خطبة الجمعة (194) 28 صفر 1426هـ – 8 أبريل 2005م

مواضيع الخطبة:


خلق الصبر +  محمد ذلك العظيم + الوفاق والحكومة +  قانون الأوقاف + قانون مكافحة الإرهاب +  التجربة العراقية

* لا بد من إصلاح، ولابد من حوار؛ وهو حوار يبني الجسور ويمتّنها، ولايهدمها أو يضعفها، وشرط حوار من هذا النوع أن يكون جادّاً وفاعلاً ومنتجاً، وإلا فالحوار المؤيس ضررُه أكثر من نفعه.

* كان صلَّى الله عليه وآله الأغنى على مستوى الإنسان الذي تحتاجه كل الأجيال المتدفقة بعده، والممتدّة على الزمن كلِّه.

الخطبة الأولى

الحمدلله الغنيّ الوهَّاب، الرحيم الغفور التوَّاب، ذي الفضل العظيم، والثواب الجسيم، والمنّ الجميل، والإحسان الجليل.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله صلى الله عليه وآله وسلم تسليما كثيرا كثيرا.
أوصيكم عباد الله ونفسي الأمَّارة بالسوء بتقوى الله، والطمع في ثوابه، والخوف من عقابه، والرضا بما قدَّر، والانتهاء عمَّا نهى، والائتمار بما أمر. فليس مثله قدرة ولا كرما، ولا أخذاً ولا نكالاً، ولا حكمة ولا علماً وتقديراً، ولا لطفاً ولا رحمة. وكل مؤمل دونه فان وهو لا يفنى، وكل محذور غيره إليه سبحانه منه مفرُّ، ولا مفرَّ منه عزّ وجل إلا إليه.
اللهم صلّ على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم. اللهم إنا نعوذ بك من كل ما يبعِّد عنك، ويُضِلُّ عن صراطك المستقيم.
أما بعد أيها المؤمنون والمؤمنات الأعزاء فإلى حديث في خلق كريم وهو خلق الصبر:
والصبر أن يواجه النفس شرٌّ مضجر، أو خير مبطر، أو تكليف مثقل، أو مورد لمعصية تستهوي، أو خوفٌ يُهير فيحملها صاحبها على المقاومة، ويدفعها إلى التحمُّل فتستجيب، ويحاول معها أن تصمد فتنجح المحاولة، ويثير فيها ألا تتهاوى فتتماسك، وألا تنهار فتثبتَ رغم ما يكون من مشقة وحرج وضيق.
وقد لاتحتاج النفس بعد التربية إلى مجاهدة لتحتمل كثيراً من الأحداث، وإلى مواجهة وتأديب حتى تصمد أمامها، ذلك بأن يكون الصبر ملكة قويَّة راسخة فيها.
وفي الكلمة عن الإمام علي عليه السلام:”الصبر شجاعة”(1) باعتباره موقف قوة، وموقف مواجهة لضغط الظروف يُنقذ النفس من الضعف والاستكانة والاستسلام، ويستعلي بها عن حالة الوهن والانهيار.
وكلمة أخرى له عليه السلام قريبةٌ من سابقتها “الصبر يناضل الحدثان”(2).والحدثان: الليل والنهار. ويشهد الليلُ والنهار في حياة الإنسان تقلّبا في الظروف، وتبدّلاً في الأحوال، وأنواعاً من الضغوط والتحديات، ومواجهات كثيرة، والصبر عملية كفاح ومقاومة ونضال يقي النفس التأثيرات السلبية للتحديات والمواجهات، ويدفع عنها غائلة التحطّم على صخرة المغريات والأزمات.
ولنقف عند بعض العناوين الفرعية لهذا الموضوع:
الصبر منزلة:
قوله تبارك وتعالى {… وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ }(3)، وقوله عزّ وجل {…. وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ }(4). حب من الله، وحب الله لايعدله أجر، ولا يرقى إليه ثواب. ومعية من الله وليس مع معيته حزن ولا خوف ولا قلق ولا اضطراب، وليس معه هزيمة، ولا فقر، ولا خسارة. معية الله تقي وتحمي وتدفع وتغني وتعلي. وعن الرسول (ص) “من أقل ما أوتيتم اليقين، وعزيمة الصبر، ومن أُعطي حظَّه منهما لم يبال ما فاته من قيام الليل وصيام النهار، ولأن تصبروا على مثل ما أنتم عليه أحبُّ إلي من أن يوافيني كل امرئ منكم بمثل عمل جميعكم….”(5).
اليقين وعزيمة الصبر، صناعة صلاة وصوم صادقين، وبناء النفس هو هدف العبادات، فلو فات نفسا بناها الإيمان شيء من مستحب العبادة الظاهرية لا يكون قد فاتها الكثير بالقياس إلى ما هي عليه من عبادة الجوانح، فإن اليقين والصبر من عبادة الداخل، وعبادة الداخل أرقى عبادة، وهي لايمكن أن تتوفّر لإنسان فرّط في الفريضة، أو ترك المستحب تهاونا واستخفافاً.
منبت كريم:-
الصبر منبت لخلق كريم كثير { إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفاً مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ } الآية الثانية{ فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ } روح الغلبة، وروح الانتصار تنبت في ظل الصبر، فالصبر منبت لروح عالية واثقة قادرة.
وعن الإمام علي عليه السلام “الشجاعة صبر ساعة”(6). هذا الخلق الكبير خلق الشجاعة والصمود إنما هو فرع الصبر، وفالشجاعة التي تستقطب وتنال إعجاب الكثيرين إنما هي صبر ساعة واحدة. مواجهة الموت، ومقابلة الأبطال، والثبات في الزحف، هذه الشجاعة الهائلة وراءها صبر ساعة واحدة.
وعنه عليه السلام “الصبر عن الشهوة عفَّة، وعن الغضب نجدة، وعن المعصية ورع”(7) والعفة خلق كريم وتأتي نتيجة للصبر، والورع هو لون من ألوان الصبر، وهو الصبر عن المعصية والقوّة والشدة. وهذه القوة والشدة والتماسك في النفس نتيجة من نتائج الصبر.
وعن الرسول (ص)”علامة الصابر في ثلاث: أوّلها: أن لايكسل، والثانية: أن لايضجر، والثالثة أن لايشكو من ربّه عزّ وجل….”.
فالنشاط والحيوية شيء من الصبر، والشعور غير المنهزم أمام المصاب هو لون من الصبر، والشكر للرب تبارك وتعالى، وعدم الشكوى من الله عند المصيبة لون من الصبر.
فجملة من الأخلاق الكريمة العالية كلها من منبت الصبر.
طريق نجاح:
{وما يلقّاها إلا الذين صبروا، وما يلقّاها إلا ذو حظ عظيم} وتلك هي منزلة الدفع بالتي هي أحسن.
{وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لمّا صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون}، {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ }.
منازل ثلاث رفيعة؛ أن ترقى خلقا، وتشف روحا، وتسمو نفسية، فتدفع بالتي هي أحسن، وترد على الإساءة بالحسنة، وعلى القبيح بالجميل لرفعة في النفس، ومعنوية كبيرة، هذه واحدة.
وأن يبلغ إنسان الإمامة الهادية بأمر الله لا تتعدى الهدى، ولا تقع في الضلالة، ولا تخطأ الحق، ولا تميل عن الصراط، وتتسم بالعصمة، وهذه ثانية.
والثالثة أن يورث الله قوما مستضعفين مشارق الأرض ومغاربها مع مباركة منه، وتتم كلمته الحسنى عليهم وينعم عليهم بالنصر بعد الهزيمة، والعز بعد الذل، والرفعة بعد الهوان كل ذلك طريقه الصبر، ووسيلته التحلّي بأدب هذا الخلق الكريم الكبير.
عن المسيح عليه السلام “إنكم لاتدركون ما تحبون إلا بصبركم على ما تكرهون”وأي شيء من الخير ناله الإنسان ولم يسبقه صبر في بناء نفسه، وفي بناء عقله، وفي بناء جسده، وفي بناء أسرته، وفي بناء مجتمعه؟!
وعن علي عليه السلام “الصبر على مضض الغصص يوجب الظفر بالفرص”.
تأتي فرص، لكن ما لم تستعد النفس لها بالبناء، – والبناء دائما يقوم على الصبر، والصعود بالنفس دائما يحتاج إلى صمود، والتخلّص من نقاط الضعف يأتي في طول رياضة النفس- فإن الفرص تأتيها لتفوت فتعقبها حسرة.
وعنه عليه السلام “الصبر يُرغم الأعداء” فمن المنتصر من طرفين متقابلين؟ المنتصر هو الأكثر صبراً.
وعن الرسول صلى الله عليه وآله “الصبر خير مركب، مارزق الله عبداً خيرا له ولا أوسع من الصبر” سعة المال بلا صبر لا تُسعد، وكمال الصحة بلا صبر لا يكفي، وقوة العشيرة وتأتّي الأسباب كل ذلك لايسعد مالم تكن النفس على مقدار من الصبر، فإن الدنيا مهما لانت بيد الإنسان فإنها لاتلبّي كل طموحاته، ولا يمكن أن تأتي الأمور كلها على ما يريد الإنسان، والإنسان في أي موقع من مواقعه لايمكن أن يسير القضاء والقدر كما يشتهي، فلابد له من صبر، ولابد له من معاناة، ولابد له من مكابدة، والمعاناة والمكابدة تحتاجان إلى صبر.
من لا صبر له:
عن الإمام علي عليه السلام “المصيبة بالصبر أعظم المصائب”. المصيبة الصغيرة تكبر في نفس الإنسان وتتعملق ما لم تكن النفس على صبر، والمصائب الكبار العملاقة تصغر في النفس وتهون عليها إذا كانت متحلية بالصبر. وما لم تتزود النفس بخلق الصبر لاتصمد أمام مصيبة، وتكون معرضة للانهيار أمام أقل الأحداث وزنا، فمن توفر على الصبر توفّر على رصيد كبير يقيه الهزيمة والاندحار.
أما مع عدم الصبر فإنه دائما منهزم، دائما في حزن، دائما في خوف وقلق.
وحين يفقد الإنسان الصبر، فهذا أعظم مصيبة. فقد الولد مصيبة ولكن فقد الصبر على مصاب الولد مصيبة أكبر، والفقر مصيبة، ولكن فقد الصبر على الفقر مصيبة أكبر، فما من مصيبة إلا وفقد الصبر أكبر منها، ولامصيبة يمكن أن تهزّ النفس وتهدّ بناءها حين تكون على صبر عظيم.
وعن الباقر أو الصادق عليهما السلام:”من لايعد الصبر لنوائب الدهر يعجز”.
يجب أن نلتفت إلى أن الإنسان لايستطيع أن يحمي نفسه من الخارج بقدر ما يستطيع أن يحميها من الداخل. ابن نفسك تهن عليك مصائب الدنيا ولا يستطيع غيرك أن يهزمك. اهمل نفسك فإنك ستكون الضعيف المنهار عند كل مصيبة، والمنهزم أمام كل عدو.
ومن هنا كانت تربية الترف والدلال متعبة مرهقة في نتائجها لمن ابتُلي بها مهلكة له “اخشوشنوا فإن النعم لاتدوم”.
اللهم صل على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، اللهم إنا نسألك الخير و العافية خير الدنيا والآخرة وعافيتهما. ربنا ما فرضت علينا من تكليف، وما رزقتنا من نعمة، أو ما كتبت علينا من بلاء فلا تجعل صبرنا يعجز عن تحمّله، وينقص في وزنه عن وزنه، وارزقنا طاعتك وحمدك وشكرك، وحسن الظن بك ياكريم يارحيم.
بسم الله الرحمن الرحيم
{وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}

الخطبة الثانية

الحمدلله الذي ألهم العقول حسن طاعته، وقبح معصيته، ودلَّها على سُبُل الطاعة، ورغَّب عباده فيها، وعلى متاهات المعصية، وحذّرهم منها، وضاعف المثوبة، وهو العدل الذي لايجور في العقوبة.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له، منَّ على عباده بالهدى والرشاد، وبيَّن لهم طرق الصواب والسداد، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أدَّى الأمانة وأحسن الدعوة، وجاهد في الله حق الجهاد صلى الله عليه وآله وسلم تسليماً كثيراً كثيراً.
أوصيكم عباد الله ونفسي الأمَّارة بالسوء بتقوى الله وبالتواصي بالحقِّ إقامةً له، وإسعاداً لمن أخذ به، إذ لا سعادة لأحد بالباطل، ولا شقاء أبداً في الحقِّ، ولنتواصَ بالصبر فإنه لاتُبلغ المعالي بدونه، وفاقده منكوب، وكلّ مصائبه بفقده له كبيرة، وكلّ حياته بدونه عسيرة، وهو من نفسه في تعب، والناس منه في رهق ومصيبة.
وإن الدُّنيا لايقوم أمرها كما ينبغي إلا بالحقِّ، وإن الآخرة لاينال خيرها، ولا يُكفى شرُّها إلا به. وإن الصبر من الحق، ولا نجاة لأحد ولا رقي ولا سعادة بدونه.
اللهم اغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، اللهم إنا نعوذ بك من مصيبة يعجز عنها صبرنا، وأن يخذلنا التحمل عند النعمة، ومن جزع تشقى به حياتنا، وهشاشة نفس تسوء بها أحوالنا، ولاتحسنُ خواتمنا.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد الصادق الأمين، وعلى علي أمير المؤمنين، وإمام المتقين، وعلى فاطمة الزهراء الصديقة الطاهرة المعصومة.
وعلى الأئمة الهادين المعصومين الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن المهدي القائم المنتظر.
اللهم عجل فرج ولي أمرنا القائم المنتظر، وحفه بملائكتك المقربين، وأيده بروح القدس يارب العالمين، اللهم انصره نصرا عزيزا، وافتح له فتحا مبينا.
عبدك وابن عبديك، الموالي له، الممهد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين وفقهم لمراضيك، وسدد خطاهم على طريقك.
محمد ذلك العظيم:-

أما بعد فما كان محمد بن عبدالله صلَّى الله عليه وآله على عظمته الذهنية وعبقريته من المشتغلين بالاكتشافات الطبيَّة والطبيعية، والاختراعات الصناعية، ولكنه كان خاتم النبيين والمرسلين الذي تحتاجه البشرية كلها من بعده لهداها ورشدها العقلي والروحي والنفسي والعملي ونضجها الاجتماعي، ورقيها وسموها الإنساني، كما تحتاجه لتقدّمها العلمي والصناعي والزراعي، واكتشافها واختراعها، ولأن تكون نتائج التقدم والاكتشافات والاختراعات للنفع لا الضّر، والعدل لا الظلم، والاستقامة لا الانحراف، والإعمار لا الدمار، وطريقاً للعلوّ لا الانحدار، وللجنة لا النار.
ماكان همُّه صلى الله عليه وآله وسلم أن يتقدم بحياة الناس في بعض مظاهرها المادية ليبقى الإنسان آسناً متخلّفاً في إنسانيته، ولم يكن يرضى أن ينسى الناس دنياهم بما يشلُّ حركة الحياة، ويعطِّل عمارة الأرض، أو أن يصنعوا بأيديهم أشياء تنفع إلى وقت في ظاهر الحياة لتكون وبالاً على إنسانيتهم وتُحطِّمها أخيرا، وإنما كان تركيزه على صناعة شخصية الإنسان القادر على صناعة أشيائه وأوضاعه، وحاضره ومستقبله ومصيره صناعة يغنى بها لايفتقِر، ويَسْعَد بها لايشقى، ويسمو بها لايسقط… صناعة تتقدَّم به على الأشياء، ولا تتقدمه الأشياء، وتجعله يملك التصرف في ما تصنع يداه لصالح إنسانيته ودينه ودنياه، لا أن يملك ما صنع التصرف في شخصيته ووقاره وهيبته، وحكمته وخلقه وإنسانيته، وينحرف به عن طريقه وهدفه.
كان صلَّى الله عليه وآله الأغنى على مستوى الإنسان الذي تحتاجه كل الأجيال المتدفقة بعده، والممتدّة على الزمن كلِّه. يملك ما لا يملكه الآخرون مما يحتاجه سموّ الإنسان ورفعتُه، ولا يملك أحد من الناس من ذلك ما لا يملك فكان المعلّم والمربي والرائد والقدوة والقائد والمهذب والمرجع والإمام لكل مستويات الناس على المدى الزمني كلّه.
ماكان يقيم لحياة الجسد الشاحبة المعنى شأناً تضغط به القوى المادية عليه، فوجدته القوي في الناس الذي لا أقوى منه، ولا يملك أحدٌ منهم أن يُضعفه. وكل قوته من إيمانه وثقته ومعرفته بربه، وعشقه له، وانصرافه إليه، وتوكّله عليه.
سلام عليك يارسول الله يوم وُلدت، ويوم رحلت إلى جوار ربك، ويوم تُبعث حيّاً، وسلام على آلك، وعلى اخوانك من النبيين والمرسلين.
وليتناول حديث اليوم من بعد هذا بعض قضايا:-
1. الوفاق والحكومة:-
يُقدّر للوفاق انضباط مسيرتها – مسيرة سترة – وسلميتها وحرصُها على أمن الوطن وسلامته، وللحكومة إعمالُها للحكمة والتعقّل ووزنُها للأمور في موقفها النهائي من المسيرة وزناً يُقدّر الواقع والمصلحة. ولابد أن يكون للملك توجيه يُشكَر في هذا الأمر.
وللجميع في ذلك درس لاينبغي التخلي عنه، يقول لنا: بأن لا نغلِّب حالات الانفعال، ولا نعمى عن العواقب، ولانرغب في إضرار الآخر، ولا ننسى أن خيرنا مشترك أو يجب أن يكون مشتركاً، وأن شر الفتنة – أبعدها الله – مشترك، وأن الحلول للمشاكل المعقّدة لاتستعصي على عقل، ودين، وحكمة، وحسن نية، ورغبة صادقة في حوار موصل.
2. قانون الأوقاف: يمكن أن يكون قانونان:
‌أ. قانون لرسم الهيكلية المرجعية والإدارية وبيان الآلية المتصلة بها، ومدى استقلاليتها وتبعيتها للحالة الرسميَّة.
وهناك مقترح بمشروع قانون يعالج هذا المطلب تقدمنا به إلى جهة رسمية لم نتلقّ رداً بشأنه حتّى الآن. ومثل هذا القانون لابد منه بعد وجود دائرة الأوقاف.
‌ب. قانون ينتظم الأحكام الشرعية المتعلقة بالأوقاف وتسيير شؤونها والتصرف فيها.
والتصرف في الحكم الشرعي ليس من حق أحد، والاجتهاد في دائرته خاص بالمجتهد، والنافذُ من هذا الاجتهاد هو اجتهاد المجتهد العادل. ولا مسوّغ أصلاً أن يكون للمؤسسة الوضعية التي تعتمد أحكامها على الاجتهاد الشرعي وتفتقد مؤهلاته اختصاص بهذه الوظيفة.
قانون مكافحة الإرهاب:
لابد من مواجهة الإرهاب الظالم الذي يحوِّل حياة المجتمعات الإنسانية إلى حياة فزع ورعب وفوضى ودمار، ولكن استغلال مثل هذه العناوين استغلالاً سيئاً للتضييق على الحريات العامة والخاصة الإنسانية الكريمة، واستباحة ما حرَّم الله من دم ومال باسم القانون هو إرهاب كذلك، وهو أحوج للمكافحة وأولى بها، لأن الإرهاب الذي يُضفي عليه التقنينُ الشرعية ولو كانت وضعية أخطر أنواع الإرهاب. فلنحذر من تسلل الإرهاب إلى مجتمعنا باسم القانون ومكافحة الإرهاب.
التجربة العراقية:-
لأمر وآخر لم يشارك المسلمون السُّنة العرب في العراق في انتخابات الجمعية الوطنية، بحجمهم الطبيعي، وأفرزت الانتخابات فرصاً كبيرة قانونية بيد المسلمين الشيعة، والمسلمين السنة الأكراد.
ولكن حاجة العراق ومصلحته وأمنه واستقراره وإخاء أبنائه ووحدته تُحتّم أن تُشرك كل القوى في وضع الدستور، وتحمل مسؤوليات الحكم، واقتسام المتاعب والمكاسب، وقد استجاب وعي الائتلاف العراقي وإخلاصُه وعقلانيته وواقعيته وإسلاميته لهذه الحاجة، وقدَّر قيمة وحدة العراق ومصلحته وأمنه واستقراره وصبر كثيراً، وحاور كثيراً حتى تشكلت هيئته الرئاسيّة، وعُيّن رئيس الوزراء بالصورة التي تخدم هذه القضايا الأم، ولا تهمش طرفاً من الأطراف.
فأين نحن من تجربة العراق؟
1. قد يذهب الميل ببعض من داخل هذه الطائفة أو خارجها، أو من داخل تلك الطائفة أو خارجها على حدّ سواء إلى أن لاتكون إصلاحات تفتح باب المشاركة الواسعة في الانتخابات الثيابية القادمة، لأن هذه المشاركة ربما فوّتت عليه فرصة شخصية أو فئوية للفوز في تلك الانتخابات يعزُّ عليه أن تُفوَّت.
ولكن هذه النظرة قصيرة جدّاً وأنانية إلى حد السرف والإفراط، ولا تلتفت إلى مصلحة الوطن العامة، وما تمثّله عملية المشاركة الانتخابية الواسعة من مكاسب إيجابية ضخمة لهذا الوطن على مختلف الأصعدة إذا ما جاءت عن قناعة بقيمة هذه المشاركة وابتنائها على أساس مقبول، وخلفية مرضية متّفق عليها.
فلا بد من إصلاح، ولابد من حوار؛ وهو حوار يبني الجسور ويمتّنها، ولايهدمها أو يضعفها، وشرط حوار من هذا النوع أن يكون جادّاً وفاعلاً ومنتجاً، وإلا فالحوار المؤيس ضررُه أكثر من نفعه.
ومن منطلق الحرص على الوحدة الوطنية ومصلحة الجميع ندعو إلى مزيد من الحوار، وإلى مزيد من الإصلاح، ورفع العوائق وتسهيل السبل لتوسُّع المشاركة واستقطابها واستيعابها، والاستفادة من كل الطاقات والقوى والمواهب والفاعليات المخلصة المنتجة في عملية بناء مشتركة رشيدة جادة واعدة…. ندعو إلى وحدة وطنية شاملة تتحمل جميع أطرافها المسؤوليات، وتستفيد من المكاسب.
2. كاد العراق أن يحترق طائفياً، وقد حاول عقلاؤه ولا زالوا يحاولون جادِّين أن يتجاوزوا به كارثة هذا الخطر المميت.
وفي البحرين من يتعمَّد الاقتراب بواقعنا من إثم الانشقاق والمواجهة. ونداؤنا: لاتغرقوا سفينتكم الواحدة، ومن يفعل لابد أنه سيغرق مع من سيغرقون. وليس بيد طرف دائماً أن يثير العاصفة، ويتراجع بها إلى الحد الذي يريد، وفي الوقت الذي يريد.
لا تستطيع هذا التحكم السياسة في موقع الحكم، ولا الموالاة، ولا المعارضة، كما لا يضمن أحد نجاته من محرقة الفتنة الطائفية المجنونة وإن احتمى بقلعة أو اعتصم بحبل.
وإذا أسس هذا الجيل لطائفية حاقدة فإن انفجرت – أي هذه الطائفية – أيامه فستحرقه، وإن تأخر انفجارها فسيحترق بنارها جيل لاحق ليلعن سابقه بعد أن يُفيق على هول الكارثة، وخيانة المؤسسين للفتنة.
اللهم صل على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، ولوالدينا وأرحامنا ومن أحسن إلينا من المؤمنين والمؤمنات إحسانا خاصاً. اللهم أعذنا من مضلات الفتن، واجعلنا ممن أحسن العمل، ونصح، وأصلح، ودعا للهدى، وجمع الآراء والأيدي على الخير والتقوى.
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}
ـــــــــــــــــــ
1 – ميزان الحكمة ج5 ص 257.
2 – ميزان الحكمة ج5 ص257.
3 – 146/ آل عمران.
4 – 46/ الأنفال.
5 – ميزان الحكمة ج5 ص256.
6 – المصدر السابق ص257.
7 – المصدر السابق.

 

زر الذهاب إلى الأعلى