خطبة الجمعة (232) 25 محرم 1427هـ – 24 فبراير 2006م

مواضيع الخطبة:

القلب + التفجير الآثم + السياسة الدنيوية

ما نتمناه بكل صدق أن تنطفئ نار الفتنة في العراق ويعود كلُّ شعبه إلى رشده، وتنقطع يد التدخل الأجنبي الطامع المفسد في شؤونه، وتحكمه وضعية عادلة من مختلف مكوّناته الحريصة على مصلحته والحفاظ على مكاسبه ومنجزاته وتنميتها، ورعاية هويته وأصالته وانتمائه الإسلامي الأصيل. 


الخطبة الأولى

الحمد لله الذي أمر كلّ شيء بيده، ولا يملك أحد من أمره شيئاً، ولا يجد من دونه لخير سبباً، ولا يستطيع بلا تقديره سعياً ولا طلباً. خاضعة له الأشياء، جارية بتقديره الأسباب، ماضية بمشيئته الأقدار.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله صلَّى الله عليه وآله وسلم تسليماً كثيراً كثيراً.
أوصيكم عباد الله ونفسي الأمّارة بالسوء بتقوى الله ومراقبة القلب ومُضمراته، والنفس ومطاويها، والعمل على تنقيتها من كل محتوىً خبيث، ورجسٍ مفسد، فليس لأحدنا لو خبثت نفسه، وتنجّس قلبه – والعياذ بالله – شيءٌ يفتخر به ولو كانت الدُّنيا كلُّها تحت يده، والنّاسُ يتبعونه من خلفه، فلا سموّ بعد خُبْث النفس، ولا رفعة بعد رجس القلب، وقد بَعُدَت عن الله نفس أصابها الخبث، وقلب ناله الرجس، ومن أين لنفس أن تسمو وهي بعيدة عن الله، ولِقلب أن يجد الرفعة وقد حجبته عن هدى ربّه الذنوب؟!
اللهم صلّ على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا فإنك أنت التواب الرحيم. ربنا طهِّر نفوسنا من كل ما يبعِّدها عنك، ونقِّ قلوبنا من كل ما يحرمها هداك. ربنا لا تخلّ بيننا وبين أهوائنا المضلة والشيطان الرجيم.
أما بعد أيها الأخوة والأخوات في الإيمان فمع مواصلة لموضوع القلب:
إقبال وإدبار:
للقلب إقبال، وله إدبار، ولا يكون القلب في الأغلب على وتيرة واحدة. تقول الكلمة عن الإمام علي عليه السلام:”إنّ للقلوب شهوة وإقبالاً وإدباراً، فأْتوها من قِبَل شهوتها وإقبالها، فإنّ القلب إذا أُكره عمى”(1).
شهوة القلب هنا شوقه للعمل الصالح، واستعداده للنشاط في عمل الخير، وأن يكون ملؤه الرغبة في الطاعة والعبادة.
هذه حال من حالات القلب، وله حال أخرى وهو أن يُدبر، ويُصاب بالوهن، والكسل، والخمول، وقد يكون هذا عن تحميله ما لا يحتمل، وعن الأخذ به إلى أكثر مما يُطيق، وقد يكون عن مرضٍ وعلّةٍ خبيثة فيه. إذا كان الحال هو الأول فإذا أقبل حُمِّّل العبادة الكثيرة التي تزيد في تنوُّره، وإذا أدبر خُفِّف عنه.
“… فأْتوها من قِبَل شهوتها وإقبالها، فإنّ القلب إذا أُكره عمى”.
للنفس احتمال، وتحميلها ما لا تحتمل قد يرجع بأثر عكسي سلبي على مستواها، لها طاقة في العبادة، ومن بعد عبادة تحتملها تتحوّل العبادة عليها ثقلاً قد يضرّ بهداها، وباستعدادها للعودة للطاعة.
في الكلمة عن الصادق عليه السلام:”إن القلب يحيى ويموت، فإذا حيي فأدّبه بالتّطوّع، وإذا مات فاقصره على الفرائض”(2).
القلب تكاسل أو نشط فإن جرعة من العبادة لا بد له منها، وإذا لم يتلقّاها فسد بالكامل، تلك الجرعة تتمثّل في الفرائض، وما فوق الفرائض يُراعى فيه حال القلب، فإن كان في حيوية ونشاط وإقبال وشهوة للعبادة استُغلّت الفرصة، ووُضع على طريق العبادة الاضافيّة ليزداد حياة ونشاطا ووعيا وتفتحا وبصيرة، وليكتسب سموّا أكثر، وشفافية أكبر، أما إذا مات، إذا أصابه ذبول، إذا أصابه خمول، إذا جاءت عليه غفلة لا يحتمل معها العبادة الزائدة فخفِّف عنه حتى يعود إلى نشاطه، أما ما كان فريضة فلا تستجب للقلب في إهماله على الإطلاق.
“إنّ هذه القلوب تملّ كما تملّ الأبدان، فابتغوا لها طرائف الحكم”(3).
تنويع النشاط فيه علاج للقلب، وليس معنى أن أترك التطوّع في باب أن أتركه في كل باب. تشبّعت النفس بعبادة الدعاء، وصلت إلى الحدّ الذي تفقد معه إقبالها في قراءة القرآن، فهناك زيارة الأخوان، هناك مداعبة طفلك بقصد تربيته الصالحة، هناك ألوان وألوان من العبادة التي يُعطيك التنقّل بين حدائقها وأجوائها ما يُساعدك على استمرارية النشاط.
حكومة الله:
لله حكومة تامّة وشاملة ومسيطرة على الكون كلّه، على كل ذرة فيه، من هذه الحكومة ما تقول عنه الآية الكريمة:{… اعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ…}(4).
قلبك وجوداً، قلبك حياةً، قلبك أثراً من صنع الله، من صنعه الذي ليس كان فحسب، وإنما من صنعه الذي يكون كذلك. ليس لشيء منك استمرارية على الإطلاق إلا بمدد دائم من الله، بفيض متنزّل متجدّد من الله سبحانه.
فقلبك الذي بين جناحيك إنما هو ملك لله، ثمّ كل ذرة أخرى فيك هي ملك لله، فَاْصِلُ قدرة الله، فَاْصِلُ تقدير الله، فاصل علم الله، فاصل فيض الله يتوسّط بينك وبين كل شيء فيك، بين كل جزء جزء من أجزائك.
وليس من ذرة في الكون إلا وهذا حالها، وليست تركيبة الكون كلّه إلا على هذا المجرى، وإذا كان قلبك مملوكاً لله عزّ وجل، وأنت كذلك، فإن قلبك لا يُسيّرك إلا بتوسّط قدرة الله، وإنّك لا تملك من قلبك شيئا إلا بقدر الله سبحانه وتعالى.
حبّك، بغضك، حزنك، فرحك، تفكيرك، كلّ شيء فيك من عمليات قلبيَّة دقيقة لا تتمّ إلا بفيض من الله سبحانه وتعالى، وتقدير وتدبير.
تقول بعض الأحاديث حول هذه الآية الكريمة:”في قوله تعالى:{… أَنَّ اللّهَ يَحُولُ…} هو أن يشتهي الشّيء بسمعه وبصره ولسانه ويده(5)، أما إن هو غشي شيئاً بما يشتهي فإنّه لا يأتيه إلا وقلبه منكِر لا يقبل الذي يأتي، يعرف أنّ الحق ليس فيه/ (وفي خبر هشام) يحول بينه وبين أن يعلم أنّ الباطل حقّ/”(6).
صنعة الله، صبغة الله، فطرة الله لا تبديل لخلق الله.
غُرس الحق في النفس حقّاً، وغُرس الباطل في النفس باطلاً، في نفسك رسول إليك، في نفسك حجة عليك. رسولٌ يُميّز في داخلك بين الحق والباطل، وهذا التمييز لا يأتي عليه تغيير جذري يتحوّل معه الحق في النفس باطلا بوضوح، والباطل في النفس حقا بوضوح كما تُفيده الأحاديث الشريفة.
أشتهي الباطل، أأتي الكذب لا سمح الله، أأتي الغيبة لا سمح الله، ولكن ليس لي قلب يقول لي إنك على حق، وأن هذا هو الهدى، وفي هذا كامل الصواب.
تبقى الفطرة منكرة، يمكن أن تتغطّى، يمكن أن تغفل تلك اللحظة، لكن يبقى الرسول في النفس، والحجة في النفس، وما يأتي على الحجَّة من غبار فهو من مسؤولية الإنسان.
يقول الحديث:”… فإنّه لا يأتيه إلا وقلبه منكِر لا يقبل الذي يأتي…” لا يقبله على أنه حق، على أنه هدى، يقبله على أنه شهوة، يعرف أن الحق ليس فيه.
“…(وفي خبر هشام) يحول بينه وبين أن يعلم أنّ الباطل حقّ/” وفي هذا السياق نقرأ أيضاً:”هو أن يشتهي الشّيء بسمعه وبصره ولسانه ويده(7)، أما إن هو غشي شيئاً بما يشتهي فإنّه لا يأتيه إلا وقلبه منكِر لا يقبل الذي يأتي، يعرف أنّ الحق ليس فيه”(8).
“(أيضاً) هذا الشيء يشتهيه الرجل بقلبه وسمعه وبصره لا يتوق نفسه إلى غير ذلك…”(9) نفسه منشدّة إلى هذا الذي يأتيه مما اشتهت نفسه الساقطة، “… فقد حيل بينه وبين قلبه إلا ذلك الشيء” هذا أيضا مصداق للحيلولة بين المرء وقلبه بسبب من فساد النفس، مما أجرمته في حقّها. فقد تأتي لحظة على الإنسان أنّه لا يشتهي إلا الباطل، لا يتوق إلاَّ الباطل، نظره مشغول بذلك الباطل، بتلك اللذة المحرّمة، أما ذلك الانقلاب الذي تحدّثنا عنه فلا يحصل في القلب، فلا يكون هذا الباطل المحبوب حقّاً في رؤية القلب.
ونقرأ في خبر يونس بن عمار عن أبي عبدالله عليه السلام قال:”لايستيقن القلب أن الحق باطل أبداً، ولا يستيقن أن الباطل حق أبداً”(10).
فطرة الله التي فطر الناس عليها، لا تبديل لخلق الله، هذا الرسول قائم في ذاتك حتى لحظة الموت، وهو حجة عليك.
والحمد لله رب العالمين.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
ربنا بك عوذنا، ربنا إليك لواذنا، ربنا عليك اعتمادنا، وفيك رجاؤنا، وبك أملنا، فاهدنا ولا تضلنا، واحمنا واكفنا وانصرنا ولا تخذلنا، وأعزنا ولا تذلنا، وثبتنا على دينك القويم، وصراطك المستقيم، يا رحمن يا رحيم، يا جواد ياكريم.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ (4)}

الخطبة الثانية

الحمد لله المحيي المميت، المغني المفقر، المعزّ المذِلّ، وهو حيٌّ لا يموت، غنيٌّ لا يفتقر، عزيزٌ لا يذل، قاهر لا يُقهر، غالبٌ لا يُغلب، فعّالٌ لما يريد.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وزادهم تحية وبركة وسلاماًً.
أوصيكم عباد الله ونفسي المخادعة لي بتقوى الله، وأن لاتخرجنا طاعة العبيد عن طاعته، ولا ينسينا خوفهم خوفه، وأن نُخلص له الطاعة، ولا نشرك به في العبادة، ويكون خوفنا منه، ورجاؤنا فيه، وأملنا به، ومعوّلنا عليه، وسعينا له، وجهادنا في رضاه فما أغنى أحداً عن الله شيء، وما افتقر عبد رَضِيَ الله عنه إلى شيء فلا يستخفنا الشيطان وجنده الغاوون.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين مغفرة جزماً حتماً.
اللهم افعل بنا ما أنت أهله يا أهل التقوى والمغفرة، والمنّ والإحسان، ولا تفعل بنا ما نحن أهله فإنّنا عبيدك المذنبون.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبدالله خاتم النبيين والمرسلين، وعلى علي أمير المؤمنين، وإمام المتقين، وعلى فاطمة الزهراء الصديقة الطاهرة المعصومة.
وعلى الأئمة الهادين المعصومين: الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن المهدي المنتظر القائم.
اللهم صل على محمد وآل محمد، وعجّل فرج ولي أمرك القائم المنتظر، وحُفَّه بملائكتك المقربين، وأيده بروح القدس يا رب العالمين.
عبدك وابن عبديك، الموالي له، الممهد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين وفِّقهم لمراضيك، وسدد خطاهم على طريقك، وادرأ عنهم يا قوي يا عزيز.
أما بعد أيها الكرام الأعزاء من المؤمنين والمؤمنات فإلى هذين الموضوعين:-
التفجير الآثم:
لغة التفجيرات والاغتيالات الإرهابية لو تحوّلت إلى لغة عالمية ماذا ستكون النتائج؟ إنه إذا أعطيت لنفسي الحق في أن أُفجّر الآخرين ومقدَّساتهم فقد أعطيتهم عمليّاً على نفسي حق أن يفعلوا الشيء نفسه بالنسبة لي ولمقدَّساتي.
فهذه اللغة المقوِّضة لبنية المجتمع البشري كلُّ العقلاء محتاجون لإدانتها حماية لأنفسهم، وحرصاً على مقدّساتهم، وكلُّ مقدّس عزيز عند أهل حق أو باطل.
وتفجير قُبّة العسكريين الهاديين عليهما السلام لا تُستبعد على أي من أضلاع المثلّث المشؤوم أمريكا والبعثيين والتكفيريين لطبيعة الأطراف الثلاثة التي تحكمها المصالح الذاتية الضيقة، وانفلات الأساليب عن فلك القيم السماوية والإنسانية الهادية.
وهذا التفجير ليس بعيداً عن الأغراض السياسية الدنيئة وإن كان منبته الأخلاقية الوضيعة، والنظرة الساقطة، وعدم التوّرع عن التقحّم المستهتر للفتك بالحرمات المقدّسة.
وإنَّ السكوت الطويل والكلمات المشجعة من قبل بعض الأطراف في الساحة العراقية للأعمال الإرهابية، وعمل كثير من أبواق الإعلام الجاهلي في الساحة العربية أغرى بالتمادي في هذه الأعمال وتوسّعها، وتطاولها على كل مقدّس في أرض الأنبياء والأولياء.
ويأتي الموقف المتفرِّج من الساحة العربية والإسلامية من هذه الجرائم البشعة، وعدم الإدانة والاستنكار الصريح على المستويين الشعبي والحكومي لمرات متعدّدة داعماً لمثل هذه التعديات ومشجّعاً عليها.
والجديد المؤسف إلى جنب شناعة طغيان الإجرام والاستهتار السيء الذي نال من قدسية مقام العسكريين الهاديين عليهما السلام هو البوادر الخطيرة لنفاذ الصبر من طرف المظلومين في العراق والذين طالما استهدفتهم الاغتيالات والتفجيرات رموزاً وجماعات ومقدّسات، والاندفاع على طريق رد الفعل المخوف بصورة عفوية لم تستطع حتّى كلمات القيادة الدينية العليا المتمثّلة في المؤسسة المرجعية لكبار فقهاء النجف الأشرف وعلى رأسهم سماحة آية الله العظمى السيد السيستاني أن تقف في وجهها إلى الحدّ الذي يمنعها بصورة نهائية.
وهذا ما كان الغيورون والمؤمنون يخشونه كثيراً ولا يرضونه أبداً، لحرمة الدم المسلم، ومقدّسات المسلمين جميعاً من مساجد شريفة، ومقامات كريمة، وهو منذر بحرب أهلية طاحنة بدأها الأشرار، ويذهب ضحيتها مزيد من الأخيار من كلِّ المسلمين، وهو نصر لكل من يمكر بالإسلام وأهله، وخسارةٌ كبرى للمسلمين وديارهم.
وما نتمناه بكل صدق أن تنطفئ نار الفتنة في العراق ويعود كلُّ شعبه إلى رشده، وتنقطع يد التدخل الأجنبي الطامع المفسد في شؤونه، وتحكمه وضعية عادلة من مختلف مكوّناته الحريصة على مصلحته والحفاظ على مكاسبه ومنجزاته وتنميتها، ورعاية هويته وأصالته وانتمائه الإسلامي الأصيل.
ولا بد أن نؤكد في ظلِّ هذه الظروف المتوترة في عراقنا الحبيب على وجوب انضباط العلاقات الإسلامية الإسلامية في الساحة الإقليمية والعربية والإسلامية العامة، وتذكُّر حرمات الله وما شدد عليه الدين من حرمة الدم المسلم، والعِرض المسلم، والمال المسلم، وما عليه احترامه لإنسانية الإنسان وتقريره لكرامتها، وما أوجبه من أخوّة إيمانية، وأن لا تنجرّ أي بلد من البلدان الإسلامية إلى ما يمكن أن تؤدي إليه تداعيات الساحة في البلد الممتحَن وقاه الله من السوء إلى شقاق ونزاع واستباحة الحرمات.
وإنَّ أول الحرب الكلمة وخاصة في الظروف الصاعدة، وإن لم نحسن الكلمة في هذه الظروف الصعبة نكن قد فتحنا على ساحاتنا كلها أشد ألوان الصراع، وفتحنا على بعضنا البعض أسوأ حالات الفتك والغدر والانتهاك والاغتيال والتدمير.
وبذلك بدل أن نُسهم ولو بالقليل في التخفيف من الجراح النازفة في العراق نزيد المحنة محنة والجراح جراحاً، والدم نزفاً والفتنة اشتعالاً، والاقتتال سعة دائرة.
فمن أحب الإسلام واتقى ربه فليعمل على وأد الفتنة لا إشعالها، ومداواة الجراح لا تعميقها وتوسيعها، ولملمة شمل المسلمين لا تبديده.
وليستذكر المسلمون كلُّ المسلمين وغيرهم أن دم كل قوم في الدنيا عزيزٌ عليهم، وأن مقدسات كل جماعة غالية عندهم، وتعلِّمنا الأحداث المريرة ومنها الإساءة الوقحة لرسول الله صلى الله عليه وآله، والتعدّي القبيح على قبة العسكريين الهاديين من أسباط رسول الله صلى الله عليه وآله أن ما قد يُصبر عليه من سفح الدم لا يصبر على مثله من إهانة المقدّسات.
وأن الأعصاب قد تتماسك أمام مشهد الدم وهو مثير ومرعب ومستفز وعظيم إلا أنها تفقد تماسكها أمام مسِّ العقيدة والتعدي على المقدَّسات وهي تحمل كلَّ المعنى، وكل الكرامة، وكل الشرف، وكل الشَّمم، وكل الاعتزاز الذي يشعر به ويفخر به المنتمون إليها.
وإن القبة النورانية لمرقد الإمامين الهاديين العسكريين عليهما السلام والتي أتى عليها عدوان الجهلة السفلة الظالمين وهي أكثر إشعاعاً بنور الإيمان وهدى الحق، وشفافية العقيدة، وصفاء الروح، وطهارة الوجدان، وسمو المعنى، وقدسية البقعة من إشعاع ذهبها في ضوء الشمس وساعة الشروق والأصيل، لن تنتظر طويلاً حتى تشقّ طريقها في الفضاء البعيد وتتربع في الأجواء قاهرة نيّرة تُرسل أشعة هديها وتقواها ورشدها وسموِّها، وتعلم العالم دروس الإيمان والإخلاص والوفاء والمحبّة الطاهرة والتعاون على الخير والسير الصاعد إلى الله على هُدى دينه وفي ضوء كلمته.
إنها القبّة التي لا بد أن تقوم سريعاً لتؤدي وظيفة الهداية والتقويم للعباد، والدلالة على الله عزَّ وجل ولو كان ثمنها بيع جماجم المؤمنين، أو كانت جماجم أهل الإيمان هي ما يقوم به بناؤها. فإلى بذلٍ كثير لبناء القبة الطاهرة، لا عن حاجة، وإنما للتشرّف بهذا البذل وكسب الثواب. وليكن لشعب البحرين شرف المساهمة في بنائها عن طريق حملة تبرعية منظّمة واسعة.
وبقدر ما عليه جريمة تحطيم القبّة المطهّرة للمرقدين الشريفين للإمامين الهاديين من منكر عظيم، وتعدٍّ عام على المقدسات، وإهانة للدين، وإيذاءً للضمير المسلم، وجرأة سخيفة تجاوزت الخطوط الحمر عن عمد واستخفاف وتحدٍّ سافر للمؤمنين يتحتم على كل مؤمن غيور أن يُبدي شجبه واستنكاره ويعلن صرخته في وجه هذه الجريمة المُنكَرة الفاحشة ولكم عصر اليوم فرصة سانحة لأداء هذا الواجب الشرعي في المسيرة الكبرى الساعة الثالثة والمنطلقة من دوّار القدم فإلى هناك في الساعة المُحدّدة.
وكم يحزّ في النفس ويوخز الضمير، ويكشف عن المستوى الهابط لمرتكبي جريمة العدوان على قبة الهاديين أن يأتي هذا العدوان مع تفاعلات الجريمة النكراء بالإساءة إلى خاتم الأنبياء والمرسلين (ص) ليعطي تبريراً من داخل الساحة الإسلامية لما قام به سفلةٌ من أهل الغرب من التعرض لكرامة رسول الله (ص) ورسالته الطاهرة، ولإسكات الاحتجاج على ذلك التعدي القبيح الباغي.
إنهم يريدون للغرب وإن كان غير معذور أن يقول لنا:إنه إذا كان المسلمون يستخفون بمقدّسات بعضهم البعض بهذه الدرجة من الاستخفاف، ويتعدون عليها بهذا اللون من التعدي السافر فماذا يُنكرون منا إذا سلكنا معهم هذا السلوك نفسه؟
وهذا ما يقرِّب كون الفاعلين أيّاً كانوا ممن يعمل لحساب الداوائر الغربية، وينسق مع الأمريكان والإنجليز في العراق، ويتآمر ضد المسلمين كل المسلمين. وإلا فما معنى هذا التوقيت بالضبط، ومعركتنا ضد جهلة الغرب للدفاع عن المقدسات لا زالت قائمة.
هل يراد تحويل الأنظار؟! امتصاص النقمة؟!! اشتغال المسلمين بعضهم ببعض عن عدوان الغرب؟ إنقاذ الغرب من فضيحته؟ التمكين للأمريكان والإنجليز في العراق بصورة أكبر؟ دفع الآخرين لجرأة أكبر على مقدّساتنا وتصغير قيمة هذه المقدسات في نظرهم؟! كل هذا وارد بقرينة طبيعة الفعل، وطبيعة التوقيت وسياق الحدث.
وإذا كان كل هذا مغفولاً عنه فإنما تدل هذه الغفلة على دنوّ وسقوط تفكير هذه الجماعة، وعدم صلاحيتها للعمل باسم الإسلام على الإطلاق.
السياسة الدنيوية:
هناك سياستان: سياسة دنيوية وسياسة أخروية. ولا أعني بالسياسة الأخروية التي تنصرف بالإنسان للآخرة عن الدنيا، وإنما هي تلك السياسة التي تعمر الدنيا وتصلح الدنيا وتنشر الأمن والسلام في الدنيا، وتحوّل الدنيا إلى جنّة من حيث ربطها بالنظر إلى الآخرة، وتأسيس الحركة فيها على أساس من القيم الإلهية العليا العادلة.
وأما السياسة الدنيوية فهي التي تقصر حركة الإنسان في الأرض في إطار شهوات الطين، وتحول الحياة صراعا مريراً على هذه الشهوات والملذات الساقطة، وتستبيح كل جرم في سبيل الشهوة واللذة المحرّمة.
السياسة الدنيوية لا تتورّع عن فعل أي شيء في سبيل مصالحها المادَّية؛ لاعن زرع روح الاقتتال والفتن المدمّرة، ولا عن أي جريمة أخرى تمر بخاطر الإنسان.
هذه السياسة تجيد اشعال الفتن، واختيار توقيتها، ولها موظّفوها المعدّون لمثل هذا الدور، كما أن هناك شرطة، كما أن هناك جنداً، كما أن هناك وزارات مالية وداخلية وغيرها، كذلك هناك طابور خاص يعمل على إشعال هذه الفتن حسب السياسة المرسومة لهذا النوع من الأنظمة في أي أرض كانت.
هذه السياسة والأنظمة تكره الوحدويين والعاملين على التقريب، وتخطّط ضدّهم، وترميهم زوراً بالدور الذي تمارسه.
وموظّفوها للتفرقة يمكن أن ينقلبوا إلى دعاة وحدة، ويحاولوا أن يمسحوا الخواطر ويداووا الجروح لأغراض وحدة اصطناعية مؤقتة تخدم أغراض السياسة التي ينتمون إليها. أما دورهم الأصيل والرئيس فيتمثل في بذر بذور الفتنة وإشعالها.
والمبدئيون يرون دعوة التقريب والوحدة واجبا دينياً، ولا يعدلون عنه بافتعالات السياسة الدنيوية غير المتحرّجة.
والسياسة الدنيوية قد تستعمل لغتين في عرض واحد لغة الوحدة ولغة الفرقة.
هناك من يتحدث بلسان الوحدة، وعادة يكون هؤلاء هم الساسة الكبار ووجوه السياسة الحاضرة في أي أرض، وهناك فريق آخر هو فريق الذيول والصحفيين المأجورين والذين يتحدثون بلغة الفتنة والطائفية.
ولغة التفرقة تحتاج في نجاحها إلى أجواء ساذجة، وشعوب غير واعية لا تميّز بين قلم يكتب لله، وقلم يكتب للحكومات.
نعم لغة الفرقة مما تلعب به الحكومات لعب الأطفال بالنار التي ربما أول ما تحرق أصابع لاعبها.
ولو أفاقت الشعوب إلى ما وراء اللعب بهذه النار لصبّت جام غضبها على كل لاعبيها.
وقد تحاول هذه السياسة أن تضبط جرعات الطائفية وزرع الفتنة إلى الحد الذي يخدم أهدافها، بحيث لا يتجاوز حتى يصل إلى حد إحراقها، إلا أنها لا تستطيع هذا التحكم في كل الأوقات، وقد يتّسع الخرق على الراقع، وأول ما قد تفعل الفتن الطائفية أن تطيح بأنظمة عاتية.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم احفظ أوطان الإسلام وآمنها، وشدّ ازر المسلمين، ووحّد كلمتهم، وأصلح حالهم ياكريم. اللهم لقنا خير ما نرجو وما لا نرجو، واكفنا شر ما نحذر وما لا نحذر، وأنقذنا من كل سوء، ولا تكلنا إلى أنفسنا ولا إلى أحد من خلقك طرفة عين أبداً فنكون من الهالكين، وننقلب مع الخاسرين يا رؤوف يا رحيم يا رب العالمين.
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 – ميزان الحكمة ج8 ص227.
2 – المصدر نفسه ص227.
3 – المصدر نفسه ص228.
4 – 24/ الأنفال.
5 – واشتهاؤه له لا يكون أبداً مفصولاً عن قدرة الله عزّ وجل.
6 – ميزان الحكمة ج8 ص250.
7 – واشتهاؤه له لا يكون أبداً مفصولاً عن قدرة الله عزّ وجل.
8 – ميزان الحكمة ج8 ص250.
9 – المصدر نفسه.
10 – تفسير العياشي ج2 ص53.

 

زر الذهاب إلى الأعلى