه وآله وسلم تسليما كثيراً كثيراً.
عباد الله علينا بتقوى الله، والثبات على الحق وإن خشن طريقه، وعزَّ سالِكُه، وكثُر أذاه. والنّأي عن الباطل وإن لان ملمسه، ودرّت منافع الدنيا به، وعظُم في عين الناس مُتَّبعه، فإن الأمور بعواقبها، والعاقبة للمتقين. وإن الحق لا يُنهِي إلا إلى خير، وإن الباطل لعاقبته الخسران المبين.
اللهم ألزمنا جادّة التقوى؛ فلا نقدّم باطلاً على حق، ولا شرّاً على خير، ولا شيئاً من المعصية على طاعتك، ولا نبتغي عندك بدلاً، ولا نرضى عنك مُتحوِّلا.
اللهم اغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم صل على محمد وآل محمد… صل على عبدك وابن عبديك المصطفى خاتم النبيين والمرسلين، وعلى علي أمير المؤمنين وإمام المتقين، وعلى فاطمة الزهراء الصديقة الطاهرة المعصومة، وعلى الأئمة الهادين المعصومين: الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن المهدي المنتظر القائم.
اللهم صل على ولي أمرك القائم المنتظر، وحفَّه بملائكتك المقربين، وأيِّده بروح القدس يا رب العالمين.
اللهم عبدك وابن عبديك، الموالي له، الممهِّد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين وفِّقهم لمراضيك وسدِّد خطاهم على طريقك.
أما بعد أيها الأعزاء من المؤمنين والمؤمنات فإلى هذا الموضوع:
وضعنا السياسي والأمني المحلي:
لا تقوم دولةٌ مستقرةٌ ومتقدِّمة على التهويل والتضخيم الإعلامي فحسب، وعلى جيش من الصحافيين والإعلاميين والنيابيين المتحرِّكين على مسار الإعلام الدعائي، المستعدِّين لئن يقولوا كلَّ شيء يمكن أن يُلمّع النظام ويزكّيه ويُبرِّر ممارساته، ويُضخّم إنجازاته، ويمكن أن يقولوا كلَّ شيء فيه شتم الآخرين وقذفهم، والإساءة إليهم.
إذا كان هذا البُعد فيه خدمة، وفيه ربحٌ للنظام أي نظام، فإنه لا يمكن أن يقوم عليه استقرار دولة وتقدُّمها، على أن هذا الأسلوب أسلوب يضرُّ أكثر مما ينفع، وإذا كان ينفع في أوساط شعب مغفّل فإن شعبنا هنا قد بدأ يقظته مع أوّل صحوة إسلامية، وهذه اليقظة إلى اتساع وليست إلى تراجع.
لسنا مع رغبة التصعيد الأمني، ولا مع حالات الاستفزاز من أيِّ طرف، لسنا مع العنف والعدوانية والتطرف من أيِّ طرف، وفي الوقت نفسه نُصرُّ على حق التعبير السلمي عن الرأي والمطالبة الشرعية، والشرعية قبل كلِّ شيء، والدستورية من بعد ذلك بالحقوق الثابتة. ونحن نقف ضد قوانين التكتيم والتكبيل والتدجين القسري.
نعرف أن الداخلية قد تحدثت عن معسكر تدريب إرهابي واقعٍ تحت نظر كلِّ عابر في قرية تطل عليه؛ حيث يقع في منخفض مكشوف بجوارها، والمعسكر مزرعة صغيرة، والسلاح الذي يثبت كونه معسكرا تدريبياً إرهابيا خطيرا هو صندوق ورق أو خشب فيه زجاجات فارغة وُضعت بعناية – كما يهتم الخبر بهذا الوصف – وربما هي على حدّ العناية التي توضع فيها الزجاجات البيبسي في صناديقها الجاهزة للتوزيع.
ووُضِع الخبر في الصحافة الموضوعية النزيهة جداً في السياق الذي يجعله يعلن حالة الإنذار، ويثير الرعب والذعر، ويدق طبول الحرب، ويُقدِّمه نصراً كبيراً على طريق اكتشاف التآمر الداخلي والخارجي، والإعداد لحرب لا هوادة فيها على النظام.
ومن جهة أخرى قُوبِل الخبر وتصويراته بالاستهجان والسخرية والتبكيت والتنكيت، لأنه لا يمتلك من مقومات الصدق أي درجة من الدرجات، وبحسب مطروحه الذاتي، فضلاً عما أُحيط به من عناصر التضخيم والتهويل المفزعة.
وطالب البعض على أساس الخبر أن تُقطع الأيدي والأرجل من خلاف، وأن يصلّب الناس تصليباً، وأن تنزل أشد العقوبات بأفراد الجيش العرمرم الذي كان يخطط للانقلاب الخطير.
وحسنا أقول: أن يجري قبل ذلك تكسير الزجاجات الفارغة وهي السلاح القتّال النووي والجرثومي والكمياوي على رؤوس أفراد ذلك الجيش.
الكل يعرف أن المشكلة في الأصل سياسية لا أمنية، والحل في الأصل سياسيٌّ لا أمنيٌّ، والمشكلة السياسية ليست معقّدة، والمطالب ليست تعجيزية، وكان دخول الشعب في الميثاق من أجل هذه المطالب، وما كان الشعب يعرف للإصلاح معنىً لا تتحقق به مطالبهم المعروفة المكررة والتي رافقت الميثاق الوعودُ المؤكَّدة بتحقيقها.
على أنّ مأساة الحقوق قد تعمّقت بعد شعار الإصلاح، وجاءت طامّة تقرير البندر الذي أسكتت السلطةُ الرسميةُ الصحافةَ أن تذكر عنوانَه فضلاً عن مضمونه وشيء من تفاصيله. وهو يتحدث عن أخطر مؤامرة، وأسوأ مؤامرة، ويؤسِّس لفوضى شاملة، ودمار واسع.
وعليه فسيبقى الحلُّ سياسياً قبل كلّ شيء، ولا يُغني عنه شيء، ولو امتلئت السجون بالنّاس، ووقوع حدثٍ أمني هنا، وافتعال حدث أمنيٍّ هناك، والتوتر والهدوء اللذان يمكن أن يتناوبا على الوضع الأمني كلُّ ذلك لا يمكن أن يُنسي أو يُقلِّل أو يُهمِش أو يصرف عن أهمية المطالب السياسية الأم التي يجب التمسك بها دائما. وحلُّها يعني الحلَّ لكثير من متاعب الساحة وأزماتها، ويمد جسور الثقة ويُمتّنها.
المطلب الدستوري، التوزيع العادل للدوائر الانتخابية، الحرية الدينية والمذهبية، التقييم العادل المراعي لمصلحة الشعب لمسألة التجنيس، ووقف تدفّق المجنّسين لغرض الاستقواء على الشعب والإضرار به، التحقيق في مطروحات تقرير البندر تحقيقاً محايداً أو مشتركاً يُعلن الحقائق، ويرتب الجزاءات القانونية المناسبة على المتورطين بعد إثبات الجرم، المساواة بين المواطنين مساواةً عملية مشهودة، هذه مطالب لا تنازل عنها، ولا تفريط بها، ومن طلب الإصلاح الحقيقي فعليه أن يبدأ بها.
إخوتي، أخواتي: أقول من جديد: لسنا مع حرق عجلة سيارة أو قمامة هنا أو هناك، ولسنا مع خروج فئات من أبنائنا الشّباب في هذا الشارع أو في ذلك الشارع لتعطيل عملية المرور، وخلق اختناقات مرورية. لسنا مع ذلك ولا نرضى به، ونطالب الشباب بالتوقف عنه(11).
ونحن قبل ذلك مألومون، ومستنكِرون، ومحتجّون، ومناهضون لتجميد المسألة الدستورية، وتهميش دور النيابيين، وتعطيل كلّ الملفات الساخنة، وأنكر ما ننكر السكوتَ المخزي والمريب على تقرير البندر.
وحينما نُنكر حرق قمامة، أو عجلة سيارة، أو تعطيل حركة مرورية لا نريد بذلك أن نُعطّل فريضةً فرضها الله عز وجل قبل أن تكون حقاً دستورياً محلياً، أو حقاً في دساتير العالم كله، وقبل أن تُمارَس تحت أي عنوان كعنوان المعارضة أو غيرها.
إذا كان يسع أحداً أن يتوانى عن مسألة الحقوق والمطالبة بها فإن من يفهم الدين ويتمسك به لا يسعه أن يسكت على ذلك لأن منطلقه ديني إلهي ملزم.
وإنما نُريد التعقّل والانضباط، والمحاسبة الدقيقة للمصالح والمفاسد، ونُريد أن يكون التحرُّك تحت التوجيه المأمون الديني المكشوف، وأن نقطعَ الطريق على عمليات الاندساس في الصف الشبابي والتي قد تستدرجهم إلى ما لا يريدون. نُريد لمسألة الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والمطالبة بالحقوق أن تتّخذ مساراً عقلانياً حكيماً خاضعاً للحكم الشرعي.
هناك لغة من الحكومة تقول للنيابيين، تقول للعلماء: أوقفوهم قبل أن تطالبونا بإطلاق سراحهم، أوقفوا حركتهم في الشارع، أوقفوا حرقهم، أوقفوا تجمهرهم في هذا الشارع أو ذاك قبل أن تطالبونا بإطلاق سراحهم.
نقول للحكومة: هؤلاء الشباب لم نُحرِّكهم، ولا نرضى بهذا اللون من حركتهم. نعم نحن نحتاجهم أن يتحرَّكوا إذا لزمت الحركة، نحن يمكن أن نتصدّر حركتهم في يوم من الأيام، ونحن مستعدون دائماً أن نتصدر حركتهم كلّ ما اقتضى الأمر، وبالصورة التي نفهمها، وتطابق رؤيتنا الشرعية، وتقضي بها رؤيتنا الموضوعية. نحن لم نحركهم ولا نرضى بهذا اللون من حركتهم، ولكن لم يتحركوا تلقائياً، وإنما حركهم السكوت على الملفات الساخنة، وإدارة الحكومة وجهها عن لغة الحوار، عن المطالبة الهادئة، حرّكهم مثل تقرير البندر، حرّكهم مثل التجنيس المفتوح، حرّكتهم مظالم كثيرة، حرّكتهم هذه اللغة الملتهبة التي يمارسها نواب كبار لتقول قطّعوا أرجلهم وأيديهم من خلاف وصلّبوهم تصليبا، تحرّكهم لغة صحافتكم التي تضع طائفةً بكاملها في موقع الاتهام، وفي موقع التآمر، وهذا يكشف عن أن الحكومة تخطط تخطيطاً عدائياً لهذه الطائفة، وهي تستعدي الأخوة السنة على أخوتهم الشيعة دائماً.
ما هو البديل يا حكومة؟ هذه الممارسة مرفوضة عندنا، وبكل تأكيد، ونحن ننهى عنها علنا صادقين.ً
من رأى أنني ناصح، تستحق كلمتي أن تُسمع فأنا أنهى عن مثل هذه الممارسات(12).
لكن وأنا أنهى عن مثل هذه الممارسات لا أريد أن أُدجّن الشعب، لا أريد أن أُفحمَ كلمة الحق عند الشعب، لا أريد أن أُجبِّن الناس، لا أريد أن أقول اقبلوا الذل، واقبلوا السكوت على كل الظلم. ما هو البديل يا حكومة؟
غيّري سياسة التجنيس، اكشفي أوراق تقرير البندر، اسمعي لكلمة التعديلات الدستورية، حينئذ ستكون الساحة هادئة، وسنقف بكل صراحة وبكل قوة ضد أي حركة يحرّكها أي واحد في هذه الساحة.
لغة الصلب والقطع من خلاف هي هذه اللغة المهدئة؟! وهذه هي التي يقف معها علماء الدين على المستضعفين؟! نحن نساعد من يقول قطّعوا؟!!(13)
على كل حال، كلما بقي تقرير البندر مسكوتاً عنه كُلّما بقيت المسألة الدستورية غير محلِّ اهتمام، كلّما بقي التجنيس تتدفق من قناته أفواج قد يكون منها المعادي لهذا الشعب، كُلّما لم يمكن أن تهدئ الساحة، وكلما رتق فتق سينفجر فتق آخر، وهذا أمر ليس بيد العقلاء، وليس بيد الحريصين على سلامة الوضع وأمنه واستقراره.
المسؤولية مشتركة، ومسؤولية الحكومة هي الأولى، وهي الأكبر، وأنا متأكد من أن بدايةً جدّية للإصلاحات الحقيقية ستُحسِّن الوضع وستقشع كل هذه السحب القاتمة عن سماء البحرين.
اللهم صل وسلم على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم اجعل خير أعمالنا خواتمها، وخير أيامنا يوم نلقاك، وبيض وجوهنا عندك، وارفع درجتنا لديك، وأهنئ حياتنا ومماتنا وآخرتنا كلها يا كريم يا رحيم.
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 – 5/ الطارق.
2 – 20/ الروم.
3 – 6، 7/ الطارق.
4 – 2/ الإنسان.
5 – وفي نسخة أخرى جحوده.
6 – إشارة إلى دقائق الصنع التي عرف علماء الإحياء منها شيئا، عرف علماء التشريع منها شيئا، عرف الأطباء منها شيئا، وكل ما عرف الإنسان من عظمة الخلق قليل.
7 – 6/ آل عمران.
8 -28/ البقرة.
9 – 19/ الروم.
10 – 19/ الروم.
11 – هتاف جموع المصلين بـ(معكم معكم يا علماء).
12 – هتاف جموع المصلين بـ(معكم معكم يا علماء).
13 – هتاف جموع المصلين بـ(هيهات منا الذلة).

زر الذهاب إلى الأعلى