خطبة الجمعة (233) 3 صفر 1427هـ – 3 مارس 2006م

مواضيع الخطبة:

 

القلب + ديموقراطية الغرب + قبل الانفجار

إن الغرب ليحاول الاحتفاظ بأكبر قدر ممكن من الأوراق في علاقته بالعالم الآخر، ويعزِّز صلاته بأكثر من جهة وخطٍّ للاستحواذ على كامل العملية السياسية في أرض الغير، والإمساك بكل خيوطها لمصلحة تمكينه وتحكّمه في مصير الآخر.

الخطبة الأولى

الحمد لله الذي يضيء الأكوان نورُه، وتقوم السماوات والأرض بأمره، ومنتهى كلِّ شيء إلى قدرته. الحمد لله الذي أكرم العقول بمعرفته، وأحيا القلوب بذكره، وشرّف النفوس بطاعته، ووعد المطيعين بجنّته، وأجزل لهم ثوابه وجائزته.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم تسليماً كثيراً كثيراً.
أوصيكم عباد الله ونفسي المخلِدة إلى الراحة بتقوى الله، والاجتهاد في طاعته، والتنافس للسبق لرضوانه، ونيل رفيع الدرجات لديه، والتجافي عن المعاصي، والبعد من المنزلقات، والتوقّي من النّار، والفرار من غضب الجبار، فالأمر خطير، والمدى قصير، والأجل قد يباغت صاحبه على خلاف كلّ التوقّعات، وما قدتذهب إليه حسابات العبيد.
اللهم صل وسلم على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم. ربنا أحينا مسلمين طائعين، ولا تمتنا منكرين عاصين، واحشرنا في الصالحين المحسنين المرحومين، واجعلنا من أهل اليمين، ومن فوج السابقين المقرّبين المكرمين فإنك أنت الرحمن الرحيم الجواد الكريم.
أما بعد أيها الأعزاء من المؤمنين والمؤمنات فهذه عودة أخرى لموضوع القلب، والحديث في حالاته المتنوّعة من طهارة ورجس، وانشراح وانغلاق، وحجاب وانكشاف، وغيرها، والقلب هو حقيقة الإنسان في هداه وعماه، ونوره وظلمته، ومعرفته وجهله، وخيره وشرّه.
طهارة القلب:-
من أحوال القلب طهارته {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}(1).
القلب البشري يقبل الطهارة ويقبل الدنس، وقلبٌ يسكنه الشيطان، وساوسه، هواجسه، مخاوفه، آماله، طموحاته، وتسكنه الدنيا، همومها، وحقدها، وحسدها، وتنافسها، وشهواتها، دَنِسٌ متنجّسٌ.
وقلب يسكنه الله، ذكره الجميل، يشتغل بأسماء الله الحسنى، بجمال الله وجلاله، قلبٌ تصوغه صفات الله تبارك وتعالى، وينشدّ إليها، ويطمح أن يكون ولو على شيء محدود منها، قلبٌ يطهر، ويزكو، ويُشرق.
وأهل البيت عليهم السلام ممن أراد الله تبارك وتعالى لهم الطهارة فلا يكون في قلبهم شرك بالله لأن أول رجس القلب، ومنبع رجس القلب هو الشرك بالله، ولأن الشرك بالله درجات فإن نجاسة القلب وقذارته على درجات إذ تأتي بحسب ما عليه قلب المرء من شرك، ومن انصراف عن الله تبارك وتعالى، واشتغال بغيره.
تقول الكلمة عن أمير المؤمنين عليه السلام:”طهّروا قلوبكم من درن السيَّيّئات تضاعف لكم الحسنات”(2).
فالسيئات لها آثار في القلب هي قذارته، وظلمته وحجابه، فمن أراد أن يتطهّر قلبه كان عليه أن يجتنب السيئات، وأي مقاربة لذنب، وأي ارتكاب لخطيئة تعني ترسّبا خبيثا على صفحة القلب.
وتأتي الكلمة الأخرى عنه عليه السلام:”طهّروا أنفسكم من دنس الشّهوات تدركوا رفيع الدرجات”(3).
فتعلّق القلب بالشهوات، وانغماسه فيها، واستيلاء حبّها عليه يعني أن هذا القلب يفقد طهارته ولئلاءه وصفاءه ونقاءه، ويتلوّث حتى تستولي عليه ظلمته.
“طهّروا قلوبكم من الحقد فإنّه داء موبي”(4).
الحقد داء خبيث يفصل العبد عن ربه، ويطفئ نور الله فيه، بمعنى أنه يحجبه عن نور الله عزّ وجل، ولا يعود ذلك القلب صالحا لأن يتلقّى من نور الله.
عن المسيح عليه السلام:”لا يغني الجسد أن يكون ظاهره صحيحا وباطنه فاسداً(5)، كذلك لا تغني أجسادكم التي قد أعجبتكم وقد فسدت قلوبكم وما يغني عنكم أن تنقّوا جلودكم وقلوبكم دنسة”(6).
وما أجدر بالمرء العاقل أن يُولي من الأهمية والعناية والرعاية بقلبه أكثر مما يوليه لبدنه. مطلوب للبدن النظافة، والإسلام يصرُّ على النظافة في كل مجال من المجالات، لكن لا يمكن أن تقاس نظافة بدن بنظافة قلب، وإذا كانت قذارة البدن تؤذي وتنفّر فإنه لو انكشف قلب أحدنا وهو قذر -لا سمح الله- مملوء بالحقد، مملوء بالحسد، مملوء بالنية السوداء، مملوء بالعدوانية لفرّ الناس منه أكثر مما يفرّون من الميتة.
من أحوال القلب انشراحه:
{فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء…}(7).
وتقول الآية الكريمة الأخرى:{ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ…}(8) وهي في مورد الامتنان من الله تبارك وتعالى، وطمئنته لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم.
وشرح الصدر أن يتّسع لقبول الحق وإن ثقل، وقبول تكاليفه، ومسؤولياته، وهي مسؤوليات ثقال لا تُطيقها إلا قلوب الرجال الأشدّاء في الإيمان، لا تطيقها إلا القلوب الصافية المؤمنة بالله حقّا.
وليست التكاليف أن أُصلّي هذه الصلاة الظاهرة والصوم الظاهر بقدر ما هي صوم من الداخل، وصلاة من الداخل، وزكاة من الداخل، وتوجّه لله عزّ وجل من غير التفات إلى أحد من خلقه.
وهذه الهداية من الله فوق الهداية العامة. لله عزذ وجل هدايات عامة في الخلق تعم الكافر والمؤمن، وله هدايات خاصة تكون جزاء المؤمن على إيمانه، والمطيع على طاعته، مع ما لله عزّ وجل من كرم لا يقاس، وجود لا يقدّر.
والله عزّ وجل لا يضل أحداً ظلماً، وإنما إرادة الله أن ينجذب الناس كل الناس إلى طريق رحمته ورضوانه وعطائه، وإنما يضل الله سبحانه وتعالى من عصى بقانون تكويني يقوم على الرابطة العليَّة بين المعصية وبين أثرها في القلب ودرنها في الروح.
ونجد قلوباً لا تطيق من تكاليف الدين شيئاً، بينما نجد قلوبا تتسع كل السعة لتكاليف الدين مهما صعبت أمام أنظار الآخرين. قلب شرحه الله عزّ وجل عندما اتّجه إلى طاعته، فسهل الدين عليه، وقلبٌ قصّر وتولّى عن رحمة الله عزّ وجل فضاق وتحرّج حتّى صار لا يُطيق من الحق شيئاً، ولا يقبل من الإسلام ولو القليل.
في تفسير مجمع البيان:”قد وردت الرواية الصحيحة أنه لما نزلت هذه الآية يعني {فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ..} سُأل رسول الله صلى الله عليه وآله عن شرح الصدر ما هو؟ فقال: نور يقذفه الله في قلب المؤمن فينشرح له صدره وينفسح.(9)
مؤمن يتأهّل لرحمة الله الخاصة، ويتقدم على طريق الله تبارك وتعالى بمزيد من هباته، فيقذف الله عز وجل في قلبه نوراً لا يبقى من بعده عليه تكليف عسير وإنما تسهل عليه كل التكاليف، ولا تبقى فيه أي درجة من الإنكار للحق والتردد فيه.

“من وصايا النبي صلّى الله عليه وآله لابن مسعود”:ياابن مسعود “فمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربّه” فإنّ النّور إذا وقع في القلب انشرح وانفسح، فقيل يا رسول الله فهل لذلك من علامة؟
قال: نعم التّجافي عن دار الغرور(10)، والإنابة إلى دار الخلود(11)، والاستعداد للموت قبل نزول الفوت، فمن زهد في الدّنيا قصّر أمله فيها وتركها لأهلها”(12).
والحمد لله رب العالمين.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى، وعلى آله الأخيار الأطهار، وسلم تسليما كثيراً.
رب اغفر لنا ولوالدينا وأرحامنا وقراباتنا وجيراننا ومن أحسن إلينا إحساناً خاصّاً ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين.
اللهم اهدنا فيمن هديت، وبارك لنا فيما أعطيت، وقنا شر ما قضيت، اللهم ضاعف علينا رحمتك، وزدنا من فضلك ياكريم يارحيم.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)}

الخطبة الثانية

الحمد لله الذي لا يحيا حياته أحد، ولا يقدر قدرته أحد، ولا يعلم علمه أحد، ولا يبلغ كنهه عقل، ولا يحيط به قلب، وليس له نظير، ولا يكون له شبيه، ولا يحتاج إلى ظهير.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم تسليماً كثيراً كثيراً.
عباد الله علينا بتقوى الله، وأن لا نشرك به أحداً، ولا نبتغي عنه متحوّلاً، وأن لا نتوانى عن طاعته، وأن لا نتقحّم معصيته. وكيف يتوانى عن طاعة الله من كان مملوكاً له، وكل وجوده من عنده، وكل ما به من نعمة من فيضه؟! ما كان ينبغي لعبد أن يتوانى عن طاعة ربّه أبداً. وكيف يتقحم معصيته من لا مفرّ له من ملكه، ولا مهرب له من حكومته، ولا دافع له لعقوبته، ولا قِبَل له بعذابه؟!
ألا أيها النّاس إنَّ لحظة الاحتضار بالانتظار، وليس أحدٌ منّا منها ببعيد… لحظةٌ يستدبر بها العمل، ويستقبل الحساب، وتعظم عندها حسرة التفريط.
اللهم اغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات، وتب علينا إنك أنت التواب الكريم. اللهم لا تسلمنا إلى سبات العقل، وأنقذنا من غفلة القلب، وأيقظ فينا روح التقوى، ورغّبنا في الطاعة، وزهّد لنا المعصية، واجعل مهلة أيامنا جِدّاً في سبيلك، وفسحة عمرنا سعياً في رضاك يا أهل المنِّ والإحسان، والفضل والامتنان.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى خاتم النبيين والمرسلين محمد بن عبدالله الصادق الأمين، وعلى علي أمير المؤمنين، وإمام المتقين، وعلى فاطمة الزهراء الصديقة الطاهرة المعصومة.
وعلى الأئمة الهادين المعصومين: الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن المهدي المنتظر القائم.
اللهم صل على محمد وآل محمد، وعجّل فرج ولي أمرك القائم المنتظر، وحُفَّه بملائكتك المقرّبين، وأيده بروح القدس يا رب العالمين.
عبدك وابن عبديك، الموالي له، الممهد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين في سبيلك، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين وفِّقهم لمراضيك، وسدد خطاهم على طريقك، وامنن عليهم بالنصر المبين ياقوي ياعزيز.
أما بعد أيها الملأ الكريم من المؤمنين والمؤمنات فهذه بعض قضايا:
ديموقراطية الغرب:
1. الديموقراطية في أوربا وأمريكا لونٌ من ألوان الصراع على المصالح الدنيويّة بين أهل الطموح المادي، والذي يأخذ بكل الوسائل مهما كانت درجةُ قذارتها للوصول إلى السلطة والجاه والمال، مع تجنُّب بذل الدماء طلباً للسلامة، ولو كان دم الغير هو الوسيلة لهذه المصالح لما تُحرِّج عنه ما دام لا يُهدِّد بالقصاص.
2. وأمّا ديموقراطيتهم المصدَّرة فهي ذات أحجام وألوان وأشكال متفاوتة بجامع واحد هو أن تأتي مفصّلة من عندهم أو محليّاً على قدر أكبر ما يُمكن تحقيقه من مصالحهم.
وكلما جاءت على خلاف ذلك حكم عليها بعدم النزاهة، وأنها من الفوضى، وفيها تهديد للديموقراطية الحقيقية، ولعب بالرأي العام، وأنها تساعد على الإرهاب، والتصويت فيها ليس للبرامج، وإنّما للشعار الديني والطائفي والفئوي، ولا بد من إسقاطها، والتخلّص منها حتى يفيق الشعب الذي أدَّى اختيارُه لها، ويتحسن عنده مستوى الوعي وإدراك المصالح، ويرقى إلى مستوى العقلية الغربية.
وعندئذ وحيث يختار الديموقراطية التي تحقق مصالح الغرب فإنه الشعبُ الناضج، وهي التجربة الناجحة.
وإذا كان الشعب الذي اختار الديموقراطية بما لا يحقق المصالح الغربية ويوصل عملاءه إلى السلطة مصرّاً على خياره فلا بد من تأديبه بإشعال الحرب بين فئاته، أو تسليط سيف السلطة السابقة على رقابه، أو تجويعه بالحصار الاقتصادي والمقاطعة، وتوقيف كل الإمدادات.
ويشتد الموقف الغربي غضباً وصرامة على الشعب الذي تُفضي ديموقراطيته إلى الخيار الإسلامي وحكومة الإسلاميين.
وقد مارس الغرب إجراءاته الصارمة وصبَّ جام غضبه على شعوب أمتنا، وأشعل فيها الفتن وأحرقها بنار الحرب وحاصرها وعزلها لخيارها الإسلامي وإعطائها صوتها للإسلاميين في أكثر من تجربة ولأكثر من مرة حتى شكّل ذلك ظاهرة حديثة مشهودة للعيان؛ فمن الجزائر، إلى إيران، إلى العراق، إلى انتخابات الأرض المحتلة التي فازت فيها حماس.
3. وإنه من أجل ديموقراطية في البلاد الإسلامية بحيث لا تغضب أمريكا وأوربا، وتحقق مصالحهما، وتُجنِّب شعوب الأمة من إجراءاتهما العقابية الصارمة لا بد من إحدى حالات ثلاث:-
هذه هي الديموقراطيات الثلاث التي يمكن أن يُرحّب بها الغرب.
1) اقتناع الشعوب الإسلامية بديموقراطية شكليّة تُبقي جوهر ما كان من هيمنة الغرب على الأمة ومصالحها ومقدّراتها على ما كان… ديموقراطية تتمُّ بهذه الصورة تحت مظلة الأنظمة القائمة بكل ثوابتها ومنها التحالف القوي مع الغرب بل الاستسلام لإرادته.
وهذه هي الديموقراطية التي يُسوَّق لها حالياً على حذر بحيث يقدم الغرب اتجاهها رجلاً ويؤخر رجلاً أخرى، ويجادل في داخله بشأن هذه الديموقراطية وهل يمكن أن تعطي فرصة للإسلاميين فَتُمنعَ، أو لا تعطي فرصة للإسلاميين أو تكون قادرة على استمالِتهم فيعمل على تسويقها.
2) انقلاب الرأي العام في البلاد الإسلامية وتحوّله إلى صالح علمانيين يؤمنون بالطرح الغربي للكون والحياة والإنسان، ومعنى المصلحة واللذة والسعادة وما يقوم على ذلك كلِّه من تفاصيل المناهج والبرامج والفكر والخلق والسلوك… علمانيين ينفصلون عن هُويّة الأمة ومصلحتها ورسالتها، ويلتحمون بالكامل بهوية الآخر ومصلحته ودوره في الحياة، ويرون أنفسهم من خلاله، ويقدّرون أن مصلحتهم من مصلحته، وهيمنتهم بهيمنته.
ونحن نجد كثافة في مظاهر الفساد والتحلل الخلقي والفكري الساقط، والأنماط السلوكية المستوردة من الغرب، ونجد انتشارا واسعا في ساحاتنا الإسلامية لكل ما هو غربي، ومن آخر المستوردات ظاهرة من يُسمّون بعبدة الشيطان الذين يمكّن لهم في البلاد الإسلامية على مسمع ومرأى من حكومات هذه البلاد.
وعند تحوّل الشارع الإسلامي إلى شارع علماني يحتضن العلمانية والعلمانيين، ويرحب بسلطتهم فحينئذ ستبارَك الديموقراطية من الغرب في البلاد الإسلامية وهي ديموقراطية تركّز وجوده، وتزيد في مكاسبه وتعطي الفرصة الكاملة للذوبان الحضاري في طرحه.
3) أن تحصل ديموقراطية تُمكِّن لجماعات إسلامية تطرح الإسلام شعاراً للاستقطاب الجماهيري والتغرير بأبناء الأمة، وتنفصل عنه انتماءً حقيقيّاً شاملاً بما في ذلك المساحة السياسية من حياة المجتمعات، وتُمازج في الطرح العملي بينه وبين ما يريده الغرب بما لا يؤثر على حقيقة الارتماء في أحضانه والإخلاص لشعاراته، ورعاية مصالحه، والاندغام بأفكاره، وفي ذلك حفاظ على أهداف الغرب، ومخادعة لشعوب الأمة.
وأفضل الحالات عند الغرب – فيما يُقدّر – هي الحالة الثانية التي تُمكِّن لعلمانيين مصنوعين على عينه، ويؤمنون بالكامل بنظرته ومصلحته، ولم تبقَ تربطهم بالأمة أي رابطة دينية وحضارية عميقة في فكرهم ومشاعرهم، ولا يواربون كثيرا ولا قليلا إذا أمكنهم بأن يتقدّموا بهويتهم الحقيقية للأمة بعد أن تكون أوساطها العامة قد تهيّأت لقبول هويتهم.
فهذه الفئة مرشحة تماماً – مع سماح الظروف – لأن تخلق حالة انسجام كامل في حياة الأمة مع التوجه الغربي والمصلحة الغربية، وذوبان كامل في رؤاه وأخلاقه وسلوكياته.
أما خيار الأنظمة التقليدية – هل يختار الغرب الديموقراطية في ظل الأنظمة القائمة؟ – يُلاحظ على هذا الخيار أنه يعاني من صعوبات صار الكل يعرفها للحالة العامة من الانفصال الفكري والنفسي والعملي عند الشعوب عن كثير من هذه الأنظمة لتراكمات تاريخية كثيرة، وتجارب متعددة مُرّة، وإن بقاء الأنظمة التقليدية لا تحصل معه نقلة واضحة مشهودة لجماهير الأمة تعطيها أملاً جديدا وتشعر من خلالها بحياة جديدة، ولوكان ذلك من باب الأمل الكاذب.
وبالنسبة لخيار الإسلاميين الشكليين لا يمكن في الحقيقة أن يُساوى خيار العلمانيين المكشوفين، لأن هذا الخيار محتاج للتستّر، وبطء التنفيذ لما يريده منه الغرب، ومضطر لتقديم شيء من التنازلات للرأي العام الإسلامي الذي يخالفه في الحقيقة ويحاول أن ينسجم معه في الظاهر.
4. وإن الغرب لا يرفع يده بصورة نهائية عن أي من هذه الخيارات الثلاثة ولا غيرها – إن وجدت – فهو في الوقت الذي يعزِّز فيه علاقاته مع لأكثرية من أنظمة الحكم القائمة في البلاد الإسلامية ويُنسّق معها بما يخدم مصالحه تراه يُمتّن العلاقة مع العلمانيين، ويحمي حركاتهم، ويغير الساحة الإسلامية لصالح طرحهم ونفوذهم وتسلّقهم إلى السلطة.
لأن هذه الفئة ستكون وكيلاً مباشرا مؤهّلاً وبصورة مكشوفة، وتتحمّل مسؤولية التغيير الجذري الهائل في أوساط الأمة بما ينسجم وطموحات الغرب ورغائبه.
وإن كانت حكومات قائمة كثيرة من حكومات البلاد الاسلامَّية لا تقصر في هذا المجال أبدا عما يمكن أن يمارسه دور العلمانيين إلا أن التغيير الشكلي الذي ستشهده الأمة بوصول العلمانيين إلى السلطة سيساعد على تجاوب الأمة معهم خاصة بعد أن يكون الشارع قد تهيّأ تماما لتقبّل أفكارهم وطروحاتهم.
وفي نفس الوقت نجد أن الغرب يحاول أن يخترق جماعات إسلامية ويجد منفذا إليها، ويتفاهم معها علّه يجد في بعضها ضالته من أصحاب الهوى الدنيوي وطلاب السلطة ولو على حساب الدين ممن يستعد أن يقدم التنازلات الكبيرة الضارة للدين والأمة المرضية لأعدائها، كما يسعى لايجاد جماعات اسلامية الاسم.
نعم، إن الغرب ليحاول الاحتفاظ بأكبر قدر ممكن من الأوراق في علاقته بالعالم الآخر، ويعزِّز صلاته بأكثر من جهة وخطٍّ للاستحواذ على كامل العملية السياسية في أرض الغير، والإمساك بكل خيوطها لمصلحة تمكينه وتحكّمه في مصير الآخر.
ويبقى الصف المؤمن المخلص من أبناء الأمة من فقهاء وعلماء دين ومثقفين إسلاميين واعين ومخلصين لدينهم، هو الصف المقاوم الحقيقي في وجه الهيمنة الأجنبية، وهؤلاء لا يعدلون عن قيم الدين ومبادئه على الإطلاق، ولا يقدمون شيئاً على مصلحة الدين والأمة، ولا يرضون تزيداً ولا نقصاً لما أنزل الله من الحقّ، وما تلقّته الأمة من الوحي، وما قضى به الدين من الأمر.
وهذا صف عنيد يستعصي على المساومات التي تنال من نقاء الدين وعصمته وكرامته، ومن مصلحة الأمة، وقد حفظ الله به الإسلام كل القرون، وحمى به أصالة الأمة وأبقى لها هويتها الكريمة الصادقة المتميّزة.
قبل الانفجار:
الانفجار الطائفي مدمّر، وهذا ما تدركه كل الأطراف، وقد يكون الراغبُ فيه هو القليل، وإن كان الساعي له كثيرين، ولهم خلفياتهم المختلفة للشرخ الطائفي، وإذ يسهمون الإسهام الواضح على هذا الطريق قد لا يقدّرون أنه سيوصل إلى النتيجة الحتمية من الانفجار الهائل الذي لا يبقي ولا يذر، ولا يحقق أمنية أحد على حساب الآخر لأنه يحرق الجميع.
وينبغي أن ينصبّ الكلام هنا – وقد أحسَّ لاعبون كبار بخطورة الموقف، وأن الوضع يهدِّد جداً بالانفجار والتدمير- على كيفية التخفيف والمعالجة، وهذه بعض خطوات يمكن أن يكون قد تقدم كثيرٌ منها في حديث سابق:-
1) إنكار كل العقلاء من كل الأطراف على أي كلام أوإجراء لتقريب اشتعال النار وتغذية الفتنة ابتداء من عقلاء الطرف الذي يحدث منه هذا الأمر الضار المفسد.
2) تكثيف الخطب والمقالات والندوات التي تطفئ الجمر، وتُبرِّد المشاعر، وتطرح ثقافة الوحدة الإسلامية والوطنية بدل ثقافة النعرات، وتركز على ترابط مصالح الحاضر والمصير، وتُذكِّر بالله سبحانه، ثم بالمشتركات الكثيرة في الدين الحق دين الجميع.
3) إيجادُ سلسلة لقاءات ودّية متصلة في عدد من الأوساط الاجتماعية بصورة مخطط لها، وبصورة أخرى عفوية تدل على الانطلاقة الذاتية الداخلية المخلصة كالوسط العلمائي من الطائفتين الكريمتين، والوسط المؤسساتي، والمثقفين الإسلاميين المستقلين، تستهدف هذه اللقاءات التقارب، وتلمُّس وسائله العملية المختلفة وتفعيلَها، ومعالجة بؤر التوتر والإثارة.
4) الدخول في مشاريع ثقافية واجتماعية واقتصادية مشتركة تُسهم فيها شرائح من الطائفتين وتقدم خدماتها لأبنائهما على السواء.
وفكرة المجلس العلمائي المشترك لا زالت قائمة وذات قيمة عملية عالية، ولا تتعارض مع المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية ولا مع أي مجلس آخر، وسيكون مكملاً لهذه المجالس لا مضاداً ومناهضاً لها.
5) تنقية المناهج المدرسية من أي مساس بمذهب من المذاهب الإسلامية والإساءة إلى أتباعه، وإيقاف توزيع الكتيبات والنشريات والإعلانات الشاتمة والمهاجمة مذهبيا في المدارس والدوائر الرسمية وفي كل الساحة.
6) رعاية الخصوصية المذهبيّة في مناهج التربية الإسلامية في المدارس الرسمية والجامعة إحقاقاً لحق المواطنية المشتركة من جهة، وقضاء على التهويلات المذهبية المتبادلة والتي تُسيء إلى وحدة الطلاب، وتخلق إرباكات فكرية مقلقة عندهم، وتثير الريبة بينهم في أصل الإسلام عند كل طرف من قبل الطرف الآخر.
7) أن تتجه السياسة إلى مسلك جديد أكثر عدلاً ومساواة بين أبناء هذا الوطن الواحد في كل المرافق التي تتصل بالحياة العامة الثقافية والاجتماعية والخدمية والوظيفية وغيرها حتى لا تتأصّل روح الفرقة بين المواطنين، ويتأكّد الشعور عندهم بتعارض المصالح.
وتُعد الحكومة هي المسؤول الأول في المحنة الطائفية وتفاقمها أو علاجها، وإن كان لكل إسهامه في التأجيج.
اللهم صل على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين. ربنا أكفنا مبسوطة لك بالدعاء، فلا تردها خائبة من فضلك، وقلوبنا معلّقة بكرمك تؤيسها من فيضك، ونفوسنا واجفة من إساءتها فأنلها عفوك، ولا تعذّبها بعقوبتك يا رحمن يارحيم.
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 – 33/ الأحزاب.
2 – ميزان الحكمة ج8 ص228.
3 – ميزان الحكمة ج8 ص228.
4 – ميزان الحكمة ج8 ص229.
5 – اليدان سليمتان، الرجلا سليمتان، أما المعدة فخراب، القلب خراب، الكبد خراب، الكليتان خراب. ماقيمة هذا البدن؟!
6- ميزان الحكمة ج8 ص229
7 – 125/ الأنعام.
8 – 1/ الشرح.
9 – ميزان الحكمة ج8 ص230.
10 – لم تعد الدنيا تسحره، لم تعد تستوقفه، لم تعد تغلب على عقله ولا قلبه، لم تعد تمثّل في نفسه ذلك الوزن الذي يعيق عن الله عزّ وجل.
11 – صار معلقا بالآخرة، برضوْان الله تبارك وتعالى.
12 – ميزان الحكمة ج8 ص230.

 

زر الذهاب إلى الأعلى