خطبة الجمعة (227) 6 ذو الحجة 1426هـ – 6 يناير 2006م

مواضيع الخطبة:

 

حديث في الكبر + من سنة إلى سنة + أمة ستلقى حسابها +  باب الحوار أو السجون + المواكب الحسينية والمظاهرات

منطلق التغيير دائماً النفس رؤيتها، عقيدتها، هدفها، طموحها، مشاعرها، أملها، يأسها، إرادتها، تصديقها، تكذيبها، شكها، ظنها، خوفها، قلقها، اطمئنانها، سكينتها، حزنها، فرحها، كل محتواها.


الخطبة الأولى

الحمدلله الذي لايرضى لعباده الضلال ولا الخسار والهلكة، وهو الذي دلّهم على الهدى، وبيّن لهم المراشد، وحذّرهم من المداحض، وأرسل لهم رسلاً هادين، وأقام لهم أئمة مكمِّلين، ورزقهم أسماعاً وأبصاراً وأفئدة لعلّهم يهتدون.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم تسليما كثيرا كثيراً.
أوصيكم عباد الله ونفسي الأمّارة بالسوء بتقوى الله ومراقبته في عباده فلا نظلمنّ أحداً، ولا نتحامل عليه بغير حقٍّ، ولا نتبع عورات أمر الله بسترها، ولا نكشف عن عورة حرّم الله كشفها، ولا ننل من عرض امرئ مسلم ظلماً؛ فإن الرقيب الله عزّ وجل، وهو الذي لا تخفى عليه خافية في أرض ولا سماء، ولا يفوته ظلم ظالم، ولا يتجاوز عدله متجاوز.
اللهم صلّ على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم، ووجّه قلوبنا إليك، واستعمل جوارحنا في طاعتك، وكفّها في سلامة عن معصيتك، وعظّم في نفوسنا حرماتك، واجعل لنا عصمة نستوحش بها مخالفتك يارحيم ياكريم.
أما بعد أيها الأعزاء من المؤمنين والمؤمنات فهذا حديث في الكبر:-
قد يُصاب الإنسان بالكبر وهو داء وبيلٌ لا يقف بصاحبه عن الكمال فحسب، بل ينحدر به انحداراً دائماً حتى ينتهي إلى سفال، ويُسقطه في عيون الناس على غير ما يتراءى له من نفسه وهو واهم، وتستوحش منه النفوس السويّة السليمة.
ومنطلق الكبر في النفس نظر خاطئ إلى الذات وما يعتريها، وما هي عليه في أصلها، وما إليه منتهاها، وإلى الآخرين وما لهم من وزن، وغفلة عن الله وعظمته وجبروته وكبريائه.
فالكبر جهل وغفلة وسذاجة وبلاهة في منطلقه، وفقدٌ للتوازن والاعتدال والواقعية في حقيقته، وشعور كاذب بعظمة ذاتية موهومة، وتصرف شاذّ في العلاقة مع الآخرين يعزل صاحبه في شعورهم، وينحطّ به في تقديرهم، ويوغر عليه صدورهم، لما يشير إليه هذا التصرف من تعال ادّعائي واهم للذات، وازدراء للغير.
ومن كان له قدر حقيقي في نفسه لم يجد حاجة لإظهار التكبّر على غيره، ومن وجد في نفسه ضِعة ربما حاول أن يوهم نفسه بالعظمة، ويمارس التكبر تعويضاً عن الشعور بالنقص الذي يعاني منه، ويضيق به داخله.
وهذه بعض عناوين فرعية في الموضوع، ونصوصٌ مضيئة هادية:-
أولاً: الكبرياء لله وحده:
{هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ }(1) {وَلَهُ الْكِبْرِيَاء فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}(2).
كبرياء الله عز وجل ليست مستعارة، ولا واهمة، ولا ادعائية، هو الكبير حقا والعظيم حقا وجود مطلق، حياة مطلقة، علم مطلق، إرادة مطلقة، ذات كاملة، أسماء حسنى، صفات عليا، تلك هي كبرياء الله، تلك هي عظمة الله فهي الجمال كله، وهي الصدق كله، وهي الحق كله، والحق لا يُرمى بالقبح، الحق جميل، والعدم هو القبيح.
وسر الذم في تكبر الإنسان أنه وهم، وأنه خيال، وأنه كذب. أما كبرياء الله فلما كانت حقا وصدقا وعدلا فهي الجمال في نفسه. والله عز وجل وهو المتفرد بالكمال هو المتفرد بالكبرياء.
“الكبر رداء الله، فمن نازع الله شيئاً من ذلك أكبّه الله في النار”(3).
ثانياً: انحراف يقود إلى الانحراف:
الكبر صفة انحراف في الإنسان لا تبقى عند حدها، ولا يجمد انحراف النفس عليها، إنما تقود إلى انحرافات خطيرة.
{فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنْ الْكَافِرِينَ}(4) الاستكبار يقود إلى الكفر، إلى جحد الحق، إلى التمرّد عليه، إلى مناهضته مع علم النفس بالحق. يصعب على النفس المستكبرة أن تذعن للحق إذا كان الحق ليس مما يلتقي مع مصلحتها، ولا يلقتي مع كبريائها.
{قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ}(5).
فلا موقع في الجنة على الإطلاق للتكبّر، والتكبّر يُحرم من الجنة، فكما طرد من الجنة فهو يَحرِم من الجنة. التكبر طرد إبليس من الجنة، وهو يحرم أبناء آدم من الجنة.
“فاعتبروا بما كان من فعل الله بإبليس إذ أحبط عمله الطويل، وجهده الجهيد – أي المتعب المرهق- … عن كبر ساعة واحدة” فليعبد أحدنا ربه كل عمره، ولينتهي هذا العمر بلحظة استكبار واحدة فهي كافية لنسف كل حسناته، وإحباط عمله. وكل العبادة الحقة أن تذعن النفس بأنها مملوكة لله بصورة مطلقة، ولا تملك لنفسها نفعا ولا ضرا وأن ما بيدها ليس لها، وليس بها، ولا تملك له بقاءً لحظة.
ليس بين الله عزّ وجل وبين عباده غير العلاقة التي بينه وبين إبليس، وهي علاقة الربوبية من جهة الله، والعبودية من جهة غيره، فمن أعطى من نفسه العبودية الكاملة المطلقة لله كما هو الحق كان من المرحومين عند الله، ومن تمرّد واستكبر وطغى فهو من الملعونين المطرودين من رحمة الله.
ومن تمام الكلمة “… فمن ذا بعد إبليس يسلم على الله بمثل معصيته؟” عدل الله يقتضي أن تُحذف كل عبادة إبليس وهي التي استمرّت دهرا طويلا بموقف واحد من التكبر، ويقتضي أن نتكبر العمر كلّه ويقربنا الله إليه؟! عدل الله لايفرق التفريق الظالم بين امرئ وامرئ، ولا بين موجود وموجود آخر.
“فاحذروا عباد الله عدو الله أن يعديكم بدائه، وأن يستفزّكم بندائه” وهو نداء الاستكبار، نداء الطغيان، نداء التمرد على الله عز وجل، وعلى أمره إذا جاء على خلاف المشتهى الرخيص للنفس، وعلى خلاف ماتتحدث به النفس الأمّارة بالسوء لصاحبها.
ثالثاً: في كلّ الطبقات:
وعن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم:”إياكم والكبر، فإن الكبر يكون في الرجل وإنّ عليه العباءة”(6).
الكبر لا يخص طبقة الأغنياء، ولا طبقة الأقوياء، الكبر داءٌ يندس إلى نفس العبد من أي طبقة كان، فالناس المسحوقون المكدودون المجهدون يُمكن أن يدخل بعضهم الكبر. قد يعني الحديث أن هذا الشخص ليس عليه إلا عباءة، أو أنه يلبس العباءة الخشنة، ولكنه يحمل نفسا استكبارية متعالية بدون حق.
وكما أن الغني يؤخذ باستكباره فإن الفقير يؤخذ باستكباره. وقد يكون الاستكبار من الفقير أقبح، فإذا كان للغني ما يغريه بأن يستكبر وأن يستعلي فإن ضغط هذا الشيء غير موجود في نفس الفقير.
انظروا إلى هذا المثل من الاستكبار في طبقة دونية من الناس بحسب المستوى المعيشي.
“الكبر قد يكون في شرار الناس من كل جنس… إن رسول الله صلى الله عليه وآله مرّ في بعض طرق المدينة، وسوداء تلقط السّرقين(7)، فقيل لها(8): تنحّي عن طريق رسول الله(9)، فقالت: إنّ الطريق لمعرض، فَهَمّ بها بعض القوم أن يتناولها، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: دعوها(10) فإنّها جبّارة”(11).
هذا الذي لا يعرف قدر الآخرين، ويحاول أن يستأثر، ويشعر بالعلو في مورد لا يُستحسن فيه أن يتعزز الإنسان، وأن يستكبر، فإنه إذا حَسُن الاستكبار فإنما يحسن في قبال الباطل… الشخص وهو على هذه الصفة يحمل روحا جبّارة وهو في موقعه المتواضع من ناحية المعيشة، فلو أصاب موقعاً كبيراً لبرزت روح الاستكبار فيه عملاقة، ولذاق الناس من حوله الأمرّين بسبب ما به من استكبار.
فنحن نشجب الاستكبار في المستكبرين من أغنياء أبطرتهم النعمة، ومن ملوك استخفّهم السلطان، لكن لو بحثنا في أنفسنا فقد نجد في داخلها بذور هذا الاستكبار، أو نبتة الاستكبار تزاحم كل العوائق، وتزاحم كل الظروف الخانقة لتبرز قوية، ولتبرز مستحكمة في النفس.
في موقعي المتواضع لو تحققتُ وتفحّصت ربما وجدت من نفسي استكبارا دفيناً يعبّر عن نفسه في أكثر من موقف وإن لم أكن على التفات.
رابعاً: كبر قاتل:
{… أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ}(12) وفي الآية الأخرى {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا}(13).
يظهر الحق للنفس، وتتجلى آياته، ويبين أوضح من نور الفجر والصباح، إلا أن الإذعان لهذا الحق يتطلّب أن تسجد النفس لله، وتتنازل عن غطرستها وكبريائها فإن متغطرسة يكبر ذلك عليها، وتستكثر الأمر فلا تملك إلا أن تكفر بالحق وهو ظاهر.
وهذه نفس لا تصلح، ولا تستقيم، وليس لها من مقرّ في الآخرة إلا النار. هذه نفس بينها وبين الإيمان بالحق حجاب سميك، وجدار عريض، لا ينفذه نور، ولا يؤتى من ظلمته في النفس.
{… أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ}(14) وفي الآية الأخرى {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا}(15). الامتحان ليس في التسليم للحق وهو يوافق هوى النفس، إنما الامتحان في أن أسلّم للحق، والنفس من حيث هواها في اتجاه آخر.
فتكذيب الرسل، وقتل للرسل من منطلق الاستكبار كما تقول الآية الكريمة. ثم انظر إلى قول الله عز وجل {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ…} وكلام الله صدق، وإذا صرف الله عز وجل نفسا عن الحق لم تجد له سبيلاً، والله لا يصرف نفسا عن الحق إلا من باب الجزاء المستحق، ومن بعد أن تهرب النفس عن الله عز وجل ومن هداه على عمد، وربما تكرر منها ذلك.
الصرف عن الآيات قد يكون – وهو المستقرب – بقانون طبيعي بين مستوى النفس، قدرتها على التسليم بالحق، وبين التسليم الفعلي به، وكلما فقدت النفس من هداها، وكلما فقدت من إمكانية قبولها للحق عن طريق الاستكبار كلما بعدت مسافات عن الحق وعن رؤيته، وعن التسليم به بعد رؤيته.
اللهم صل وسلم على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، ولوالدينا وأرحامنا وجيراننا وأصدقائنا ومن أحسن إلينا إحساناً خاصاً من مؤمن ومؤمنة، ومسلم ومسلمة.
اللهم أبرئنا من أمراض القلوب والعقول والأجساد وأسقامها، وعبّدنا إليك، وسلّمنا مما يبعّدنا عنك ويسقطنا لديك، واجعلنا من أرضى من رضيت عنهم من خلقك، وأكرمهم منزلة في علمك، وأسعد من سعد بطاعتك، وهنئنا الدنيا والآخرة ولاتشقنا أبداً ياكريم يارحيم.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3) }

الخطبة الثانية

الحمدلله فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، يحكم بين عباده في ما كانوا فيه يختلفون. القول قوله، والحكم حكمه، والحقُّ عنده، ولا حول ولا قوة إلا به وهو العلي العظيم.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وزادهم تحية وبركة وسلاماً.
علينا عباد الله بتقوى الله، ومراعاة حدوده، والسبق إلى طاعته، والتنافس في رضوانه، وأن يكون دينه لنا حَكَماً، وشريعته قولاً فصلاً، ورسوله الخاتم وأوصياء رسوله هداة، وأن نتخذ الدّنيا إلى الجنّة التي وعد المتقين طريقاً لا نسمع لجهل جاهل، وجحود جاحد، أو ضلال مضِلّ.
أعاذنا الله من أن يستغفلنا مستغفلٌ عن الحقّ، أو أن يميل بنا مُضلٌّ إلى الضلال، ونُخدع عن الدّين. ربّنا اغفر لنا، ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا يا تواب يا رحمن يا رحيم.
وصل على محمد بن عبدالله نبيك الكريم، وآله الطاهرين؛ علي أمير المؤمنين وإمام المتقين، وفاطمة الزهراء الصديقة المعصومة.
والأئمة الهادين المعصومين: الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن علي المهدي المنتظر القائم.
اللهم صل على محمد وآل محمد، وعجل فرج ولي أمرنا القائم المنتظر وحفّه بملائكتك المقربين، وأيّده بروح القدس يا رب العالمين.
عبدك وابن عبديك الموالي له، الممهد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين وفقهم لمراضيك وسدد خطاهم على طريقك وبلّغهم الدرجات العلى من جنتك.
أما بعد أيها الطيبون المؤمنون والمؤمنات فمع هذا الحديث:-
أولاً: من سنة إلى سنة:
لا يزال الزمن يُفضي بأهل الأرض من سنة إلى سنة، وينقلهم من عام إلى عام. ومع استقبال عام جديد يتفاءل قوم، ويتشاءم آخرون. ولئن كان التفاؤل خيراً من التشاؤم لأن الثاني يُرهق النفس، ويُقعد بها، والأول يريحها، وقد ينشّطها، إلا أن الواقع الخاصّ للأشخاص، والواقع العامّ على درجاته، واقعَ بلدٍ كان، أو واقع أمة، أو واقع العالم لا يغيّره تشاؤم ولا تفاؤل في نفسه، والأماني وحدها لا تصنع خارجاً، ولا تغيّره، ولا تحدث انقلاباً في أوضاع الأشخاص والمجتمعات ولا ما في النفس.
والتعلّق بالآمال دون عمل قد ينتهي بالنفس من بعد حين إلى مواجهة واقع عسير يحوّل الأمل يأساً، والرجاء قنوطاً في صدمة عنيفة لها تُسبّب الانهيار.
والواقع اليوم وفي ظل من يحمومِ الجاهلية الحديثة القاتمة القائمة لا يذهب عام ويجيء عام إلا ويزداد سوءاً على سوء، وتأزّماً على تأزّم، وقلقاً على قلق، وإرهاقاً على إرهاق. فكيف التغيير؟
لقد علّمنا الإسلام أن لا تغيير في أوضاع الخارج لحياة الأفراد والمجتمعات والأمم والعالم من سيء إلى حسن، أو من حسن إلى سيء، أو من سيء إلى أسوأ، أو من حسن إلى أحسن إلا بتغيير موازٍ ومجانس في داخل النفس، ومحتوى الداخل عند الإنسان.
قال تعالى:{ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَـكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ}(16). نفسيتان ووضعان خارجيان كل منهما يجانس النفسية التي انطلق منها، ونبت على أرضيتها.
ويقول عز وجل في آية أخرى:{ ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ…}(17).
وقول آخر للكتاب الكريم:{ إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ}(18).
إنّ هناك تجانساً وتسانخاً بين الشعور والفكر(19)، وبين السلوك والشعور، وبين النتيجة والعمل. فالرؤية الفكرية الصحيحة القويمة المتركّزة يقوم عليها شعور مماثل، والشعور الحيّ الكريم الزكيّ الطيّب ينبت عملاً كذلك، وما كان من العمل صالحاً طيّباً رضيّاً كانت نتائجه عالية طيبة نافعة رضيّة.
وإذا كان الفكر خاطئاً سقيماً منحرفاً كانت المشاعر النابتة في ظله سقيمة منحرفة هابطة آسنة، فجاء العمل الناتج من وحيها قبيحاً خبيثاً ضارّاً متسافلاً. ونتيجة هذا العمل من جنسه، فلا تكون إلا خسّة وسقوطاً، وتعْساً وشقاء.
ورؤية فكرية مقلوبة تكُبُّ نظر الإنسان إلى الأرض – وهي رؤية الحضارة المادّية اليوم للكون، والحياة، والإنسان، والحاضر، والمصير، والسعادة والشقاء – تختلف كليّاً في ما تنبته من شعور، وما تُولّده من عمل، وما تؤدّي إليه من نتائج عن رؤية قويمة سليمة فسيحة تدرك وحدة السماء والأرض، والكون كلّه، والإرادةَ الواحدة القادرة الفاعلة المطلقة وراء الوحدة الكونيَّة، وتغير الأشياء، واستمرار الوجود والحياة، وقيام التدبير، ودقة التقدير، وشمول الحكمة، ومضيّ الأقدار وتناسقها، وانسجام المسارات، وإفضائها إلى غاياتها التي تُنهي إلى الصورة الكونيّة القائمة وما رسم لها.
لرؤية الإنسان نفسه حرّاً مستقلا لا قيد عليه على الإطلاق في هذه الحياة نتائج وأوضاع نفسية وعملية منها الغرور والبطش والسلب والنهب وارتكاب كلّ الوسائل وإن كانت قذرة ضارة بالغير في طريق ما تشتهيه نفسه، وتتعلق به أحلامه.
ولرؤيته نفسَهُ عبداً للغير من الطواغيت آثار نفسية وعمليّة تجعله أداة للظلم، وآلة للإفساد في الأرض، وحرق الحرث والنسل، وللإخافة والرعب والفتك.
أما لو رأى نفسه عبداً لله الكامل الذي لا يبلغ كماله شيء، العليّ القدير، اللطيف الخبير، الرؤوف الرَّحيم، الشديد للعقاب، الآمر بالخير، الناهي عن الشر، ورآها مسؤولة أمام الله سبحانه وتعالى عمّا ينطوي عليه داخلها من فضيلة أو رذيلة، وما يصدر عنها من خير أو شر لأنها مُلّكت خيارها في هذا الاتجاه وذاك الاتجاه غير خارجة عن سلطان الله، ولا متجاوزة لمشيئته، أو مستغنية عن إرادته، أو فارّة من قدرته لكان له من الشعور ما زكى، ومن العمل ما صلح، ومن النتائج ما طاب ونفع، وما صدر عنه أمر ضار ولا خبيث.
والناظر للدّنيا على أنّها كلُّ فرصته، ولا امتداد له بعد مُهلتها إما أن يصاب باليأس والإحباط مما يصرفه عن النشاط في الحياة، والرغبة في العمل، والإسهام في البناء، والتمتع بالطيبات، وإمّا أن يُستنزف للذائذ الدنيا حتى تهلكه، ويغالب عليها إلى حدّ الجنون، ويركب من أجلها كلّ محرّم، ويستبيح كل محظور.
وعند النظر للدنيا على أنها دار للإعداد، والآخرة دار الخلود، وأن في الدنيا طيبات وخبائث، وأن ما يمنع من خير الآخرة خبائث الدنيا، أمّا الطيّبات فمأذون فيها، ومهنّأ تناولها، وإعمار الأرض بالخير وللخير مطلوب لا تكون الدنيا عنده فاتنة، ولا مهملاً أمرُها، وإنما يكون الدور فيها للبناء والخير والإصلاح والصلاح.
ومن أخذ بالإسلام ورآه لا يقبل التفاهم ولا يؤمن إلا بالسيف، ولا يُعرف منه إلا العنف، وإباحة الإرهاب دمّر إسلامُه الحياة، وأسقط قيمة الإسلام الصحيح في النفوس.
ومن رآه في صورته القرآنية وكما هو في سنة المعصومين عليهم السلام كان القويَّ العدل، التقي، المتعقّل، المحب للحق، العامل به، الدّاعي له، المبغض للباطل، المتنزّه عنه، المحارب له، الساعي بالخير في الأرض، الكافِّ عن الشر في الخلق، الحريص على الإصلاح، الناشط فيه.
ومنطلق التغيير دائماً النفس رؤيتها، عقيدتها، هدفها، طموحها، مشاعرها، أملها، يأسها، إرادتها، تصديقها، تكذيبها، شكها، ظنها، خوفها، قلقها، اطمئنانها، سكينتها، حزنها، فرحها، كل محتواها.
ثانياً: أمة ستلقى حسابها:
أنهار الدم من المسلمين الأبرياء من مدنيين وغيرهم في العراق ليست جريمة فئة إنما هي جريمة أمة تتعاطى أخبار هذه الأنهار والفظائع المرتبطة بها في وسائل إعلامها بحرارة أقل من حرارة خبر وفاة فرد بحمى الطيور في أقصى الأرض، بل بلا حرارة على الإطلاق، إن لم تكن هذه الأخبار في هذه الوسائل بمستوى أخبار الرياضة للتسلية أو إشباع روح الفضول.
كأنّ الأمة خاصة على مستوى الأكثر من وجوداتها الرسميّة قد وقّعت على مشروعية هذا القتل البشع، والعدوانية البهيمية، وإسقاط حرمة الدم المسلم في العراق، وباركت هذه الأفعال الموغلة في الظلم والقبح والقذارة، ووقفت مشجعة للضمائر الميّتة، والقلوب المتوحشة على جرائمها.
وكثير من أبناء الأمة على مستوى شعوبها لا يختلف موقفهم من هذا المنكر الفاحش حسب بديهيات الإسلام عن موقف الأنظمة الساكت عن الحقّ أو الناطق بالباطل.
إننا أمة ستلقى حسابها العسير أمام الله سبحانه على هذا التقصير في ردّ المنكر، بل المشاركة في الظلم.
وهل تُعفى الأمة من أن تذوق طعم العذاب في هذه الحياة لهذا التقصير أو المشاركة في الجرم؟ الله أعلم بعاقبة الأمور.
هدى الله هذه الأمة، وردّها إلى الرُّشد، وأعادها إلى موازين الحق، وضوابط الإيمان، ومقاييس الشريعة، وعافاها مما يستوجب غضبه، ويُحلُّ عذابه في الدّنيا والآخرة.
ثالثاً: باب الحوار أو السجون:
حين تغلق الحكومة باب الحوار في وضعنا الحاضر فهي تفتح باب السجون، فغلق باب الحوار فتح لباب السجون، وفتح باب الحوار غلق لباب السجون.
ذلك لأنه توجد مطالبات إصلاحية، والمطالبات إذا سُمعت، أو انفتح بشأنها باب حوار مؤمّل فيه، وكان التعقل من الطرفين لم تنشأ الأزمات، ولم تتوتر الأوضاع، ولم تحدث أخطاء في البين، ولم تنشأ حاجة إلى إطفاء النّار بما قد يزيدها.
أمّا إذا لم يكن هذا ولا ذاك، وأوصدت الأبواب، أو كان التشاغل بحوار ملهاة، تهيأ الجو بدرجة كبيرة للأزمات والمواجهات والتمزقات والخسائر التي تنال من كل الأطراف.
وهذا الجو هو جوّ السجون والشجون والترصّدات والأضرار والانفلات.
ومن هنا نؤكد على خيار التفاهم والحوار المنتج، وسدّ باب السجون والشجون والكوارث والخسائر والتمزّقات، ونطالب بإطلاق حرية السجناء، والتوقّف عن المظاهرات الحاليّة، ونطالب بالبدايات الجدّية في إصلاح الأوضاع عمليّاً على حد المشروع الجديد للتوظيف الخاضع في جدّيته وجدواه ومقدار معالجته للبطالة للامتحان في تجربته العمليّة.
رابعاً: المواكب الحسينيّة والمظاهرات:
للمواكب الحسينية طابعها، وللمظاهرات الاحتجاجية طابعها، والمواكب الحسينية والدينية عامّة لها مناسباتها الثابتة، والمظاهرات الاحتجاجية لها مقتضياتها المتغيّرة، فهذه شيء وتلك شيء آخر.
والمطلوب أن نُعطي المناسبات الدينية التي تشارك المواكب في إحيائها للمواكب، أما المظاهرات المنصبّة على الناحية الاحتجاجية فالأيام أمامها كثيرة، والفاصل بينها وبين المواكب يجب أن يكون لدينا واضحاً نظرياً وعمليّاً، وإن كانت رسالة الموكب الحسيني هي رسالة الإسلام ورسالة الحياة كلّها.
أما الإشارات القريبة أو البعيدة التي تصدر عن وزارة الداخلية فيما يتعلق بالمواكب في المناسبات الدينية فهي مما لا يحتمله الرأي العامّ الديني، والضمير المؤمن، والحقّ الثابت، ودعونا أن لا نحمل تلك الإشارات الآن على قصد سوء، ونيّة سوداء، لأننا أرغب في غلق باب المشاكل، ولكن المواكب ستبقى حقا ثابتاً على الزمن.
اللهم صل على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين. اللهم لا تدع لنا ذنباً إلا بمغفرته، ولا عيباً إلا سترته، ولا همّاً إلا نفّسته، ولا كرباً إلا فرجته، ولا حاجة من حوائج الدنيا والآخرة لك فيها رضى ولنا فيها صلاح إلا قضيتها في يسر وعافية ورضى منك ياكريم يارحيم.
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 – 23/ الحشر.
2 – 37/ الجاثية.
3 – ميزان الحكمة ج8 ص302.
4 – 73- 74/ ص.
5 – 13/ الأعراف.
6 – ميزان الحكمة ج8 ص299.
7 – وهي مخلفات الحيوات تؤخذ وتيبّس وقد ينتفع منها بحسب البيئة العادية في وقود أو ما ماثل.
8 – قال لها أحد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
9 – ورسول الله لا يؤذي أحداً في طريق، وليس من الملوك الذين يجبرون الناس على فسح الطريق لهم، وعندهم مؤتمرون يقومون بإيذاء الناس في سبيل إفساح الناس لهم، ولكن له هيبة تفرض على الآخرين أن يُجلّوه وأن يقدّروه.
كأنها تضايق الطريق.
10 – ليس من حقنا أن نؤذيها وأن ننحيها. لكن الرسول (ص) كشف عن صفة نفسية في المرأة مضيفا إلى ما قاله قبل “فإنها جبَّارة”.
11 – ميزان الحكمة ج8 ص300.
12 – 87/ البقرة.
13 – 146/ الأعراف.
14 – 87/ البقرة.
15 – 146/ الأعراف.
16 – 96/ الأعراف.
17 – 53/ الأنفال.
18 -11/ الرعد.
19 – لماذا لا بُدّ من تغيير الداخل؟ شعورنا له منبع، وسلوكنا له منبع، وأوضاعنا الخارجية هي نتيجة شعور وسلوك، والشعور والسلوك منبعهما الأول الفكر، والفكر والشعور موطنهما النفس، فلا تغيير في الخارج إلا بتغيير من الداخل.

 

 

زر الذهاب إلى الأعلى