خطبة الجمعة (226) 27 ذي القعدة 1426هـ – 30 ديسمبر 2005م

مواضيع الخطبة:

الكسب في الإسلام + ضواء على اعتقال سماحة الشيخ محمد سند

لقد كان لغلق الجهة الرسمية باب الحوار في المسألة الدستورية من غير وجه مقبول بعد البدايات الأولية له أثرٌ بالغ السوء على الوضع العام في المسألة السياسية برمتها.


الخطبة الاولى

الحمدلله بديع السماوات والأرض، بارئ النّسم(1)، يخرج الحيّ من الميت، باعث من في القبور، إليه المرجع، وبيده النشور. أبدع الصنع، وأحكم التدبير، وأحسن التقدير، لا يُجارى في قدرته، ولا يسابق في مشيئته.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وزادهم تحية وبركة وسلاماً.
أوصيكم عباد الله ونفسي الأمّارة بالسوء بتقوى الله، وطلب مايزين النفس، وترك ما يشينها، والأخذ بما فيه فوزها، والتخلّي عما به خسارها. ومازان النفس كطاعة الله، وما شانها كمعصيته، وما كان فوز إلابمنهجه، وما وجد المتخلّون عن هدى الله إلا ضلالا وخسارا.
وإن أياماً نمضيها في هذه الحياة لا ندري متى تكون نهايتها، لابدّ أن نسأل أنفسنا كيف نقضيها؟ ولا عقل يحكم بأن تقضي فما يهدر قيمة النفس ويسقطها، ويقطع عليها طريق كرامتها وسعادتها، ويتراجع بها عن مستوى أصلها وفطرتها.
لا شوب من ريب في أن العقل قاضٍ ٍبأن يصرف العمر في مايبلغ بالنفس كمالها، ويحقق لها الغاية الكريمة السامية التي خلقها الله من أجلها، وهي أن تسلك مريدة طريق رحمته بعبادته، لتنال كريم ثوابه، وتستقر في جنته، وتَنَعم خالدة هانئة برضوانه، وفيوض السعادة غير المنقطعة من كريم عطائه.
اللهم صلّ على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا يا تواب يا كريم، واحينا لما خلقتنا له من طاعتك وعبادتك، وبلوغ المنازل الرفيعة، ولاتجعل حياتنا كدرا، ولا آخرتنا شقاء، وعافنا وتلطّف بنا، وتحنّن علينا، وأذهب عنا كلّ سوء يا رحمن يارحيم.
أما بعد أيها الاخوة والأخوات في الإيمان:-
جاء الإسلام ليرتفع بالإنسان في روحه، وعقله، وقلبه، ونفسه، وأهدافه، وأفكاره، ومشاعره، وخواطره، ورؤاه، ونواياه، وإرداته، وعزمه وتصميمه، وعمله وسعيه إلى أعلى مراقيه، وأرفع درجاته التي تهيئه لها استعداداته الفطرية وقابلياته من فيض الله. ولترابط الإنسان روحا وبدنا، تشابك الدين والدنيا في رؤية الإسلام وتخطيطه، وجعل الدين السعي الصالح من المؤمن للدنيا من سعيه الناجح لآخرته.
وقد حرص الإسلام على إشادة نظام حياتي قوي متين متناسق متماسك شامل يوفر للإنسان سعادته في الدنيا بما تطيق من سعادة في أحسن ظروفها، وفي ظل أروع تصميم لمنهج التعامل فيها، وسعادته في الآخرة والتي لا يمكن أن تلحقها أكبر الصور للسعادة في دار الفناء وحياة التزاحم.
وعلى طريق المنهج العام الحياتي من تخطيط الإسلام لضمان السعادة للإنسان في الدنيا والآخرة خطط لاقتصاد عام ناجح يتكون نسيج منهجه من أسس اقتصادية عادلة في مرحلة ما قبل الإنتاج وما بعده، وضوابط حكيمة لتوزيع الثروة الخام تراعي مصلحة الفرد والمجتمع، وتقوم على نظرة الاشتراك العام في الثروة الأولية، وكون الناس كل الناس عيال الله في أرضه الذين خلق هذه الأرض وخصوبتها وعطاءها وكنوزها، وفتح عليهم باب الخيرات وتنزل البركات لإعالتهم إعالة كافية مريحة.
ينضاف إلى تلك الأسس والضوابط مثلها مما يعالج مشكلات ما بعد الإنتاج بل يقي منها ويحول دون تولدها مع مشاركة عامة من المنهج الإسلامي الشامل لقضايا الحياة والإنسان في عقيدته وتربيته وأخلاقه واجتماعه وثقافته وسياسته وعبادته في إنجاح ذلك المنهج الاقتصادي الذي يتعاطى إيجابيا مع كل تلك الأبعاد من المنهج العام، كما تتعاطى من جهتها معه، ويسهم كلٌّ منها في إنجاح البعد الآخر، وإنجاح كامل النسيج، والذي يخلق من جهته مناخا مناسبا عامّا، وأرضية ملائمة تنعكس بإيجابية كبيرة على كل خيط من خيوطه، ومكوِّن من مكوناته.
ويحتل تنشيط روح العمل، والدفع إلى الكسب، والتجاوب معه من الإنسان المسلم من منطلق الاستجابة لنداء الله عزوجل موقفا مؤثرا جدا في إنجاح الْحَْرك الاقتصادي، واستغلال الموارد الطبيعية للثروة، وفرص الإنتاج في ظل التوزيع العادل والحكيم استغلالا كبيرا عاما من كل القوى العاملة القادرة ليسهم بقوة في تميز المنهج الاقتصادي الإسلامي وبلوغ أهدافه الكريمة المنشودة.
وإليك وقفة سريعة مع عدد من النصوص الواردة عن أهل العصمة عليهم السلام في موضوع الكسب والحث عليه في الإسلام:
تقول الرواية عن الرسول (ص):”ما أكل أحد طعاماً قطّ خيراً من أن يأكل من عمل يده، وإنّ نبي الله داوود كان يأكل من عمل يده”(2).
وليس معنى عمل اليد هنا فيما يذهب إليه فهمي هو العمل المباشر لليد، وإنما عمل يَدَك هنا في مقابل عمل يد غيرك. المطلوب أن تأكل من عرقك لامن عرق الآخرين، من إنتاجك لا من إنتاج الآخرين، سواء كان هذا العمل عمل يد أو عمل عين أو عمل فكر أوعمل أي جارحة من الجوارح الصالحة للعمل.
“أوحى الله عزوجل إلى داوود (عليه السلام): إنك نعم العبد لولا أنك تأكل من بيت المال ولا تعمل بيدك شيئا، فبكى داوود (عليه السلام) أربعين صباحا فأوحى الله عزوجل إلى الحديد: أن لِن لعبدي داوود، فألان الله عزوجل له الحديد فكان يعمل في كل يوم درعاً فيبيعها بألف درهم، فعمل ثلاثمائة وستين درعاً فباعها بثلاثمائة وستين ألفا، واستغنى عن بيت المال”(3) وهو من كسب الغير. وربماكان داوود (ع) لوظائفه التي تشغل وقته مضطرا للأكل من بيت المال، فأحبّ الله عزوجل له أن يأكل من كسب يده ويربأ عن الأكل من بيت المال وإن كان ذلك من الحلال له.
فنرى أن المقابلة هنا هي مقابلة بين الأكل من كسب الشخص أو الأكل مما يكسبه الآخرون وإن كان بطريق حلال. فالمطلوب في الإسلام أولاً أن نأكل من كسب أيدينا ما استطعنا.
على أن عمل اليد المزهود فيه عند كثير من الناس وهو ممارسة المهن من مثل مهنة النجارة والحدادة وما شابههما هذا العمل يشرفه الإسلام، ويرتفع بمستواه مادام يقصد به حفظ ماء الوجه، ويرتفع مستوى العمل إلى حدّ العبادة إذا قصد به وجه الله الكريم.
“مرّ داوود (عليه السلام) بإسكافٍ فقال: يا هذا إعمل وكُل، فإن الله يحب من يعمل ويأكل، ولا يحب من يأكل ولا يعمل”(4).
ربما زهد الإسكافي في حرفته، ورأى انحطاطها في نظره، مأراد داوود (ع) أن يرفع من مستوى هذه الحرفة الزهيدة في نظر الإسكافي ويعزز ثقته بنفسه ويريه أنه كبير عند الله عزوجل مادام يأكل من كدّ يده، ولايعتمد على الأكل من كدّ الآخرين، وما دام يسلك طريق الحلال والعزة والكرامة في طلب الرزق.
“لا تكسلوا في طلب معايشكم فإن آباءنا قد كانوا يركضون فيها ويطلبونها”(5) عن الصادق(ع).
النشاط في الدنيا، بذل الجهد في العمل، الوصول إلى حالة التعب والجهد والنصب من خلال الكسب، إذا كان لحفظ ماء الوجه، وللترفع عن ذلّ المسألة وإذا كان للإنفاق في طرق الحلال، كان ذلك مما ينشدّ إليه حتى المعصوم (ع) ويركض في الدنيا مجهوداً من أجله.
المعصومون (ع) الذين لاتستلفت نظرهم الدنيا، نجد التعبير عنهم يقول بأنهم كانوا يركضون فيها من أجل أن لايكونوا عالة على الغير، ومن أجل ألا يقعوا في ذلّ الحاجة الى الناس.
“رُوي عن الحسن بن علي بن أبي حمزة عن أبيه قال: رأيت أبا الحسن (عليه السلام) يعمل في أرض له وقد استنقعت قدماه في العرق- هذا إمامكم- فقلت له: جعلت فداك أين الرّجال؟ – أليس عندك رجال يفدونك بأنفسهم؟ أليس عندك رجال يبذلون دونك مهجهم؟ فلم هذا كله؟ أليس عندك مستأجرون يقومون بمثل هذا العمل؟ – فقال: ياعلي عمل باليد من هو خير مني ومن أبي في أرضه، فقلت له: من هو؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وأمير المؤمنين وآبائي عليهم السلام كلهم قد عملوا بأيديهم وهو عمل النبيين والمرسلين والصالحين”(6).
أولئك هم القادة حقاً، أولئك الذين نزهتم عصمتهم عن استغلال الناس، أولئك الذين بذلوا أنفسهم لا من أجل أن يرضى عنهم أحد وإنما من أجل أن يلقوا ربهم الكريم وهو عنهم راض.
“عن الفضل بن أبي قرة قال: دخلنا على أبي عبدالله (عليه السلام) وهو يعمل في حائط له فقلنا: جعلنا الله فداك دعنا نعمل لك أو تعمله الغلمان؟!
قال: لا، دعوني، فإني أشتهي أن يراني الله عزوجل أعمل بيدي وأطلب الحلال في أذى نفسي”(7).
أريد أن أحمل نفسي تعبا، أريد أن تذوق نفسي التعب والنصب على طريق العمل في كسب الدرهم الحلال.
وفي الرواية عن الصادق(عليه السلام):”إن أمير المؤمنين (عليه السلام) أعتق ألف مملوك من كدّ يده”(8). يشتري هذا العدد من المملوكين من كسب يده ليعتقهم ويهبهم الحرية بعد ذلّ الرقّ.
إذا فلنتعلم العمل، ولنتعلم أن لا نتوقف يوما عن العمل، وإذا طلبنا الوظائف الكبيرة فذلك حسن ولكن قبل ذلك علينا ألا نفوت فرصة عمل.
اللهم صلّ على محمد وآل محمد. اللهم اغفر لنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم، اللّهم استعملنا في ما خلقتنا له، واصرفنا عمّا لا ترضى، واجعلنا ممن لا يطلب من الدنيا إلا حلالها، ولا يغشى شيئا من حرامها، ومن الساعين للإصلاح فيها، البعيدين عن أهل الإفساد من أبنائها. ما أحوجنا ربنا إلى اللجأ من شر الدنيا والآخرة، ولا لجأ إلا عندك، ولا مفر إلا إليك، ولا مانع ولا دافع سواك، فارحمنا برحمتك، والطف بنا بلطفك يارحيم يا لطيف، يارؤوف يا كريم، يا من هو على كل شيء قدير.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ (1) الَّذِي جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (3) كَلَّا لَيُنبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةٍ (9)}

الخطبة الثانية

الحمدلله العلي القدير الذي لا تشرك قدرته قدرة في خلق ولا رزق ولا تدبير، وكل الخلق والرزق والتدبير له. لا يبقى ذو حال على حاله إلا بإذنه، ولا ينتقل من حال إلى حال إلا بامره، ولا حركة لمتحرك إلا بفيضه، ولا سكون لساكن إلا بتقديره.
أشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم تسليما كثيراً كثيراً.
أوصيكم عباد الله ونفسي الداعية لي إلى الردى بتقوى الله المنجية، المنجحة، الآخذة بصاحبها إلى الكمال والعزة والغنى والسعادة والرضوان، وعلينا بذكر الله في السر والعلن والسراء والضراء، والشدة والرخاء، وفي موارد الفتنة، ومظانّ المعصية، فمن ذكر الله بصّره ذكرُه، ورشُدَ أمرُه، ومن غفل عن ذكر ربه أهلكته غفلته، وذهب ضحية ضلاله. وما وقع في غرور الدنيا إلا ضالّ عن ذكر الله، ناس ٍ لعظمته، فألهاه ذلك عن نفسه، وأفقده الشعور بآخرته.
اللهم إنا نعوذ بك من سكر الغفلة، والضلال عن الحق، وأسر الهوى، والسقوط في الفتنة، وخسارة العمر، وبؤس الحياة، وسوء الممات، والمنقلب الرديء.
اللهم زد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبدالله خاتم النبيين والمرسلين، وعلى علي أمير المؤمنين وإمام المتقين، وعلى فاطمة الزهراء الصديقة الطاهرة المعصومة.
وعلى الأئمة الهادين المعصومين: الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن علي المهدي المنتظر القائم.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على محمد وآل محمد وعجل فرج ولي أمرك القائم المنتظر وحفّه بملائكتك المقربين، وأيّده بروح القدس يا رب العالمين.
عبدك وابن عبديك الموالي له، الممهد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين وفقهم لمراضيك وسدد خطاهم على طريقك وادرأ عنهم يا كريم.
أمابعد أيها الملأ الطيب من المؤمنين والمؤمنات فإلى الحديث الآتي:
1- كان القبض على سماحة الشيخ محمد سند (حفظه الله) من المطار عند قدومه إلى وطنه بالصورة التي اختيرت حدثا ثقيلا مؤلما منذرا موجعا, لا نبرئه – أي الحدث – من إهانة مقصودة، واستخفاف متعمد.
لقد عومل سماحة الشيخ معاملة القتلة السفاحين الثابث قتلهم، وموردي المخدرات المدمنين المكشوفين حين قُبض عليه بهذه الصورة، وهو العالم الديني الكبير العزيز على شعبه وأمته، المُقدّر في أوساط المراكز العلمية الرئيسة عند طائفته.
وسماحة الشيخ قد قال كلمته السياسية وهو في البحرين ثم لم يكن سفره منه خفاء، وعند القبض عليه كان عائدا إلى الوطن باختياره وليس فارّاً حتى يرتكب في حقه ما ارتكب، ويضطر الأمر القابضين عليه إلى الصورة التي كانت.
ولم يأتِ الوطن ليتوارى، فلِمَ الإهانة والاستخفاف اللذان تعلم الجهة الرسمية مدى استفزارهما للناس؟! ويدخل في سياق هذه الاستفزازات المقيتة التي قد يصعب تفسيرها هذا التحدي المتصاعد من الجانب الرسمي للإرادة المؤمنة الشعبية فيما يتعلق بأحكام قانون الأسرة على وضوح هذه الإرادة وشمولها، وبعد منطلقها عن المنازلات السياسية والخصومات الدنيوية وكونها من منطلق الحرص على سلامة الدين والأنساب والأعراض، وأن ليس من حق المؤمنين التنازل عنها وأنهم محاسبون على ذلك أمام الله عزوجل.
2- إن شعارالمساواة أمام القانون العادل شعار نتمسك به ونطالب بتطبيقه، وهو لا يعني أن يعامل سماحة الشيخ الكريم معاملة الجاني المقترف لجريمة من جرائم السفلة وحاشاه.
نعم نريد مساواة في الحقوق والواجبات ومنها فرص التعليم والتوظيف والترقية، والإسكان، والأراضي، والمناصب الوزارية والإدارية الكبيرة، ونريد أن يجري القانون على الجميع من صغير وكبير في مسألة نهب الأراضي والاختلاسات والفساد المالي والاداري وتطبيق القانون الشامل لمن ثبت تعذيبهم لأبناء الشعب، وإزهاقهم للأرواح أثناء التعذيب بغير حق.
3- نحمد الله الكريم الرحيم أن كفى ووقى من تداعيات خطيرة بدرجة أكبر في حادث القبض على سماحة الشيخ بتلك الطريقة الفظة الغليظة المستهجنة المثيرة، وأن هدى لمخرج سليم قائم على التفاهم، ولو لم يؤخذ بالحكمة، وانساق التعامل مع الحدث بالقوة المستمرة، وتعاطي التحدي من طرف الحكومة والشباب المتصدي بطريقته التي بدأ بها لكُنَّا أمام وضع أمني متدهور فادح الخسائر من الطرفين، وتداعيات كثيرة خطيرة لا ندري إلى أين تصل بالجميع.
وهذا يقرر أن الأخذ بأسلوب الحوار من النوع الجاد الصادق غير الالتفافي يوصل إلى التفاهم، ويطوِّق كثيرا من المشكلات، ويوصل إلى بر الأمان لو صدقت النية وجدّ العزم وتمّ الاخلاص.
وبقي أن أَعقَبَ الحدث المرير الذي كان من خطأ الجهة الرسمية قضية مطاردة عدد من الشباب واعتقالهم وإحالتهم إلى النيابة العامة وهي مشكلة ماثلة، وقضية من العقل والحكمة والمصلحة الوطنية أن يغلق ملفها بسرعة، وأن يطلق سراح كل هؤلاء الشباب منعا من أي تداعيات جديدة، ولجهة الخطأ الفاحش الذي ارتكبته الجهة الرسمية وهو خطأ مستثير مستفز وهي أعرف بهذا الأمر من أن تعرّف.
وفي الوقت الذي نعتزّ بالغيرة الدينية لشبابنا وتحركهم المخلص للذود عن الحق ندعوهم إلى التزام جانب السلم وتجنب الإضرار بالمصالح العامة للوطن والمصالح الخاصة للمواطنين في احتجاجاتهم الشرعية التي تقتضيها مصلحة الدين والدنيا.
4- ستبقى البلد لا تخرج من مأزق إلا وتدخل في مأزق آخر، ولا تتخلص من مشكلة حتى تطوقها مشكلة أخرى، إلى أن تتحرك الإرادة السياسية الجادة للتفاعل الإيجابي الصادق المخلص مع إرادة الشعب في حل الأزمات الحادة، والانتهاء من إشكال الملفات الساخنة.
والمنطلق الأول في أزمات وطنية كثيرة مستحكمة إنما يتمثل في فقد دستور متوافق عليه من أجل أن يلتزم به كل من الشعب والحكومة، ويتخذ مرجعا بعد أسسنا الدينية المشتركة والثابتة في الاحتكام إليه وحل الأزمات الموروثة والمستجدة على أساسه.
ولقد كان لغلق الجهة الرسمية باب الحوار في المسألة الدستورية من غير وجهٍ مقبول بعد البدايات الأولية له أثر بالغ السوء على الوضع العام في المسألة السياسية برمتها.
ولن يميل المؤشر في التقدير الدقيق لصالح تحسن الوضع السياسي والأمني وجملة الأوضاع العامة في الوطن العزيز إلا بدستور متوافق عليه يتناسب والمرحلة الحاضرة وهي مرحلة قافزة في بعد الوعي السياسي للشعب، والتقدم العلمي الذي تحقق له، وإحساسه بذاته الحضارية، ومن حيث حركة المحيط الاقليمي والعربي والعالمي في اتجاه المشاركة الشعبية في صنع القرار وصوغ المصير.
وهذه المرحلة قد تجاوزت بمدى بعيد ما عليه أوضاع العام الثالث والسبعين بعد التسعمائة والألف الميلادية في كل هذه الأبعاد، وحولت دستور تلك الفترة إلى دستور مسبوق لوعي الشعب السياسي والثقافي والعلمي بدرجة كبيرة.
إن دستورا جديدا عقديا يتناسب مع المرحلة الحضارية الراهنة قد أصبح ضرورة على طريق الإصلاح الحقيقي الجاد والأخذ بمسار صحيح في العلاقات الوطنية التي تهمنا جميعا.
5- لابد أن نتذكر أن هناك تناسبا طرديا بين بقاء المشاكل الضاغطة وتعمقها وبين تأزم العلاقة بين الشعب والحكومة، وكذلك تناسباً آخر بين حل هذه المشاكل ودخول هذه العلاقة في طريق التحسن والانتعاش وتبادل الثقة.
ومن غريب الأمر أن الحكومة وهي مدركة لهذا الأمر تمام الإدراك بالإضافة إلى عدم تحركها المناسب في كثير من المسارات للمشاكل القائمة تضيف مشاكل جديدة تزيد في تباعد المسافة بين الطرفين كالقبض غير المتوقع، ولا المبرر موضوعيا ولا سياسيا على سماحة الشيخ في المطار، وكالإصرار على الدفع بمشروع قانون أحكام الأسرة باسم الشيعة وهو مفروض عليهم فرضا إلى المجلس النيابي لتقول بحقانية هذا المجلس في النظر في الشريعة في حين أن هذا النظر إن كان للتغيير اليوم أو غدا على خلاف الشريعة فهو موبقة كبيرة، وإن كان للاجتهاد في إطارالشريعة فأعضاء المجلس ليسوا من أهل هذا الاجتهاد.
ويستوقفني هنا ما يقوله البعض من أن الرجوع الشيعة إلى أحكام فقيه من فقهاء المذهب خارج البحرين، لصوغ مدونة أو قانون من هذه الأحكام هو من باب تقنين ذلك الفقيه للبحرين وهذا تدخل أجنبي في شأن السلطة التشريعية في البلد. هذا القول فيه خلط واضح – لا يخفى على ناظر – بين الرجوع إلى الفقيه في مواد المدونة أو القانون من حيث الفتوى الدينية، وبين الرجوع إليه من حيث قانونية تلك المواد والاعتبار الرسمي لها، والصحيح أن الرجوع إلى الفقيه إنما هو من حيث مطابقة تلك المواد لفتاواه، أما الاعتبار القانوني الرسمي لتلك المواد فلا شأن له به، وكل الأمر أنه من منطلق ديني لا تستطيع الشيعة أن تسلم بالمدونة أو القانون المفترض وتعمل على طبقهما في مسالة أحكام الأسرة إلا بموافقتهما لرأي اجتهادي معتبر من فقيه من فقهاء المذهب.
ومرة يكون تعيين هذا الفقيه بالاسم ومرة يكون تعيينه بالوصف والمختار تعيينه بالوصف والرجوع إليه من أجل أن يحسم برأيه الخلاف، ويختار في هذا الفقيه أن تكون له المرجعية العامة بالدرجة الأكبر. فأين محل الإشكال في المسألة وأين التدخل الأجنبي في التقنين؟
6- يشبه إخضاع طالب الابتدائي والإعدادي والثانوي لمنهج ديني على خلاف مذهبه في مواضع الاختلاف وهو بَعْدُ لم يتح له أن يتعرف على مذهبه، أو كان تعرفه عليه تعرفا أوليا بدائيا عملية الإكراه على الدين إلى حد بعيد جدا، وفي هذا الإخضاع ظلم واضح، وإلغاء رسمي تام من هذه الجهة لأكثرية الشعب. وواقع من هذا النوع يجب أن تتخلص الحكومة من عاره سريعا، وكيف توفق بين هذا الواقع ودعوى الحرية الدينية والمساواة في الحقوق؟!
إن الوطن للجميع، والمدراس للجميع، وميزانية التربية والتعليم من ميزانية الجميع، وملك الجميع، وإن مطلب المساواة بين المذاهب في منهج التربية والتعليم الديني مطروح بصورة واسعة، وسيبقى مطروحا بقوة حتى يتحقق، وهو من أوضح الحقوق وأشدها بداهة.
أما الأقوال التكفيرية لمذهب أهل البيت (ع) أو لأي من المذاهب الإسلامية المتفق عليها فوجود شيء منها في المناهج الرسمية من الفضيحة المخجلة، والعدوان السافر، وانتهاك الحرمة، والتحريض الخطير الذي تتحمل الحكومة مسؤوليته، ومسوؤلية تبعاته وآثاره العملية المدمرة، وستكون السبب الكبير في أي جريمة حمقاء يرتكبها طالب من وحي الفكر الذي تنطلق به هذه الاقوال وتثبِّته.
وأخيرا فليطلب الجميع لهذا الوطن بالإيمان والعدل والمساواة والحكمة والتعقل، والتقدُّم، والرخاء، والأمن والسلام والعزة والكرامة والمحبة، وليكن شعار الإصلاح جادا بدرجة أكبر وصادقا بصورة أوضح وعاما في إطار اوسع، وإذا صدق الإصلاح ذهب الخلاف.
وكلمة ختام بأن سدوا أبواب الفتنة، واغلقوا منافذ التداعيات الضارة، وأطلقوا سراح الشباب ولا تطاردوهم، وقدّروا أن الحدث مستفز جدا، ومثير جدا، أما من بدأ المواجهة، ومن فعل ومن لم يفعل فللشباب في ذلك رأي يختلف عما ينقله الإعلام عن الجهة الرسمية.
ولسنا في مقام الحكم والقضاء ولكننا في مقام التحذير من تدهور الأمور والحرص على بناء جسور الثقة وتجنيب الوطن ما يضر بمصالحه وحاضره ومستقبله، ويفتت وحدة أبنائه.
شبابنا الأعزاء.. طالبوا بحقوقكم وأمروا بالمعروف وانهوا عن المنكر كما أمر الله عزوجل، وليكن دليلكم في ذلك قبل كل شيء ضوابط العقل والشرع، ولتكونوا أحرص من يكون على سلامة الوطن وممتلكات الناس العامة والخاصة ولتضربوا المثل الكبير في التقيد بالنظام والانضباط.
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم لا هدى إلا من عندك فاهدنا، ولا رشد إلا بك فأرشدنا، ولا خير إلا من فضلك فأفِض علينا منك الخير، ولا نجاة إلا بمغفرتك فاغفر لنا الذنب، ولا واقي من دونك فقنا الشر.
اللهم إنا نرغب إليك، ونفزع من عدلك، ولجأنا إلى رحمتك، وأملنا في إحسانك، فلا تخيبنا يا محسن، يا متفضل، يا حنان، يامنّان ياكريم.
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهي النفوس جمع نسمة.
2 – ميزان الحكمة ج8 ص385.
3 – ميزان الحكمة ج8 ص386.
4 – ميزان الحكمة ج8 ص387.
5 – ميزان الحكمة ج8 ص387.
6 – ميزان الحكمة ج8 ص388.
7 – ميزان الحكمة ج8 ص388.
8 – ميزان الحكمة ج8 ص388.

 

زر الذهاب إلى الأعلى