خطبة الجمعة (176) 13 شوال 1425هـ – 26 نوفمبر 2004م

مواضيخ الخطبة:

 

 مع قول الله سبحانه وتعالى {أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ ………}.+ بين الواقعية والرسالية

 لا ينبغي للمؤمنين أن يضيّعوا قضاياهم الكبرى، ويذوبوا في ما يخطط لهم على خلاف ما تقتضيه مصلحة الإسلام والمسلمين باسم الواقعية المطروحة شعاراً في غير إطار رؤية متكاملة مدروسة تحكمها رسالية العقل المسلم، وشعور الإيمان.

الخطبة الأولى

الحمد لله الذي لا يصفه نعت الواصفين، ولا يجاوزه رجاءُ الرَّاجين، ولايضيع لديه أجر المحسنين، وهو منتهى خوف العابدين، وغاية خشية المتقين، وبيده قضاء حاجة المحتاجين، وتحقيق خير أمل الآملين.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم تسليماً كثيراً كثيراً.
عباد الله علينا بتقوى الله وليِّ النعم، ودافع النقم، أرحم الراحمين، وأشدِّ المعاقبين، ولا حجة لعبد بعد أن ألهمت نفسُه فجورها وتقواها، ومُكِّن من أن يزكيِّها ولا يدسّيها، وبشّر بفلاحه إذا تزكى، وخيبته إذا تخلّى. {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا}(1).
وما أخفَّ عقل من رضي عن عمارة نفسه بعمارة أرضه، وبلعبه عن جدّه، وبجمال أشيائه عن جمال قلبه، وبحسن سمعة في النّاس عن نقاء داخله وحسنه.
اللهم إنا نعوذ بك أن تعظم الدنيا في عيوننا، وتهونَ علينا أنفسنا، وتصغر الآخرة عندنا، واجعل أول ما نوفّق إليه إصلاحَ ديننا، وسلامة طوايانا، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وادحر عنا الشيطان وكيده، يا عليم، يا خبير، يا عظيم، يا قدير، يا أرحم الراحمين.
أما بعد أيها المؤمنون والمؤمنات، فمن قول الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ}(2).
1. الفتنة في الحياة سنّة:
والفتنة هي الامتحان، يتجلَّى من خلالها صدق الإنسان أو كذبه… إيمانه أو كفره، قوته أو ضعفه…
2. الفتنة تصنع:
الفتنة قدر الإنسان في هذه الحياة، وهي مصنع إنسانيته، مصنع تقواه، مصنع نزاهته، وعقله، وحكمته، مصنع كماله وسموّه.
الطريق إلى كمال هذا الإنسان فتنته، وأن يجد ويجتهد في المرور بالامتحان بنجاح،فيتم له كماله.
حين يُحسّن الإنسان دوره في الحياة، في إنماء انسانيته مستفيداً من طاقاته وقواه الموهوبة من ربه، فإنّ الفتنة هي الممر، وهي الامتحان الذي يسمح لهذا الدور الإنساني الفاعل بأن يتجلّى، ولطاقات الإنسان بأن تتفجر، ولمواهبه وهداياته أن تظهر على مستوى الفعل.
عن معمّر بن خلاد (سمعت أبا الحسن عليه السلام يقول: {آلم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ}(3) ثم قال لي: ما الفتنة؟، قلت جُعلت فداك الذي عندنا الفتنة في الدين(4). فقال: يفتنون كما يفتن الذهب.(5) ثم قال: يخلَّصون كما يخلّص الذهب).
الإنسان من خلال الفتنة، من خلال فتنة الغنى والفقر، الصحة والمرض، من خلال الكوارث، من خلال ما يعرض من مضلات ومن تحديات ومن مغريات ومن أمور مخوفة تهدده في حياته، وتفتتنه في دينه، يُخلّص كما يخلّص الذهب من شوائبه.
هذه نار، هذه بوتقة تخلّص الإنسان من شوائبه، من نقاط ضعفه، فالافتتان بحكمة، الابتلاءات في الدنيا كانت من تقدير الله مصنعا لإنسانية هذا الإنسان، لكماله، فإنه من خلالها يخلّص كما يخلص الذهب من شوائبه، بشرط واحد: أن يأخذ بمنهج الله عز وجل، ويأتمر بأمره، وينتهي بنهيه.
فالفتن إذا انضم إليها الدور الصحيح، والموقف المطلوب – ديناً وعقلاً – من الإنسان، خلَّصت صاحبها من الشوائب والضعف والسذاجة. وما وجدت الفتن عبثاً ولا إضرارا، وإنما لتصنع الإنسان ومقاومته وقوته واستقامته، وإن كان على طريق المعاناة، وفي هذا كرامته وعلّو مقامه عند ربه الكريم إذا استقام.
3. في كلّ نعمة وبليّة فتنة:
{وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ}(6).
عن سعد بن أبي وقاص “قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) لأنا – مؤكدا – لفتنة السرّاء أخوف عليكم من فتنة الضرّاء. إنّكم ابتليتم بفتنة الضراء فصبرتم(7)، وإن الدُّنيا حلوة خَضِرَة”(8).
حلوة، خضرة، جميلة، أخّاذة، تسحر ألباباً، وتسقط عقولا، وتلغي قيمة تجارب وخبرات، وتأسر كبارا، ولكثيرا ما أضلت من الكبار خلقا كثيراً.
أن يمسك أحدنا نفسه أمام الدنيا لهي الرجولة، ولهو العقل والحكمة، ولهو الموقف القادر الذي يدلّ على عقل وفي، وحكمة غزيرة، ونظر بعيد.
{وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ}(9).
رفع الدرجات فيه ابتلاء، فأن يكون هناك من أرفع منك فيه ابتلاء، وأن تؤتى من خير الدنيا ابتلاء آخر.
نجد في النصوص لونين من الفتنة: لون السراء، ولون الضراء. لون الفقدان، ولون الوجدان، لون الغنى، ولون الفقر، لون المرض والصحة.
وعن علي (ع): “لا يقولن أحدكم اللهم إني أعوذ بك من الفتنة”(10)، لأنه ليس أحد إلا وهو مشتمل على فتنة، ولكن من استعاذ فليستعذ من مضلات الفتن، فإن الله سبحانه يقول {وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ}(11).
أنت مفتتن ممتحن في المال، مفتتن ممتحن في الولد، في الزوج، في كل خير بيدك، فلو استعذنا من الفتنة على الإطلاق، فمعنى ذلك نطلب أننا من الله أن لا يكون ولد، ولا يكون مال، ولا يكون زوج، ولا يكون خير. فهو دعاء يغلّطه الإمام عليه السلام، ويوصي بأن يُدعى بهذا بالدعاء: اللهم إني أعوذ بك من مضلات الفتن.
4. الفتن العامة: هناك فتن عامة وهي فتن ضلالة وجهل وباطل، ولا ينجو منها إلا من رحم الله.
عن النهج – الخطبة التاسعة والثمانين “أرسله(12) على حين فترة من الرُّسل، وطول هجعة من الأمم، واعتزام من الفتن(13)…. والدنيا كاسفة النور(14)… عابسة في وجه طالبها(15)، ثمرها الفتنة، وطعامها الجيفة”(16)
وما قلّ وعي الدين، وضعف التمسك به إلا وعمّت مضلات الفتن.
وعن الصادق عليه السلام: “والله لتمحصُّن، والله لتميُّزن، والله لتغربلُّن حتَّى لا يبقى منكم إلا الأندر…”(17)
فالثابت أمام إعصار الفتن ومضلات الأمور، والمغويات، والمرديات، والشبهات في تخريجها الفني ولغتها الشيطانية الماكرة لا يكون إلا الأندر، وهم الأكثر وعياً، والأنقى روحاً، والأصلب عودا، والأصدق حكمة، والأشد مقاومة وصلابة.
5. البلاء بقدر:
الله لا يظلم، والله لا يخطئ التقدير، وميزان الله عادل، فلا يمكن أن يبتلي عباده بما هو فوق ما أعطاهم من طاقة، وفوق ما يتحملون، فسقوط الإنسان في الفتن إنما يرجع إلى نفسه. مدرسك البشري يقدم لك امتحانا بقدرك، والله يقدم لك امتحانا فوق ما تستطيع؟!
كل ما في الحياة من فتن جاءت على قدر، وهو لا يفوق قامة الإنسان ولا يتجاوزها، فإذا كان سقوط فهو من تقصير الإنسان
ولله الحجة البالغة، وعن الصادق عليه السلام:-
“يؤتى بالمرأة الحسناء يوم القيامة التي قد افتتنت في حسنها(18) فتقول: يارب حسَّنت خَلْقي حتى لقيت ما لقيت(19)، فيجاء بمريم عليها السلام فيقال: أنت أحسن أو هذه؟ قد حسّناها فلم تفتتن. ويُجاء بالرجل الحسن الذي قد افتتن في حسنه فيقول: ياربِّ حسَّنت خلقي حتى لقيت من النساء(20) ما لقيت، فيجاء بيوسف عليه السلام فيقال: أنت أحسن أو هذا؟ قد حسّناه فلم يفتتن(21)، ويجاء بصاحب البلاء(22) الذي قد أصابته الفتنة في بلائه فيقول: ياربّ شدّدت عليّ البلاء حتى افتتنت(23)، فيجاء بأيوب عليه السلام فيقال: أبليتك أشدّ، أو بلية هذا؟ فقد ابتُلي فلم يفتتن”(24).
إننا نسقط في بعض الامتحانات، وسقوطنا في بعض الامتحانات قد يكون لضعف في المقاومة فعلاً. أنا لا أستطيع في هذا الامتحان أن اصبر، وأجدني دون مستوى المقاومة المطلوبة، أفقد القدرة على المقاومة والمواجهة، لكن مع ذلك الذنب ذنبي، فهذا الهبوط في المقاومة كانت له مقدمات، وكانت المقدمات بيدي. تساهلي في الموقف الأول، ثم في الموقف الثاني، ثم في الموقف الثالث أنهك قوة المناعة عندي، وأذهبها، فجئت للامتحان الرابع وأنا لا أقوى على المقاومة، من الذي أسقط المقاومة؟ أنا. وبهذا يتحمل الإنسان مسؤوليته.(25)
اللهم صل وسلم وزد وبارك على الحبيب محمد وآل محمد، وارحمنا بمحمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين.
اللهم اهدنا ولا تضلنا، وأنر بصائرنا حتى لا نعشى في ظلمات الفتن، ولا تزل بنا القدم، ولا يلحقنا الندم، واجعلنا منار هدى، ودعاة حق، وأدلاء خير.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)}

الخطبة الثانية

الحمد لله خير الغافرين، وخير الفاتحين، وخير الناصرين، وخير الحاكمين، وخير الحامدين، وخير الذّاكرين، وخير المنزلين، وخير المحسنين. حميد مجيد، فعّال لما يريد.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وآل وسلم تسليما كثيراً كثيراً.
أوصيكم عباد الله ونفسي المقصِّرةَ بتقوى الله والجدِّ في طاعته، والسعي في سبيله، والمجاهدة الدائمة على طريق رضوانه. فالخير الذي لا خير سواه في الحياة أن تكون الحياة جهاداً في الله، وأن تؤهِّل صاحبها للمزيد من رحمته، وترتفع بها عنده درجته، وينالَ قربَه، ويُرزقَ الكرامة من لدنه. وما عدا ذلك تبعات ثقيلة، أو ضياع. وكلّ عملٍ لا يتقبله الله فهو هباء وإن حسن مظهراً {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}(26).
اللهم اغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، واجعل حياتنا لنا غُنماً، ولا تجعلها علينا غُرماً، وأنلنا بها رضوانك، ولا تجعلها طريقنا إلى نيرانك.
اللهم صل وسلم، وزد وبارك على المصطفى محمد وآله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
اللهم صل على محمد وآل محمد سيد المرسلين، وخاتم النبيين، وصل وسلم على علي أمير المؤمنين، وإمام المتقين، وعلى فاطمة الزهراء، الزكية النقية، الصادقة الطاهرة المعصومة.
وصل وسلم على الأئمة النجباء الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن المهدي المنتظر القائم.
اللهم عجل فرج وليك القائم المنتظر، وحفه بملائكتك المقربين، وانصره بنصرك المبين.
عبدك الموالي له، الممهد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين وفقهم لمراضيك.
أما بعد أيها الأكارم من المؤمنين والمؤمنات فمع حديث تحت عنوان:
بين الواقعية والرسالية:
أولاً: الرسالية والواقعية تعريفاً:

‌أ- الرسالية: أن تنطلق الكلمةُ والموقف من وحي الفهم والحس والمصلحة الرساليَّة، وأن لا يُنظر إلى مصلحة الذات في غير ضوء مصلحة الرسالة.
‌ب- الواقعيَّة: قد يُعنى بالواقعية التخلّي في موقع الكلمة والموقف عن القيم والرسالية والمبدئية، والتركيزُ الكامل على النظر إلى مصلحة الذات المفصولة رؤية وشعوراً عن مصلحة الرسالة، والتعاملُ مع الواقع من منطلق مصلحة الذات. وهذه واقعية لا يقول بها مؤمن، ولا يُحمل قوله عليها.
كما قد يُعنى بها الاستجابة لضغط الواقع واملاءاته، والتكيّف معه في أخطائه وسلبياته وانحرافاته انهزاماً أمام جبروته، وتبريرُ الكلمة والموقف بضغط الواقع في تنازلٍ عن مصلحة الرسالة، وطموحات الذات مع القناعة الفكرية بهما. وهذا قد يحدث لنا من منطلق الضعف الذي لا نشعر به.
ومن المعاني التي يمكن أن تحمل على الواقعية، أن لا ينفصل طلب مصلحة الرسالة في بناء الموقف وإطلاق الكلمة عن دراسة الواقع وملابساته ومضادّاته وملاءماته، وكيفية التخلص من ضغوطاته، وما تأذن به الرسالة من الاستجابة له من هذا الواقع مع الاضطرار وما لا تأذن، وما يتيسر من الآليات وما لا يتيسر، وما يمكن أن يؤجَّل على مستوى المعالجة، وما لا يمكن أن يؤجَّل، وما يمكن فعله، وما لا يمكن أن يفعل. وهذا معنى لاينافي الرسالية، وهي تتطلبه حفاظاً على مصالح الدين وأهله.
وإطلاق كلمة الواقعية من غير تحديد المعنى المقصود، قد يخلق حالة من الضبابية في الرؤية، وإجمالاً في المراد، وبلبلة في الفهم، وقد يُبرَّر به ما لا يصحُّ تبريره.
ومن الواضح جدّاً بأنه لا رسالية في الانسياق وراء الواقع المنحرف، والاستجابة بغير حساب لضغوطه واملاءاته، والتكيف المطلق معه، وإعفاء النفس من عناء مواجهته، وطلب الرُّخص للموقف الانهزامي منه، فضلا عن الانتهازية وركوب موجة الواقع للأغراض الدنيوية الحقيرة.
على أن مصلحة الرسالة لا يحفظها إهمال النظر إلى الواقع وإيجابياته وسلبياته وفرصه ومنافذه، وما يمكن تجاوزه منه وما لا يمكن تجاوزه مع عرض نتيجة النظر في الواقع على الرسالة والدين في استفتاء صريح موضوعي لها لترسم الموقف، بعيداً عن حالتي التهور والانهزام اللتين كثيراً ما تعتريان أنفسنا بمقدارٍ مُغرق ينبغي الاحتراس منه، ولا عاصم إلا الله.
والرسالة لا تُفتي أبداً بالاستغراق في الواقع المنحرف، والركون إليه، والمساعدة على إشادته وتثبيته، وإنما فتواها دائماً بالدرء منه، وتصحيحه بهذا اللون من الموقف أو ذاك، وبالصورة العاجلة الحاسمة، أو التدريجية، مع تقدير دقيق للأولويات، والتزام صادق بترتيبها.
حين نخطئ الفهم:
كم حصد شعار الرسالية والمبدئية والغيرة على الدين، والمفصولُ عن حسِّ الواقعية من خَلْق، وضيَّع من مصالح، وأفسد من أمور، وأضرَّ بالدين، وسبّب من كوارث؟!
يقول لك الرسالي المندفع: هذا منكر، ولابد من اقتلاعه، فتقول له: هذا صحيح، ولكنك لا تملك أسباب اقتلاعه في يومين، وأسلوبك في اقتلاعه لا يقتلعه، ويحطِّم كل المصالح.
إلا أن غيرته على الدين لا تسمح له بأن ينظر في الواقع، وتدفعه لتجاوز كل دلالات الواقع وحساباته، ليرى النتيجة غير رابحة، وأن تحرّكه قد أضرّ بالرسالة الضرر الكبير.
وقد يقول لك: إنَّه التكليف. ولكن لابد أن يُفهم أن التكليف لا يتحول من إنشائيته كما يعبِّرون إلى حال كونه تكليفاً فعليّاً إلا بتحقق موضوعه في الخارج، ومن تحقق الموضوع أن يتحقق الشرط وعدم المانع.
نعم قد يكون التكليف في بعض الأحيان مجرد إظهار كلمة الحقِّ وإن غلا الثمن، ولم تتحقق نتائج غيرُ إظهاره، وذلك لئلا تسقط قيمة الدين بصورة أكبر. وقد تكون النتائج المنظورة للتكليف مستقبلية بعيدة، والتضحيات حاضرة قريبة فلا يُعترض على التضحيات. يمكن أن تضحّي اليوم مرتقبا النتيجة بعد عشر سنوات، فالتضحية هنا مقبولة ومطلوبة.
وأمَّا شعار الواقعية فكم قَبَرَ من مصالح للإسلام، وأزهق من حق، وأحيا من باطل، وفتح الطريق للظلم والقهر والعبث بالدِّين، وأذلّ المؤمنين وأعان عليهم، وجهَّلهم، وبلَّههم، واستغفلهم، وذيَّلهم، وكان العذرَ لكل قاعد ومتقاعد، وواهن ومتهاون، ومبهور بالدنيا وطامع؟!
وهو شعار مسؤول عن خسارة المسلمين هويتهم وأصالتهم أمام الغزو الغربي الكافر وعن روح الانحلال الخلقي التي سرت في مجتمعاتنا، والتبذُّل المنتشر بين صفوف أبناء الأمة وبناتها.
فلا ينبغي للمؤمنين أن يضيّعوا قضاياهم الكبرى، ويذوبوا في ما يخطط لهم على خلاف ما تقتضيه مصلحة الإسلام والمسلمين باسم الواقعية المطروحة شعاراً في غير إطار رؤية متكاملة مدروسة، تحكمها رسالية العقل المسلم، وشعور الإيمان. مما يعني تمرير كل المشاريع التي تنطلق من مواجهة الإسلام، وفتح الطريق إليها، وتركيزها.
وكثيراً ما يخلط شعورنا المأسور للواقع، المذعور أمامه بين الواقعية الصحيحة وبين الاستسلام للواقع والانبطاح له. وما أكثر ما تُملي علينا روح الاسترخاء، وروح الانتفاع الذي تشتهيه النفس من الواقع بأن نرفع شعار الواقعية، ونتحمَّس له، ونحوِّله ثقافة جماهيرية على مستوى الفكر والشعور والموقف العملي، مما يمثّل حال تخدير عام يهيمن على الساحة الإسلامية، ويفتح الطريق لكل مشاريع الهيمنة الأجنبية الجاهليَّة.
إننا النَّاسُ الذين يضغط عليهم الحماس فنرفع شعار الرساليَّة بلا حساب للواقع، أو يَضغط عليهم الضعف والمصالح فنرفع شعار الواقعية ولو بتصور حماية الرسالة بما يسحق الرسالة والرسالية، وينسف قيم الدين ومصالحه.
والتوفيق الدقيق بين المبدئية والواقعية واحدٌ من الأمور التي استوجبت في إمام المسلمين بعد المعصوم عليه السلام شروطاً عالية، ما الفقاهة(27) الشاملة الواعية المستوعبة لمساحة الحكم الشرعي، والبنية العامة للإسلام، ومفاهيمه ورؤاه، وأهدافه وأولوياته وأساليبه إلا واحدٌ منها.
فمع ذلك المستوى من الفقاهة التقوى، والتاريخ النظيف البعيد عن الشبهات، والشاهد على النضج والإخلاص، والمبدئية وصحة الرؤية، والرصيد الضخم من التجربة والخبرة، والصلابة النفسيَّة، والفهم المتوازن للمبدئية والواقعية.
والإسلام يؤكد على المبدئية، ويأخذ بالواقعية وله نظرُهُ الدقيق الحكيم الواسع الذي يوظِّف الواقعية في خدمة المبدأ، ولا يجعلها تنال منه أو تتخذُ منه مركبا لتحريفه، وتشويهه، والتلاعب به.
من أيّ الواقعيات هذا؟
قد يجدُّ واقع منحرف، أو يكون مشروع على خلاف المصلحة الإسلامية في مرحلة التأسيس، ويتوقف تشييده ونجاحه المطلوب له على مباركة علماء الدين واحتضانهم له، وتفاعل المؤمنين عامة وتجاوبهم مع خططه.
فإن نال المشروع دعم العلماء ومباركتهم ومشاركتهم، ورضي به سائر المؤمنين برضاهم قام وتأكّد، وأتاحت هذه المشاركة العلمائية خدمة جزئية للدين يقابلها ضرر بالغ عليه، وتحكّم سياسي في مصيره، وامتلاك السياسة الزمنية لمرافق نشاطه وخدمته، على أن هذه الخدمة الجزئية لدين الله غير متوقّفة على الدخول في هذا المشروع والمشاركة فيه.
وإن أنكره العلماء أو قاطعوه لم تسمح له طبيعته المحتاجة لدور العلماء واستجابة المؤمنين لمشاريعه بأن يتأسس أو يبلغ أهدافه، وبقيت كلمة الدين مستقلة في مساحته التقليدية التي تنازعه عليها السياسة الوضعية وهي مساحة المسجد وما قاربه.
فما يحصل بالمباركة والمساهمة في مثل هذه المشاريع على أحسن التقادير هو الاحتفاظ في المراحل الأولى لها بشيء من مصلحة الدين الحاصلة على تقدير عدم المشاركة، مع تعرض هذا القدر من المصلحة الدينية للضياع عند ترسّخ قدم هذه المشاريع.
فأيُّ واقعية تدعو للمشاركة العلمائية، ولاستجابة المؤمنين واندفاعهم في مثل هذه المشاريع؟ أهي الواقعية التي تأخذ بها الرسالية وتقوم عليها مصلحة الدين، والتي يعني تجاوزها تجاوزاً للفهم والموضوعية، ويعني التهور والانفلات في المشاعر، وغلبة الحماس والمواقف الارتجالية الانفعالية؟ أم هي الواقعية التي ينكرها الدين ويقف في وجهها بكل حزم وقوة؟
إنّك هنا تدشّن مشروعات مخالفة للمصلحة الإسلامية، وتفرضها بمشاركتك واقعاً على الأرض يُرغِمُ المؤمنين على متابعتها من بعد حين. إنك هنا تضعف نفسك بنفسك، وتضعف سائر المؤمنين من إخوانك… إنك تعطي سلطاناً على نفسك وعلى دينك في غير اضطرار ولا إكراه.
فهذه المشاريع ذات الطبيعة الخاصة التي تفرض عليها حاجتها لدعم العلماء ولدعم المؤمنين، والقاضية على مصلحة الدين لا يؤسسها ولا يشيدها ويثبتها إلا أن يلين لها البعض من العلماء لوجه وآخر، وإن يكن أحياناً بحسن نية، ولا تستطيع تلك المشاريع أن تملك الساحة، وتفرض نفسها على البقية إلا بجهد هذا النفر الذي يعطيها المباركة والدَّعم، ولا يمكن أن تقوم وتنتعش بعيداً عن هذا الدعم والإسناد والدعاية والترويج. وبذلك تكون مسؤولية العلماء في هذا المجال خطيرة إلى أقصى حدٍّ.
وليس من الصحيح أن نسهم في خلق واقعِ الضيق، والضعف، والتقزيم، والإضرار بالدين والمؤمنين وننادي بعد ذلك بأن على الآخرين أن يعترفوا بالواقع، وأن يذعنوا له، ويستجيبوا لمقتضياته.
كيف يكون لي أن ألفَّ حبل المشنقة حول عنقي وعنق الآخرين من اخواني المؤمنين، وأدعو عندئذ للاستسلام للواقع؟
ولنضرب مثلاً:
قُدِّم في الآونة الأخيرة عرض على الحوزة العلمية في النجف الأشرف بصرف رواتب شهرية لطلاب العلوم الدينية من الأوقاف الشيعية في العراق، والتي يترأسها أحد المؤمنين الغيورين على الإسلام، وكان الاقتراح من منطلق الحرص على المصلحة الإسلامية، وبلحاظ الظروف المعيشية الخانقة لطلاب العلوم الدينية هناك، فرفضت الحوزة أن تتقدم إلى المشنقة من خلال هذه الخطوة الأوليَّة التي لا يؤمن أن تجرَّ إلى خطوات. وهذا لا يعني التزمّت والتفريط في الفرص، وإنما يعني الاحتياط لسلامة الدين ومصلحته.
ففرق واسع بين أن تُسلَّم الأوقاف لِتصرُّف المرجعية هناك فتنفق منها على المصالح الدينية ما وسع الحكم الشرعي ذلك، وبين أن تكون الأوقاف مؤسسة حكومية يرتبط بها مصير الحوزة عن طريق الإنفاق وشروطه وموانعه التي تحددها السلطات.
وفي الوضع العام فرق بين أن يعترف للمؤسسة الدينية والحوزات العلمية بحقها في الميزانية العامة، وتوضع ميزانية خاصة تحت تصرفها مع الخضوع للمحاسبة، وبين أن يرتبط الوجود الديني برواتب حكومية يرتفع سقف شروطها وموانعها مع مرور الزمن وتكون المدخل للتحكم في الشأن الديني بكامله.
على أنه ليس من مصلحة الدين أن تعتمد المؤسسة الدينية والحوزات نهائيا على ميزانيات الدول، لينتهي ذلك بتجفيف مصادرها الحُرَّة التي وفَّرتها الشريعة المقدَّسة من خمس وزكاة ووجوه قربية أخرى وبتوفير الإمكانية الهائلة للطرف الآخر للضغط على إرادتها الشرعية للحاجة الملحة للمصدر الرسمي، والوحيد في التمويل مما يعني أن شرايين حياتها من ناحية معيشية تكون مجتمعة بيد هذا المصدر وتحت رحمته. وهو مصدر لا يمكن أن يكون مأموناً وموثوقاً على تقدير كل التقلبات والتحولات؛ فإن أُمن منه يوماً فقد لا يؤمن منه في اليوم الآخر، وإن أحسن في حال فقد يسيء في حال.
الحوزة العلمية والمؤسسة الدينية مصدرهما الدائم الذي اختارته الشريعة في زمن الغيبة هو الخمس والزكاة والوجوه القربية الأخرى، فذلك أأمن للدين، وأحفظ لكلمته واستقلاليته. فحتى في فرض أن تخصص ميزانية خاصة من ميزانية الدولة العامة للحوزات والمؤسسة الدينية ومن غير تدخل في شؤونها مطلقا وهو حق لهذه الحوزات فإنه لا يصح في نظري الاعتماد الكلي على مثل ذلك لما يؤول من مثل هذا الأمر من انفراط أمر الدين(28).
اللهم صل على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين. اللهم اهدنا إلى سواء السبيل، واجمع كلمتنا على التقوى، وسدد خطانا، ووفقنا لما فيه مصلحة ديننا ودنيانا، وأعذنا من مضلات الفتن، وسد عنا باب الكوارث والمحن يا رؤوف يا رحيم.
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
 – 9 – 10/ الشمس.
2 – 2 – 3/ العنكبوت.
3 – الإمام الكاظم عليه السلام يقرأ الآية.
4 – يعني ما وصلنا، وما نفهمه هو أن الفتنة في الدين، أي أن الإنسان يفتتن ويختبر في دينه.
5 – فتنة الذهب عرضه على النار؛ ليتخلص من شوائبه ويبقى الجوهر الصافي.
6 – 28/ الأنفال.
7 – كانت حروب طاحنة، ومواجهات متحدية، وكان فقر، وكان تشريد، ومطاردة للمسلمين، وقد مر عدد كبير بهذا الدرس بنجاح وخلصوا من تلك الفتنة فائزين. لكن ما يستصعبه صلى الله عليه وآله وسلم، ويخاف منه عليهم أن يبتلوا بفتنة السراء، فتنة خير الدنيا، فتنة الأموال، فتنة الفتوح، فتنة الرخاء، فتنة الأمن والسلام.
فإن الإنسان قد يصبر على فتنة الضراء والشدة، ولكن فتنة السراء تستخفه بما يجعله يخسر دينه.
8 – ميزان الحكمة ج7 ص390 غن الترغيب ج4 ص 184 رواه أبو يعلى والبزار.
9 – 165/ الأنعام.
10 – ماذا تريد؟ أن تستعيذ من وجود زوجة؟ من وجود ولد؟
11 – ميزان الحكمة ج7 ص 386 عن بح ج94 ص197، نهج. الحِكَم 93.
12 – أي أن الله عز وجل أرسل رسول الله صلى الله عليه وآله.
13 – يوم أن كانت فترة بين الرسل انتشرت الفتن، انتشرت الضلالات، صعب الامتحان، كبرت الكارثة.
14 – حين يغيب الدين، حين تُضيّع القيم، حين يخفت صوت الرسالة الدنيا كاسفة النور.
15 – لا تسلم الدنيا للإنسان إلا في ظل دين. طلب الدنيا يكون صعبا جدا، ثمنه الشرف، ثمنه الدين، ويكدح الإنسان ليلا ونهارا من أجل لقمة العيش حين لا يكون دين، وتسهل الدنيا، وترغد الدنيا، وتلين الحياة حين يكون الدين، ويسلم الإنسان على نفسه، وعلى شرفه، وعلى دينه في دنيا ليست قاصرة ولا شحيحة حين يحكم الدين.
16 – المصدر ص384.
17 – المصدر ص385 عن بح ج5 ص216.
18 – استخفها الحسن والجمال وانزلقت.
19 – تريد أن تعتذر بحسن خلقها وهو نعمة. نعمة من الله فتحولت على يد هذه المرأة نقمة حين أساءت التصرف فيها.
20 – أنا لو لم أكن على هذه الصورة الجميلة ما امتدت لي أنظار النساء فوقعت في الفتنة.
21 – لا يمكن أن يحتج الله عز وجل بمريم على غير مريم من خلال عصمة مريم، وهي عطاؤه، ولا يمكن أن يحتج بيوسف على غير يوسف مع فارق عند يوسف عن غيره. فيما يظهر أن هذا الاحتجاج بما هو القدر المشترك عند الإنسان من المواهب، من الهدايات، من الفطرة، مما وصلهم من صوت الرسل، من نداءات الرسل والكتب.
هذا القدر كاف لأن يعصم من هذه الموبقات، والعصمة مناعة أخرى بدرجة فوق هذا وتمنع من هذا ومن الشوائب التي لا تعدّها ذنباً، ولا ترى فيها غضاضة.
22 – مبتلى في بدنه، مبتلى بأمراضه، بفقره.
23 – وصلت إلى درجة لا تتحمل.
24 – المصدر ص385 عن الكافي – الفروع ج8 ص228.
25 – والاحتجاج بمن ذكرتهم الرواية ليس لأنهم وحدهم الذين اجتازوا الامتحان المذكور، وإنما لأنهم المعروفون عند السامع، ولأن فتنتهم أشد فتنة، وإلا ففي الناس كثير ممن حُسّن خلقه، أو ابتلي بألون من البلاء فلم يفتتن.
26 – 27/ المائدة.
27 – الفقاهة بهذا المعنى الوسيع واحد من مرتكزات مطلوبة في إمام المسلمين بعد المعصوم عليه السلام.
28 – فقد يَنخلق عند المؤمنين بهذا نوع من الاتكاليَّة ويحصل التساهل في الالتزام بأداء الحقوق الشرعية، ويخضع الدين في الأخير للمساومات الدنيوية التي تضرُّ به.

 

زر الذهاب إلى الأعلى