خطبة الجمعة رقم (256) 4 شوال 1427هـ – 27 أكتوبر 2006م

مواضيع الخطبة:
كلمة في المصائب + تقرير البندر + المعارضة (المشاركة) المقاطعة

لا تعني المشاركة أن قضية الحقوق وقضية الإصلاح ستكون في ذمّة النوّاب بينما على الشعب أن ينام عن قضاياه، على الشعب أن يكون حاضراً في الساحة، وعليه أن يجاهد الجهاد الذي يُحقِّق له مطالبه، منضمّاً دوره إلى دور نيابينا في المجلس النيابي.

الخطبة الأولى

الحمد لله الذي خلق العباد وهو غنيٌّ عنهم، ودعاهم لعبادته رِفعةً لشأنهم، وتكميلاً لأنفسهم، وطمأنة لقلوبهم، ثم جزاهم على ما هو صلاح لهم، وفيه خيرهم، فما أكرمه من ربٍّ عظيم؟! وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلّى الله عليه وآله وسلّم، قضى عمره في أداء الرسالة، وإخلاصِ الطّاعة، والوفاء بالأمانة فأمدّه الله بالتوفيق، وسهّل عليه الطريق، وبلغ به الغاية. صلَّى الله عليه وآله وسلّم تسليماً كثيراً كثيراً.
عباد الله ألا فاتقوا الله، وانظروا إلى دينكم بأهمِّ النظر، واعتبروه فوق كل معتَبَر، فلا أربحَ ممن ربح الدين، ولا أكثرَ خُسراً ممن خَسِر الدين، وكل مصيبة وإن عظمت فهي أهون من مصيبة في الدِّين. “سُئل أمير المؤمنين عليه السّلام” “أيّ المصائب أشدّ؟ قال: المصيبة بالدّين”(1).
اللهم صل وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى وعلى آله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم. اللهم لا تجعلنا للمصائب غرضاً، ولا تكرثنا في ديننا أبداً، ولا تجعل جمعنا بدداً، ولا حياتنا كمدا. اللهم أخرجنا من سوء الحال إلى أحسن حال من عندك يا كريم يا رحيم.
أما بعد فهذه كلمة في المصائب تستهدي بجملة من النصوص الهادية:
المصائب بالسوية:
تقول الكلمة عن عليّ عليه السلام:”المصائب بالسّوية مقسومة بين البريّة”(2).
الحياة وإن عظُمت لذّتها، وإن بذُخت إلا أنها لا يمكن أن تخلو من مصائب، وملخّصاً فإن دار الحياة الدنيا هي دار الابتلاء، ودار الابتلاء والامتحان من طبيعتها أن تكون بها مصائب. هذه المصائب مما يُخفِّف ثقلها على النفس أن تؤمن بالله تبارك وتعالى، فأكبر ما تواجَه به المصائب هو سلاح الإيمان، واحتساب هذه المصائب عند الله تبارك وتعالى، على أن المصائب ليست خاصة بفرد أو جماعة وإنما كما تقول الكلمة عن عليٍّ عليه السلام هي مقسومة بين البريّة. والمصيبة كما قالوا إذا عمّت خفّت.
والمصائب عن الرسول صلَّى الله عليه وآله موصوفة بأنها مفاتيح الأجر، فيقول الحديث عنه عليه أفضل الصلاة والسلام وعلى آله:”المصائب مفاتيح الأجر”(3). وواضح جداً أنها مفاتيح الأجر لمن صبر، ولمن لم تخرجه المصيبة عن الرضا عن ربّه تبارك وتعالى إلى السُّخط.
“كتَبَ رجلٌ إلى أبي جعفر عليه السّلام يشكو إليه مصابه بولده فكتب إليه: أما علمت أنّ الله يختار من مال المؤمن ومن ولده وأنفسه ليأجره على ذلك”(4).
المعني بأنْفُسِه نفوس أهله، ومن وجوه المصيبة أنها تحلُّ بالمرء بإذن الله تبارك وتعالى ليزداد أجراً. ولو كانت الكلمة بلا واو لكان ضبطها أنْفَسَهُ أي أغلاه وأعلاه قيمة.
أشدُّ المصائب وأعظمها:
“سُئل أمير المؤمنين عليه السّلام” “أيّ المصائب أشدّ؟ قال: المصيبة بالدّين”(5).
الروح في وزن الحقّ لا يعدلها شيءٌ في كيان الإنسان، والروح وقواها هي لبُّ إنسانية الإنسان، وحيث يُصاب طرفٌ من أطراف بدن الإنسان تكون مصيبة، ولكن مهما كانت المصيبة إذا كانت في طرف من أطراف الجسد لا يمكن أن تساوي مصيبةً في إنسانية الإنسان ولبّ الإنسان. والدينُ والروح هما لبّ إنسانية الإنسان.
لا شك أنّه في عمق إحساسنا وغزارة إحساسنا المادي، ولمعايشتنا المادة معايشةً دائمة بفكرنا وشعورنا تكون المصيبة المادية علينا أثقل بكثير. نفرٌ خاصٌّ هم الذين يشعرون بثقل المصيبة إذا مسّت دينهم، وأن الحياة تتحول إلى حياة خانقة في نظرهم إذا مُسّ شيء من دينهم.
المعصومون معروفون، نأتي إلى مستوى أبي ذر مثلاً، مستوى سلمان المحمدي، هذان الرجلان من قومٍ لا تعدل مصيبة الدنيا عندهم مصيبة الآخرة، ولا تقوم مصيبة بدن عندهم بإزاء مصيبة دين، إنهم يعيشون الروح أكثر مما يعيشون المادة، ويلتذّون بالروح أكثر مما يلتذّون بالمادة، ويشقون بفقد الروح أكثر مما يشقون بفقد المادة، إنهم نخبة ربّتهم تربية السماء وأيقظت فيهم الروح، ونبّهت فيهم الإنسانية، وأشعرتهم بغزارة أنهم هناك حيث الروح، حيث الدين، حيث التعلّق بالله، وليسوا هم هنا حيث المادة والتراب والطين.
يلتقي مع الكلمة السابقة عن أمير المؤمنين عليه السّلام جملة من النصوص والتي تركِّز على أن المصيبة الكبرى على خلاف ما تذهب إليه مشاعرنا وأنّها مصيبة الدين وليست مصيبة البدن.
تقول الكلمة عن الباقر عليه السلام:”لامصيبة كعدم العقل(6)، ولا عدم عقلٍ كقلّة اليقين(7)، ولا قلّة يقين كفقد الخوف(8)، ولا فقد خوف كقلّة الحزن على فقد الخوف(9)، ولا مصيبة كاستهانتك بالذنب، ورضاك بالحالة الّتي أنت عليها”(10).
عود ثقاب يمس بذبالته الضئيلة إصبع أحدنا فيفزع، ويضجّ، أما الذّنب فيأخذ أثره السّيء في الروح فلا نشعر، هذا يعني أمرين: أن الإصبع تتمتّع بالحياة، وأن الروح تُعاني من حالة من السبات أو الموت.
“أعظم المصائب والشّقاء ألوله بالدّنيا”(11).
فقد سبق أنه لا عقل يعني لا دين، وكذلك لا دين مع الجهل. والجهل في وادٍ والدين في واد، فمصيبة الجهل هي مصيبة الدين، يعني من أُصيب بوجود الجهل فهو مصاب بفقد الدين.
“من أشدّ المصائب غلبة الجهل”(12).
“من أعظم مصائب الأخيار، حاجتهم إلى مداراة الأشرار”(13).
وهذا الحديث عن عليّ عليه السلام يتحدث عن بُعدٍ اجتماعي ومأساة اجتماعية، حيث تكون القوّة بيد الأشرار ويحتاج الأخيار إلى نوعٍ من المداراة لهم، بينما الموقف الأصل البنّاء في العلاقة مع الأشرار أن يؤدّبوا ويهذّبوا وأن يُنكر عليهم منكرهم.
“كان أبو عبدالله(14) عليه السّلام يقول عند المصيبة: الحمد لله الّذي لم يجعل مصيبتي في ديني والحمد لله الّذي لو شاء أن يجعل مصيبتي أعظم ممّا كانت والحمد لله على الأمر الّذي شاء أن يكون فكان”(15).
وهذا الحديث ينقل إلينا حالة تامّة كاملة من تسليم الإمام عليه السّلام لقضاء الله وقدره.
الآية الكريمة تقول:{وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}(16).
بشّرهم بدرجة أكمل من الإنسانية، وبقوّة أتمّ في الروح، وبنور أكبر في القلب، هذا في الدّنيا، ولهم مقام كريم في الآخرة على أن أيّ مقام كريم في الآخرة إنما هو بنسبة ما لأحدنا من نور الإيمان ومن هدى الإيمان في هذه الحياة، كل المواقع في الآخرة تُتحصّل هنا، وكل المواقع في الآخرة إنما السّعي لها هنا.
أولئك يقولون إنا لله وإنا إليه راجعون، وعن أمير المؤمنين عليه السّلام:”(سمع أمير المؤمنين عليه السّلام إنساناً يقول: إنّا لله وإنّا إليه راجعون) فقال: قولنا إنّا لله، إقرار له منّا بالمُلك، وقولنا: إنّا إليه راجعون، إقرار على أنفسنا بالهُلك”(17).
وإذا كان العبد مملوكاً للربّ تبارك وتعالى لم يكن له أن يسخط على فعل مالكه، وإذا كان المالك الله الحكيم الرحيم الرؤوف تبارك وتعالى كان الأحرى بالعبد عند المصيبة أن يُسلِّم لقدر الله تبارك وتعالى وأن يرضى به لأنه لم يصدر من قسوةٍ على هذا العبد ولم يصدر من عدم حكمة إنما قد صدر من أرأف رؤوف وأرحم رحيم وأحكم حكيم على الإطلاق.
صحيح أنها مصيبة موجعة، ولكن صدورها من مقام الحكمة اللامتناهية، ومن مقام اللطف الإلهي والرحمة الإلهية لا يخرجها أبداً عن طريق الحق وعن طريق مصلحة العبد.
وكما كانت بدايتنا من الله، ونحن في كل آناتنا مملوكون إلى الله فالعود لابد أن يكون إلى الله والموئل إليه إنّا لله أي مملوكون لله، وإنّا إليه راجعون.
“رأى الصّادق عليه السّلام رجلاً قد اشتدّ جزعه على ولده، فقال: يا هذا جزعت للمصيبة الصّغرى، وغفلت عن المصيبة الكبرى(18)!، لو كنت لما صار إليه ولدك مستعدّاً لما اشتدّ عليه جزعُك(19)، فمصابك بتركك الاستعداد له أعظم من مصابك بولدك”(20).
اللهم صل على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم. اللهم اجعلنا في درعك الحصينة التي تجعل فيها من تريد، واجعلنا منزلاً لرحماتك، ولا تجعلنا منزلاً لنقماتك، يا خير المسؤولين ويا أرحم الراحمين.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ (4) }

الخطبة الثانية

الحمد لله الذي قدّر الأشياء، وقدَّر لها بداياتها ونهاياتها، واستعدادها وغايتها، ووزنها وعددها، وطبائعها ومساراتها، وكل شيء فيها ولها، وأتقن الخلق، وأحكم التقدير، وأحسن التدبير.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وزادهم تحية وبركة وسلاماً.
أوصيكم عباد الله ونفسي الأمَّارة بالسّوء بتقوى الله، والعمل على تنقية الباطن من كل قبيح من فكر سوء، ومشاعر سوء، ونية سوء، فلا يقاس جمال ظاهر بجمال باطن، ولا قبيح خارج بقبيح داخل، وما أغنى أحداً عند الله أن يكون الجميل في ظاهره قولاً وفعلاً وهيئة خارجية وهو القبيح في باطنه. وعن علي عليه السّلام:”ما أقبح بالإنسان باطناً عليلاً وظاهراً جميلاً”(21).
اللهم صل وسلّم على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم. اللهم ارزقنا جمال القول، والفعل، والقلب، ونوِّرنا بنور الإيمان واليقين، واسلك بنا سبل المتّقين برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبدالله خاتم النبيين والمرسلين، وعلى علي أمير المؤمنين وإمام المتقين، وعلى فاطمة الزهراء الصديقة الطاهرة المعصومة، وعلى الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن المهدي المنتظر القائم.
اللهم صل على محمد وآل محمد، وعجل فرج ولي أمرك القائم المنتظر، وحفّه بملائكتك المقربين، وأيده بروح القدس يارب العالمين.
اللهم عبدك وابن عبديك، المجاهد في سبيلك، والممهد لدولة وليّك القائم عليه السلام، والفقهاء العدول، والعلماء المجاهدين الصلحاء، والمجاهدين الغيارى والمؤمنين والمؤمنات أجمعين وفّقهم لمراضيك، وسدد خطاهم على طريقك.
أما بعد بهذه بعض أمور:
تقرير البندر:
نعود إليه مرةً بعد أخرى لأهميته، ولأنه لا يصح بأي حالٍ من الأحوال إهماله. تقرير البندر كافٍ في ميزان العدل، وفي عرف الدول المتقدمة لأن يُسقط الحكومة في أيّام، ويكفي لمحاكمة كل أعضاء الشبكة الداخلة في هذه المؤامرة ومعاقبتهم. ونحن نطالب في هذا البلد بالكشف الكامل عن الحقيقة، والكشف الكامل عن أعضاء الشبكة، واتخاذ الإجراءات المناسبة، أما دفن القضية فمما ينبغي أن يقف الشعب وكل مؤسساته دونه حائلاً.
إن الشعب بعدما انكشف من أمر هذه القضية يعدّ نفسه مستهدفاً لتلك الخطة الخبيثة، ويعتبرها قائمة وجارية التفعيل ما لم تُكشف الحقيقة بالكامل، ويُحاكم الضالعون في المؤامرة.
البناء العملي على أن المؤامرة قائمة، وعلى أن استهداف الشعب مستمر، وأن الحالة خطرة ما لم تُكشف الحقيقة وتُتخذ الإجراءات الكافية ضدّ المشتركين في المؤامرة.
وكل المؤسسات الأهلية، وكل الشخصيات، وكل العلماء مسؤولون أن لا يسمحوا للقضية بأن تُدفن وتُنسى.
المعارضة – المشاركة – المقاطعة:
المعارضة إنما تُفترض حيث يكون هناك ما يُعارَض، وما لا ينبغي أن يكون، حيث يكون انحراف، حيث يكون ظلم، حيث تكون أوضاع سيّئة، ولأن هذا الموضوع يكاد يكون قائماً في كل بلدان العالم، وهو قائم هنا بشدّة فلا بد من معارضة.
أما هدف المعارضة فيختلف من بلد إلى بلد، ومن حالة إلى حالة، هدف المعارضة في البحرين فيما ينبغي أن يكون هو تثبيت خطٍّ إصلاحي، وتفعيله، وإعطاؤه الجدية الكافية، وأن لا تقف حركة الإصلاح، وأن لا يلتف عليها، وأن لا تكون شكليّة.
هدف المعارضة هنا ينبغي أن ينصبّ على قضية الإصلاح، وتقويم الأمور، والتطوّر بالأوضاع إلى ما هو أحسن، وإلى ما يحقّق العدل، ويحقق كرامة المواطن.
آليات المعارضة تعتمد على نمط المعارضة، المعارضة مرّةً تكون سياسية، ومرة تكون غير ذلك، ويكاد يجمع كل المعارضين في البحرين على أن المعارضة من النمط السياسي، والمعارضة السياسية لا بد أن تكون آلاتها سياسية كذلك، ومناسبة مع الطابع السياسي، فآليات المعارضة سياسية، كما أن نمط المعارضة سياسي.
المقاطعة والمشاركة آليتان سياسيتان من آليات المعارضة، وقد جُرِّبت آلية المعارضة لأربع سنوات، والحكم عليها أنها قد فشلت، والمشاركة لا يؤخذ بها من باب أنّها لابدّية في كل الأحوال، وإنما يؤخذ بها من حيث كونها آلية من آليات المعارضة السياسية، والتي يُقدَّر لها أن تُعطي أثراً إيجابيّاً بمقدار.
وتأخذ المشاركة جدّيتها، وأهميتها، وربما وجوبها من حيث كونها آلية ضرورية من آليات الصراع الذي ليس أمامه كثير من الآليات المنتجة، ولا توجد في التقدير آلية أخرى أكبر إنتاجاً من هذه الإنتاجية حتى آلية المقاطعة وهي آلية لها قوّتها لم تستطع أن تحقّق ما تصبو إليه المعارضة.
على أن المشاركة المطلوبة هي مشاركة لا تصادر الدور الشعبي، المشاركة لا تعني تجميد الشعب وحركته لمدة أربع سنوات، النيابة هنا لا تعني نيابة عن ميت، ولا تُعطي للشعب عطلة لأربع سنوات عن دوره السياسي، لا تعفيه عن دوره السياسي، ولا تعطيه عطلة لأربع سنوات في هذا المجال، النيابة ليست لتتقاضى حفنة من المال.
ومع النيابة ومع المشاركة لابد من حضور شعبيّ فاعل حسب اقتضاء المصلحة والحكمة، في تناسق مع دور إيجابي نيابي داخل المجلس ليتكامل الدوران ويصبّا معاً في مصلحة التغيير الإيجابي.
لا تعني المشاركة أن قضية الحقوق وقضية الإصلاح ستكون في ذمّة النوّاب بينما على الشعب أن ينام عن قضاياه. على الشعب أن يكون حاضراً في الساحة، وعليه أن يجاهد الجهاد الذي يُحقِّق له مطالبه، منضمّاً دوره إلى دور نيابي صالح.
إنها ليست مشاركة موالاة ومسايرة وإمضاء وبصمة على القرار، إنما هي مشاركة معارضة ومزاحمة ومحاسبة للجانب الحكومي، وملاحقة لأخطائه وسلبياته، إنها مشاركة الاحتجاج والإحراج والمطالبة والمجاهدة.
ومنذ هذه المشاركة؟ هذه المشاركة لا تكون من إنسان يبحث عن المال، هذه المشاركة لا تكون من إنسان يبحث عن الجاه، هذه المشاركة لا تكون من إنسان يلين في المواقف الصعبة فيخسر الحق، هذه المشاركة لرجال أشدّاء، ولرجال صلاب، ولرجال مبدئيين رساليين، ولرجال أكفاء، وكلّما كانت الشخصية قد امتحنتها الأحداث، وكلما مرّت الشخصية بتجارب سياسيّة وعملية وأثبتت جدارتها من خلال الامتحان بعد الامتحان كانت أولى بهذا الموقع لأنه موقع ليس للتشريف وإنما موقع للجهاد. إنه موقع يحمّل صاحبه أن يقول للباطل باطل، وللحق حق، وأن يقف مع الحق ضد الباطل.
لابد من شرط الرسالية، لابد من شرط الإيمان، لابد من شرط الكفاءة. وحينما طُرح أمر الكتلة الواحدة إنما طُرح من أجل أن تكون الجبهة النيابية الرسالية قويّة، ومتماسكة، ومبنية بناءً مرصوصاً.
الكتلة التي يحكمها ميثاق واحد، ومنهج واحد ستُمثّل قوة ذات ثقل كبير مؤثّر داخل المجلس، ولن تستطيع المداورات السياسية واللُعَبُ السياسية في الأكثر أن تُفتِّتها لصالح سياسة الحكومة أو لصالح أي جهة أخرى.
جرّبنا الأصوات الملتحقة في تجربة المجلس الوطني الأسبق، وفي تجربة المجلس التأسيسي، جرّبنا الأصوات الملتزمة، وجرّبنا الأصوات الملتحقة وجدنا من الأصوات الملتحقة تخلفاً في كثير من الأحيان، وتخلّياً عن تحمّل المسؤولية. قد يقف معك موقفاً أو موقفين ولكنه يتخلّى عنك في الموقف الثاني أو الثالث، وحين يأتي القرار الصعب كقرار التخلي عن النيابة نهائيّاً يتوقف الكثيرون من غير المبدئيين، ويتوقف الكثيرون من غير أهل الالتزام، والذين أعطوا عهداً من قبل ذلك. فرقٌ بين أن تدخل بكتلة مبنية مختارة مدروسة وبين أن تبحث عن تجميع كتلة من هنا وهناك بعد الانتخابات، من يقول لك بأن هذا يساوي ذلك؟!
أي جيشٍ يترك بناء صفوفه وتحديد نوعية هذه الصفوف إلى الصدفة، وإلى الموافقات، وحالات الارتجال؟! لابد من دراسة، صحيح أن هذا القرار قد يكون صعباً على بعض الإخوة ولكنّه الأنفع للمواطنين كل المواطنين، على أن الكتلة التي نشير إليها لم نقل عنها بأنّه لايصح أن يدخل فيها داخلٌ من غير هذه المؤسسة أو تلك المؤسسة، ولكن لابد أن يكون ذلك بتنسيق مسبّق، من أجل أن نضمن أن الثمانية عشر نائباً أو العشرين النائب الذين سنحصل عليهم هم نوّاب لنا بالكامل، وليسوا نوّاباً لنا بالنصف أو الربع أو لا نحصل من أحدهم شيئاً.
ولو لا ما يقضي به الواجب الشرعي في رأينا من الدفع للمشاركة، والكلام في الانتخابات وفي المرشّحين لوجدنا أن الراحة في البُعد كل البُعد عن الخوض في مثل هذه الأمور، ولستُ أنا وحدي وإنما الكثيرون ممن يقول بالمشاركة، وممن يأخذون بالمعارضة لا ينطلقون في أحاديثهم من مصلحة شخصية وإنما ينطلقون في نظرهم إلى أهمية الموضوع.
تقليل الخسائر، وحجم المضار مبدأ شرعي وعقلي وعقلائي، ولا صلة له بحالة الجبن والشجاعة، ولا صلة له بروح الهزيمة والنصر، فليس من يقول بأن علينا المشاركة ولو من أجل تقليل الخسائر، وتقليل المضار مهزوماً في داخله، وليس الآخر أقوى منه ولا أشجع، مسألة تقليل الخسائر لا تتنافى أصلاً مع السعي لزيادة المكاسب، وليس من جيش قوي في العالم ولا من دولة قوية في العالم إلا وتسعى وتعمل على خطين: خط زيادة المكاسب، وخط تقليل الخسائر، فواعجباه كيف يأتي القول بتقليل الخسائر من باب الهزيمة النفسية؟! كما يريد البعض أن يقول.
وأرجو أن لا يُنسى الخُلُق والدين، وأدب الخطاب، وحرمات المؤمنين لقضية الاختلاف في الرأي، ولقضية الانتصار والتعصب للرأي، فإن الأمر من بعد ذلك سيؤول إلى عبادة الرأي لا عبادة الله تبارك وتعالى. وفرق كبير بين التمسّك الرشيد بالرأي وبين عبادته، التمسّك الشديد الرشيد بالرأي يلازمه عند المؤمن تذكّر الحرمات والقيم، والتمسّك بالدين، أما التعصّب الأعمى للرأي فتسقط معه كل الحرمات وكل القيم وكل الأحكام الشرعية، أعاذ الله الجميع من أن يمسّه شيء من عصبية الرأي التي تبعّد عن الله سبحانه وتعالى.
التهريج وكيل التُّهم يغير ميزان حق مسألة لا تتناسب مع شرف الرجال، ولا تتناسب مع دين المؤمن، ونسأل الله عز وجل أن نكون جيمعاً عند المستوى اللائق الذي أراده لنا ديننا الكريم.
وأمامي أن أوضّح مسألة تتعلق بمفهومين: مفهوم عدم التمكين ومفهوم التحالف.
سبق التأكيد ولا زال التأكيد قائماً وشديدا على عدم صحة التمكين لغير أهل الدّين، ولغير الرساليين في نفوس المؤمنين، وفي شؤون المؤمنين، وفي قضايا المؤمنين، المساجد ليست مفتوحة لغير الرساليين، الحسينيات ليست مفتوحة لغير الرساليين، كل قضايانا وكل مواقعنا محصنة دون اقتحام غير الرساليين، ونصر على هذا الأمر، ونستمر عليه، وهذا المفهوم مفهوم مستقر، مفهوم دينيّ واضح جدّاً وهو مستقر ومحوريّ.
أما قضية التحالف وعدمه فهي مسألة متحركة في إطار الجواز عدمه. التحالف يجوز مرة، ويحرم مرة، هذا التحالف حرام، وهذا التحالف حلال، والتحالف الذي يُمكن أن نسكت عليه هو تحالف يخدم الإسلام، ويخدم مصلحة المواطن ولا يعارض أبداً الأحكام الشرعية، وقد سبقت الإشارة إلى أن تحالفاً من هذا النوع لا نقف في وجهه، وقد قيّدنا التحالف الذي أشرنا إليه بأن يتّفق مع الأحكام الشرعية، ومع مصلحة الدين والمؤمنين.
التحالف مارسه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة مع اليهود على حماية المدينة، التحالف يكون مع المسلم وغير المسلم، أما التمكين فلا يكون إلا لأهل الحق، يجب أن لا تختلط المفاهيم، وأن ترتفع الذهنية إلى مستوى التفريق بين هذا المفهوم وهذا المفهوم.
اللهم صل على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم اررقنا العقل والفهم والحكمة والرشد وصدق اليقين وإخلاص النية وعلوّها، وجمال السريرة وطهرها. اللهم إنا نسألك الحفظ والنصر والعزّ والرحمة والكرامة.
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ }(22)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 – ميزان الحكمة ج5 ص443.
2 – ميزان الحكمة ج 5 ص442.
3 – المصدر نفسه.
4 – البحار ج82 ص123..
5 – ميزان الحكمة ج5 ص443.
6 – لا عقل لمن لا دين له، ولا دين لمن لا عقل له. العقل ليس الذّكاء، أكبر عقل أن تعرف الحق وتأخذ به، وتعرف الباطل وتتخلّى عنه.
7 – خفّة اليقين بالله تبارك وتعالى خفّة عقل، ومن كان له عقل راجح لابد أن يكون له يقين تام لكون الله عز وجل نور السماوات والأرض وهو المظهر لكل شيء ولا مظهر له سبحانه وتعالى.
8 – فقد الخوف في النفس من الله سبحانه وتعالى موتٌ للنفس، وذبول على الأقل في إنسانية الإنسان، وسقوط على مستوى شعوره الروحي، ومن لم يحزن لهذا كلّه فهو في مصيبة كبرى، وهو في فقد عظيم.
9 – فقد الخوف من الله، من عدل الله.
10 – المصدر نفسه.
11 – المصدر نفسه.
12 – المصدر نفسه.
13 – المصدر نفسه.
14 – الإمام جعفر الصادق عليه السلام.
15 – المصدر نفسه.
16 – البقرة/155، 156.
17 – المصدر ص 446.
18 – المصيبة الصغرى موت الولد، فما هي المصيبة الكبرى؟!
19 – أنت في مصيبة هي مصيبة عدم بنائك لروحك، عدم بنائك لنفسك، عدم تكميلك لذاتك، أنت لو بنيت نفسك على أساس من التربية الإسلامية، وصنعت نفسك إسلامياّاً قرآنيّاً لكنت الكفء لمواجهة المصيبة، ولكنت القادر على الوقوف بقوة أمام المصيبة، تكشف هذه الهزيمة أمام المصيبة أنك لم تصنع نفسك الصنع الإسلامي، وهذه مصيبة أكبر من مصيبة فقدك لولدك.
20 – المصدر ص 444.
21 – ميزان الحكمة ج 4 ص 22.
22 – 90/ النحل.

زر الذهاب إلى الأعلى