خطبة الجمعة (228) 12 ذو الحجة 1426هـ – 13 يناير 2006م

مواضيع الخطبة:

 

متابعة لحديث الكبر+ الأئمة والأمة

الإمام عليه السلام كان يُوظّف كل الفئات حتى المنافقين كما كان يفعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الصالح الإسلامي، وصالح الأمة كامله. فهو يحاول أن يدفع بكل القوى على اختلافها، من كان منها صديقا حقا، ومن كان منها غير صديق، من كان على وعي كاف، ومن كان على غير وعي بالدرجة الكافية في ذلك الاتجاه.

الخطبة الأولى

الحمد لله الذي عَرَفَت به العقولُ نفسَها، وتعرَّف لها تفضُّلاً منه بإيجادها، وإلهامِها إدراكَها، وهداها بكرمه إلى سُبُلِ رشدها، وهو مالكُها، وحاكم أمرها، وبيدِه رَفدها، فلا نور لها إلا من نوره، ولا بصيرة عندها إلا بفيضه وتسديده.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم تسليماً كثيراً.
عباد الله علينا بتقوى الله، فلا وزن لأحد عنده سبحانه إلا بتقواه، ولا سبيل إلى جنّته إلا بطاعته وعفوه ومغفرته. فمن كفر واستكبر فقد حقّت عليه النار التي لا قِبَل لمخلوق بها، وما عهد أحدٌ لها في الدُّنيا مثيلاً، وما شقَّ شيءٌ مثلها منزلاً، أو ساء مُقاماً. وإنّ همّها لكان يشغل أولياءَ الله الصادقين عن كلّ همٍّ عظيم من هموم هذه الحياة وكوارثها، ويصرفهم عن الاستئناس للدنيا، والركون إلى آمالها.
كما أن الجنة كانت تملأ عليهم تطلّعهم حتى تفهت عندهم أُمنيات الدنيا، وما يبهر منها عقولَ أبنائها. وكلُّ شيءٍ من أمر الدُّنيا والآخرة يهون عندهم أمام رضوان الله وغضبه، لأنهم عرفوا الله، وأنه العظيم وحده، والمالك الذي لا مالك غيره، والمتصرِّف الذي لا تصرُّف إلا بإذنه.
اللهم صل على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، ولوالدينا وأرحامنا وقراباتنا ومن كان له حق خاص علينا منهم يا كريم. اللهم لا تجعل لنا همّاً يصرفنا عن ذكرك وشكرك وعبادتك والجهاد في سبيلك، ولا طمعاً في هذه الدُّنيا ننزل به درجةً عندك، ونحرمُ به منزلة رفيعة من منازل السعداء في جنتك. وذُدنا ربّنا عن الهلكات، وجنّبنا الزّلاّت، وادفع عنّا البليات، ولا تُوقعنا في كرَب الدنيا والآخرة يا كريم يا رحيم.
أما بعد فهذه متابعة لحديث الكبر:
والكبر شعور استعلائي كاذب في النفس، وإحساس سرابي بعظمتها، وهذا الشعور يدفع إلى مواقف استكبارية في الخارج من مشية خُيلاء، والاستئثار على الآخرين للشعور بالامتياز عنهم، وهناك مصاديق كثيرة كلّها تنمُّ عن ذلك الشعور النفسي المنحرف.
وتفكر بسيط يكشف عن زيف ذلك الشعور.
حينما يعلم الإنسان من نفسه أنه لم يكن موجوداً ووُجد بإرادة غير إرادته، وأنه ينتزع من هذه الحياة قهراً، وتهجم عليه همومها، أراد أو لم يرد، وفي أي لحظة من لحظاتها، وتقتحمه أمراضها وأسقامها على غير ما يشتهي، وعلى خلاف ما يخطط له، فقد يبذل أقصى ما في وسعه للوقاية إلا أن كل وقايته تبوء بالفشل.
هذا الإنسان ما كان له أن يستكبر في الأرض وهو على هذه الحالة، وهناك سؤال: لم الكبر يا إنسان؟
ونقرأ بعض الأحاديث عنهم عليه السلام:
“عجبتُ لابن آدم أوّله نطفة وآخره جيفة، وهو قائم بينهما وعاء للغائط ثمّ يتكبّر!”(1) عن علي عليه السلام.
وعن الباقر عليه السلام:”عجباً للمختال الفخور وإنّما خلق من نطفة ثمّ يعود جيفة، وهو فيما بين ذلك لا يدري ما يصنع به”(2).
أيسترد نفسه، أم لا يسترده، أينام ليلته على فراشه، أم ينتزعه الموت إلى قبره؟ هذه اللحظة هو في المكان الذي يسره، وقد يكون في اللحظة الأخرى على سرير المرض العضال في المستشفى. لا يدري ماذا يصنع به!!
“وقع بين سلمان الفارسي رحمه الله وبين رجلٍ كلام وخصومة، فقال له الرّجل: من أنت يا سلمان(3)؟! فقال سلمان: أمّا أُولاي وأُولاك فنطفة قذرة، وأمّا أُخراي وأُخراك فجيفة منتنة، فإذا كان يوم القيامة ووضعت الموازين، فمن ثقل ميزانه فهو الكريم ومن خفّت ميزانه فهو اللئيم”(4).
لِمَ يا الكبر يا إنسان وهذه هي البداية القريبة لك نفسك؟! لو لم تكن إرادة الله لنطفة الإنسان أن تبلغ مبلغها لكان مصيرها إلى مرحاض، وكم من نطف لا نحصي لها عدّاً كان مصيرها إلى الزبالاتت والمراحيض؟!
أنت واحدة من بين ملايين وبلايين لا تعد ولا تحصى من نطف…، وتلك بلايين قد ذهبت بلا ذكر، بلا فكر، بلا حياة، بلا شعور، وبلا إحساس.
نطفة تلتصق بجدار رحم، تتغذى على دمه، ما شأن تلك الوضعية؟ لي حين أرجع إلى تلك الوضعية أن أستكبر؟ تصور نفسك في ذلك العالم، إنه عالم وضيع، إنه عالم حقير، فلم الاستكبار؟!
ولو كنا أصحاب علم، ووقفنا وقفة طويلة مع البداية لتأدّبنا كثيراً، ولا بد أن يضاهي العلم وعي، ولا بد أن يضاهي العلم حكمة حتى يستقيم الإيمان.
وكثيرا منكم قد شاهدوا صورة لوضعيَّة الجنين في بطن أمه، وهي طرق تدل على الاستكانة والضراعة والاستسلام والخضوع.
لِم الكبر يا إنسان وهذا هو الواقع؟
يقول أحدنا عن نفسه مفتخراً: أنا، ويدخل بعد قليل المرحاض ليتنازل عن شيء من الأنا التي افتخر بها. أليس كذلك؟ أليس كل إنسان يحمل معه مرحاضه؟ فمن أين جاء هذا الاستكبار وهذا الاستعلاء؟!
هذا الإنسان الذي لا يدري ما يصنع به، كيف يستكبر؟! الإنسان الذي تقوم على غذاء لا يملكه، على شعاع لا يملكه، على مواد كثيرة لا يملكها، وكل شيء تعتمده حياته من عند الله وهو لا يملكه ما له وهذا الاستكبار؟!
لِم الكبر يا إنسان وهذه هي النهاية؟
الآن تنهال على غرَّتها القبلات، وما هي إلا لحظات ويفارقها النَّفَس الأخير، وتبدأ الوحشة منها، أما إذا بقيت يوما أو أكثر لعوامل الجوّ الحار فإن الأحبة والعشاق لا يملكون إلا أن يفرّوا منها.
ومن القصر إلى القبر، ومن الإرادة الحية إلى الجمود والهموم، ومن الاعتذار عن المواعيد واللقاءات لكثرتها على أهميتها إلى أن تنقطع علاقته بكل شيء في هذه الحياة. لِم الكبر يا إنسان وهذه هي النهاية؟!
نقرأ عن آثار التكبّر بعض الشيء:
“ثمرة الكبر المسبّة”(5).
أيستكبر أحدنا في أهله فضلا عن استكباره في مجتمعه وأمته ثم يسلم من المسبّة؟! ثم تبقى تهواه القلوب؟! ثم يكون محل إعجاب الآخرين؟! لا، إنه ليهبط شيئا فشيئا حتى يسقط في عيون محبيه لاستكباره واستعلائه.
“الكبر داع إلى التقحّم في الذنوب”(6).
ما يعصم العبد عن الذنب هو شعوره بالعبودية لله عزّ وجل، وحين يدخله الشعور بالاستكبار يسهل عليه تقحّم الذنوب.
“ما من عبد إلا وفي رأسه حَكَمة(7) وملك يمسكها، فإذا تكبّر قال له: اتّضع وضعك الله، فلا يزال أعظم النّاس في نفسه وأصغر النّاس في أعين النّاس، وإذا تواضع رفعها عزّ وجلّ(8)، ثمّ قال له: انتعش نعشك الله فلا يزال أصغر النّاس في نفسه وأرفع النّاس في أعين النّاس”(9).
كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مشغولاً عن تقدير الناس له، بالشعور العميق المسيطر على نفسه بذل العبودية بين يدي ربّه. أنحسب أن رسول الله صلى الله عليه وآله كان على شيء من التكبُّر بتقدير الناس له، وأخذهم حتى من ريقه؟! لو كان كذلك ما كان العبد السابق لله الذي لا تغيب عنه عبودية نفسه وعبودية ربه تبارك وتعالى.
“إنّ الزّرع ينبت في السّهل ولا ينبت في الصّفا(10)، فكذلك الحكمة تعمر في قلب المتواضع، ولا تعمر في قلب المتكبّر الجبّار، لأنّ الله جعل التّواضع آلة العقل، وجعل التّكبّر من آلة الجهل، ألم تعلم أنّ من شمخ إلى السّقف برأسه شجّه، ومن خفض رأسه استظلّ تحته وأكنّه، وكذلك من لم يتواضع لله خفضه الله، ومن تواضع لله رفعه”(11).
كيف نتقي الكبر ونعالجه؟
يمكن أن يُكتفى بقراءة بعض الأحاديث في هذا المجال للتعرف على طرق المعالجة لداء التكبر الخطير.
“لا ينبغي لمن عرف الله أن يتعاظم”(12) اعرف الله تصغر في نفسك أمامه، وتكبر أمام الآخرين.
عن الرسول صلى الله عليه وآله:”إنه ليعجبني أن يحمل الرجل الشّيء في يده يكون مهنأة(13) لأهله يدفع به الكبر عن نفسه”(14).
التواضع في الناس، الجلوس على الأرض، الأكل على الأرض، عدم التعامل بترفّع على الناس في كل المواقع، يهذّب النفس، ويعلّمها، ويعطيها درسا عمليا في التواضع.
“وعن يونس بن يعقوب قال: نظر أبو عبدالله عليه السلام إلى رجل من أهل المدينة قد اشترى لعياله شيئاً وهو يحمله، فلّما رآه الرّجل استحيى منه، فقال أبو عبد الله عليه السلام: اشتريته لعيالك وحملته إليهم، فقال: أما والله لولا أهل المدينة لأحببت أن أشتري لعيالي الشّيء ثمّ أحمله إليهم”(15).
فالأصل أن نمارس مثل هذه الممارسات حتى لا تستكبر النفس، وحتى نأخذ بها على طريق التواضع، ولكن قد تكون هناك مقتضيات خاصة لا تسمح للرجل أن يمارس كل شيء مما يُفضي بطبعه إلى التواضع؛ فلو أنَّ الإمام عليه السلام حمل الشيء الدوني في السوق في أوضاعٍ اجتماعية تُسقط صاحب هذا الفعل. في نظر العامَّة أو الخاصة فلربما خسر الكثيرون المعرفة الصحيحة لقدر الإمام عليه السلام مما يحرمهم الانتفاع بهداه، أو يجرئهم عليه. ومع هذا قد يُقدم الإمام عليه السلام على هذا تعليماً للنّاس في بعض الموارد، وفي موارد أخرى قد يراعي هذه الحالة الاجتماعية رعاية لمكانة الرسالة، فالموارد مختلفة، والمقتضيات مختلفة، وكل مورد يحتاج إلى تعامل معه بدين وحكمة ووعي.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين.
اللهم طهّر قلوبنا من النفاق، وعملنا من الرياء، وألسنتنا من الكذب، وصدورنا من الحقد الذي لا ترضى، ومن الحسد، ونزّه كل جوارحنا من المعصية، واستعملها في طاعتك، واجعل سعيها إلى رضوانك. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب الناس.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ (4) }


الخطبة الثانية

الحمد لله الأحد المتوحِّد، الفرد المتفرّد، الكريم المتكرّم، العظيم المتعظِّم، الكبير المتكبِّر، العليّ المتعال، الشديد المحال، الرَّحمن الرحيم.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لا تبلغ العقول كنهه، ولا تحيط بحقيقته، ولا يقدر أحد قدرَه، ولا يُسابق مسابق قَدَرَه، ولا يُردّ قضاؤه، ولا تُجارى قدرتُه، ولا يُعطّل حكمه. وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله خصَّه بالرسالة، وحباه بالكرامة، وشرّفه بالشفاعة، وأقامه إماماً في النّاس، وهادياً إلى الجنة. صلَّى الله عليه وآله وسلم تسليماً كثيراً كثيراً.
أوصيكم عباد الله ونفسي الأمّارة بالسوء بتقوى الله، ومجاهدة النفس عليها أخذاً بها للاستقامة، وانتهاءً بها للكرامة، وضماناً لها للسعادة؛ فطريق التقوى لا عِوَج فيه، فهي منتهية بصاحبها إلى رضوان الله، وكرامته، والسعادة التي كتبها لأوليائه. والنفس إذا تُركت من غير مجاهدة كسِلت واسترخت للفساد، وأصابها العطب والانحراف.
نعوذ بالله من تحضّر النفس في مواقع معصيته، وكسلها في موارد طاعته، ومن استسلامها للشيطان الرجيم، واستطابتها للخبيث، وإقبالها عليه، وتنكّرها للطّيّب ونِفارها منه.
اللهم اغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا وارحمنا يا أرحم الراحمين.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله خاتم النبيين والمرسلين، وعلى علي أمير المؤمنين، وإمام المتقين، وعلى فاطمة الزهراء الصديقة المعصومة.
وعلى الأئمة الهادين المعصومين: الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن المهدي المنتظر القائم.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على محمد وآل محمد، وعجل فرج ولي أمرك القائم المنتظر، وحفه بملائكتك المقربين، وأيده بروح القدس يا رب العالمين.
عبدك وابن عبديك، الموالي له، المجاهد في سبيلك، الممهد لدولتك، وفقه لمراضيك، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين وفقهم لمراضيك، وسدد خطاهم على طريقك.
أما بعد أيها الأخوة والأخوات المؤمنين والمؤمنات الكرام فهذه بعض كلمات أرجو أن تكون مختصرة:
الأئمة والأمة:
1. أهل البيت المعصومون عليهم السلام؛ رسول الله، وعلي أمير المؤمنين، وأولاده المعصومون أعلى قادة في الأمة، ليس على قيادتهم غبار، ولا يمكن أن تلحق بقيادتهم مآخذ، وهم المسدّدون من الله تبارك وتعالى. ذلك مستوى من القيادة لا يُقارن به مستوىً لغير المعصومين عليه السلام.
2. مع غضّ النظر عن القوى المعادية لهم صريحاً، وعن القواعد المكشوفة التابعة لتلك القوى، نسأل: كيف كان موقف الأمة من قيادة أهل البيت عليهم السلام؟
3. هناك أقسام:
‌أ- قسم تابع أهل البيت عليهم السلام بشرط السلم. هو معهم في موقف السلم وليس معهم في موقف الحرب. حيث يكون رأي المعصوم عليه السلام بالسلم فوجهة نظر تلك الجماعة موافقة.
والشيعة بشرط السلم لموقفهم هذا عللٌ مختلفة. قد يكون وراء هذا الموقف صفة الجبن، أو أي صفة أخرى. قد يكون الطمع، أو الجشع، وقد يكون ذلك من باب الرعاية لخاطر قوم آخرين، إلى آخر ما هنالك من علل وأسباب.
‌ب- قسم آخر تابع أهل البيت عليهم السلام بشرط الحرب، في موقف الحرب هم معهم، لأن تركيبتهم النفسيّة أقرب إلى اختيار الحرب والمواجهة.
فترى القوم الأولين مع الحسن عليه السلام إذا صالح، وإذا سالم، وهم ليسوا معه لو استمرت مواجهته لمعاوية.
وآخرون هم مع الإمام الحسن عليه السلام إذا كان محارباً، وحيث تذهب به المصلحة الإسلامية، والنظر المدقّق فيها إلى اختيار الصلح لا يختارونه، ولا يتخذون من الإمام الحسن عليه السلام إماماً، وهذا الموقف كما يمكن أن يكون مع الحسن عليه السلام كان ممكناً أن يكون مع الحسين عليه السلام، ومع علي بن أبي طالب عليه السلام.
‌ج- القسم الثالث كان يتشيّع لأهل البيت عليهم السلام ويتبعهم متابعة مطلقة، ومنهم من ليس له هوى غير هوى أهل البيت عليهم السلام لقرب نفسيته من نفسيتهم، ورؤيته من رؤيتهم، وتقواه من تقواهم، وتشخيصه السياسي من تشخيصهم.
ومن أولئك الذين تابعوا أهل البيت عليهم السلام على الحرب والسلم، من كان ربما له هوى ونظر غير هوى ونظر غير رأي أهل البيت عليهم السلام في الموقف، ولكن له من الإيمان ما كان يجعله يتعبّد برأي أهل البيت عليهم السلام، ويستسلم رغم كونه على خلاف تشخيصه، وما كان يتمناه من مجيئه على غير ما جاء عليه.
‌د- فئة أخرى هي فئة المنافقين الذين كانوا يظهرون المودة ويبطنون العداوة، وقد يكونون مع السلم دون الحرب، وقد يكونون مع الحرب دون السلم ولكن الدافع لهم دائما هو الإضرار.
يأتون للإمام عليه السلام يُحفِّزونه على الحرب، أو يُثبّطونه عن الحرب، وهم في كلا الموقفين ليسوا مع الإمام عليه السلام وإنما عليه.
من هم الشيعة حقّاً؟ إنهم هم الفئة الثالثة.
4. كيف كان موقف القيادة؟
‌أ- كان الإمام من أئمة أهل البيت عليهم السلام أعرف أهل زمانه بزمانه، وأهل مكانه بمكانه، وبعيداً عن الغيب، ومن خلال الحس المرهف للإمام عليه السلام، والقابليات الفكرية العالية، والصفاء النفسي، والخبرة العملية، والذكاء المتوقّد كانت لا تغيب عنه حالة النفسيات المختلفة.
وكان يهتم كل الاهتمام بتشخيص من حوله، وممن ليسوا حوله من فئات الأمة لأنه قائدها، والمسؤول عن تصحيح أوضاعها.
فكان يتابع، ويتلقّى المعلومات والتقارير من غير الدخول فيما لا يرضي الله وذلك من أجل التعرف على وضعية الأمة وملابسات الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها.
وإذا كانت السلطة تسعى لأن يكون الإمام عندها مكشوفا، فقد كان الإمام عليه السلام يسعى دائماً لأن تكون السلطة عنده أيضاً مكشوفة.
‌ب- الأمر الآخر أن الإمام عليه السلام كان يُوظّف كل الفئات حتى المنافقين – كما كان يفعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم – في الصالح الإسلامي، وصالح الأمة كاملة. فهو يحاول أن يدفع بكل القوى على اختلافها، من كان منها صديقا حقا، ومن كان منها غير صديق، من كان على وعي كاف، ومن كان على غير وعي بالدرجة الكافية في هذا الاتجاه.
كانت مهمته عليه السلام أن يوظّف كل الطاقات، وأن يوجّه كل التيارات في سبيل الصالح الإسلامي، وكما يرى وهو المعصوم عليه السلام لا كما يرى هذا وذاك، ولكن لا يعني ذلك عدم تقدير الآراء، وسماع المشورة.
هذا شأن القيادة المعصومة، ولو كانت قيادة غير معصومة، فلا يسعها أن تعول على رأيها دائما ولا تسمع بدقة إلى كل الآراء ذات الوزن والتوجهات، ولكن من ناحية تعبدية إنما يحكمها الرأي الذي تصير إلى قناعة أكبر به، ولا يمكن أن تقتنع القيادة برأي ويقتنع الآخرون برأي فتتبع رأيهم الخاطئ في نظرها فإن ذلك قد يصل إلى حدِّ الخيانة.
نعم، للمقتضيات الإسلامية، ورعاية لمصلحة الإسلام كان علي عليه السلام قد تنازل عن رأيه الصائب لرأي الآخرين الخاطئ في بعض المواقف اضطراراً درءاً لمفسدة أكبر ولّدها حفظ الأمة التي تحمّلت إثم مخالفتها للإمام عليه السلام.
وكنت ترى الإمام عليه السلام والحال هذه يحاول أن يوظف كل الطاقات في سبيل الله، وفي صالح الأمة.
‌ج- على من كان اعتماد الإمام عيله السلام؟
كان اعتماده الأكبر على النخبة، على المؤمنين، على الشيعة الحق، على الذين يوالونه موالاة حقّة، ولا يتخلفون عن أمره أبداً. فإذا نظر إلى المسألة السياسية يكون العنصر الكبير في حساباته هو هذه الجهة. وقد يكون العنصر الوحيد المعوّل عليه في استمرار الموقف: الحسين عليه السلام التحق به كثيرون ولكن كان اعتماده على النخبة التي بقيت معه إلى الأخير، وقد خطط صلوات الله وسلامه عليه من خلال أكثر من موقف بأن لا يبقى معه إلا النخبة بعد أن تبيّن بُعدُ النفر العسكري في المعركة حسب كلّ المقدّمات.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على محمد وآل محمد. واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم شافنا وشافِ مرضانا، والمرضى المؤمنين والمؤمنات أجمعين، واجعل معاشنا حلالاً طيباً واسعاً، وحياتنا هانئة سعيدة، وديننا قويماً، وطريقنا مستقيماً، وعملنا صالحاً، ومنقلبنا مفلحاً، ومأوانا الجنّة، وجائزتنا منك الرضوان يا رحيم يا رحمن، يا حنان يا منان، يا قديم الإحسان.
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 – ميزان الحكمة ج8 ص309.
2 – ميزان الحكمة ج8 ص310.
3 – مستعلياً على سلمان.
4 – ميزان الحكمة ج8 ص310.
5 – ميزان الحكمة ج8 ص315.
6 – ميزان الحكمة ج8 ص316.
7 – الحَكَمة كما في أقرب الموارد: ما أحاط بحنكي الفرس من لجامه وفيها العِذاران. والحَكَمة من الإنسان: مقدّم وجهه ورأسه وشأنه وأمره. فمع تكبّر الإنسان يدعو عليه الملك بضعة الشأن.
8 – هذه الحكمة التي تسبب الوضاعة، وتسقط القيمة يرفعها الملك، مع تواضع المرء.
9 – ميزان الحكمة ج8 ص316.
10 – الحجر الأملس.
11 – ميزان الحكمة ج8 ص317.
12 – ميزان الحكمة ج8 ص312.
13 – كهدية.
14 – ميزان الحكمة ج8 ص314.
15 – ميزان الحكمة ج8 ص315.

 

زر الذهاب إلى الأعلى