خطبة الجمعة رقم (244) 28 ربيع الثاني 1427هـ – 26 مايو 2006م

مواضيع الخطبة:

 

نعمة النظر + كلمة للطلبة والطالبات + الدين السياسي والدين المسيّس +  المجلس العلمائي والصحافة والأحداث

أما هجوم خاص شنّه العلماء على الحكومة على مستوى الكلمة، وفي مجال السياسة فلن تجد مطلقاً، هو هجوم من طرف واحد، من طرف الحكومة، وصحافتها على العلماء ولأغراض مبيّنة معروفة، ولأن الرابطة الجماهيرية العلمائية قوّة للشعب لا تريدها الحكومة.


الخطبة الأولى

الحمد لله مالك الملك، مجري الفلك، مسخِّر الرياح، فالق الإصباح، ديَّان الدّين، ربّ العالمين، الكبير المتعال، ذي العزّ والجلال.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلَّم تسليماً كثيراً كثيراً.
أُوصيكم عباد الله ونفسي الأمَّارة بالسوء بتقوى الله، والأخذ بمعالي الأمور، والترفُّع عن سفاسفها؛ ومعالي الأمور ما أصلح النفس، وقرَّب إلى الله، وأورث الجنّة ورضوانه. وما أفسد النفسَ، وبعَّدَ عن الله، وأورث غضبه والنار فهو المهلكةُ التي لا يرتكبها عاقل، وما كان من التَّلهِّي، ومضيعة الوقت، وما قَصُر في غايته عن طلب رضوان الله فهو من الرَّخيص الدَّاني الذي تربأ عنه النفوس المؤمنة الكبيرة، ولا تقف عنده الهِمَمُ العالية البعيدة.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التوّاب الرحيم.
اللهم اجعل قصدنا إليك، وهِمَّتنا متعلِّقة برضوانك، وسعينا في سبيلك، وجهادَنا فيك، وأملنا في ما عندك. اللهم إنَّا نعوذ بك من أن تستوقفنا الدُّنيا عنك، وأن تقطعنا أمانيها عن الوصول إليك، وآمالُها عن بلوغ رضوانك.
أما بعد أيها الطيّبون والطيبات من المؤمنين والمؤمنات فالحديث في نعمة النظر:-
هذا الإنسان مجموعة نِعَمٍ من الله، كمٌّ من عطاياه السخّية تبارك وتعالى، وما نقصت منه نعمة إلا وحدثت له ثلمة، ولا يملك أحدنا خارج عطاء الله شيئاً أبداً وهو إذ يبيع من نفسه على العبيد شيئاً إنما يبيع عليهم نعمة من نعم الرب تبارك وتعالى.
أيُّ نعمة فقدها إنسان ساءت حياته، وكبُر عليه الخطب، إلا أن يرحم الله.
ماذا لو وُجِد الناس لا نظر لهم، لا قدرة على الإبصار؟! كيف سيتحرّكون؟! كيف سيزرعون؟! كيف تقوم لهم صناعة؟! كيف تُشاد لهم مدنيّة وحضارة؟! كيف يعبرون الأجواء البعيدة؟! كيف يخوضون غمار البحار؟! كيف يقطعون الفيافي؟! ما شأنهم والتجارة؟! ما شأنهم وتحضير الغذاء؟! ما شأنهم والعلاقات التي تحتاج إلى تواصل؟! ما شأنهم مع الطبابة؟! وتحضير الدواء؟! ما شأنهم مع تسيير أمور هذه الحياة؟!
الإنسانية هذه النعمة الواحدة كافٍ جدّاً لتعطيل حركة الحياة، وأن تموت هذه المدنيَّة والحضارة.
وكلّ نعمة تستوجب شكراً، والشكر أن تُوضع النعمة حيث أراد الله تبارك وتعالى، وما خلق الله تبارك وتعالى شيئاً إلا وله هدفه الكبير، ووظيفته الصحيحة.
شكر النظر أن يستعمل النظر حيث أراد الله، شكر السمع أن يستعمل السمع حيث أراد الله، شكر العقل أن يستعمل العقل حيث أراد الله تبارك وتعالى، وأي جارحة استعملها الإنسان في معصية الله فقد استعملها خارج الحكمة، وخارج الوظيفة التي حُدِّدت لها، وهنا تتحول النعمة نقمة.
وهذه وقفة مع نصوص في نعمة النظر فلنتدبّرها بإذن الله:
تقول الكلمة عن عليٍّ عليه السلام:”أَلعين بريد القلب”(1).
العين تنقل رسائل القلب إلى الخارج، ويُرسلها القلب إلى الأشياء، تستكشفها له، وتزوّده بصورها. العينُ بريد القلب حيث يوصل له رسائل الخارج، والعين بريد القلب حيث تحمل رسائله إلى الخارج؛ فتنظر بنظرةٍ خبيثة أو كريمة، فإن كان القلب خبيثاً حمل رسوله النظرة الخبيثة، وإن كان كريما حمل رسوله النظرة الكريمة.
والعين بريد القلب حيث تحمل العين رسائل الخارج من مناظر جميلة، أو مناظر قبيحة إلى القلب.
“أَلعين جاسوس القلب وبريد العقل”(2).
جاسوس القلب حيث تحمل رسائل الخارج، ووقائع الخارج، ومواصفات الخارج إلى القلب.
“القلب مصحف(3) البصر”(4).
البصر يقرأ في كتاب القلب، فيحمل ما قرأ، والبصر يكتب في صفحة القلب ما ينقله من الخارج، فانظر أين تحطُّ ببصرك لتنقل خبيثاً أو جميلاً كريما إلى القلب، ولينظر أحدنا إلى قلبه ماذا يملي على سمعه وبصره.
أيُّ قلبٍ ذاك الذي يقرأ منه بصري؟ لئن كان القلبَ الذي ربّاه الإسلام فسيقرأ منه البصر الحكمة، والفهم السديد، والرؤية الصحيحة، ولن يحمل منه إلى الخارج إلا ما هو مفيد وبنّاء. ولن يسيء البصر إلى عِرض أحد، ولا إلى سرّ أحد لو قرأ من قلب ربّاه الإسلام.
وقلبٌ تربّيه المادية الخسيسة، والكفر المنحطّ يحمل عنه البصر ما يقرأه منه، ولا يقرأ فيه إلا الخبيث، ولا تحمل أسطر قلب صنعته التربية المضادة للإسلام إلا ما هو هدّامٌ وما هو مفسد.
“العيون مصائد الشيطان”(5).
يصيد الشيطان من خلالها القلوب، يصيد الشيطان من خلالها النفوس والأرواح فيفسدها، يأخذ بالبصر إلى حيث حرّم الله، وينقل البصر عندئذ الفتنة إلى القلب فيسقط القلب في الفتنة. سلام الله عليك يا أمير المؤمنين كلّ كلمة منك تنطق بالحكمة البالغة.
“عمى البصر خيرٌ من كثير النّظر”(6).
أن يكون أحدنا أعمى البصر خيرٌ له من أن يسترسل ببصره، وأن لا يمنع عينه عما حرّم الله، صحيحٌ كل الصحّة أن فقد البصر فقد لنعمة كبرى، ويشلّ من دور الإنسان مساحةً هائلة، ولكن هذه الخسارة الكبرى هناك خسارة أكبر منها لمن تمتّع ببصره الحديد، ولكنه استعمله في غير مرضاة الله.
هناك ستعمى بصيرته، سيفسد قلبه، سيخسر إنسانيته، سينقلب إلى مصير سوء، لا يتحدد في سنة، ولا في مليون سنة، وإنما هو مصيرٌ ربما امتدَّ مع الأبد.
عن المسيح عليه السلام:”إيّاكم والنّظر إلى المحذورات فإنّها بذر الشّهوات ونبات الفسق”(7).
نظرةٌ واحدة من شخصية بنتها السنوات الطوال قد تخسر معها وزنها بالكامل، ما هي إلا أن تتنبّه الشهوة الشيطانية فتطغى على قوّة القلب، وعلى صبر الإنسان فينحدر الانحدارة الشديدة.
“من أَطلق ناظره أتعب حاضره، من تتابعت لحظاته دامت حسراته”(8).
مع إطلاق النظر يقع على مفاتن كثيرة، والمفاتن إما أن تقود إلى الحرام، وإما أن تُواجه بصبر هائل، وقد تُحدث أثراً سيئّا في النفس غير الانحراف، فتصيب صاحبها بأمراض نفسية وجسدية من الأمراض العضال.
تكثر هموم من كثرت عليه فتن الخارج ومفاتنه، ونقل له البصر من مناظر يُوحي من خلالها الشيطان ما يُوحي للنفس، والنفس هنا حين لا تجد مسلكها الحلال الذي ترضاه إلى ما يقضي شهوتها تمرض، أو أن الشيطان يغلب على النفس فتسقط، فهو إما خسارة دنيا وإما خسارة دين. أحد الاحتمالين أن تبقى الهموم تحفر في داخل النفس، وتتمكّن منها لتمرض هذه النفس المرض الطويل.
“من أَطلق ناظره أتعب حاضره، من تتابعت لحظاته دامت حسراته”.
إذا تفاقمت شهوة الحرام في النفس لنظرة الحرام قد لا يستطيع المتساهلون في النظرة أن يبلغوا ما يرضونه من الحرام. ليس كل حرام اشتهته النفس تستطيع البلوغ إليه، فكما قد يمتنع الحلال قد يمتنع الحرام، وحينئذ لا بد للنفس من أن تعاني الكثير لما تراه ضرورة من الحرام الذي لم تبلغه، ويقابل هذا “من غضّ طرفه أراح قلبه”(9).
“كلّ قول ليس لله فيه ذكر فلغو، وكلّ صمت ليس فيه فكر فسهو، وكلّ نظر ليس فيه اعتبار فلهو”(10).
هذا النظر للعلم، لقضاء حاجات الحياة المباحة، لأخذ الدروس والعبر والعظات مما تقع عليه العين من عجائب صنع الله، ومن أحداث هي آيات لله عزّ وجل في الأرض. هذا من وظيفة البصر، وكلّ بصر ونظر يُستعمل في غير هذا ومثله فهو من اللهو الذي قد يضرّ ولا ينفع.
عن الرسول الله (صلّى الله عليه وآله):”غضّوا أبصاركم ترون العجائب”(11).
غضُّ البصر يُورث الحكمة، مقاومة شهوة البصر تُربِّي حالة الإيمان في النفس، إيقاف البصر عمّا حرّم الله له جائزته عند الله، وهو أن يعمر القلب بالإيمان، وأن يَشعر بلذّة الاتصال بالله تبارك وتعالى. كل حبس للنظر عمّا حرّم الله له أثر إيجابي كبير على الذّات؛ الذات الإنسانية المعنوية، فهذا الحبس صنّاع للقلب، وللروح، وينقل الروح من مستوى إلى مستوى أكثر تقدّماً وأبعد علوّاً.
“النّظر إلى العالم عبادة، والنّظر إلى الإمام المقسط عبادة، والنّظر إلى الوالدين برأفة عبادة، والنّظر إلى الأخ تودّه في الله عزّ وجلّ عبادة”(12).
العالم الذي ربّى نفسه على أساس العلم؛ العلم بالله، العلم بأسماء الله، العلم بأحكام الله، العلم بصفات أولياء الله، العلم بما يُرضي الله تبارك وتعالى. هذا العلم حين يتحوّل إلى واقع في الشخصية فهو نور، وهو هدىً، وهو آية، ومن هنا يكون النظر إلى العالم كالمعصوم عليه السلام عبادة، لأنه سينعكس على النفس بزهادة في الدنيا، وبإشعاع روحي، وبلغة صامتة هي أبلغ من قول تُربِّي النفس.
والنظر إلى الإمام المقسط عبادة، موقع الإمامة وقيادة الناس فيه امتحان عسير، وبلوغ حالة القسط والعدل في إمامة الناس وفي الحكم بينهم وراءه روح شفّافة عالية موصولة بالله، مستغنية به، وهذه الروح لا بد أن ترسل إشعاعاتها من خلال شخصية الإمام المقسط إلى من امتدّ نظره إليه.
أما النظر إلى الوالدين فهو عبادة على أن يكون برأفة، فعبادية هذا النظر من خلال كونه رأفة، وبصفة كونه رأفة، والرأفة بالوالدين برّ، والبرّ عبادة.
والنظر إلى الأخ في الله عزّ وجل مع المودّة عبادة؛ حيث أن مودة الأخ المؤمن عبادة، فهو من حسن الخلق، وهو من الصلة المحبوبة لله تبارك وتعالى، وهو من البر بالإخوان، وبذلك يكون عبادة.
{قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ…..}(13) و{وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ…}(14) احفر وصية الله في قلبك، احفري وصية الله عزّ وجل في قلبكِ، فوصايا الله عزّ وجل لا تأتي إلا لكمال وربح ونجاح. كما أن ليس للرجل أن يرسل نظره إلى مواضع الفتنة وما حرّم الله، فالمرأة عليها هذا الأمر كذلك.
غفر الله لي ولكم.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى، محمد بن عبدالله وآله الطيبين الطاهرين. اللهم اغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التوّاب الرحيم.
يا الله يا رحمن يا رحيم أكرِمْ بِكَ ربَّاً، وألئمْ بي عبداً؛ فيا كريم ارحم عبدك اللئيم، وإخواني المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وأكرمنا بمعرفتك، وأعزّنا بطاعتك، وأسعدنا بتوفيقك، وبارك لنا الآخرة والأولى بمنِّك وجودك وكرمك يا أكرم الأكرمين، وأجود المعطين، يا من هو على كل شيء قدير.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{ إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3) }

الخطبة الثانية

الحمدُ لله ذي النِّعم السَّابغة، والآلاء الظاهرة، والآيات الساطعة، والحُجج القاطعة، والسبل الهادية، والشرائع العادلة.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خَلَقَ فسوَّى، وقدّر فهدى، وأمات وأحيا، وعلى العرش استوى، وأشهدُ أنّ محمداً عبده ورسوله أدَّى الأمانةَ، وبلّغ الرسالة، وعادى في الله القريب، وقرَّب من أجله البعيد، ولم تأخذه في الله لومة لائم. صلَّى الله عليه وآله صلاة كثيرة زاكية متواصلة متنامية.
علينا عباد الله بتقوى الله {… وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً}(15) كما في الكتاب العزيز، وهل من ضيق يعسر على الله عزّ وجل أن يجعل بعده سَعة؟! وهل من أبواب مغلقة يضيق عليه سبحانه أن يجعل منها مخرجاً؟! وهل من رَتْقٍ يعزُّ عليه تبارك وتعالى أن يجعل منه فَرجاً؟!
عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم):”لو أنَّ السماوات والأرض كانتا رتقاً على عبد(16) ثمّ اتّقى الله لجعل الله له منهما فرجاً ومخرجاً”(17) فلا يطلبن أحدٌ منّا مخرجاً من ضيق بباطل، ولا يكونن سعيه للخير بالشر، ولا يتوسل برضا مخلوق فيه غضب الخالق لقضاء حاجة أو التخلّص من ورطة، وهل يملك أحدٌ من الخلق فرجاً لا يملكه الخالق؟! وقدرةً من غير قدرته؟!
وكم من مضائق تواجه الإنسان مما نعرف ومما لا نعرف؟! ولا مالك لمفاتح الأمر كلِّه إلا الله. الله عزّ وجل يجعل لمن اتّقى من الهمّ والغمّ، والفقر والخوف، والحزن والمرض، ومن شبهات الدنيا، وغمرات الموت، وشدائد القيامة، وأهوال البرزخ، ومن كلِّ ضيق وصعب وهول وشدّة فرجاً ومخرجاً. ألا فعلينا بالتَّقوى، ألا فهنيئاً لمن اتّقى.
اللهم اغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين. اللهم اجعل إليك فزعنا، وعليك توكّلنا، وفي رحمتك طمعنا، وبك ثقتنا، وإلى جوارك منقلبنا يا رحيم يا كريم.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبدالله خاتم النبيين والمرسلين، وعلى علي أمير المؤمنين وإمام المتّقين، وعلى فاطمة الزهراء الصديقة الطاهرة المعصومة.
وعلى الأئمة الهادين المعصومين: الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن المهدي المنتظر القائم.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على محمد وآل محمد، وعجّل فرج ولي أمرك القائم المنتظر، وحُفَّه بملائكتك المقرَّبين، وأيِّده بروح القدس يا رب العالمين.
اللهم عبدك وابن عبديك، الموالي له، الممهد لدولته، المجاهد في سبيله، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين وفّقهم لمراضيك، وسدِّد خطاهم على طريقك.
أما بعد أيها الأعزاء من المؤمنين والمؤمنات فهذه بعض كلمات:
أولاً: كلمة للطلاب والطالبات:-
هي كلمة لكل الأعمار؛ أعمار طلابنا وطالباتنا التي نرجو أن تكون أعمارا مباركة عامرة بالإيمان، لكل مستوياتهم، وكذلك لأولياء أمورهم.
إسلامك، وإيمانك يدعوك للمسابقة في كل علم نافع لك ولأمتك. أصبح العلم حاجة مادية ملحّة حتى على مستوى المعاش للشخص، وللأسرة، وإنَّ الدين ليحتضن العلم، ويدعو إليه سواء كان له مردود ماديٌّ مباشر على الشخص أو لم يكن فذلك من أجل بناء الأوطان والأمة.
ونحن نعرف أن علم الدين أشرف علم، وأخلد علم أثراً طيباً نافعاً، إلا أن ذلك لا يُقلِّل من أهمية العلوم الأخرى.
كل العلوم النافعة الأخرى علوم مهمّة في نفسها، وذات قدر عالٍ، وكون علم الدين أشرف العلوم لا يقلِّل من أهمية تلك العلوم في نفسها، ولا يُعفي الإنسان المسلم من طلب تلك العلوم قوّة لذاته، قوة لوطنه، قوة لأمته، قوة للإنسانية.
ولا تكون قويّاً إلا بأن تكون سبّاقا في العلوم النافعة، وهو سبق تحتاجه في تقدُّمك المعاشي، تحتاجه في خدمة أسرتك، تحتاجه في خدمة وطنك، تحتاجه من أجل استقلالية أمتك وقوتها وعزّتها، ومن أجل دين الله.
إن الموقع الديني في الأرض يحتاج إلى قوّة ومن أظهر أسباب القوة هو العلم فلا بد للإنسان المسلم من طلب كل علم نافع والحرص عليه.
فلا يسعك عزيزي من منطلق إسلامك وإيمانك إلا أن تطلب القوة لأمتك ودينك، ولا سبيل لهذه القوة إلا بطلب العلم بجدٍّ واجتهاد ومثابرة وإخلاص.
فلتسابق الآخرين، وعليك بذل الجهد في أن تنال الدرجات العلمية المتقدِّمة، لكن من بعد أن تظهر النتائج لا تأسف. أمران مطلوبان: من الطالب والطالبة، ومن وليّ الأمر؛ مطلوب من ولي الأمر أن يدفع ولده في اتجاه الجد والاجتهاد والمثابرة، ومطلوب من الطالب والطالبة أن يبذلا ما في الوسع من أجل التقدّم العلمي، ثمّ ومن بعد أن تظهر نتائج الامتحان لا يُناسب الإنسان المسلم أن ينهار، وليس من الصالح أن يحمل أسف الماضي ما دام قد بذل الجهد، وسعى السعي المناسب، وليس من حق ولي الأمر أن يؤذي بنته أو ولده بالتلويم والعتب لكون النتيجة لم تأت كما يشتهي.
فلا تعنيفَ للنفس، ولا من ولي الأمر، ولا لوم بعد النتيجة أيّاً كانت لمن جدّ واجتهد.
ثانياً: الدين السياسي والدين المسيّس:
إذا كانت النصرانية كما صوّر النصارى دينا ليس بسياسي، فالإسلام دين سياسي بلا إشكال، شاهد ذلك دولة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهي دولة استمرّت بعده بصورة وأخرى.
وهناك إسلام مسيّس، الإسلام السياسي عانى من مرحلتين: مرحلة التعطيل لدوره السياسي، ثمّ جاءت مرحلة تسييس الدين واستخدام الدين لأغراض السياسة الزمنية.
كان أن فُصِلَ الدين عن السياسة، وعطّل الدور السياسي للإسلام وهي جناية السياسة الزمنية، ثمّ ترقّت هذه السياسة في محاربتها للدين، وفي هزئها بالدّين فأرادت أن تمتطي الدين، وأن تسخّره لأغراضها حتى أن أمريكا صارت في اتجاه استخدام المسجد في البلاد الإسلامية لصالح ثقافتها، ولصالح سياستها، فضلا عن الحكومات المحلّية في البلاد الإسلامية التي قد تتجه اتجاها علمانيا صارخا، أو اتجاها مزيجا من ألف مكوِّن من متضادات ومتناقضات.
نحن نطرح دائماً أن الإسلام سياسي، سواء أمكنه ممارسة السياسة بالصورة الكاملة، أو لم يمكنه ذلك، وإذا غُيِّب الإسلام على مستوى الواقع العملي فلا يصحّ أيضاً أن يُغيَّب على مستوى النظرية، وعلى مستوى الرؤية، والمطلوب الآن للسياسة أن ينتهي الإسلام حتى نظريّاً، وأن تؤمن كل الأجيال المسلمة بأن الإسلام ليس له شأنٌ في السياسة.
الإشراف على المسجد، الهيمنة عليه، على إمام المسجد، على الحسينية وخطيبها، على العملية التبليغية كلّها، على الحوزة في الداخل والخارج كانت كلّ هذه الوحدات داخلة في مشروع المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية في طرحه الأوّل، وبصورته السابقة.
وما هي الأداة التي اعتمدها المجلس الأعلى في ذلك الوقت؟
هي أداة المال والرواتب والتوظيف.
ماذا جدّ في الأمر؟
ما جدّ في هذا الأمر أن فُتِّت المشروع وجُزِّء على مراحل في التطبيق، فاختِير لتوظيف أئمة الجماعة والجمعة، ودفع رواتب لأئمة الجماعة والجمعة أن يكون، والوحدة الأولى من وحدات مشروع المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية على مستوى التطبيق، على أنّ إسناد هذا الأمر انتقل من يد المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية إلى وزارة الشؤون الإسلامية.
تغيّر أمران: كان المشروع مطروحاً بجملته للتطبيق دفعة واحدة، والجديد من هذه الحيثية هو أن المشروع جُزِّء ليكون تطبيقه أخفّ على الناس، وليسلم من المواجهة من قبل الرأي العام المؤمن.
الأمر الآخر هو أن المشروع كان محتضناً من المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية وصار الآن محتضناً من وزارة الشؤون الإسلامية.
فنحن أمام المشروع الأول وأمام تطبيقات متتالية لذلك المشروع حتّى يُستولى على المسجد والحسينية والحوزة وكلّ معالم الدين وأنشطته.
يبقى أن نجاح المشروع معتمد على الموقف الإرادي للعلماء والجمهور المؤمن. هذا المشروع لا يكون تطبيقه عن طريق الشرطة وعن طريق الجند، تطبيق هذا المشروع يكون عن طريق استجابة إرادية من العلماء والجمهور، وإفشال المشروع لا يحتاج إلى حرب، ولا إلى مواجهات ساخنة، وإنما يحتاج إلى شيء واحد يسير وهو عدم التعاون مع المشروع، لا من العلماء ولا من الجمهور المؤمن.
وهناك حربٌ كلامية ومشاريعية في الساحة، من يشنُّها؟
الأحوال الشخصية هجوم حكومي على الدين والمتديّنين، المجلس الأعلى سابقا هجوم حكومي على الدين والمتديّنين، كادر الأئمة اليوم هجوم على الدين والمتديّنين، ما يجري من مفاسد باسم السياحة هو هجوم آخر على الدين والمتديّنين، وتستطيع أن تُعدِّد جبهات كثيرة مفتوحة من السياسة على الدين والمتديّنين، وأين الهجوم العلمائي؟
العلماء لم يُوجِّهوا هجوما واحدا لحدّ الآن ضد السياسة، العلماء لهم مبادرة هادئة تتعلق بالأوقاف، وقد سبقها تفاهم شفهيٌّ ومع ذلك قد أُهملت كل الإهمال.
والعلماء يتحدّثون في الملفات الساخنة السياسية التي تخنق حياة المواطنين وحريتهم كما يتحدث كل مواطن.
أما هجوم خاص شنّه العلماء على الحكومة على مستوى الكلمة، وفي مجال السياسة فلن تجد مطلقاً، هو هجوم من طرف واحد، من طرف الحكومة، وصحافتها على العلماء ولأغراض مبيّنة معروفة، ولأن الرابطة الجماهيرية العلمائية قوّة للشعب لا تريدها الحكومة(18).
ثالثاً: المجلس العلمائي والصحافة والأحداث:
الأحرى بالصحافة بدل اختلاق معركة وهمية بعد أخرى لإيجاد الفتنة، وشنّ الهجوم على المجلس العلمائي أو غيره من العلماء… الأحرى بهذه الصحافة أن تتحدّث عن أخطاء السياسة، أن تتحدث في الملفات الساخنة، أن تتحدث عن المعتقلين والمسجونين، عن نهب الأراضي، عن التجنيس الظالم، عن المأساة الدستورية، عن الظلم الفاحش في تقسيم الدوائر الانتخابية، الأولى بالصحافة والأجدر بها أن تتشاغل بمعالجة هموم الناس لا أن تزرع الفتنة في الأرض.
أما المجلس العلمائي فلا يديره أطفال ينجرّون وراء أي معركة يخطِّط لها الآخرون، وليست العقول التي تدير المجلس عقولاً خفيفة تُستدرج لأي معركة لا يقدِّر المجلس أن يخوضها.
ثمّ إن المجلس لن يكون إن شاء الله في يوم من الأيام شيطاناً ناطقاً، ولا شيطاناً أخرس(19).
ثمّ إنّ المجلس لا يمكن أن يُفرِّط بوحدة المؤمنين ما استطاع إلى ذلك سبيلا من سبل الحق والدين. وإنّه ليأخذ على نفسه أن يتعامل مع جميع الأطراف باحترام ولكن في مسؤولية ومبدأية، وتقيُّدٍ بالحكم الشرعي بعيداً عن اللغة الهابطة وسوء النيّة، والتشنّجات الانفعالية والله هو العاصم والهادي إلى سواء السبيل {… وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً}(20) والمجلس لا يشتري رضا المخلوقين بغضب الخالق.
وإنّ تعاملنا مع مشاريع الحكومة يقوم على التمييز بين هذه المشاريع. هناك مشروع صالح يقف منه المجلس العلمائي الموقف الإيجابي المؤيد والمناصر، وهناك مشروع فاسد مضرّ يقف منه المجلس العلمائي موقف المندِّد والمعارض والمواجه ما استطاع، ليس عندنا حكم واحد مسبّق نتعامل به مع كل مشاريع الحكومة، نقف أمام كل مشروع وحده لنقيّم نفعه وضره، نقيّم صلاحه وفساده لنكون مع ما كان صالحا، وضدّ ما كان فاسداً.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم اجعلنا من أهل الصلاح الدّاعين إليه، المتمسّكين بالحق، الذّائدين عنه، الآخذين بالعدل المنادين به، المستضيئين بالهدى الناشرين له، المتحلّين بالدين المبلّغين له.
اللهم إنا نعوذ بك من أن نَظْلِمَ أو نُظْلَم، أو نَضِلّ أو يُضَلّ بنا، أو أن نجهل أو يُجهَل علينا، يا عاصم من استعصم به، وكافي من استكفاه، يا الله يا قويّ يا عزيز يا رحمن يا رحيم.
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}(21)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 – ميزان الحكمة ج10 ص70.
2 – المصدر نفسه ج10 ص70. (عن علي عليه السلام).
3 – (أي ما يتناوله البصر يحفظ في القلب كأنّه يكتب فيه/ مح). (تعليق المصدر)
4 – المصدر نفسه ج10 ص70. (عن علي عليه السلام).
5 – المصدر نفسه ج10 ص70. (عن علي عليه السلام).
6 – المصدر نفسه ج10 ص 71. (عن علي عليه السلام).
7 – المصدر نفسه ج10 ص 71.
8 – المصدر نفسه ج10 ص 71. (عن علي عليه السلام).
9 – المصدر نفسه ج10 ص 72. (عن علي عليه السلام).
10 – المصدر نفسه ج10 ص 72. (عن علي عليه السلام).
11 – ميزان الحكمة ج10 ص 72.
12 – ميزان الحكمة ج10 ص 73. (عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم).
13 – 30/ النور.
14 – 31/ النور.
15 – 2/ الطلاق.
16 – كلُّها مسدودة، كلّ المنافذ مغلقة.
17 – ميزان الحكمة ج10 ص634.
18 – هتاف جموع المصلين: معكم معكم يا علماء.
19 – هتاف جموع المصلين: (ولائي ولائي للمجلس العلمائي) و(سير يا المجلس كل الشعب وياك).
20 – 72/ الفرقان.
21 – 90/ النحل.

 

زر الذهاب إلى الأعلى