خطبة الجمعة (193) 21 صفر 1426هـ – 1 ابريل 2005م

مواضيع الخطبة:

الصديق في ضوء الكتاب العزيز + آل بيت الرسول المثال الأكبر للأمة + كلمة في الوضع المحلي السياسي

* تعالوا نتفاهم لصناعة الإصلاح مشتركين لانستورد الديموقراطية، ولا نستقوي بالأجنبي هذا لتسريعها وذاك لتعطيلها، وإذا كان قطار
التغيير قادماً لا محالة فلنصنع واقعنا مشتركين صناعة ترضينا جميعاً بلا متاعب.

 

الخطبة الأولى

الحمدلله الذي لا يحدُّ كماله شيء، ولا يشبهه شيء، ولا يعجزه شيء، ولا يكفي منه شيء، ولا يُفتقر معه إلى غيره، ولا يُستغنى بغيره عنه. لا يمسُّه نقص، ولا يلحقه قصور، ولا يجوز عليه التحوّل، ولا يناله التغيُّر.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم تسليما كثيراً كثيراً.
أوصيكم عباد الله ونفسي الأمّارة بالسوء بتقوى الله، وأن لا نساوي به أحداً غيره إجلالاً وإعظاماً، ومحبّة وعشقاً، وخوفاً وطمعاً، وشكراً وثناء، وطاعة واستجابة فإنه الخالق وغيره مخلوق، وهو الرازق وغيره مرزوق، وهو المدبّر وغيره لا يقوم إلا بتدبيره.
ولنتّعظ عباد الله بما وعظ به الصالحون فمن ذلك ما عن أبي الحسن الهادي (ع):”اذكر مصرعك بين يدي أهلك، ولا طبيب يمنعك، ولا حبيبك ينفعك”(1).
ذلك يوم تنقطع فيه الحيلة، وتنعدم الوسيلة، وتُسدُّ الطرق، وتَنْفَدُ الأسباب من يد الطبيب والحبيب، ويُستسلم لحكم القدر الذي لا يَحول دونه مخلوق.
اللهم صل على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنَّك أنت التواب الرَّحيم. اللهم أعذنا برحمتك من هول يوم الممات، ويوم النشور، وتجاوَزْ عنّا يوم يقوم الحساب.
أما بعد أيها المؤمنون والمؤمنات فتعالوا نكتسب مزيداً من الوعي في موضوع الصديق في ضوء الكتاب العزيز، والحديث الشريف:
الصديق موقعاً:-
عن أمير المؤمنين (ع)”الصديق أقرب الأقارب”(2).
بلى إنه كذلك:
1. في الأثر الاكتسابي. فإن شخصية الإنسان وراثة واكتساب، والوراثة ليس بيدنا من أمرها شيء، أما الاكتساب فمن مسؤوليتنا.
ومما يدخل في التأثر الاكتسابي بصفات الخير وصفات الشر مسألة الصديق فإن له أثراً كبيراً على صديقه في صوغ نفسيته واتجاه تفكيره، ومجمل أبعاد شخصيته.

2. وهو أقرب من الأقارب، وأقرب الأقارب في الإطلاع على الأسرار والأفكار والمشاعر والمشاكل، والنجاحات والإخفاقات، ونقاط الضعف ونقاط القوة في صديقه…
فأبٌ ليس بصديق، وأخ ليس بصديق، ليس له من الإطلاع على أمرك ما لصديقك من هذا الإطلاع..
إن القريب لا يكون له شيء من التأثير على قريبه على مستوى الاكتساب، وليس له إطلاع على أمره ما لم يكن صديقا له.
3. ويأتي التأثير في النفع، فإن صديقا صالحاً يكون الانتفاع به انتفاعاً كبيراً.
وإن صديقا سيئا يكون التضرر به تضررا كبيرا.
إذا صلح القريب والصديق فإن ما ينفعك به صديقك اكبر من نفع القريب ما لم يكن صديقك، وإذا ساءا معاً فإنه لا يضرك أقرب الأقرباء بقدر ما يضرك البعيد، ما دام البعيد صديقك، والقريب ليس صديقك.
وعنه عليه السلام “الأصدقاء نفْسٌ واحد في جسوم متفرقة”(3).
والنفس الواحدة تعني فكرا واحدا، ومشاعر واحدة، وهموماً وأهدافاً مشتركة. والحديث للمبالغة. فإنك أنت وصديقك كأنكما نفس واحدة من حيث المشاعر والهموم والأهداف، ومن حيث اتجاه التفكير، ومن حيث الأبعاد الأخرى لشخصيتكما.
هذا الذي تتحول إلى شخصيته أو يتحول إلى شخصيتك كم عليك أن تقف أمام اختياره صديقاً، وكم عليه أن يقف أمام اختيارك صديقا؟!
أنت اليوم نمط من الشخصية، وربما كنت نمطا آخر من الشخصية لو صادقت صديقا من خط آخر.
وكلما متنت العلاقة بين الصديقين كلما كان التشابه شديدا، وكلما كان التقارب الفكري والنفسي بصورة أوضح. وترسّخ صداقة الصديق معناه ترسّخ مشاعره وأفكاره وتوجّهاته فيك.
وعنه عليه السلام”النفوس أشكال، فما تشاكل منها اتفق، والنّاس إلى أشكالهم أميل”(4).
ومن هنا جاءت معرفة الصديق بصديقه، فأنت تُعرف بصديقك لأنك ما اخترته إلا على ضوء نمط شخصيتك، ولو لم يكن لك شكلا، ولم تكن موافقة نفسية وفكرية بينك وبينه فإنك في الغالب لا تختاره، فاختيارك له يكشف عن توجّهاتك وأبعاد شخصيتك.
الصداقة الناجحة:
وحينما تُصادق شخصاً فأنت لاتصادق جسدا، وإنما تُصادِقُ عقلاً وروحاً ونفساً، وأخلاقاً وطبعاً، وخبرة وتجربة، نحن لانصادق لحماً ودماً، وإنما نصادق إنسانية إنسان، وفي العادة أن الصديق في إنسانيته من مستوى صديقه. وعلينا أن نبحث عمن يمكن لنا أن نتعاطى معه في الخلق والخبرة والتجربة، وأن نلتقي معه روحيا ونفسيا وعقلياً.
إن الصديق سيمدك مما يملك، وستمده مما تملك، فانظر ماذا تريد أن تسترفد من صديقك، ولينظر صديقك ماذا يريد أن يسترفد منك. ماذا يستطيع أن يعطيك صديقك، وماذا تستطيع أن تعطي صديقك.
وهناك أثر مصيري لصداقة الأصدقاء، فاحذر أن تصادق، وأن تنتمي، وأن تلتصق بحزب سيء، بفئة سيئة، باتجاه فكري منحرف، بجماعة منحلّة، بمؤسسة لصيقة.
تقول الآية الكريمة {وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ (99) فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ (100) وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101) فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}(5).
لو كانت لهم كرّة، وكانوا من المؤمنين لما اختاروا لو أحسنوا في صداقتهم، وفي انتمائهم غير صف المؤمنين، وغير نوع المؤمنين. يتمنى المجرم أن لو كان له صديق حميم ممن يُنقذ، فلو كان له صديق حميم ممن له أهلية الإنقاذ لكان ورقة رابحة في يومه. يتمنّى الشافع فلا يجد، ويتمنى الصديق الحميم المنقذ فلايجد، لأن أصدقاء السوء ليسوا من الأصدقاء المخلصين ولأن أصدقاء السوء ليسوا أهلاً للشفاعة.
{قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ (51) يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنْ الْمُصَدِّقِينَ (52) أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَئِنَّا لَمَدِينُونَ (53) قَالَ هَلْ أَنتُم مُّطَّلِعُونَ (54) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاء الْجَحِيمِ (55) قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدتَّ لَتُرْدِينِ (56) وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ}(6).
كان له صديق في الدنيا محاولته معه أن يُبعده عن خط الله، أن ينحدر به عن الصراط المستقيم، أن يربطه بانتماءات أرضية منحرفة، أن تكون منتدياته، وأن تكون لقاءاته مع السفلة، مع الفسقة، مع المنحرفين، هذا الصديق خلّصه منه الله وأدركته عنايته الاستجابة له. تبيّن له موقعه في جهنم يوم القيامة فكانت فرحته بنجاته منه فرحة كبيرة. كان يقول {أَئِنَّكَ لَمِنْ الْمُصَدِّقِينَ} بخط الرسل، بخط الله تبارك وتعالى، بيوم البعث { أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَئِنَّا لَمَدِينُونَ (53) قَالَ هَلْ أَنتُم مُّطَّلِعُونَ (54) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاء الْجَحِيمِ } ذلك الصديق المُغوي، ذلك الصديق المضلل أين وجده صاحبه، وجده في سواء الجحيم، قال { قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدتَّ لَتُرْدِينِ } لولا أن تداركتني رحمة الله لأهلكتني أيها الخبيث {وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ}.
والآية الكريمة الأخرى تقول:{وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ (37) حَتَّى إِذَا جَاءنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ}(7).
فابحث عن قرين لا تقول له يوم القيامة ياليت بيني وبينك بُعدَ المشرقين فبئس القرين، وإذا بحثت عن قرين لولدك فابحث له عن قرين يختلف عن هذا القرين.
الشيطان قد يكون قرين الإنسان، والشيطان لا يجبرنا على صداقته، ولا يقهرنا على مودّته، وإنما لنا فُسحة من الاختيار. نستطيع أن نصادق الشيطان، ونستطيع أن نعاديه، نحن نملك إرادتنا في مصافحة الشيطان، وفي منابذته.
وهناك شياطين من الإنس، وشياطين من الجن، وكثيراً ما يقود شياطين الإنس من يرافقونه، ويصاحبونه، ويقارنونه إلى طاعة الشيطان الرجيم.
وإن شيطانين الإنس ليبحثون عن ولدك في بيتك، وولدي في بيتي، يبحثون عن كل بنت مؤمنة، وعن كل ولد مؤمن، عن كل شاب وشابة مؤمنَين لينتهوا بهما إلى النار، فلنلتفت ولنعط انتباهنا لشياطين الإنس ولعملاء الاستكبار العالمي، ولجواسيس الاستكبار العالمي الذين يبحثون عن الشابة والشاب في أي بيت من بيوت المؤمنين ليربطوهم بانتماءات جاهلية، ولينحرفوا بهم عن طريق الله تبارك وتعالى، وإنها الأمانة الكبرى التي حملنا الله إياها ألا وانها العناية بالأولاد والبنات.
{الْأَخِلَّاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ}(8).
أيها الأخوة الكرام: الخليل كم له من أثر على خليله، أحدنا يتكوّن شخصية إنسانية ذات أبعاد إيجابية كريمة، وفي سن الخمسين، وفي سن الستين يمكن أن ينحرف به صديق أو خليل عن خطّه، ويمكن أن يتحول بشخصيته إلى شيء آخر، فكيف بالولد والبنت في طراوة عودهما؟! كيف بصبي وصبية قبل أن تصوغهما التربية الإيجابية الكريمة؟!
{وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاء فَزَيَّنُوا لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ}(9).
وصديق يا ويلتى تقول عنه الآية الكريمة {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً (27) يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَاناً خَلِيلاً(10) (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولاً}(11).
غفر الله لي ولكم. والحمدلله رب العالمين
اللهم صل وسلم وزد وبارك على رسولك المصطفى وآله الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، اللهم اجعلنا من الموقنين المتقين، وأدخلنا في الصالحين، وهب لنا في الآخرة مرافقة النبيين والمرسلين والأئمة الهادين من المعصومين عليهم السلام ياكريم يارحيم.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ (4) وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)}

الخطبة الثانية

الحمدلله أهل الكبرياء والعظمة، وأهل الجود والجبروت، وأهل العفو والرحمة، وأهل التقوى والمغفرة، لا شفيع عنده إلا برحمته وكرمه وجوده وتفضّله.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وزادهم تحية وبركة وسلاما.
أوصيكم عبادالله ونفسي الأمَّارة بالسوء بتقوى الله في السّرّ والعلن، وأن لا نكون أنقى عند المخلوق منّا عند الخالق، أو أن يعظُم عندنا ثناء النّاس، ويهون علينا من الله الذّم.
فما عزَّ من أذلَّه الله، وما ذلَّ من أعزّه، وما أغنى النّاسُ عبداً عن الله شيئاً. ومن طلب حمىً فإنه لن يجد حِمىً من الله عند خلقه، ولن يفْقِد حمى من الخلق عند الله، ومن كان همُّه الله حماه وكفاه وأسعده وأغناه.
ولقد نجا وأصاب من استقوى بالله العظيم، واستغنى به عن فقراء الناس وأغنيائهم، وضُعَفائهم وأقويائهم، وسُوْقَتهم وملوكهم إذ لاغنيّ ولا قوي بالحق إلا الله، فعلى الله فليتوكل المتوكّلون.
اللهم اغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، واجعل لجأنا إليك، ولواذنا بك، واعتمادنا عليك، ولا تصرف وجوهنا عنك فنذِّل، ولا تصرف وجهك الكريم عنا فنهلك.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على حبيبك المطصفى، خاتم النبيين والمرسلين، وعلى علي أمير المؤمنين وإمام المتقين، وعلى فاطمة الزهراء الصديقة المعصومة.
وعلى الأئمة الهادين الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن المهدي المنتظر القائم.
اللهم عجل فرج ولي أمرنا القائم المنتظر، وحفه بملائكتك المقربين، وأيده بروح القدس يارب العالمين. اللهم انصره نصراً عزيزا، وافتح له فتحاً مبينا.
عبدك وابن عبديك، الموالي له، الممهد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين وفقهم لمراضيك، وسدد خطاهم على طريقك.
أما بعد أيها المؤمنون والمؤمنات الكرام فليس من بيت أوفى وأنصح للأمَّة، وأكثر بذلاً وعطاء في سبيل الله، وأصدق إخلاصاً، وأقدر على الهداية والإنقاذ من بيت آل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولا بيت يلحق ذلك البيت في شيء من ذلك.
ثم لا بيت من بيوت الأمة قد قُوتل وطُورد وأُوذي وأُخيف وتُعقِّبت ذريته بالمكروه أكثر من هذا البيت الذي هو محل وصية الله، ووصية رسول الله صلى الله عليه وآله مخالفة من بعض الأمة لوصية الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم.
ومن المؤلم أن يُتغنّى لحد الآن بالبيت الأموي والعباسيّ على أذاهما الظاهر المعلَن الفاحش لبيت آل الرسول صلى الله عليه وآله على مدى تاريخ طويل، وحتى بحكم يزيد، ويزيدَ نفسه الذي جزّر رؤوس الهاشميين وسيدِ الناس في زمانه، وإمام المسلمين أبي عبدالله عليه السلام ورفع رؤوسهم على القنا في فاجعة كربلاء، وضرب الكعبة بالمنجنيق، وأباح مدينة الرسول صلى الله عليه وآله لثلاثة أيامٍ قتلاً ونهباً واغتصاباً وإفساداً وتدميراً، وسيّر بنات الرسالة عقب مجزرة كربلاء الرّهيبة سبايا على ظهور المطايا من بلدٍ إلى بلد، حتى أُدخلن على مجلسه الحاشد بالفُسَّاق والأجلاف ليريهن كيف يلعب بقضيبه في رأس أبي عبدالله عليه السلام، ويسمعهن كلمات التَّشفّي تقطر بفظاظة الجاهلية وغبائها وكفرها ومقاومتها لله العظيم، ورسوله الكريم صلى الله عليه وآله.
فإنا لله وإنا إليه راجعون.
ولتكن لنا بعد هذا كلمة في الوضع المحلي السياسي.
1. تعمَّدت خطبةُ الجمعة السابقة التحاشي عن الدفع في اتجاه مسيرة سترة لا أخذاً بالتعليلات الرسميَّة للعدم، وإنما لتُبقي الجسور داخل هذا الوطن محتفظة بدرجة من الوجود، لأنه إذا تهدَّمت الجسور تنسى الأطرافُ في غمرة الشك وفقد الثقة والشعور المضاد مقتضى وحدة الدين والوطن ومصلحة الحاضر والمستقبل المشتركة، ولا يبقى إلا التفكير في النصر الموهوم، وهزيمة الآخر التي لابد أن ينكشف أنها هزيمةٌ للجميع، وأن الربح النسبي الذي قد يحققه هذا الطرف أو ذاك كان يمكن أن يتحقق بلا خسائر فادحة تطال الدين والإنسان والأرض بلا استثناء لطرف لو لم تتحطم الجسور، وكان الخيار التفاهم.
ولكن وبعد أن مضى على المسيرة أسبوع يمكن السؤال: هل تبرير منع المسيرات بتقدير مدير الأمن العام بأن المصلحة في المنع أمرٌ صحيح؟ والجواب الواضح: أن هذا مصادرة واضحة لحق المظاهرات والمسيرات، وإلغاء لحرية النقد والمطالبة والتعبير عن الرأي السياسي عن هذا الطريق جملة وتفصيلاً إلا أن تُقدِّر الحكومة أنه مما يخدم سياستها تحريك هذه المسيرة أو تلك.
وإذا كان قانون التجمعات يعطي هذا الحق لمدير الأمن العام فهو قانون مصادمٌ للميثاق والدستور، وقبل ذلك معطِّل لضروري من ضروريات الشريعة وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على تقدير تحقّق موردهما. فالصحيح المبادرة إلى إلغاء هذا القانون لا التمسك به.
2. القول بأن التعديل الدستوري له قنواته، والمسيرات الشعبية ليست منها قول صحيح من جهة، ويشتمل على مغالطة من جهة أخرى، فإن المظاهرات لا تريد أن يتم التعديل في الشارع، وإنما تطالب أن يكون التعديل عبر قناة دستورية.
3. وصم الصحافة المحلية للمسيرة على عادتها في كل تحرك مطلبي بأنها طائفية مع كون مطلبها وطنيّاً عامّاً، والأعلام المرفوعة فيها أعلام البحرين، وشعاراتها وطنية ظلمٌ صارخ، وتزوير ممجوج، ومردوده مردود سيء جدّاً على اللحمة الدينية والوطنيّة، فهل يُقصد إضعاف هذه اللحمة، وهلهلةُ نسيج هذا المجتمع الكريم؟!
4. الجيش للوطن لسلامته واستقراره، للدفاع عن حريمه ومنجزاته ومكتسباته وهو للشعب كما هو للحكومة. ولايصح أن يكون لإرهاب الشعب وحتّى بلا سبب، ولإسكات الكلمة وإن كانت دستورية ومطالبة بالإصلاح، ولتكميم الأفواه وإن كانت ناطقة بحق.
5. نحن مع الانضباط، ومراعاة المصلحة الوطنية العامَّة، وتقدير الظروف، ومع الأساليب الأكثر هدوءاً، ولكن لسنا مع مصادرة حرية الرأي السياسي الآخر، ووأد الكلمة، وتكميم الأفواه، ولا مع قلعة ظالمة من القوانين الحديدية لحبس التعبير. وكما يمكن وصف بعض الحركات بالإرهابية يمكن وصف بعض القوانين بصدقٍ وحقٍّ بأنها إرهابيَّة.
وكلمتي للشارع: اطلبوا الوسائل الأكثر هدوءاً كلما أمكن… لاتتظاهروا إلا للضرورة… احرصوا على أن لا تسدوا طرق الحوار.
وكلمتي للحكومة: لا تمارسوا إرهاب القوانين، ولا تُطوِّقوا عنق الشعب بألف قانون جائر… ولا تستعملوا الورقة الطائفية للحل السياسي… لا تضق صدوركم عن كلمة حقٍّ قالها مكروب، وعن استغاثة اضطرار استغاثها مستغيث.
6. هناك عدد من القضايا المعطَّلة والمتصلة بالشأن العام تُمثِّل مصدر قلق وتوتر واستنزاف، ومن خير الجميع أن يُتفاهم عليها، وينتهي إلى رأي متوافق عليه فيها، وإلا فإن المهاترات الإعلامية من أي طرف قد تُفسد أكثر مما تُصلح، وتؤجج النفوس، وتزيد في توتر الأوضاع.
ولنستعرض قضايا هي من القضايا المقدّمة:-
1) الحفاظ الخلقي وحماية الهوية الإسلامية.
2) المشاركة الشعبية في صورة مجلس نيابي قادر على الفعل واتخاذ القرار، وصاحب صلاحيات حقيقية لا تعطّلها التركيبة الحالية للمجلس الوطني وعدد من المواد الدستورية المعوِّقة.
3) العدالة في توزيع الدوائر الانتخابية.
4) التجنيس.
5) البطالة والضمان الاجتماعي.
6) العدالة في توزيع الثروة والخدمات.
7) العدالة في توزيع الوظائف والمناصب.
8) الإصلاح الإداري.
9) الإصلاح القضائي.
10) استقلالية الأوقاف.
11) الاحترام المذهبي.
وتعالوا نتفاهم لصناعة الإصلاح مشتركين لانستورد الديموقراطية، ولا نستقوي بالأجنبي؛ هذا لتسريعها وذاك لتعطيلها، وإذا كان قطار التغيير قادماً لا محالة فلنصنع واقعنا مشتركين صناعة ترضينا جميعاً بلا متاعب.
7. أعتبر أن التصعيد من أي طرف خيار فاشل، وضبط درجة التصعيد ليست بيد فاعله دائماً.
ومن الخطأ أن يعد طرف نفسه أنه كل شيء، وأن الآخر ليس بشيء، فالصحيح أنّك شيْ، وصاحبَك شيء، ولك وزن وله وزن، ولابد لوزنك أن يفعل فيه، ولوزنه أن يفعل فيك.
ولا أرى في الصراع إلا أنه ملحق للخسارة بالجميع، وصارف للطاقات في الوجه المدمّر.
8. لا ينبغي أبداً أن تُغلق جمعية الوفاق، وليس من تصعيد من هذا الطرف أو ذاك يمكن معرفة أقصى مداه بالضبط، وإلى أين ينتهي بالأمور. ولا يُرتقب في الكثير من التصعيد هنا وهناك من العطاء بقدر ما يرتقب من المتاعب. ومتاعب الوطن الواحد مشتركة ومن الصعب في فرضها التفكيك.
ولا يُستصعب الحل على العقل والحكمة والتروي، وإرادة الإصلاح. وظروفنا ليست متوترة إلى الحد الذي يمنع من كل التفاهمات.
غلق الجمعية يمثِّل في تقديري انعطافة على مستوى العلاقات إلى الاتجاه المعاكس لمسار الإصلاح، وينحدر بفرص الحوار إلى أدنى مستوياتها، وكأنه سدٌّ لهذا الباب، وهو باب ليس من الصواب مطلقاً غلقه.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على الحبيب المصطفى، محمد وآله النجباء، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين. اللهم ارزقنا حسن النية، وسداد الرأي، وصدق القول، وخلوص النصيحة، والسعي بالخير، وتوفيق الطاعة، والنأي عن المعصية، وخير الدارين، وكفاية شرهما، ياكريم يارحيم.
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 – انظر ميزان الحكمة ج10 ص: 579.
2 – ميزان الحكمة ج5 ص: 296.
3 – ميزان الحكمة ج5 ص:296.
4 – المصدر ص: 297.
5 – 99 – 102/ الشعراء.
6 – 51- 57/ الصافات.
7 – 36 – 38/ الزخرف.
8 – 67/ الزخرف.
9 – 25/ فصلت.
10 – فإيانا وخليل ياويلتى فإنا يا ويلتى في ذلك اليوم لاتنفع صاحبها.
11 – 27 – 29/ الفرقان.

 

زر الذهاب إلى الأعلى