خطبة الجمعة رقم (248) 26 جمادى الأول 1427هـ – 23 يونيو 2006م

مواضيع الخطبة:

حديث في الهداية + بين حكومة الفقيه وغيره

هل يُمكن حين يختلف التشخيص على الموضوع أن تُحكّم كل الآراء؟ معنى ذلك أن تكون عندنا حكومات بمقدار أفراد الشعب، أو بمقدار الأحزاب، وبمقدار الفئات والجمعيات، ومعنى ذلك الفوضى والحرب وغرق السفينة.

الخطبة الأولى

الحمد لله الذي لا فضلَ إلا فضلُه، ولا نعمةَ إلا من فيضه، ولا هدى إلا من عنده، ولا توفيق إلا بيده، ولا واقيَ، ولا منجيَ، ولا دافعَ، ولا مانعَ سواه.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم تسليماً كثيراً كثيراً.
عباد الله أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله والإقبال على القرآن بالرُّوح، والتدبّر فيه بالقلب، والتلقّي منه بالعقل، وقد قال سبحانه:{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا}(1). فالقرآن معطاءٌ، والتدبّر في آياته يُورث الهداية وإن أسرار الآيات ومُوحياتها وإشاراتها وسياقاتها لتزوِّد بالكثير من زاد الروح، وزاد العقل وزاد النفس.
والراجع من تلاوة الكتاب الكريم بلا خير من خيره، ولا هدى من هداه، ولا نور من نوره لا تدبّر له، أو أنَّ على قلبه أقفالاً من ضلال الثقافات الخاطئة، والأفكار المنحرفة، ومِمَّا تحدثه قبائح الذنب في داخل الذَّات من كثيف الظلمات. أما القلب المنفتح المُقْبل على القرآن، المهيء لعطائه فلا يرجح من تلاوته بلا زاد من هدى كثير، ونور ساطع، وحكمة بالغة، ورشد شديد.
اللهم صل على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولأخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين مغفرة جزماً حتماً إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم ارزقنا تلاوة كتابك الكريم، وأذقنا حلاوته، واجعل أنسنا به، وامنُنْ علينا بهدى عظيم من هداه، ونور دائم من نوره، وعلم واسع غزير من علمه، وانتهِ بنا إلى أشرف الغايات وأحسن العواقب، ولا تسلُبنا شيئا من نعمك عندنا لدين أو دنيا، وزدنا من فضلك وبركاتك يا أكرم الأكرمين، ويا أرحم الراحمين.
أما بعد فهذا حديث في الهداية:
تقول هديتُه الطريق، وهديتُه إلى الطريق بمعنى أنّك أريته إياه أو أخذته إليه ووضعته فيه، وإذا كان لكل شيء في الكون غايةٌ فإن تزويده بالنِّظام والخصوصيات والاستعدادات المناسبة لتلك الغاية، الموصِلة إليها وضعٌ له على طريق غايته، وهداية له إليها. والله تبارك وتعالى هو الهادي كل شيء إلى غايته، فقد أعطى كل شيء استعداداته وقواه، ورسم له الطريق التكويني، ووضعه على هذا الطريق الذي يوصله إلى غايته.
هناك أقسام للهداية:
هناك هداية عامّة، وهناك هداية خاصّة للإنسان، وهي تعمّ أفراده كلّهم، وهداية خاصّة لفريق خاصٍّ من الإنسان. ولكل هداية موضوعها المناسب لها، والمناسبة له.
{رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى}(2).
فوجود كل شيء من فيض الله تبارك وتعالى، وهداية هذا الوجود إلى غايته هو أمرٌ آخر من صنع الله تبارك وتعالى، وهداية كل شيء إلى غايته هدايةً تكوينية أمرٌ سارٍ في كل الموجودات. كل موجود من الموجودات حدّدت له الحكمة الإلهية غاية مناسبة له، الإنسان وجود خاص، الحيوان وجود خاص متميّز، النبات وجود ثالث آخر له خصوصيته، كل وجود من الوجودات بخصائصه، بحجمه له غاية تتناسب مع هذه الخصوصية والحجم.
ليس من شيء يُمكن على مستوى التكوين أن يُخطئ غايته في تقدير الله وحكمته سبحانه، فإذا كانت شجرة التفّاح لها غاية أن تُنتج التفّاح وتُطعم الإنسان بهذا الطعام فإنها لا تعدل عن طريقها الذي وضعها الله سبحانه وتعالى فيه، قد زُوِّدت هذه الشجرة بكل الخصائص وكل الإمكانات والاستعدادات التي توصلها إلى هذه الغاية، وليس لعلم الإنسان أن يقع أبداً على شيء في الكون فارغٍ من الغاية، أو أنه في مسار على خلاف غايته.
{رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} نحن نعرف أن ثمّ حرف عطف للتراخي، ولفارق بين المعطوف عليه والمعطوف، هذا الفارق قد يكون زمنيّاً وقد يكون فارقا رتبيّاً، والفارق هنا بين الخلق وبين الهدى؛ هدى المخلوق إلى غايته إنما هو فارق رتبيٌّ لا زماني.
هذه الهداية العامة يمكن أن نجدها أيضا في قوله تبارك وتعالى:{اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}(3) فما من ظهور لشيء من عدمه إلى وجوده إلا بنور الله. العدم ظلمة، والوجود نور، ووجود كل شيء ونور كل شيء إنما هو من وجود الله ونوره تبارك وتعالى. وضع كل شيء على طريق غايته وإيصال كل شيء إلى غايته هو وجود ونور آخر، وهذا الوجود والنور ليس إلا من فيض الوجود الإلهي اللا متناهي في الكمال.
وأما هداية النوع الإنساني والخاصة بهذا النوع فنجدها في مثل قوله تبارك وتعالى:{إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً }(4) {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ}(5).
وعن الإمام الصادق عليه السلام:”في قوله عزّ وجل {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ….} قال: عرّفناه إمّا آخذاً وإمّا تاركاً”(6).
سبيلُ الهدى، سبيل الصلاح والفلاح والنجاة كلّ نفس أُعطيت هداها، قد أُعطيت إراءة هذا الطريق، ومع إعطائها الإراءة والهداية مُكِّنت وأُعطيت القدرة على أن تسلكه مختارة أو تتركه مختارةً كذلك.
{إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ….} هذا الشطر من الآية يتناول القضية الأولى؛ قضية إراءة الإنسان السبيل؛ سبيل الهدى والسعادة والفلاح.
إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً } ويتناول هذا الشطر من الآية القضية الثانية قضية اختيار هذا الإنسان وقدرته على أن يحدد مصيره بنفسه.
وفي تفسير الآية الكريمة وعن الصادق عليه السلام:”(أيضاً): علّمه السّبيل فإمّا آخذ فهو شاكر وإمّا تارك فهو كافر”(7).
في قوله عزّ وجلّ: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} قال: نجد الخير ونجد الشّرّ”(8) وهو عن الصادق عليه السلام.
“عن عليّ بن الحكم، عن هشام بن سالم عن أبي عبدالله عليه السّلام في قول الله تبارك وتعالى:{وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ}(9) فقال: يحول بينه وبين أن يعلم أنّ الباطل حقّ”(10).
أُري الإنسان الباطل باطلاً، وأُري الحق حقّاً، ولا تنقلب هذه الرؤية في نفس الإنسان بحيث يكون الباطل في نظره حقّاً، والحقّ يكون في نظره باطلاً إلا ما قد يعتريه من ضباب ومن غبار من ذنوبه يحول بينه وبين هذه الرؤية ربما على مستوى الشعور السطحي الانفعالي العابر، وأن تغلب اندفاعة الشر في نفسه عليه فلا يقف مع رؤية الحقيقة المغروسة في نفسه.
مستحيلٌ أن يُولد إنسانٌ وقد أراه ربُّه الحق باطلاً، والباطل حقّاً، أراه أن الكفر أحسن من الإيمان، أنّ الظلم أحسن من العدل، أن الزنا خيرٌ من الزواج، أنّ الفسق والفجور خيرٌ من طاعة الله تبارك وتعالى.
ولا يمكن لهذه الإنسانية أن تعثر على واحدٍ من بني الإنسان فضلاً عن جيل بكامله قد أتى هذا الفرد من أبنائها أو هذا الجيل برؤية مقلوبة، بحيث يرى الحق باطلا، والباطل حقّاً. فطرة الله، ولا تبديل لفطرة الله تبارك وتعالى.
“اقتدوا بهَدي نبيّكم فإنّه أفضل الهَدي، واستنّوا بسنّته فإنّها أهدى السُّنن”(11).
فهاتان هدايتان عامّتان: هداية تكوينية في نفس الإنسان، وهداية تشريعية جاء بها الرسول صلوات الله وسلامه عليه وآله أجمعين لتعمّ الإنسانية بكاملها.
وهذه هداية ثالثة تخصّ فريقاً من بني الإنسان {وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ}(12) والآيات الكريمة تقول: {هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ}(13)، {يَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ}(14)، {مَن يَعْتَصِم بِاللّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}(15)، {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا}(16) هذه هداية خاصّة فوق الهداية العامة، وعناية ينالها قسم من عباد الله تبارك وتعالى وهم المُقبلون على الله، الذين تفاعلوا وتعاملوا مع الهداية العامّة كما ينبغي.
هناك هداية عامّة، إذا أحسنا التعامل مع معطياتها صرنا بذلك مؤهّلين إلى هداية خاصّة من الله تبارك وتعالى.
ومن أساء التعامل مع معطيات الهداية العامّة فإنه بذلك لا ينال هداية خاصّة بل قد يتأهّل إلى ضلال جديد فوق ضلاله الذي حصل من سوء تعامله مع معطيات الهداية العامّة.
تجدون الفريق المتنعم بالهداية الخاصَّة قد آمن بالله، ولم يؤمن بالله من فراغ، قد آمن بالله لوجود الاستعدادات في تكوينه الفطري للإيمان بالله، لوجود الهدايات العامة في الأنفس وفي الآفاق. وجود الهدايات العامة في الأنفس والآفاق استفاد منه هذا الفريق، وآمن بالله تبارك وتعالى وتهيّأ بذلك إلى هداية جديدة، كذلك هم المتّقون الذين أنابوا لله، والذين اعتصموا بالله، والذين جاهدوا في الله تبارك وتعالى.
“من اعتصم بالله عزّ وجل هُدي”. تجدون أحاديث كثيرة في مجال التحدّث عن الهداية الخاصة وأنها من نصيب فريق خاص من الناس وهم المؤمنون.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم اهدنا هدىً لا نضل بعده أبداً، واسلُك بنا إليك، ورضّنا بما قضيت، وعافنا فيمن عافيت، واجعلنا من أحبّ خلقك لك، وأقربهم لديك، يا أكرم من كل كريم، ويا أرحم من كل رحيم.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ (4) }

الخطبة الثانية

الحمد لله الذي ما من شيء في السماوات والأرض وما بينهما إلا وهو يُسبِّح بحمدِه، ويشهد بجلالِه، وعظيمِ علمِه، وحكمتِه، وتدبيرِه، ويخضع لقدرتِه، وينقادُ لإرادته، ويستجيبُ مقهوراً لِقضائِه وقدره.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وزادهم تحية وبركة وسلاماً.
أوصيكم عباد الله ونفسي الغافلة بتقوى الله، والأخذِ بالأهمِّ، وحمل الحياة على الجدِّ، وأمرِ الدين على الحزم، فمن فرَّط في الحياة فلا بديلَ له عنها، ولا فُرصةَ بعدها، ومن استخفَّ بالدِّين لم يكن له من حياته ذُخرٌ ينجو به في آخرته، وينالُ به الكرامة عند الله. وعن الرسول صلَّى الله عليه وآله وسلم:”إنّي أخاف عليكم استخفافاً بالدّين، وبيعَ الحكم….”(17)، وعن الصادق عليه السلام:”إيّاكم والتهاونَ بأمر الله عزّ وجل، فإنّه من تهاونَ بأمر الله أهانَهُ الله يوم القيامة”(18).
اللهم اغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم لا تجعلنا ممن اتّخذ الحياة لَعِباً، ودينك هُزُواً، واجعل حياتنا في طاعتك، وعمرنا بُذلةً في سبيلك يا رحيم يا كريم.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبدالله خاتم النبيين والمرسلين، وعلى عليٍّ أمير المؤمنين وإمام المتّقين، وعلى فاطمةَ الزهراء الصّدّيقة الطاهرة المعصومة.
وعلى الأئمة الهادين المعصومين: الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن المهدي المنتظر القائم.
اللهم صل وسلم على محمد وآل محمد، وعجّل فرج وليّ أمرك القائم المنتظر، وحُفَّه بملائكتك المقرَّبين، وأيِّده بروح القدس يا رب العالمين.
عبدك وابن عبديك، الممهد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين وفّقهم لمراضيك، وسدِّد خطاهم على طريقك.
أما بعد أيها المؤمنون والمؤمنات الأعزاء فالحديث في الموضوع الآتي:
بين حكومة الفقيه وغيره:
الحُكْمُ هو منع الغير من التصرف المخالف لإرادة الشخص أو الجهة الآمرة، وهو الضبط والسيطرة وفرض الأمر والقرار على الآخرين.
والحكم دائماً يقوم على القوّة، إلّا أن القوّة مرّة تكون متبوعة بالتشريع، ومرّة تكون تابعة للتشريع. هناك حكمٌ قائم على قوّة التشريع أولاً ثمّ على القوّة الخارجية، وحكمٌ آخر يقوم على القوّة الخارجية أولاً ثمّ على قوّة التشريع.
السيطرة بالسيف تُعطي قوّة في الخارج، قوّة المال وقوّة الجند، وقوة السجون، وقوّة الشرطة تُمكِّن لحكومة فرد أو جماعة، ثم يأتي التشريع ليُسند هذه القوة التشريعية، ويكون قوةً أخرى معاضدة لها. هذا لون من الحكم.
ولونٌ آخر من الحكم يقوم أولاً على التشريع كما في حال الديموقراطيات، وكما في حال الحكم الإلهي.
الحكم الإسلامي يقوم على قوّة التشريع أولاً، وأن قوة التشريع، والتسليم لهذا التشريع من الآخرين يسمح ببناء قوة خارجية داعمة لقوة التشريع.
فالمنطلق مرّة يكون منطلقا تشريعيا، ومرة يكون منطلقا آخر من خلال القوة الخارجية، وقد يكون من لغة الغاب، والقوّة المتحصّلة عن الظّلم والانقضاض على الآخر من غير حساب للقيم الأساسية.
ثمّ إنه لا حكومة بلا في الحكم، ولا معنى لأن تكون حكومة ولا حقّ لها في الحكم، ولا السيطرة أساساً، وأن يُساوي أمرها أمر الآخرين، وأن تكون قدرتها على التصرّف فيما يتّصل بالشأن العام، بالثروة العامة، وبالوضع الأمني العام، وضع الحرب والسلم، قدرةً مشلولة تماماً، وغير معترف بها نهائياً عند المحكومين. فلا حاكم بلا حاكمية، ولا حكومة بلا حقٍّ في الحكم.
أما مساحة الحكم فهي: الشأن العام بما يشتمل عليه من حقوق وواجبات، وما يتطلّبه من حفاظ على هوية المجتمع والأمة، وما يتطلّبه من تنمية مستدامَة صالحة للإنسان وأوضاعه الكريمة ومنجزاته النافعة، وثروته المادية والمعنوية التي تتمثّل فيها قوة المجتمع أو الأمة، وتنبثق منها عزتهما وكرامتهما وسعادتهما.
ما هي الممارسة الحكومية؟
الممارسة الحكومية تتمثل في تطبيق أحكام الشأن العام المأخوذة من الدستور والقانون الوضعي أو الشرعي على موضوعاتها بعد تشخيص هذه الموضوعات، فالحكم لا بد أن يتحدّد عند الحاكم، وهذا الحكم إمّا أن يكون مصدره الشريعة وإما أن يكون مصدره مصدراً آخر من التشريعات الوضعية.
قد يختلف الخبراء؛ خبراء الدستور، وخبراء القانون مع الحاكم في معرفة الحكم، في تحديد الحكم، فأيّ رأيّ محكّم هنا؟ رأي الحاكم أو رأي المحكومين؟
حين يختلف خبراء الدستور على فهمٍ معيّن بغضّ النظر عن كون الحاكم عادلاً أو ظالماً، وأن ادّعاءه هذا الفهم المعيّن ادّعاءٌ يقوم على الفهم الصحيح وعلى الموضوعية والإخلاص، أم كان هذا الادّعاء ادّعاءاً فارغاً وله منطلقاته الشخصية الأنانية الأخرى، فإن حكومته تقتضي أن يكون المأخوذ به في مجرى العمل هو فهمه لا فهمٌ آخر.
الحاكم له مستشارون، وله خبراء، وقد يختلفون معه، ولو كان هو نفسه خبيرا دستورياً، فهل عليه أن يتنازل عن رأيه ويأخذ برأي الآخرين في الفهم، أو أنه له أن يُحكِّم رأيه؟
واضحٌ جدّاً من خلال منصب الحاكمية أن لو اختلف الخبراء مع الحاكم الذي هو خبير دستوري أيضاً في الفهم الدستوري فإن المُحكّم سيكون هو فهمه الدستوري، وكذلك لو لم يكن خبيرا دستوريا، وكان له خبراء دستوريون فإن حاكميته وبغض النظر عن ظلمه أو عدله ستعطيه أن يُحدّد الرأي من بين الرأيين المختلف عليهما بين الخبراء الدستوريين أو القانونيين.
الحاكم حين يكون فقيهاً، وحكمه على أساس الشريعة، ويختلف رأي الفقيه الآخر معه، أو حين يختلف الفقهاء على الرأي الفقهي بين فريقين، ويكون هذا الفقيه الحاكم من أحد الفريقين بأيّ رأي سيأخذ؟ بأيّ رأي يصحّ أن يتعبّد؟ لا بد أن يكون أخذه برأيه، ولن يعوّل على الرأي الآخر في الحكم.
فهذه المسألة الأولى؛ مسألة تحديد ما هو الحكم، تحمّل فهم معيّن للحكم والبناء عليه، البناء على الحكم في فهم معيّن، إنما يرجع إلى الحاكم بمقتضى حاكميته لا إلى المحكوم.
ثمّ يأتي دور تشخيص المصلحة والمفسدة، دور تشخيص الموضوع، أن الظروف الموضوعية تقضي بالحرب، أو تقضي بالسلم، تقضي باستمرار الحرب أو تستدعي الصلح والهدنة.
حين يكون اختلاف على الموضوع ما معنى الحاكمية؟ لا معنى للحاكمية إلا أن يكون المُحكَّم في تشخيص الموضوع من موضوعات الشأن، من موضوعات القضايا المتعلقة بالشعب والأمة للحاكم نفسه.
أما حين يختلف رأي الحاكم في الموضوع ورأي المحكومين، وتكون الحاكمية لرأي المحكومين فمعنى ذلك انقلاب النسبة، بأن يكون الحاكم محكوماً والمحكوم حاكماً.
هل يُمكن حين يختلف التشخيص على الموضوع أن تُحكّم كل الآراء؟ معنى ذلك أن تكون عندنا حكومات بمقدار أفراد الشعب، أو بمقدار الأحزاب، وبمقدار الفئات والجمعيات، ومعنى ذلك الفوضى والحرب وغرق السفينة.
فمن تجنّب الفوضى، وتجنّب الاحتراب في أي مجتمع من المجمتعات لا بد أن تكون هناك فئة واحدة حاكمة أو فرد واحد حاكم على اختلاف المشارب، وحاكمية هذا الفرد أو الجهة أو قيادة فرد أو جماعة لأمة أو لشعب أو لحزب لا يمكن أن تعني إلا أن يكون لهذه الجهة أو لهذا الفرد الرأي الأخير فيما هو الحكم، وفيما هو الموضوع من موضوعات الشأن العام.
والحكومة دائما أيها الأخوة فيما يُرى هي حكومة فرد معيّن، أو حكومة فرد على البدل، أو حكومة ثلاثة من تسعة على البدل، أو أربعة من اثني عشر على البدل مثلاً.
إما أن يكون الحاكم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهي حكومة فرد،طبعاً وهي ليست حكومة هوى. حكومة الفرد قد تكون حكومة هوى وقد تكون حكومة دين وحكومة من عبدٍ خاضع لتشريع إلاهي معيّن، وحكومة النبي صلى الله عليه وآله حكومة فوق الهوى، وهي حكومة دين وتقوى وعقل ومصلحة جازمة. هذه حكومة فرد معيّن.
أما حكومة الأغلبية لو كان هناك مجلس حكم، وليس فردا، فكيف سيكون الحكم؟ قد يكون الحكم حكم الأغلبية المطلقة، وأن زيادة فريق بواحد على الفريق الآخر يعني أنّ له الحكم، وأن رأيه هو الرأي الذي تتحرّك على ضوئه القوّة الخارجية، تخضع له كل الوزارات، يخضع له الجيش، تُوضع كل الإمكانات في سبيل تحقيقه وتنفيذه على من يرضى ومن لا يرضى.
حين يكون الفريق الحاكم تسعة أشخاص، فيُصوِّت خمسة في اتّجاه، ويصوّت أربعة في اتجاه آخر، معنى ذلك تعارض أربعة (نعم) مع أربعة (لا) وتساقط الأربعتين. تعارضا تساقطا، وبقي التاسع، فالحكم في الحقيقة لمن هنا؟ للصوت المفرد التاسع.
ولو كان الحكم بأغلبية الثلثين، فلنفرض أن هؤلاء تسعة، صوّت ستّةٌ في اتجاه، وصوّت ثلاثةٌ في اتّجاه، فالتّصويت ثلث في مقابل ثلثين، تساقط ثلاثة (لا) مع ثلاثة من ستة (نعم) وبقيت ثلاثة فقط، فصار الحكم لثلاثة، فحقُّ الحكم للأقلية وليس للأغلبية، وإن كانت قد تحصل غالبية ساحقة في بعض الموارد.
الحاكم الفرد إما أن يكون حاكماً هزيلاً في عقله، هزيلا في نفسيته، حاكما غير عادل، فيكون الترجيح دائما للأخس، وإما أن يكون المعصومَ، أو يكون مالك الأشتر، أو سلمان الفارسي وهو في قمّة الإيمان من بعد المعصوم عليه السلام فهنا سيكون الترجيح دائما بيد الأكفأ والأحسن.
وبالنسبة للديموقراطية لأن الترجيح لواحد على البدل، فمرة يتمثل في أشرِّ التسعة، ومرّةً يتمثّل في أكثر التسعة خيراً، وحين يكون الترجيح بالثلثين، فمرة يكون الترجيح للثلاثة المتآمرين على الأمة، وأحيانا يكون الترجيح للثلاثة المخلصين للأمة، فالترجيح بالبدل فيه مخاطرة شديدة، ومغامرة، وقد يحكم أخس الآراء، وقد يحكم أحسن الآراء.
أما حكومة الفقيه العادل الخبير الذي اختارته نخبة الفقهاء، والذي أيّده إسناد الأمة وبيعة الأمة فلا بد أن يحفّ نفسه بمستشارين وخبراء، وسينقسم هؤلاء في العادة إلى رأيين أو ثلاثة، والترجيح هنا بعد الموازنة والمقارنة والدراسة الموضوعية المتأنّية إنما سيكون بيد أكفأ الآراء وأعدل الآراء وأرجحها.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على محمد وآل محمد، اللهم اغفر لنا ولأخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم إنا نرغب إليك في دولة كريمة، تعزّ بها الإسلام وأهله، وتذل بها النفاق وأهله، وتجعلنا فيها من الدعاة إلى طاعتك، والقادة إلى سبيلك، برحمتك يا أرحم الراحمين.
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 – 24/ محمد.
2 – 50/ طه.
3 – 35/ النور.
4 – 3/ الإنسان.
5 – 10/ البلد.
6 – ميزان الحكمة ج10 ص321.
7 – المصدر نفسه.
8 – المصدر نفسه.
9 – 24/ الأنفال.
10 – المصدر ص322.
11 – المصدر نفسه.
12 – 11/ التغابن.
13 – 2/ البقرة.
14 – 27/ الرعد.
15 – 101/ آل عمران.
16 – 69/ العنكبوت.
17 – ميزان الحكمة ج 3 ص 280.
18 – المصدر نفسه.

زر الذهاب إلى الأعلى