خطبة الجمعة رقم (242) 14 ربيع الثاني 1427هـ – 12 مايو 2006م

مواضيع الخطبة:

 

وصايا من رسول البرايا + إمّا حلال وإما حرام +  سياسة أنا والآخر.. أنا أو الآخر +  صحافة متخصِّصة

 أيها المسلمون، سنّة وشيعة، قفوا صفا واحدا في وجه أي قلم، أي لسان يُوقد نار الفتنة، شيعيّاً كان صاحب القلم واللسان أو سنّياً قبل أن تحترق الأوطان وقبل أن تحلّ الكارثة.


الخطبة الأولى

الحمد لله الذي لا يعزبُ عن علمه مثقال ذرّة في السماوات والأرض ولا أصغرَ من ذلك ولا أكبرَ إلا في كتابٍ مبين. وكيف يخفى عليه شيءٌ، والأشياء كلُّها من خلقه وتدبيره؟! وكيف يغيب عنه حادث، والحوادث كلُّها بقضائه وتقديره؟! شاهد غير مشهود، وعالم غير معلوم، هو الظَّاهر والباطن، والقريب الذي لا يُدرك، والبعيد الذي لا يُنكر، تبارك الله رب العالمين.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلّم تسليماً كثيراً كثيراً.
أوصيكم عباد الله ونفسي الغافلةَ بتقوى الله، والاهتمام بأمر الدّين علماً وعملاً، فما للإنسان غِنىً عن الدين الحقّ فرداً ومجتمعاً في دنيا أو آخرة، وبه صلاح الأمر كلِّه، وإذا صحّ الدين صحّت الدنيا، وإن يفسُدْ تفسُدْ، ويكثر اضطرابها وبغيُها، وتؤول إلى خراب. ومن ضلّ عن دين الله كان في الآخرة من الخاسرين.
نعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيّئات أعمالنا، ومن كيد الشيطان الرجيم.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، ولوالدينا وأرحامنا وجيراننا وقراباتنا وأصدقائنا ومن أحسن إلينا من المؤمنين والمؤمنات أجمعين إحساناً خاصاً.
أعذنا ربّنا من مضّلات الفتن، ومن سوء الزمن، وشرّ المحن، ومن شقاء الآخرة والأولى، وأكرمنا بكرامتك يا أكرم الأكرمين، ويا أرحم الراحمين.
أما بعد أيها الأخوة والأخوات في الإيمان فهذا حديث في ضوء وصايا مما نُقل عن رسول الله صلّى الله عليه وآله:
“عن سعد الأنصاريّ قال:… إنّ رجلاً من الأنصار قال: يا رسول الله أوصني وأوجز؟
قال: عليك باليأس ممّا في أيدي النّاس، وإيّاك والطّمع فإنّه الفقر الحاضر، وصلّ صلاتك وأنت مودّع، وإيّاك وما يُعتذر منه”(1).
كلّما طمعت النفس في ما في أيدي الناس كلّما ذلّت لهم، وكلّما انبنت ثقة واهمةٌ في المخلوق انهدمت الثقة الحقيقية في الخالق، وقُرْبٌ من المخلوقين، وثقة في المخلوقين لا تُغني شيئاً مع بُعدٍ عن الله، وانهدام ثقة العبد في ربِّه المحتاج إليه حقّاً والذي لا منقذ له منه أبداً.
اليأس مما في أيدي الناس يجعلك عزيزاً، ولا يثلم من هيبتك، واليأس مما في أيدي الناس لا بد أن ينبني على ثقة بما في يد الله تبارك وتعالى. ومن أحسن الظن في الله كان الله عند حسن ظنّه.
إن الإنسان ليهدم نفسه اجتماعياً، وتفترسه العيون بهزءٍ واحتقار حين تدخله الذلّة للناس، والطمع في ما في أيديهم دائما مُذلّ دائماً.
وهناك أمرٌ آخر هدّام فتّاك للنفس ألا وهو الطمع في الدنيا من أي وجه كان، ذلك لأن الطمع لا يقوم معه شعور مطلقا بالغنى، ويبقى الجوع للدنيا مستعرا دائماً حتّى ليكثر ما في اليد، أما هو في النفس فيبقى القليل. وحينئذ يعيش الغنيُّ مالاً الفقير نفساً بطمعه محنة الفقراء، وشقاء الفقراء.
ثم إن هذا الطمع ليدفع للحرام، والسلب والنّهب، وارتكاب المهانات من أجل إشباع النفس، ثمّ إنها لا تشبع.
إنه كما تقول الكلمة عن رسول الله صلى الله عليه وآله لفقر حاضر، وحضوره حضور دائم في النفس، فإذا كان فقر اليد قد يغيب عن النفس سلطانه، وأثره السيء فإنّ فقر النفس وهو قائم فيها دائماً يكون مشهوداً لها، فصاحب الملايين، وهو يعيش الفقر في نفسه، لا تدفع عنه ملايينه شقاءه، وصاحب كوخٍ غنيّ النفس قد قطع طمعه في الدنيا، واكتفى بما يسدُّ جوعته فيها تجده العزيز الكريم الذي لا تستطيع الدنيا أن تشتريه بأيّ ثمن.
“وصلّ صلاتك وأنت مودّع” الواو للحال، الجملة وأنت مودّع جملة حالية، صلّ صلاتك وأنت تعيش هذا الشعور؛ شعور أنها الصلاة الأخيرة التي تواجه بعدها ربّك، وتريد أن تكون آخر زادك في الدنيا.
وإن صلاة مثل هذه لصلاة تغنى بحضور القلب، وبالتوجّه الكامل لله، وبإخلاص النية له، وبعدم الاشتغال بأحاسيس الدنيا ومشاعرها. إنها صلاة ترفع الدرجة بيقين.
“وإيّاك وما يُعتذر منه” وأنت في تعاملٍ أسري، أو في تعامل اجتماعي محدود الدائرة، أو في تعامل اجتماعي واسع الدائرة، في حقل السياسة، في حقل الاجتماع، في أي حقل من الحقول إياك أن تقدم على فعل أو كلمة تقدِّر أنك ستضطر للاعتذار منها.
لو وعيتُ لما تكلّمت الكلمة الشجاعة إذا كنتُ أُقدِّر لنفسي أنها لا تتحمّل تبعتها، ولما أخذتُ بالناس إلى موقف صعب أكون أول المتراجعين عنه، هكذا ينبغي لكل واحدٍ منّا أن لا يقدم على شيء إلا وقد وطّن نفسه على هذا الشيء، وأن لا يقول كلمة إلا بعد أن يدرس تبعاتها، ويجد من نفسه الصبر على هذه التبعات، هكذا يعلّمنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
“قال: أسود بن أصرم: يا رسول الله أوصني؟ فقال: أتملك يدك؟ قلت: نعم، قال فتملك لسانَك؟ قلت: نعم، قال صلّى الله عليه وآله: فلا تبسط يدك إلّا إلى خير، ولا تقل بلسانك إلّا معروفاً”(2).
الملك التكويني من الشخص ليده وبدرجة من الدرجات حاصل لكل واحد منا، فيدي عضو مني، ولساني عضو مني، ولي سلطان تكويني عليه بفيض من الله تبارك وتعالى. وتبقى ملكية أخرى ملكية الإرادة، وتحكّم الإرادة في اليد وفي اللسان وفي كل جارحة من الجوارح. وأن يكون سلطان المرء على جوارحه لعقله ودينه وإرادته النابعة من العقل والدين هذا هو محل التحدي، وهذا المحك والامتحان.
عظيم جدّا أن يملك أحدنا يده ولسانه فلا يضعهما وغيرهما من الجوارح إلا في الموضع الذي أراد الله تبارك وتعالى، ومن هو المسلم؟ المسلم هو الذي لا يبسط يده إلا إلى خير، ولا يقول بلسانه إلا معروفاً.
وأعني بالمسلم هنا المسلم المتأدّب بأدب الإسلام، المتخلّق بأخلاقه، الذي جاءت شخصيته شخصية إسلامية بحق.
“قال رجل للنبي صلّى الله عليه وآله: أوصني؟ فقال صلّى الله عليه وآله: احفظ لسانك، ثمّ قال: يا رسول الله أوصني؟(3) فقال: ويحك وهل يكبّ النّاس على مناخرهم في النّار إلا حصائد ألسنتهم”(4).
الكلمات الفضولية والعبثية وما يضرّ بالشخص وغيره يُغالب ألسنة العقلاء والحكماء، فكيف بألسنة عامة الناس، وحصائد الألسن من غيبة وبهتان، وكلمات عدوانية، ومفرّقة ومشتتة لصفوف المؤمنين هي أكثر ما يكبّ الناس على مناخرهم في النار.
الكلمة يسيرة، إذا كانت السرقة تحتاج إلى مؤونة، وقبائح أخرى تحتاج إلى سعي، وتجهيزات ومقدمات، فإن الكلمة القاتلة لا تحتاج إلى مؤونة. وييسر على النّاس كل الناس أن يقوللوا الكلمة الضّارة. لذلك تزيد حصائد الألسن من أهل النار، وكأن أهل النار كلّهم إنما قادهم إلى هذا المصير الأسود ما حصدت ألسنتهم من سوء.
عن الرسول الله صلى الله عليه وآله:”يا أبا ذرّ اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحّتك قبل سقمك وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك”(5).
هذه هي الأرصدة الضخمة التي بيد الإنسان، هذا هو رأس المال الكبير وهو فانٍ ولا يبقى، وفرصته منقضية، شبابٌ يمكث وقتا ما ثمّ يفارق، سنوات ولا يلتفت المرء إلا وقد ولّى شبابه، والشباب عنوان القوّة، والإنتاج والفاعلية. وشابٌّ على صحة تامة يدخله المرض فيخرجه من قوّته ونشاطه وحيويته.
اليوم غنى وغدا فقر، وأكبر الأغنياء معرّضٌ لأن يعقب غناه فقر، والأمر كلّه بيد الله سبحانه وتعالى.
فرص الفراغ التي تتيح للإنسان أن يعبد الله تبارك وتعالى عبادة مكثّفة، وأن يقوم بدور اجتماعي كبير نافع، فرص عابرة.
والحياة وهي الرصيد أبو كل الأرصدة ورأس كل الأرصدة الإنسان مهدّد فيها دائما، هذا الرصيد لا نملك بقاءه لحظة، فانظر ماذا تفعل بهذه الأرصدة قبل فوات الأوان.
“إنّ رجلاً أتى النّبيّ صلّى الله عليه وآله فقال له: أوصني يا رسول الله فقال له رسول الله صلّى الله عليه وآله فهل أنت مستوص إن أنا أوصيتك؟(6) – حتّى قال له ذلك ثلاثاً(7) وفي كلّها يقول له الرّجل: نعم يا رسول الله – فقال له رسول الله صلّى الله عليه وآله: فإنّي أوصيك إذا أنت هممت بأمر فتدبّر عاقبته، فإن يك رشداً فامضه، وإن يك غيّاً فانته عنه”(8).
خطواتنا ومواقفنا وكلماتنا إما أن تكون ناتجة عن عقل ودين، وإما أن تكون ناتجة عن عاطفة وانفعال؛ انفعال بشهوة داخلية، بإغراء خارجي، بوعد، بوعيد.
المواقف الانفعالية والاسترسال في المواقف، وتغييب العقل نتيجته السوء، وحيث يقوم الموقف على أرضية من عقل وعلى أرضية من دين وأرضية من تفكير في العاقبة، وما تنتجه الكلمة، حين تنطلق المواقف عن المقارنات والموازنات الخارجية الموضوعية مع الأخذ بمبادئ الدين، وأحكام الشريعة ومقتضى الحكمة حينئذ تأتي المواقف قويّة وثابتة ومؤدية إلى نتائج كريمة.
“يا عليّ! إنّ من اليقين أن لا ترضي أحداً بسخط الله…”(9).
قاعدة دعونا نتلقاها من رسول الله صلى الله عليه وآله، نفعّلها في حياتنا، نبني عليها مواقفنا، علاقاتنا، صداقاتنا، عداواتنا، أن لا نرضي أحداً بسخط الله.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين مغفرة جزما حتماً إنك التواب الرحيم.
اللهم أصدق توحيدنا لك، وبلّغنا درجة اليقين، واجعلنا من المتقين، واحشرنا في الصالحين، وأهنئ دنيانا، وارفع منزلتنا يوم الدين، برحمتك يا أرحم الراحمين.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ (4)}

الخطبة الثانية

الحمد لله الموجود بلا موجِد، وكل موجودٍ من إيجاده، الحيّ بلا محيي وكلُّ حيٍّ بإحيائه، العليم بلا علم من غيره، وعلمُ كل ذي علم سواه بتعليمه، الغنيّ عن كل شيء، ولا غنى لشيء عنه، القادرِ بلا إقدار، وقدرةُ كلِّ ذي قدرة بإقداره، إنه المبدئ المعيد، والوارث الباقي، والولي الحميد.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وزادهم تحية وبركة وسلاماً.
عباد الله علينا بتقوى الله والنظر في عواقب الأمور، وأحقُّ عاقبةٍ بالنظر عاقبة الحياة، ويومُ المنقلب، فما ربح امرئٌ ساءَ منقلبه، وخَسِرَ آخرته، وكانت عاقبتُه النار. وتهونُ الخسارة، ويخفُّ الرزء إذا كانت العاقبة الجنّة، والمنتهى الرضوان.
فلنعمل عباد الله ليومٍ لا تعظم مع ربحه خسارة، ولا تنفع مع خسارته أرباح هذه الحياة. قوله تبارك وتعالى:{… وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ }(10)، وإنَّ غداً لناظره لقريب، ومن قدَّم خيراً وجده، ومن قدّم شرّاً حصده.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التوّاب الكريم.
اللهم لا تجعلنا ممن يبيع الآخرة بالأولى، ويطلب رضا غيرِك برضاك، ويقدِّمُ وعده على وعدِك، ووعيدَه على وعيدك، أو تقفُ به الآمال دونك، أو لا تعظم خشيته منك. يا أعظم من كل عظيم املأ قلوبنا بالهيبة التّامَّةِ من عظمتك، والخوف من جبروتك، واجعل جمالك شاغلاً لنا عن كل جمال، وجلالك صارفاً لنا عن كل جلال برحمتك ومنِّك يا كريم يا رحيم.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبدالله خاتم النبيين والمرسلين الصادق الأمين، وعلى علي أمير المؤمنين وإمام المتّقين، وعلى فاطمة الزهراء الصديقة الطاهرة المعصومة.
وعلى الأئمة الهادين المعصومين: الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن القائم المنتظر المهدي.
اللهم صل على محمد وآل محمد، وعجّل فرج ولي أمرك القائم المنتظر، وحُفَّه بملائكتك المقرَّبين، وأيده بروح القدس يا رب العالمين.
عبدك وابن عبديك، الموالي له، الممهد لدولته، المجاهد في سبيله، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين وفّقهم لمراضيك، وسدد خطاهم على طريقك يا كريم.
أما بعد أيها الكرام من المؤمنين والمؤمنات فهذه بعض كلمات:-
أولاً: إمَّا حلال وإمَّا حرام:
لو سألت السياسة عن تدخّل المسجد في السياسة أهو من الحلال أم من الحرام؟ فلن يأتيك جواب واحد ثابت.
السياسة حرام على المسجد حين تناقش السياسة، وحين تحاول كشف عورات السياسة، وتصحيح مسار السياسة، والسياسة حلال على المسجد بل واجب على المسجد حين تكون في مماشاة السياسة، ولتحقيق مآرب السياسة. كل يومٍ نسمع كلمات متناقضة؛ أحياناً يُطالب المسجد بدور يشارك الأمن في وظيفته، ويساعد تلك الوزارة على وظيفتها، ويشيد بالموقف بالسياسي المعيّن، ثم تأتي كلمات تُحرِّم على المسجد أن يتدخّل في السياسة.
ومعنى لا تدخّل للمسجد في السياسة أن يتوقّف المسجد عن دوره نهائياً، وأن ينسحب من الساحة بالكامل، لماذا؟ لأن السياسة لم تُبقِ شبرا ولا قيد أنملة إلا وتسيطر عليه، أي شيء لا تتدخل فيه السياسة حتى تبقى مساحة للمسجد مفصولة عن السياسة؟! أي شأن من شؤون الإنسان بقي خارج إطار السياسة، ولا تتحكم فيه السياسة؟ كل مساحة الحياة قد سيطرت عليها السياسة، فحين يُطلب من مواطن، أو يُطلب من المسجد أن لا يتدخل في السياسة فمعنى ذلك أن عليه أن يموت.
أما وظيفة المسجد في الشريعة فهي وظيفة إصلاح وبناء، وأمر بمعروف، ونهي عن منكر، ودعوة للخير، ووقوف في وجه الباطل.
هذه هي وظيفة المسجد التي تلقّاها المسلمون من رسول الله صلى الله عليه وآله، والدور المفعّل الفاعل في كل مساحة الحياة هو الدور الطبيعي للمسجد في الإسلام.
ثانياً: سياسة أنا والآخر.. أنا أو الآخر:
أنا والآخر اعتراف بوجود الآخر، بمصلحته، بحقوقه، بكرامته، بشراكته في المسيرة، وفي رسم المصير.
حكومة تنطلق من سياسة أنا والشعب، أنا وهذه الفئة وتلك الفئة، هذه حكومة تعترف بشعبها، بمصلحته، بحقوقه، بكرامته، بشراكته، بدوره الفاعل. تقول أن عليه واجبات، وله حقوقاً ثابتة.
المنطلق لهذه السياسة قد يكون النظرة الخلقية للإنسان، والنظر إلى الوحدة الإيمانية، الوحدة الوطنية، الوحدة الإنسانية. يمكن أن تقوم هذه السياسة على الشعور بالوحدة والاشتراك في إطار معيّن ولو كان الإطار الإنساني. كما يمكن أن يكون المنطلق لهذه السياسة هو النظرة الواقعية، وأن السفينة الواحدة لا يصلح لها أصلاً أن يلغي أحد الطرفين وجود الآخر فيها، وأن هذا لا بد أن يخلق مشكلة، ويكون تدافع في هذه الحالة من أجل الحياة. لهذه النظرة الواقعية تتجه بعض الحكومات إلى سياسة أنا والآخر
هناك سياسة خطيرة أخرى هي سياسة أنا أو الآخر، وهي سياسة تقوم على الشعور بتناقض الوجود، وجودك ووجود الآخر، وتناقض المصالح، وتناقض الحقوق.
والمنطلق لهذه السياسة النظرة الأنانية التسلّطية العدائية الاستكبارية. لا يقف وراء هذه السياسة إلا نظرة من هذا النوع.
وما هو المترشّح من هذه السياسة؟ استضعاف الآخر، إعاقة حركته الإيجابية، تجفيف منابع القوة عنده، تهميشه وإقصاؤه واستغلاله واستعباده.
السياسة الأولى لها مترشّح، والسياسة الثانية لها مترشّح، وكل مترشّح من جنس السياسة التي يقوم عليها.
فالمترشح الأول اعتراف متبادل، وتنسيق، وتعاون، وتفاهم، وحوار، وتقاسم حقوق وواجبات. والمترشح الثاني هو الاستضعاف والإعاقة وتجفيف المنابع، والإقصاء، والاستغلال، والاستعباد.
ليت البلاد الإسلامية والبلاد العربية تكثر فيها سياسة أنا والآخر، وتخفُّ سياسة أنا أو الآخر.
ثالثاً: صحافة متخصِّصة:
في البحرين صحافة متخصِّصة في مساحة كبيرة منها – وللأسف الشديد – في شتم وتهوين وتحقير وتخوين وتكفير واستفزاز طائفة الشيعة. ويعزُّ عليَّ أن أُكثر من ذكر شيعة وسنة هذين العنوانين اللذين قد يُشعر التقابل اللفظي بينهما التقابل في الوجود عند بعض النفوس، وهذا مما يحرم على المسلم أن يركّزه في نفوس الناس.
اشتغل معاوية بشتم أمير المؤمنين عليه السلام على منابر الجمعة ردحاً طويلا من الزمن، واليوم لا شتم لأمير المؤمنين عليه السلام على المنابر، لكن إذا شايعت أمير المؤمنين عليه السلام فستكون في موضع الشتم.
كتّاب متخصِّصون لشتم شيعة علي عليه السلام، وشيعة أمير المؤمنين عليه السلام مسلمون، يحبّون المسلمين، يناصرون المسلمين، يحرّمون قطرة الدم الواحدة من دم المسلم، يحترمون مال المسلم وعرضه، ويعطونه الحق في أن يجتهد الاجتهاد الذي يراه مرضيا لله تبارك وتعالى.
فما ذنب هؤلاء الشيعة؟ أيسرُّ رسول الله صلى الله عليه وآله أن ينصبّ الشتم على من والى أهل البيت عليهم السلام؟! افرضوا أنني مخطئٌ في بعض اجتهاداتي، وهل كل اجتهاداتك صحيحة يا عزيزي؟ الواقع عند الله عزّ وجل لا يتعدد، فهل كل اجتهادات الشيعة في داخلهم صحيحة؟ بمعنى أنها مطابقة للواقع؟ حينئذ لا بد أن يتعدد الواقع بتعدد الاجتهادات. وهل الاجتهادات في دائرة الأخوة السنة كلها صحيحة؟ حينئذ لا بد أن يتعدد الواقع بتعدد الاجتهادات، هذا واضح.
إذا لم يلتمس أحدنا لأخيه العذر فيما اجتهد فيه فعلينا أن يكفر كلٌّ منا الآخر سواء في الدائرة العامة، أو في الدائرة الشيعية الخاصة، أو في الدائرة السنية الخاصة. انصفوا يا أُناس.
ونقول حرصاً على العدل وليس من باب الاستنجاد: هل من ثانٍ لعمر بن عبدالعزيز يرفع الشتم عن الشيعة في بلادهم الإسلامية كما رفع عمر بن عبدالعزيز الشتم عن إمام الشيعة؟
ثم شيئاً من الحياء، أمنٌّ على الشيعة بلقمة العيش وكأنهم يأكلون من صدقات شخصية لهؤلاء الكتّاب أو لغيرهم؟! كم من عرق تصبّب، ومن دم سال على هذه الأرض لآباء وأجداد، ومنذ الصدر الأول الإسلامي في سبيل الدفاع عن هذه الأرض، وإعمارها.
هؤلاء مواطنون يأكلون من ثروة بلادهم، ومن كدِّهم وجهدهم وعرقهم، ومّما بنوا وبنى الآباء والأجداد. أتُعيّر الشيعي أيها الكاتب وتمنّ عليه بأنه يأكل قرص الخبز في البحرين، أو أنه بنى له مسجدا من عرقه؟! بنى له حسينية؟! أأجنبي أنا؟! أوافد جديد؟! ليس لي إقامة ممتدة في هذا البلد من صدر الإسلام؟! لماذا كل هذا التطاول؟ولماذا سكوت الجهات الرسمية؟ إن كان دور الجهات الرسمية هو السكوت فقط.
ولنا ملاحظة أن الكتّاب كتاب حكوميون، معروفون بالنفس الحكومي، والدفاع عن مواقف الحكومة دائماً. الكتّاب الذين يمارسون هذا الدور هم كتّاب الحكومة، فإذا كان لنا عتب أو لوم فلا بد أن ينال منه الحكومة شيء.
هل المسألة عفوية أو مخطط لها؟ ما أكتفي بذكره هنا هو أن المسألة ذات عمر طويل.
ثم إننا مع العدل في كل مكان، ولسنا وكلاء دفاع للجمهورية الإسلامية ولا لغيرها، والجمهورية الإسلامية قادرة على أن تدافع عن نفسها، ولو ظُلم سنيّ في أرض من أرض الله لا يصحح ذلك أن يُظلم أخوه الشيعي في أرض أخرى، ولو ظُلم شيعي في أرض من أرض الله فلا يصحح ذلك أن يُظلم أخوه السني في أرض أخرى. نحن مع العدل والإنصاف في كل مكان، وهكذا يقول مذهبنا، ولا يتيح لنا الفرصة أبدا في أن نوافق على الظلم أو أن نُقصّر في دفعه ما استطعنا.
المحرّك الفردي قد يكون حقدا أعمى، قد يكون استئكالاً، قد يكون عقدا مختلفة، وأمورا أخرى، وهذا كله لا يهمنا، وليس هو محل البحث.
لكن الحجم حجم ظاهرة، ولا بد أن تكون الظاهرة وراءها جهة، ولا ندري أن الهدف سياسي داخلي، والتفريق الطائفي له مقتضياته السياسية أحياناً، وإذا قلت أنه هدف سياسي خارجي فإن له مقتضياته الواقعية القائمة في الساحة الإسلامية عامة.
وتريد القوى الأجنبية أن لا تُبقي يد مسلم بيد مسلم، وأن تزرع الضغينة والحقد في قلب كل مسلم على كل مسلم، ولن يفرغ أعداء الأمة من دورهم التخريبي إذا فرّقوا بين الشيعة والسنة. إنهم سيفرّقون بين الشيعة والشيعة، وبين السنة والسنة، وهناك منافذ للتفريق بين الشيعة والشيعة، ومنافذ للتفريق بين السنة والسنة.
على كل حال، المستهدف والخاسر ليس الشيعة وحدهم وإنما الشعب، الأمة، الإسلام. هذه العملية التخريبية التدميرية وإشعال نار الطائفية لا يستهدف الشيعة وحدهم أو السنة وحدهم، الكل مستهدف، والخاسر في الواقع العملي كل الأطراف.
أيها المسلمون، سنّة وشيعة، قفوا صفا واحدا في وجه أي قلم، أي لسان يُوقد نار الفتنة، شيعيّاً كان صاحب القلم واللسان أو سنّياً قبل أن تحترق الأوطان وقبل أن تحلّ الكارثة.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى، محمد وآله أهل الوفاء، وزد وبارك عليهم جميعاً. اللهم اغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين مغفرة جزماً حتماً، وتب علينا إنك أنت التواب الكريم.
اللهم أصدق توحيدنا لك، وتوكّلنا عليك، وانتصارنا بك، ويقيننا برحمتك، وتفويض أمرنا إليك، وجهادنا فيك، ورغبتنا فيما عندك، وتقديمنا لوعدك، وخوفنا من وعيدك، وآمن موقفنا بين يديك، وأكرم مثوانا ومنزلتنا عندك، يا أرحم من استُرحم، وأكرم من سُئل، وأجود من أعطى.
{ إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 – ميزان الحكمة ج10 ص468.
2 – ميزان الحكمة ج10ص 468.
3 – كأنه غير مقتنع بهذه الوصية اليسيرة. ماذا يساوي حفظ اللسان؟!
4 – ميزان الحكمة ج10 ص469.
5- ميزان الحكمة ج10 ص470.
6 – يعني هل أنت ملتزم بالوصية، آخذٌ بها على مستوى التطبيق العملي؟
7 – يعني الرسول صلى الله عليه وآله يكرر على طالب الوصية بهذا السؤال هل أنت مستوص إن أنا أوصيتك كررها عليه ثلاثة.
8 – ميزان الحكمة ج10 ص472.
9 – ميزان الحكمة ج10 ص474.
10 – 18/ الحشر.

 

زر الذهاب إلى الأعلى