خطبة الجمعة (179) 4 ذو القعدة 1425هـ – 17 ديسمبر 2004م

مواضيع الخطبة:

* المال والحياة(2) +* تتمة (قضية حساسة ولغة صريحة) +* لفرنسا رأي آخر+* غاية البؤس والإفلاس

غاية البؤس والإفلاس، والخيبة والفشل، والسذاجة والبلاهة، والغفلة والسبات أن تنتظر الأمة إصلاحها، ورسم صورة مستقبلها من أمريكا.


الخطبة الأولى

الحمدلله الذي تقوم الخلائق بقدرته، ويغذو الأحياءَ برزقه، وتستنير العقول بهديه، وتطمئن القلوب بذكره. الحمدلله الذي تنتهي كل الأمور إليه، ولايخرج منها شيء عن حكمه.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم تسليماً كثيراً كثيراً.
أوصيكم عباد الله ونفسي الطامحة إلى ما يضرُّها بتقوى الله؛ وهي التي تسترد بها رشدَها وتستكمل هداها، ويستقيم أمرُها، وتحرز خيرها وماهو الصالح من مناها، وتبلغ أتمَّ فضلها وغناها.
وتقوى الله تبعثها معرفته، ويديمها ذكره. ومن لم يعرف الله ضلَّ، ومن لم يتّقه سفُل، ومن غاب عن ذكره وقع فريسة الشيطان، {وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ}(1).
ويثير الذكرَ التعقل والتدبر والتفكر، {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ}(2).
اللهم صل على محمد وآله محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين. اللهم اجعلنا من أكرم من كرم بمعرفتك، وأشوق من اشتاق إليك، وأسعد من سعد بذكرك، وأكبر الفائزين بقربك ياحنّان، يامنّان، ياجواد، ياكريم.
أما بعد أيها الأعزاء من المؤمنين والمؤمنات فقد تقدم أن الإسلام يعدّ المال وهو مال الله قياماً للناس، وسبب نمو وتقدم وحيوية في الحركة الإنسانية، وعنصراً لاغنى عنه للحياة على الأرض، وبناء حضارة الإنسان، وصناعة مستواه المتقدِّم،ويرى الإنسان مستخلفاً فيه من قبل الله سبحانه إلى أجل، وأن للمجتمع في ما في يد الأفراد من فاضل حقّاً ثابتاً.
ومن أهمية الوظيفة المنوطة بالمال، ومن علاقة الإنسان به في التصور الإسلامي يأتي تدخل التشريع في وجوب الحفاظ عليه، ومنع أيدي السفهاء من بعثرته والتلاعب به، وتضييعه، وتدخله في رسم السياسة في إنفاقه، ووضع الحدود اللازمة لأدائه لدوره ؛حتّى ينتهي المال بالإنسان في ظل هذه الحدود إلى هدى لاضلال، ورشد لاسفه، وصلاح لافساد، وخيرٍ لاشرٍّ، ورقي لاهبوط، واستقامة لاانحراف، وسعادة لاشقاء.
وكل التصور الذي يقدمه الإسلام عن المال أو غيره، وما يقيمه عليه من تشريعات وأخلاق، وتعاليم وتوصيات إنما هو من أجل الإنسان نفسه؛ من أجل تربيته، وتهذيبه، وتكميله، ورقي مستواه، وهناءته، وسعادته.
وطلباً للبصيرة، وتركيزاً للشعور بالمسؤوليَّة، وحرصاً على بناء الفرد والمجتمع، واهتماماً واعياً مخلصاً بأمر الدّنيا والآخرة، وحتَّى نكون على طريق مرضاة الله سبحانه، نسترشد ولو في عُجالة بطائفة من النصوص الإسلامية في قضية الإنفاق للمال:
مالك لك أو عليك:
المال أربعة:
1. مال لك:{… وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأنفُسِكُمْ…}(3). فالمال الذي يبذله صاحبه في سبيل الخير، مال له؛ من أجل نفعه وصالحه، من أجل بنائه واستقامته، من أجل حاضره ومستقبله، من أجل سعادته وهناءته.
“إن إنفاق هذا المال في طاعة الله أعظم نعمة” كما عن علي أمير المؤمنين عليه أفضل الصلاة والسلام. وقد تقدم هذا الحديث في الجمعة السابقة.
نعم، إنه أعظم نعمة؛ لأنه سيؤول مستقبلا كبيرا زاهراً سعيدا لهذا الإنسان. المال الذي يتحول فكرا وقّادا، وشعورا طاهرا، وأملا كبيرا صادقاً، وروحاً عالية، وشرفا عريضا، ومستقبلا سعيدا وقرباً من الله هو مال للإنسان، وهو أعظم نعم،أما مال على خلاف ذلك، فهو على أقل ما يقال فيه إنه مال ضائع.
“جاء عن عائشة ما مؤدَّاه أن بيت النبي صلى الله عليه وآله شهد ذبح شاة وتوزيعها. بعد أن وُزّعت بمقدار سأل رسول الله صلى الله عليه وآله: ماذا بقي من الشاة؟ فقالت عائشة: ما بقي إلا الكتف. فقال صلى الله عليه وآله: بقي كلّها إلا الكتف”. ما ذهب ليتامى المسلمين، لفقرائهم فهو باق، أما ما بقي للبطون فهو ذاهب، سيتحول مادة، وهذه المادة ذاهبة في أي صورة كانت، سواء كانت دما أو غير ذلك، أما العمل الصالح فهو باقٍ.
فاطمة الزهراء عليها السلام عندما قطعت قلادتها، أو رفعت ستر الباب الذي كان لرسول الله صلى الله عليه وآله كلام حوله، وأرسلت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وآله فوزّع ثمنه على المسلمين بنى به رجالا، عقولا، أرواحاً، أفئدة، مشاعر طاهرة، رجولات، بنى به مستقبلاً كبيرا للرسالة، أقام به جنة على الأرض من مشاعر طاهرة، وإرادات خيرة، ورجال صالحين، وأقام بها جنة في الآخرة لهذا الإنسان. فهذا مال باق. ولو بقي المال ذهبا، لو بقي سترا على الباب، لتحوّل من صورة إلى صورة حتّى يذهب هباء.
يشتري أحدنا الأثاث الغالي الذي يعتز به، فيمضي وقت وإذا بأثاثه الغالي ملقى هنا وهناك مع المهملات. تجد الآن في شاطئ الدراز كراسي من كراسي الراحة المهملة، والتي كانت في يوم من الأيام شيئا غاليا ومحل اعتزاز. يُقال إن أحدهم لمّا مزق طفله أحد المقاعد الجديدة الغالية ضربه ضربا أدَّى إلى قطع يد الطفل، حتى سبب ذلك جنونا للأب، أو أنه قتل نفسه.
ذلك الأثاث الغالي الذي عزّ على الأب أن يُمسّ بما يخدش جماله، لاشك أنه الآن إذا مضت سنون قد تحوّل إلى لاشيء، وذهبت كل قيمته،دنيانا كلها ستذهب قيمتها، سينتهي أمرها، فكل مال لا يُنفق في سبيل الله، أو يُستعان به على طاعة الله، فهو ذاهب. مال ينفقه الإنسان على بطنه وظهره وحياته المادية إذا استعان به على طاعة الله انحفظ من خلال هذا الدور؛ دور الطاعة، وإذا لم يستعن به على طاعة الله فقد ذهب هباء،وهكذا يمكن لأحدنا أن يتلف كل حياته من خلال ما يجمع من مال ويبقيه، أو من خلال إنفاقه له في غير سبيل الله.
2. مال عليك:
عن علي (ع):”وإن إنفاقه – أي المال – في معاصيه – أي معاصي الله – أعظم محنة”. هذا مال عليك.
فمال يكسبه المرء من وجوه حلال وحرام، ثم ينفقه في الحرام ليحتطب على نفسه في النار هو مال عليه،وقد يهلك الأب ولده دنيا قبل الآخرة وذلك بما يسرف عليه من مال، وكثيرون هم الذين انحرف بهم المال عن الخط، وكثير من يقتلهم المال في الدنيا ويسبب لهم الكوارث.
ويكون مال الإنسان عليه حين يكون مسقطا لشرفه، هادما لبيته. الرجل يكون مستقيماً ثمّ يصيب يساراً، فيغريه اليسار بالمعاصي، ويندفع في طريق الفحشاء فينكسر الشرف، وتذهب السمعة، ويسقط الرجل. وربما عاد عليه ماله بمرض وبال، وأقعده في فراشه، وهو في الآخرة من الخاسرين. هذا مال على المرء وليس له.
عن أمير المؤمنين عليه السلام:”إن العبد إذا مات قالت الملائكة: ماقدّم؟، وقال النّاس ما أخّر؟ فقدّموا فضلاً يكن لكم، ولاتؤخّروا كلًا يكن عليكم”.
الناس يسألون عن ما بقي من المال، عن ما خلف من مادة، أما الملائكة فسؤالهم عن مستقبل هذا الرجل، وهل قدّم ضمانة لنفسه، أو لم يقدم ضمانة لنفسه؟،ما قدّم؟، ما قدم من عمل؟، ما قدم من صدقة؟، ماقدم من بذل في سبيل الله تبارك وتعالى؟
يسألون عن المال الذي أُنفق في سبيل الله ؛ليفرحوا لهذا الرجل بنجاته وبفوزه، أما الناس فيسألون عما هو محطّ نظرهم، وتعلق مشاعرهم وهو ما ترك من قليل مال أو كثير.
يقول عليه السلام كما هو عنه:”… فقدّموا فضلاً يكن لكم..” قدموا إحساناً، قدموا خيرا، قدموا فضلا فإن ما تقدمونه من الفضل يكون لكم، أمّا ما تؤخرونه فيكون كلّاً عليكم. ما تبخلون به عن الإنفاق في سبيل الله، عن وضعه في حقه، وفي موضعه المناسب، فإنما هو كل عليكم. هذا الذي كسبتم، وبذلتم فيه الجهد الجهيد، يكون وبالاً عليكم حين تحبسونه عن وجوه الخير ولا تضعونه في الموضع الذي أراده الله تبارك وتعالى.
3. مال تكون له:
هذا نوع آخر من المال، وهو المال الذي تكون له.
عن الحسن (ع):”مالك إن لم يكن لك كنت له (4)، فلاتبق عليه فإنه لايبقي عليك، وكله قبل أن يأكلك”.
إما أن تأكل المال، وليس بمعنى أن تسرف في المأكل والمشرب، إنما تضعه في مصالحك ومنافعك التي تبنيك ولاتهدمك، وذلك هو الصحيح. وإما أن لا تنتفع به وتبقيه وعندئذ يأكلك لأنه يشغلك، ويأكل عمرك، ويأكل جهدك، ويأكل دينك، ويقف بك عن نموك، ويحطّم شخصيتك. “فلا تبق عليه فإنه لا يبقي عليك”. قد يبقي الإنسان المال بأمل أن يبقي عليه المال، أن يطيل له عمره، أن يخلّده، لكن هذا هو الوهم، وهو الخيال، والحق أن المال لا يبقي على أحد، فإن البقاء له أسبابه، وبقاء المال جامدا ليس سببا لبقاء صاحبه.
4. مالٌ حسرة:
عن أمير المؤمنين(ع):”إن أعظم الحسرات يوم القيامة حسرةُ رجلٍ كسب مالاً في غير طاعة الله(5)، فورثه رجل فأنفقه في طاعة الله سبحانه، فدخل به الجنّة ودخل الأولُ النار”.
الأول جمع المال من الحلال والحرام ولم ينتفع به، وورثه الآخر وهو لايدري عن وجوه دخله وكيف أتى، فهو معذور في إنفاقه، وقد وُفّق أن ينفقه في طاعة الله، فالوارث المنفق للمال في طاعة الله يدخل به الجنة، والمورّث الذي اكتسبه من معصية الله يدخل به النار، فما أعظمها من حسرة على الرجل الذي ارتكب المعاصي في سبيل جمع المال، فهو يرى ثمرة عمره قد انتفع بها غيره، وأن الأيام والسنين الطوال التي بذلها في سبيل المال قد بلغت بمن بذل المال في طاعة الله الدرجات العلى في الجنة، بينما هو يرى نفسه في قعر النار، فكم يتحسَّر رجل كهذا؟!
هذه جهود ومتاعب كان يمكن له أن تبلغ به لو كانت في طريقها الصحيح، وكان يحرص على أن يكون الكسب كسباً حلالا، والإنفاق في وجوه الخير لبلغت به أعلى درجات الجنة،بينما يرى الآن أن ثمرة عمره بيد غيره، وأن عمره قد انحط به إلى النار، وقد ارتفع به غيره إلى أعالي الجنّة.
“وعن الصادق (ع) في قوله تعالى: {كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ}(6) هو الرجل يَدَعُ المال لايُنفِقُه في طاعة الله بخلاً، ثم يموت فيدعه لمن يعمل به في طاعة الله أو في معصيته(7)، فإن عمل به في طاعة الله رآه في ميزان غيره فزاده حسرة، وقد كان المال له، أو عمل به في معصيته فهو قوّاه بذلك المال حتى عمل به في معصية الله”.
فالأول مرة يرى صاحبه يعمل به في طاعة الله فيدخل به الجنة، بينما هو يستحق النار؛ لمنعه المال عن سبيل الله وعن ماأمر الله به. ومرة يرى الثاني أنه استعمله في معصية الله فيكون هو قد قوَّاه بالمال الذي ارتكب به المعصية.
فلنأخذ درسا ولانضيع العمر، ولا نأخذه دركاً إلى أسفل السافلين، فإن هذا العمر يمكن أن يهبط بالإنسان إلى أسفل سافلين، وإلى قعر جهنم، وفي كل يوم يمكن أن ينحدر الإنسان إلى قعر جهنم من خلال الكيفية التي يبذل بها عمره، وفي كل يوم يمكن أن يرتفع مراقي في الجنة من خلال كيفية أخرى في انفاق العمر.
اللهم صل على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ (1) الَّذِي جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (3) كَلَّا لَيُنبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةٍ (9)}

الخطبة الثانية

الحمدلله الرَّحمن، الرحيم، الكريم، العظيم، الجليل، المنيل، الجميل، الكفيل، الوكيل، المقيل، المجير.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له ولاندّ ولا ضدّ، لم يتّخذ صاحبة ولا ولداً، ولايجوز في حقه معين ولاوزير، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلَّى الله عليه وآله صلاة كثيرة دائمة.
أوصيكم عباد الله ونفسي الخاطئة بتقوى الله، فبها يعظم قدر العمل وإن قل، ومن دونها يحقِر شأنه وإن كثر، وبها يعِزّ الوضيع، ومن كان بلا تقوى فلا عزّ له عند الله وعند المؤمنين. وما أعظمها من معقل يرتدّ أمامه الشيطان، ولاتنفذ فيه سهامه.
وليعرف بعضُنا حقَّ بعض، ويحفظه في غيبته، ويعفَّ عن خطيئته، ويسدِل الستر على عورته، ويكن له في ملمَّته، وينصره في شدّته، فإن أُخوَّة الإيمان تعني كل ذلك وتتجاوزه.
اللهم اغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وزيّنا بالخلق الكريم الذي زينت به أنبياءك ورسلك وأولياءك، وعرِّفنا حرمة المؤمنين، وارزقنا صحبة المتقين، واجعلنا من ملأ الذاكرين الشاكرين.
اللهم صل وسلم على نبيك المصطفى محمد الصادق الأمين، خاتم النبيين والمرسلين. وصل وسلم على علي أمير المؤمنين، وإمام المتقين، وعلى فاطمة الزهراء الصديقة المعصومة،وعلى الأئمة الطاهرين الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسين بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن القائم المهدي.
اللهم عجّل فرج وليك القائم المنتظر، وحفه بملائكتك المقرَّبين، وحفَّه بروح القدس يارب العالمين.
عبدك الموالي له، الممهد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين وفقهم لمراضيك، وسدد خطاهم، وبلغهم مناهم ممّا يرضيك.
أما بعد أيها الملأ الكريم فمع هذه التتمة لموضوعنا السابق:
قضية حساسة ولغة صريحة:(2)
وددت أن أؤكد عبر اللغة الصريحة عن الموقف الواضح للفكر السياسي الإمامي الذي لايوقف التعامل مع الواقع تعاملاً إيجابيّاً في الحدود الشرعيّة التي تنظمها القواعد والأحكام الفقهية على أن يكون هذا الواقع هو الصورة الأصيلة التي يؤمن بها هذا الفكر، والتجسيد الخالص للأطروحة الإسلامية التي يأخذ بها، وهو مشترِك في هذا الأمر وبهذا المقدار مع المذاهب الإسلامية الأخرى غير التكفيريّة، ملتزماً مسألة الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر طبقاً لضوابطها الشرعيَّة المحدّدة.
وإن ما يحرّك الشيعي من مضايقات السياسة وإهمالاتها واضطهاداتها المعنوية والماديّة، هو ما يحرك السنّي ويحرك كل النّاس إذا عانوا منه؛ لأنه تحرّكٌ من وحي الضرورة والضمير والحس بالكرامة، وقيمة الذات، إلا أن يكون الانتماء عند الفرد أو الجماعة المضطهدة من النوع الذي يغتال إنسانية الإنسان، ويبلِّد شعوره بالكرامة، ويقتل إحساسه بمعناه، ويكتب عليه الرضا بالذّلة والمسكنة والهوان. والإسلام حاشاه أن يعني الانتماء إليه ذلك.
وأؤكِّد أن الشيعة سيبقون شيعة يثمّنون تشيعهم، ويحرصون عليه، ويعتزون به، ويخلصون له أعزّ ما اعتز، وأخلص ما أخلص أهل مذهب لمذهبهم، وهذا ما عليه اخوانهم من أهل السنة بالنسبة لمذهبهم.
ومع ذلك وبلا أي تعارض على الجميع أن يبقوا بحرينيّين يعرفون حق وطنهم ويحبونه ويخلصون له، ويؤدون وظيفتهم اتجاهه، ويطالبون بما يطالب به كل مواطن حكومة وطنه بكامل حقوقه في دينه ودنياه،والجائع لابد أن يتضوّر، ومن خذله الإنصاف شكا، والمكلوم يصرخ، والمظلوم يستصرخ.
ونحن نجد الأخوة الكرام السنة في هذا الوطن العزيز اليوم يتظاهرون لأبسط المضايقات تعبيراً عن الامتعاض وإعلاناً للاحتجاج، وهو حق لا مراء فيه ولا غبار عليه.
وإنّه لجميل جداً أن لايحتاج أحد على هذه الأرض الطيبة إلى المظاهرات والمسيرات المتعلقة بأزمات الداخل، وذلك بانتفاء أسبابها وموجباتها على الإطلاق،وجميل هو الآخر بأنه إذا كان موجب من هذا النوع – ونرجو أن لا يكون – أن لا تكون مظاهرة شيعية مرة، وسنية أخرى بأن يعيش كل طرف جرحه وحده، ولا يشاركه صاحبُه ألمه، وإنما تكون المظاهرة من المواطنين جميعاً سواء وجد الخلل هنا أو هناك، وبقدر الحاجة، وما يصحح الخطأ لا أكثر.
وإن الحاجة ملحة لتوافق دستوري عاجل يُفضي لتنسيق الجهود على طريق إصلاحي أكثر جديّة وفاعليّة، وأوسع خطى، وأسرع حركة، وأثبت تجذّراً، وأوضح عطاءً،وهي ملحة كذلك بالنسبة للأخذ بالحلول الناجعة والأكبر سرعة لمشكلات الملفّات الساخنة من مثل ملف التجنيس والبطالة والتمييز والفساد بأنواعه.
ومن الضرورات الضاغطة فقدان التأمين المعيشي المجزي الكريم لغير واجدي العمل والعاجزين عنه بسبب الشيخوخة أو غيرها من الأسباب،وإيقاف التدهور الخلقي في مقدمة الحاجات الأشد إلحاحاً وإن لم يشعر الكثيرون بهذا القدر من الضرورة، حتى ربما عُدُّ عند البعض من الأمور الثانوية لعدم الالتفات، وإعطاء الأمر حقّه من النظر.
ولاشك أن في تجنب الحساسيات والتدخلات المذهبية، وفي التقارب المذهبي، والاحترام الرسمي للمذاهب على حد سواء إسهاماً كبيراً في بناء الوحدة الوطنية، وهو قبل ذلك واجب ديني، وسلوكية وطنية واعية، ومقتضى من مقتضيات العدالة.
وإننا لنرى ضرورة المبادرة للتقارب المذهبي بدرجة أكبر، وصورة عملية أوضح، انطلاقاً من الواجب الإسلامي، وتمشياً مع مصلحة الوطن، واحتياطاً لسلامة المسلمين، ورعاية لحرماتهم الثابتة في الإسلام بيقين.
ولابد من التأكيد على أن المطالبة بالحقوق لاتلغي النظر إلى قيمة الأمن، وأن شعار الأمن لايصح أن يوقف المطالبة بالحقوق. وفي إقرار الحقوق ما يدعم الأمن ويثبّته ويرسخه، ولا يتحقق المعنى الدقيق للأمن في غياب الحقوق، وإذا أُسكت الصوت المنادي بها.
وفي انتشار الوعي والحسّ الحقوقي، والثقافة الحقوقية من منطلق إنساني، ومن منطلق إسلامي، وتبلورِ أنّ أمر المطالبة الحقوقية في بعدها الاجتماعي العام واجب ديني لايجوز التفريط به حفظاً للمجتمع عن الانهيار، وحذراً من زيادة النأي عن خط الله والانحراف عن قيم السماء وأحكام الشريعة الإلهية العادلة وهو مما يُسهِّل عملية الاقتراب من الحالة الصحيحة، والوضع المتوازن في مجال الحقوق، ويعفي عن الهزات العنيفة، والتضحيات الهائلة، والخسائر الضخمة لتحقيق مثل هذا الوضع.
لفرنسا رأي آخر:
كثيرون من أبناء المجتمعات الإسلامية يؤمنون بفتح جميع الأبواب والمنافذ والطرق لكل أنواع البضاعة الغربية والشرقية على مستوى الفكر والشعور والسلوك وإن كانت مصممة بصورة خاصة لتهدم السقف الذي تستظل به هذه الأمة من أجل وحدتها وعزتها وهداها ومصلحتها، ويحوّل أبناءها إلى دمى وأدوات لتنفيذ أغراض المصدِّرين للحضارات الساقطة،وإن كانت البضاعة في صورة الأخ الأكبر، وفي صورة تجميع الكفاءات الشبابية العالية لتتلقى دروساً في التمرد على الإسلام بأسلوب مخملي ناعم ساحر سارق تحت إشراف مباشر للغزاة الحضاريين.
أما فرنسا فلها رأي آخر في المسألة، وتصر على ذلك الرأي، فهي توقف بث محطة المنار حماية للثقافة الفرنسية، وقارن بين محطة المنار وبين ما لايحصى من فضائيات وصحف وكتب وشبكات اتصال متقدمة بحجم يغطي مساحة المعمورة كلها ويغرقها بصديد ورجس ووسخ وقذارات حضارة الجنس والسطو والنهب والحرق والدمار والتعذيب والترويع للشعوب والأمم. مع ذلك فرنسا تخاف من فضائية المنار، وتحتاط لنفسها كل هذا الاحتياط.
غاية البؤس والإفلاس:
غاية البؤس والإفلاس، والخيبة والفشل، والسذاجة والبلاهة، والغفلة والسبات أن تنتظر الأمة إصلاحها ورسم صورة مستقبلها من أمريكا. لكن لماذا لا، وأمريكا الحانية الحكيمة المؤمنة المأمونة على مصائر الشعوب والأمم والمقدرات والمقدّرات كما يشهد موقفها الكريم في فلسطين وأفغانستان والعراق.. إلخ؟!
لا أهلاً ولا سهلاً بإصلاح تفرضه أمريكا، ولا رجاء ولا أمل في إصلاح يتبرع به النظام الرسمي العربي،وسيبقى الأمر مرهوناً بإرادة الشعوب.
فهل تقترب من وعي ذاتها أو لا تقترب؟ هل ترجع إلى أسباب عزتها أو لا ترجع؟ ولا يعني هذا التغني بأمجاد الماضي وإعفاء النفس من إضافة الجديد المفيد في ضوء هدى الله وثوابت دين السماء.
وهل نقرر فوراً عدم الاستجابة لمزيد من التدهور الخلقي الذي يراد لنا أو نستمر في إرخاء الزمام؟
هل… وهل…
هل نصمم على عودة جادة للإسلام، أو لا نصمم، هل نتحمل مسؤولية رسم مستقبلنا أو لا نتحمل؟
إذا أعطينا أجوبة حاسمة جادة واعية ترضي الله سبحانه والتزمناها موقفاً عمليا كله إصرار ومواصلة واستمرار فهذا هو طريق المستقبل الجديد المجيد،أما أن ننتظر شفقة أمريكا، وجودَ النظام العربي الرسمي فهو ضرب من الخيال، وهو تخلٍّ عن المسؤولية ورضى بالحياة التي هي دون.
غفر الله لي ولكم، وتاب علينا إنه هو التواب الرحيم. اللهم اغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين. وتب علينا، وارفع ذكرنا عندك، واكتبنا من الصالحين، ونجّنا من سوء الدنيا والآخرة ياأرحم الراحمين.
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}
ــــــــــــــــــــــ
1 – 36/ الزخرف.
2 – 9/ الزمر.
3 – 272/ البقرة.
4 – أنت إذا لم تنفق المال وصرت حارسه تجمعه، وتحفظه، وتحمل همّه، وتتابع حساباته، وتذرأ عنه، وتبذل جهودك في سبيل تنميته فأنت عشت من أجل المال، أنت عبد له، بدل أن يكون المال وسيلة من وسائل سعادتك، وبدل أن يكون أداة من أدوات نفعك تحولت أنت الآلة والمال هو السيد.
5 – ينهب هذا، يسرق هذا، يتحايل بظلم على ذاك؛ حتى يجمع المال الوفير.
6 – 167/ البقرة.
7 – الأول يجمع المال ولو من الوجوه الحلال ولكنه لا ينفقه في طاعة الله بخلا به، الثاني يعمل به إما في طاعة الله أو معصية الله.

 

زر الذهاب إلى الأعلى