خطبة الجمعة رقم (239) 22 ربيع الأول 1427هـ – 21 أبريل 2006م

مواضيع الخطبة:


أساليب التربية في حياة الفضلاء +  سياستان +  هذا الوطن إلى أين؟

الطريق مخيف، والنفق مظلم، والمقدمات غير مبشّرة، والنتيجة غير سارّة، والوطن عزيز، والأمر جدّاً مؤسف. إن أردتم لهذا الوطن خيرا فاعدلوا بالمسيرة عن هذا النفق المظلم البئيس. كفى قوانين ظالمة، وكفى قرارات ظالمة، وكفى حرماناً وتقييدا، وخذوا بالمسيرة على طريق الإصلاح.


الخطبة الأولى

الحمد لله المتنزِّه عن التركيب، والتجزئة والتبعيض، الذي لا تأتي عليه زيادة ولا نقص، ولا يناله تحوّل ولا تغيير، ولا يطاله تحديد ولا تقدير، محيط بالأشياء، ولا يحيط به شيء إذ كل شيء محدود وهو الكامل الذي لا حد له، وما في العقل أن يحيط محدود بغير المحدود.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم تسليماً كثيراً كثيراً.
عباد الله علينا بتقوى الله الغنيّ عن كل شيء، والمفتقر إليه كلُّ شيء، والقادر على كل شيء ولا يقدر عليه شيء، والمنقذ من كل شيء، ولا يُنقِذ منه شيء. وما من عبد عرف حقيقة نفسه وغيره من الممكنات وأنه وإياها من غير مدد الله القادر الغنيّ عدم محض إلا وأذعن لله واتقاه، وما من خارج على التقوى إلا لجهل أو غفلة عن الحقِّ أو غرور، وكل لحظة من لحظات معصية العبد لله هي لحظة غيبوبة وسبات.
أعاذنا الله وإخواننا المؤمنين والمؤمنات من غيوبة العقل، وسبات القلب، وموت الضمير، وانطفاء نور المعرفة، وخسارة اليقين.
اللهم صل وسلم على حبيبك المصطفى وعلى آله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، ولوالدينا وأرحامنا وجيراننا ومن كان له حق خاص علينا من المؤمنين والمؤمنات، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
أما بعد أيها الأعزاء من المؤمنين والمؤمنات فهذا حديث في الموعظة التي تعد أسلوباً من أساليب التربية في حياة العقلاء، والإسلام، وكل الأديان التي تستهدف صوغ الشخصية الإنسانية صوغاً كريماً.
ووعظه يعظه وعظاً وعِظة. أمره بالطاعة ووصَّاه بها، وعليه قوله تعالى {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ}(1) أي أوصيكم وآمركم، فاتَّعظَ أي ائتمر وكف نفسه، والإسم الموعظة وهو واعظ والجميع وُعّاظ. هذا من المصباح المنير للفيومي.
وفي لسان العرب: الوعظ، والعِظة، والعَظة، والموعظة: النصح والتذكير بالعواقب، وفيه عن غيره هو تذكيرك للإنسان بما يليِّن قلبه من ثواب وعقاب. وفي الحديث كما في اللسان لأجعلنك عظة أي موعظة وعبرة لغيرك.
فالوعظ خطاب ينطلق من النصيحة والصدق، وإرادة الخير والفضيلة، ويعتمد آلية الحقيقة، ويناهض الغفلة، ويقدّم رؤية للعواقب، ويستثير الرغبة في الاستقامة، ويستعين بدوافع الصلاح في النفس، وما ترغب وترهب في تصحيح السلوك، وصوغ الشخصية القويمة.
إنه خطاب للعقل والقلب بما يعرفان من الحق، وللوجدان بما يغنى به من فطرة سليمة، وأصول الخلق الكريم، وللنفس بما تخاف منه من عاقبة سوء، وما ترغب فيه من غاية سعيدة. كل ذلك يحشده الوعظ من أجل استواء الشخصية، وتكاملها.
إنه خطاب توعية، وتبصرة، وإيقاظ، وتذكير، وإراءة صادقة، وتحفيز، وتحذير.
ويستفيد هذا الخطاب من كل ما هو صدق وحقّ وواقع، ويستعين بكل هو ما سائغ عقلا وشرعاً في تقريب النفس إلى هداها. ومما يتوسل به هذا الخطاب لبلوغ غايته التربوية الكريمة آيات الأنفس والآفاق، ودوافع الخير ونوازع الكمال في الفطرة، وخوف النفس ورجاؤها، وما يغنى به التاريخ ومن تجارب ونتائج، وما يثرى به واقع الحياة والإنسان من أحداث وتقلبات وتحولات، وما تفضي إليه أنواع المواقف من ضروب العواقب. وتدخل في وسائله روائع الوحي من آي وحديث، وكلمات الحكمة، والأمثال البليغة، والمشاهد الحيّة، والصور الناطقة.
والوعظ خطاب لا يبلى، وخطأ أن يقال بأن الوعظ أسلوب قد تقادم عليه الزمن، إنه حي ما بقت الحياة، ولا تستغني عنه تربية الأجيال؛ أدواته في تكثّر، وأساليبه في تجدد، وصوره في تنوّع، وكما يؤخذ به في تربية الغير يؤخذ به في تربية النفس والسموّ بها. وكفى بالوعظ الراقي شأناً قوله تبارك وتعالى {وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ وَمَثَلاً مِّنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ}(2)، ثم ما عن الصادق عليه السلام “أصدق القول، وأبلغ الموعظة، وأحسن القصص كتاب الله”(3) فكتاب الله على عظمته موعظة، وما من نبي ولا رسول إلا وكان له وعظ، وكان وعظه وعظا ناجحاً يتوفّر على صدق المضمون وأصالته، وعلى حسن الأداء ورقيه، وعلى سموّ الهدف والغاية، وأساليب الأنبياء والرسل، والأولياء من أرقى الأساليب التي تتوفر على فنٍّ رائع.
على أن الوعظ لا يتأطّر بإطار الكلمة إنما كل مساحة الحياة، وكل ما يعجُّ به الكون العريض، وكلما في النفس، وكل التقلبات و التحولات في حياة الأفراد والمجتمعات هي خطابات واعظة للنفوس المتيقّظة.
وتقوم روح الاتِّعاظ وهو الانفعال النافع بالموعظة المعاشة أو المرئية أو المسموعة على حسٍّ مرهف، ووجدان حيّ، وأذن سميعة، وعين بصيرة، وفؤاد مستقبل غير مدبر ولا مستكبر. أما القلب الأعمى الأصم فهو في جدب دائم لا ينتفع من أبلغ المواعظ.
ولنذهب إلى النصوص من الكتاب والسنة في الموضوع لتقود خطانا على الطريق النير المأمون:
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ { يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ …}(4) فحين نبحث عن أثر الموعظة تقول لنا الآية بأن الموعظة دواء لداء الصدور، وشفاء لما تنطوي عليه الصدور من أسقام معنوية، وما أكثر ما تنطوي عليه النفوس من أسقام.
ولو خلا صدر من أسقامه لكان وراء ذلك الصدر الإنسان الربّاني الكامل، وهم النادر النادر في البشر.
هذه الكمالات التي تجتذبنا في عدد من الشخصيات في التاريخ وفي الواقع، سرَّها أن لأصحابها لها صدورا قد خلت من كثير من الأسقام السائدة.
أما الشخصيات التي يطأطأ لجمالها، وقد تقف قلوب أناس عنده، وكان الأولى بها أن تنطلق إلى جمال الله فتلك شخصيات قد خلت صدورها من كلّ الأسقام.
وما عظمة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إلا أن صدره صدر شفّاف طاهر نظيف كل النظافة، لألآءٌ بذكر الله، لألآءٌ بجمال من جمال الله غير المحدود حسبما يطيقه إنسان على عظمته الفذة تنتهي به الحدود.
الموعظة تشفي الصدور، وقيمة الإنسان في أن يكون له قلب مشافى من أمراض النفوس والقلوب وأسقامها.
من وصايا أمير المؤمنين لابنه الحسن عليه السلام:”أحيي قلبك بالموعظة” حتى الأنبياء، والأولياء يتغذون على موائد الموعظة، ويتعلمون من دروس الموعظة، ويجدون أنفسهم يحتاجون إلى الموعظة ما دامت رحلة الكمال أمامهم غير متناهية، ورحلة الكمال إلى الله لا يمكن أن تتناهى.
“المواعظ صقال النفوس وجلاء القلوب”(5) كلما كان رينٌ على القلب وخبث ورجز كلما احتاج إلى الموعظة تزيل ما عليه من هذه الآثار.
“ثمرة الوعظ الانتباه”(6) والإسلام يصر دائما في تربيته على أن يحدث في الإنسان النباهة، وعلى أن يوفر له اليقظة.
تتعاكس التربية الإسلامية في خطّها اللاحب مع ما عليه سياسات الدنيا، وما عليه التربية الدنيوية؛ حيث تقوم التربية الإسلامية دائما على الإضاءة والإنارة، وتقوم على تجلية الحقائق، وإعطاء اليقظة والانتباه للنفس حتى لا تغيب أمامها الرؤية.
أما التربيات الأخرى فهي تحاول دائما أن تستغفل الإنسان، وأن تحدث له سُباتاً، وأن تنقله من همومه الكبيرة ومن رؤية الحقيقة إلى السراب، وها هي التربيات الأخرى التي تحاول أن تميت تفكير الإنسان وشعوره بالأصالة وشعوره بالكرامة لتشتريه بالثمن البخس.
أما التربية الإسلامية فتقوم على استثارة دفائن العقول، وعلى إخراج ما في النفس من كنوز خيّرة تضع الإنسان على طريق الفعل الطيب والدور الإيجابي الكبير.
وآلات الوعظ كما تقدم تملأ الكون، وفي كل شيء موعظة ودرس، ومن هذه المواعظ كما تذكر النصوص:
“خذ موعظتك من الدّهر وأهله(7)، فإنّ الدّهر طويلة قصيرة(8)، فاعمل كأنّك ترى ثواب عملك لتكن أطمع في ذلك…”(9).
“كفى بالموت واعظاً(10)كم كفنّا، كم غسّلنا، كم قبرنا من أحبة وأصدقاء ومن مختلف الأعمار. أأنا فريد في الحياة؟ حين تمر الذاكرة لابن الأربعين على من رأى وودّع فإنه سيُرعب لكثرة من ودّع وغسّل وقبر.
الموت بمفاجأته، ومفاجأة الموت اليوم ظاهرة للعيان، نعم الواعظ، لا نُستشار في الرحلة الطويلة، ولا يطرق علينا طارق يستأذن منا بذلك، وليس لنا خيار في ذلك، وفي أي لحظة من ليل أو نهار يمكن أن نودّع هذه الحياة لمرض أو لحادث خارجي مفاجئ. وقد ترى الجسد الذي لا تحتمل فيه أي بداية لمرض عضال، وإذا بك تُفاجأ بأن صاحب الجسد القوي البطل يودع هذه الحياة في أيام لمرض قد لا يُكتشف إلا متأخّراً.
“.. فكفى واعظاً بموتى عاينتموهم حملوا إلى قبورهم غير راكبين…”(11) محمول لا حراك له، لا إرادة له، والراكب يختار، وهذا غير مختار، إنه مرغم على هذه الرحلة الطويلة التي كان يهابها كل حياته.
“العاقل من وعظته التجارب”(12) التجارب الاجتماعية، التجارب السياسية، التجارب الروحية، التجارب الناجحة، التجارب الفاشلة. من لم تعلّمه التجارب فهو الغبي كل الغبي.
“خير ما جرّبت ما وعظك”(13) وإن كانت التجربة أحدثت محنة، لكنها إذا وعظتك فهي أحسن من تجربة ناجحة تسبب لك الغرور.
“في كلّ نظر عبرة، وفي كلّ تجربة موعظة”(14).
ضع عينك المتأمّلة على أي محطّة من محطات هذه الحياة، وعلى أي زاوية من زواياها، وعلى أي ذرة من ذرّاتها، وعلى أي حدث من أحداثها فإذا كنت المتأمّل الحق فلا بد أن تخرج بدرس حياتي كبير. تعلمك التجارب كيف تسلك في هذه الحياة، وإلى أي هدف تقصد، وأي غاية تستهدف، ومن تعبد ومن لا تعبد.
“إنّ الغاية القيامة وكفى بذلك واعظاً لمن عقل، ومعتبراً لمن جهل”(15).
لا بد أن تقلّ في نظرك الحياة الدنيا، لا بد أن تزهد في هذه الحياة الدنيا ما دامت القيامة هي الغاية، وإذا كان لك سعي حثيث في هذه الدنيا وكما ينبغي فإنه يجب أن يكون بهدف الآخرة. يجب أن لا يكون السعيُ صراعا على هذه الدنيا، وإنما ينبغي أن يكون لإعمارها الإعمار الذي أراده الله، والإعمار الذي أراده الله لهذه الدنيا هو إعمار يصبّ أولا وبالذات في صالح إعمار الإنسان.
الموعظة وآثار الموعظة تحتاجها حياة السياسة، تحتاجها حياة الاجتماع، يحتاجها الاقتصاد، يحتاجها الأمن، تحتاجها كل جنبة من جنبات مسيرة الإنسان.
اللهم صل على محمد وآل محمد، واغفر لنا مغفرة جزما حتماً والمؤمنين والمؤمنات أجمعين، إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم اجعل قلوبنا حيّة وعية، وبصائرنا نيّرة نافذة، ونفوسنا متَّعظة معتبرة، وحياتنا طيبة، وخاتمتنا كريمة، وعاقبتنا سعيدة، ومنزلنا في القيامة أعالى الجنان، ومنّ علينا بمرافقة أنبيائك ورسلك وأوليائك يا كريم يا رحيم يا رحمن.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً (3)}

الخطبة الثانية

الحمد لله أكمل حمد وأتمّه وأدومه وأصفاه وأنقاه وأنزهه إذعاناً لعظمته، واستسلاماً لعزَّته، وإقراراً بحقِّه، واستعصاماً من معصيته، وتعرُّضاً لمزيدِ رحمته. نستعينه تبارك وتعالى، ونستهديه، ونسترشده، ولا نعوّل إلا عليه.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله صلَّى الله عليه آله وسلّم وزداهم تحية وبركة وسلاماً.
أوصيكم عباد الله ونفسي الأمّارة بالسوء بتقوى الله، وما التقوى إلا صلاح وكمال وفلاح. يقول سبحانه {وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى}(16) فمن خسرها خسر العاقبة، وفي ذلك الخسران المبين. وكيف لا يتّقي العبدُ ربّه وهو الذي بدأ خلقه، وإليه يكون معاده، وبيده كل أمره ونفعه وضُره؟!!
ربنا اغفر لنا ذنوبنا، وكفر عنا سيئاتنا، وتوفنا مع الأبرار. ربنا اغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على خاتم أنبيائك ورسلك محمد بن عبدالله الصادق الأمين ، وعلى علي أمير المؤمنين، وعلى فاطمة الزهراء الصديقة الطاهرة المعصومة.
وعلى الأئمة الهادين المعصومين عليهم السلام: الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن القائم المنتظر المهدي.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على محمد وآل محمد، وعجل فرج ولي أمرك القائم المنتظر، وحُفَّه بملائكتك المقرَّبين، وأيده بروح القدس يا رب العالمين.
عبدك وابن عبديك، الموالي له، الممهِّد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين وفّقهم لمراضيك، وسدد خطاهم على طريقك.
أما بعد أيها الأخوة والأخوات الكرام فإلى الحديث في أكثر من محور:
أولاً: سياستان:
1. هناك سياستان: سياسة تنطلق من حساب المصالح، وسياسة تنطلق من منبع القيم.
والمصالح مصالح ظاهرية حسب علم الإنسان، ومصالح حقيقية يعلمها الله تبارك وتعالى.
المصالح التي تقابل القيم هي المصالح من النوع الأول، أما المصالح الحقيقية فتلتقي تماما مع القيم، فإن كل الأحكام الشرعية أحكام تنطلق من القيم، وتتوفّر على حساب دقيق بالغ الدقّة للمصالح والمفاسد.
فحينما نقارن بين المصالح والقيم لا نقابل بينها بلحاظ المصالح الحقيقية، وإنما بلحاظ ما هو من المصالح الظاهرية وحسب علم الإنسان.
فكثيرا ما تتقابل وتتعارض المصالح قصيرة الأمد، المصالح الظاهرية، والتي تهدم مصلحة الإنسان الحقيقية مع القيم، أما المصالح الحقيقية التي يعلمها الله فهي تلتقي مع القيم، وتلتقي القيم معها.
فالسياستان اللتان نعنيهما هما: سياسة تنطلق من المصالح الدنيوية الظاهرية وحسب العلم القاصر والحسابات غير الدقيقة للإنسان.
والسياسة الأخرى هي سياسة تنطلق من حساب القيم والمصالح الحقيقية التي يعلمها الله، وتقوم عليها كل شرائعه. خذ هذا الانقسام من جهة.
ومن جهة أخرى: إنه لا أرض، ولا وطن بلا فوارق، ما من مجتمع إلا وفيه فوارق، فوارق دينية، فوارق مذهبية، فوارق قومية، فوارق قبلية، مجتمع الأسرة فيه فوارق، وهي الفوارق الشخصية، وفيه مصالح دنيوية قد تلتقي وقد لا تلتقي حتى بين الأخ وأخيه.
سياسة المصالح وهي تنطلق وراء هذه المصالح الدنيوية الذاتية لأصحاب السياسة، تقوم على استغلال الفوارق، والفوارق بين الناس دائما موجودة، فليكن سكّان الأرض من مذهب واحد، لكن تبقى بينهم الفوارق القبلية، تبقى بينهم الفوارق الطبقية، تبقى بينهم الفوارق المهنية، ما أكثر الفوارق بين الناس!!
السياسة الدنيوية المصلحية دأبها أن تستغل الفوارق وتستثيرها، وتخلق الصراع بين أهل هذه الفوارق من أجل بلوغ مآربها.
سياسة القيم تختطّ خطا آخر، تحاول أن تعالج آثار هذه الفوارق، توجّهها، تحدث التكامل في الأدوارس على أساسها، تجمّع الجهود من مختلف الخطوط لتصب في مصلحة الجميع.
هناك مثالان: سياسة القيم نستطيع أن نجد موقفها من الفوارق في مؤاخاة رسول الله صلى الله عليه وآله بين المهاجرين والأنصار. كان فارق كبيرة بين المهاجرين والأنصار، حروب قامت بينهما، وكان بإمكان رسول الله صلى الله عليه وآله من أجل أن يثبّت قدمه في المدينة أن يحابي قبيلة على حساب قبيلة، يحابي القبيلة الأقوى مثلاً على حساب القبيلة الأضعف أو العكس من أجل أن تسود كلمته، لكن سياسة القيم اتجهت اتجاها آخر فآخى رسول الله صلى الله عليه آله وسلم بين المهاجرين والأنصار، وأحدث تنسيقاً في العلاقة الاجتماعية بين اليهود من سكان المدينة وبين المسلمين.
أما سياسة المصالح والتنافس على الدنيا فنجد لها مثالاً في فرعون، وكيف استعبد بني إسرائيل للطرف الآخر، وأذلّهم، وأحدث شرخا اجتماعياً، وهوّة سحيقة بين فئتين من المجتمع بحيث يتيح له ذلك أن يستعين بفئة على فئة أخرى، وقبل ذلك قتل قابيل هابيل من منطلق حساب المصالح الدنيوية وحُبّ الأنا الأعمى.
والعراق نموذج حديث من نماذج سياسة المصالح في توالي حكومات علمانية أو شبه علمانية على هذا البلد المسلم العريق كرَّست فيه الشعور بتقادم المصالح الطائفية والقومية. والعراق ليس هو النموذج الوحيد في هذا المجال وإنما أكثر بلداننا العربية والإسلامية داخلة في أمثلة سياسة المصالح حيث لا تجد بدلا إلا وتعشعش فيه المشاعر الطائفية، المشاعر القومية، المشاعر القبلية، المشاعر الطبقية، وكل بلد على فوّهة بركان بيد حكومته أن تفجّر هذا البركان في أي لحظة من اللحظات إذا اقتضت مصلحتها السياسية ذلك.
2. سياسة المصالح تضطهد فئة لحساب فئة، طائفة لحساب طائفة، قومية لحساب قومية، قبيلة لحساب قبيلة. تحرم من حقوق المواطنة بل قد تسلب المواطنة نفسها بأن تشرّد وتطرد فئة من الشعب، لكن كل ذلك لا يقضي على حنين المواطن لوطنه، ويبقى حنين المغرّبين، وحنين المشرّدين إلى أوطانهم نابتاً كما هو في القلوب والنفوس. وكم قاسى الإخوة المؤمنون في العراق، كم قاسوا في بلاد المهجر؟! كم هم الملايين الذين شرّدهم النظام الصدامي، ولكن بقى حنين العراقي إلى وطنه، وبقت أمنيته أن يعود إلى الوطن، فأولئك كاذبون كاذبون كاذبون، وهم الذين يقولون بأن مواطناً أصلياً يُمكن أن يخون وطنه وخاصة إذا كان على إيمان.
نعم، من لم يكن على إيمان لم يقوَ حب ارتباطه بالوطن أن يصمد أمام مصالحه الدنيوية، فقد يخون وطنه، أما المؤمن فيأبى له إيمانه، بل يستحيل عليه في ضوء إيمانه، ويشق عليه من خلال حب وطنه أن يمسّ وطنه سوءٌ.
ثانياً: هذا الوطن إلى أين؟
إلى أين يتجه هذا الوطن العزيز البحرين؟ أإلى مزيد من الأمن والاستقرار والرخاء والمحبة والانسجام والتقدم؟ أم هناك ما يدعو إلى التشاؤم، وأن السير قد ينتهي بهذا الوطن العزيز إلى شيء من غير ذلك؟
النتائج دائما من سنخ المقدّمات كما يقولون. ما هي طبيعة مقدماتك؟ والخطوات التمهيدية التي تأخذها على طريق النتيجة؟ ما هي استعداداتك؟ ما هي ممارساتك؟ ما هي منطلقاتك؟ مجموع ما تتخذه من مقدمات يحدد لك النتيجة، ولا يمكن أن يعطي عود الشوك شجرة تفّاح، ولا يمكن أن تزرع حنظلاً لتجني عسلاً. النتائج دائما من سنخ المقدمات.
وهناك منطلقات ودوافع تنطلق منها السياسة في أي بلد:
‌أ- أسس الانطلاقة هنا: دين أو دنيا أو هما معاً؟ سياسة تنطلق من قيم دينية تلغي الدنيا بالكامل تنتهي إلى نتيجة، وسياسة تنطلق من دين يحتضن الدنيا، ويصلح الدنيا تنتهي إلى نتيجة أخرى، وسياسة تستهدف الدنيا ولا تقيم وزناً للآخرة لها نتيجتها الثالثة.
والمنطلق هو مراعاة مصلحة الكل أو مصلحة البعض؟ مصلحة النظام والشعب أو مصلحة النظام وحده؟ المفكّر فيه دائما، محل الهم دائماً هو أمن النظام، أو أمن النظام والشعب؟ هو رخاء النظام أو رخاء النظام والشعب؟ هو قوة النظام أو قوة النظام والشعب؟ لا شك أن المنطلقين يختلفان في نتائجهما.
هل تحرك السياسة هنا من قاعدة الثقة في الشعب، أو من قاعدة الشك، ومن قاعدة المؤامرة، ومن قاعدة سوء الظن، إذا كانت الانطلاقة السياسية من ثقة بالشعب، وبمواطنية المواطن، وبحبه لوطنه وبحرصه على مصلحته، فستنتهي هذه السياسة إلى نتائج، ونوع من الممارسات، وستأتي الممارسات على خط من نوع آخر، وستأتي المشاكل الكثر، والاحتياطات الخيالية، والضمانات غير المعقولة لسلامة النظام إذا كان المنطلق هو الشك في الشعب، وأن القاعدة في المواطن هي التآمر.
هل هناك أساس تنطلق منه المسيرة وهو محل توافق؟ أم أساس انطلاق المسيرة كالدستور مختلف عليه؟
لا شك أن النتائج ستختلف بين أن يكون هناك أساس متّفق عليه تنطلق منه المسيرة السياسية المشتركة، وبين أن يكون الأساس نفسه عليه اختلاف.
أما معطيات الواقع فنحن نشهد فتحاً لباب السجون، وتدفّقاً متواصلاً للسجناء على السجون، نشهد نوعاً لا يحتاج إلى بيان من التغذية الطائفية المستمرة بالكلمة والموقف، نجد تدفّقا في القوانين والقرارات التي تخنق إرادة المواطن، تكبّله، تسدُّ كل الأبواب عليه، مصادرة للحريات والحقوق، على مستوى الجمعيات والأفراد.
على طريق السفر، وعلى طريق الاتصال بالداخل، الاتصال بالخارج، ما من طريق من طرق الحياة إلا ولك مرصد عليه من قانون أو قرار أو مخابرات.
الآية الكريمة تقول {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}(17) الله العزيز الحكيم المالك الحق، العليم الخبير يقدِّر أن هؤلاء العبيد المملوكين المحتاجين إليه ليلهم ونهارهم لو شدّد عليهم الدين لما أخذ بالدين إلا النادر النادر، ولما كادت تقوم حجة لله تبارك وتعالى على عبده في نفوس الكثيرين، وإن كانت له الحجة البالغة، وكان الحق أن لله تبارك وتعالى أن يملك على هذا الإنسان في مجال إرادته كل حركة وسكون، كما أنه يملك منه في مساحة تكوينه كل حركة وسكون.
يقدر الله عز وجل أن العصاة سيكثرون، وأن انفجارا في النفس البشرية يحصل في الأكثر لو كان هذا الدين قائما على العسر والحرج، فإما أن يجن الكثيرون، وتنهار أعصاب الكثيرين، وإما أن يتضاعف العصاة في الأرض، فما بالك أيها المخلوق تذهب إلى لا نهاية في التضييق والتشديد وتحريج الحياة، وخنق الأنفاس، وتتوقع من بعد كل ذلك أن تسلم لك الطاعة، وأن يفقد الناس إرادتهم؟!! إنها عجلة، إنه بالون، يتحمل مقدارا من النفخ، ثم إذا زاد نفخ البالون فلا بد أن ينفجر. إنه برميل زيت قابل للاشتعال لك أن تضع تحته شمعة ويمكن أن لا ينفجر، أما إذا أوقدت نارا متواصلة مستعرة فإنه لا بد أن ينفجر. هذه السياسة سياسة خطيرة جدا على كل البلد.
نصيحتي للحكومة أن لا تلجأ إلى هذه الترسانة من القوانين والقرارات التي تخنق كل الأنفاس، هذا لن يُصلح، ولن يدرأ خطرا إنما سيجعل الخطر محققّاً.
لا فرق بين أن تسجن بلا قانون، وتقتل بلا قانون، وتحرم الكثيرين رزقهم بلا قانون، وبين أن تضع لك قوانين تسجن كل الناس، وتقتل على أساسها من تريد، وتحرم من تريد لا فرق بين ما يُحدثه الطريقان من تدمير، وما تؤدي إليه من انفجار. كما سيؤدي الأول إلى انفجار فإن الثاني سيؤدي إلى انفجار.
الطريق مخيف، والنفق مظلم، والمقدمات غير مبشّرة، والنتيجة غير سارّة، والوطن عزيز، والأمر جدّاً مؤسف. إن أردتم لهذا الوطن خيرا فاعدلوا بالمسيرة عن هذا النفق المظلم البئيس. كفى قوانين ظالمة، وكفى قرارات ظالمة، وكفى حرماناً وتقييدا، وخذوا بالمسيرة على طريق الإصلاح.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم اجعل قلوبنا منصرفة إليك، وحبَّها من حبّك، وبغضها من بغضك، وإرادتنا من إرادتك حتى لا نريد إلا ما أردت لنا في دينك، ولا نكره إلا ما كرهت لنا فيه، ولا نفارق طاعة، ولا نقترف معصية. اللهم إنا نسألك سعادة الدارين فلا تخيِّبنا يا كريم يا جواد يا رحيم.
{ إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 – 46/ سبأ.
2 – 34/ النور.
3 – ميزان الحكمة ج10 ص542.
4 – 57/ يونس.
5 – ميزان الحكمة ج10 ص539.
6 – ميزان الحكمة ج10 ص539.
7 – في تصرم الأيام موعظة، في عدم عودة نفس واحد موعظة، في هرم الصغير موعظة، في الناس في كل أحوالهم في كل تقلباتهم، في كل تغيراتهم موعظة.
8 – هو طويل وقصير بلحاظ؛ قصير لأنك لا تفيق إلا وقد ولّى شبابك، وتعود مراتع صباك ذكريات لا غير، وليس بين سواد الشعر وابيضاضه إلا قليل من الزمن، وكثيرا ما تحدث الأمراض القاسية هرما سريعاً، وتخور القوى بفعل ضغط الظروف. والدهر طويل في تجاربه الممتدة، والدهر طويل لأن استغلالاً مجديا نافعا حكيما فيه طاعة الله عز وجل في هذا الزمن ولو بقليل منه يربحك الأبد، فهو طويل لأكثر من لحاظ.
9 – ميزان الحكمة ج10 ص540.
10 – ميزان الحكمة ج10 ص 541.
11 – ميزان الحكمة ج10 ص541.
12 – ميزان الحكمة ج10 ص541.
13 – ميزان الحكمة ج10 ص541.
14 – ميزان الحكمة ج10 ص541.
15 – ميزان الحكمة ج10 ص541.
16 – 132/ طه.
17 – 78/ الحج.

 

زر الذهاب إلى الأعلى