خطبة الجمعة (175) 6 شوال 1425هـ – 20 نوفمبر 2004م

مواضيع الخطبة:

الإنسان في قوته وضعفه:+ وحشيتان وشعبٌ ممتحن+ هذا الوطن ماذا يحتاج؟!

 

لقد أدار الهاجس الأمني الأمور لمدةٍ طويلة، وجُرب مرات ومرات، وفي بلدانٍ كثيرة، وأثبت فشلاً ذريعاً خاصةً في الآونة الأخيرة، فلتجرب الإدارة من منطلق روح الثقة والإصلاح.

الخطبة الأولى

الحمدلله الظاهر بنفسه لا بشيء، المظهر لكلِّ شيء، المالك الذي لا مالك معه ولا يملكه شيء، وهو مالك لكل شيء، المتطول بالمنّ الجميل على كل شيء ولا منَّ عليه من شيء.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم تسليماً كثيراً كثيراً.
أو صيكم عباد الله ونفسي الأمَّارة بالسوء بتقوى الله وأن لا نطغى؛ فمن اتّقى فالجنَّة مأواه، ومن طغى فالنَّار مثواه، والشقاء مصيره. يقول سبحانه في كتابه العزيز {فَأَمَّا مَن طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى}.(1)
ولاخسارة يمكن أن تواجِه إنساناً كخسارة يسوقه لها طغواه، ولا ربح يمكن أن تحققه حياته كربحٍ تنتهي إليه به تقواه.
وطغوى العبد أن يتعدّى حدَّ عبوديته، ويستعلي على مقام ربه الأعلى، فيخرج على أمره ونهيه، وما أعظمه من جهل إنسان ينساق وراء تسويل نفسه فيكون كذلك!!
فأين يذهب بالإنسان طغيانُه واستعلاؤه على الله الذي بيده ناصيته ووجوده، وحياته، وحركته وسكونُه، ولا مفر له من مملكته، ولا قوة تحميه من قضائه وقدرته؟!
اللهم إنّا نعوذ بك من غرور أنفسنا، ومتابعة الهوى والشيطان، وسحر الدُّنيا، والخلود إليها، ونسيان الآخرة.
اللهم صل وسلم على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين.
أما بعد فالحديث عن الإنسان في قوته وضعفه:
أولاً: الإنسان ذاتاً…. وخلقة:-
‌أ. الإنسان ذاتاً: الإنسان ذاتاً ضعيفٌ بل عدم {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً}(2)، ما كان الإنسان شيئاً على الإطلاق، ثم وقد كان شيئاً إلا أنه الشيء غير المذكور، الشيء الضائع في هذا الكون العريض؛ الذي لا تقع عليه عين، ولا يمر له ذكر، وليس له تبيُّن. أين كانت الملايين والبلايين من بني الإنسان قبل أن يُخلق الإنسان الأوّل؟ وأين كنتُ أنا، وأين كنتَ أنت قبل كذا من السنين؟
‌ب. الإنسان خلقة:
1. على المستوى العام:
والإنسان خلقة، وعلى المستوى العام منه ضعيف، واهٍ {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ}(3) هذا الإنسان تقلِّبه يدُ القدر، وتنقله من حال إلى حال من دون أن يملك اعتراضاً، ومن دون أن يكون له شأنٌ في تقرير مصيره من ناحية الضعف والقوة المفروضة عليه تكوينا.
نعم، هناك مساحة من الأختيار يدخل فيها فعل الإنسان في صنع قوته وضعفه وهي بتقدير من الله ومملوكة له.
ألم يكن الإنسان من نطفة؟ ألم يكن الإنسان في خلقته الأولى واهنا كل الوهن، وحتى بعد تقدّم تجده قابعا في رحم أمه، مستسلماً خاضعا خانعا لا يملك حراكاً، وهيئته تنطق بالذُّل والمسكنة والاستسلام الكامل {وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً}(4).
2. على المستوى النفسي:
والإنسان على المستوى النفسي ضعيف وهو ما يهمّنا في هذا المورد {إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً}(5).
الإنسان قلق، مضطرب، مهزوز، وكيف لا يكون كذلك وهو الفقير في ذاته، وهو الذي يُملك عليه كل وجوده وحياته، {إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً} يخاف من الفقر، يفزع، يجزع، يفقد صبره، يزداد اضطرابه، لا تهدأ له نفس، وقد مسّه الفقر، مسّه المرض، قرُب أجله، حلّت به الكوارث والنوائب.
{وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً} لأنه لا يملك ولا يضمن من نفسه خيرا جديدا فوق ما عنده من خير لو أعطاه. هذا هو الإنسان محكومٌ لمشاعر، لدوافع، لضرورات، لحاجات، لهواجس، لخواطر، لتحسُّبات، والإنسان من غير ذلك لا يبقى، ولا بد أن يكون كذلك حتى يعيش، وإلا فكيف يحافظ على نفسه إن لم تكن له هذه الدوافع، ولم يكن عنده هذا الخوف وهذا التحسّب؟!
3. تحديات ومتاعب:
والإنسان حياته محفوفة بالمتاعب، بالتحديات، بالمشكلات والأزمات {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ}(6) والكبد: هو الكد والتعب.
لايستطيع هذا الإنسان بملايينه أن يستبدل مناخات التعب والرهق والنصب والمشكلات والعلاقات الشائكة، وملمّات المرض، والفقر، وكوارث الطبيعة، أن يستبدل هذه المناخات إلى مناخات هانئة، مناخات رغيدة، إلى حياة حريرية.
{يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلَاقِيهِ}(7) اللقاء مع الله أمر محتوم، والإنسان في هذه الحياة كادح، ولا يمكنه إلا أن يكون كادحا، وقد يكدح لنفسه، وقد يكدح عليها، وهو ملاق ربه بما كدح؛ كدح يلاقي رضوان الله، أو كدح يستوجب غضبه، كدح ينتهي بصاحبه إلى الجنة، أو كدح يوقع صاحبه في قعر النار.
{يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً (8)فَمُلَاقِيهِ}(9) ولن يجد أحد خيرا، ولا تقدمّا، ولا رفعة ولا رقيّا إلا عن طريق الكدح على الطريق الذي أوصى به الله سبحانه وتعالى.
فالحياة حياة كدح، وحياة تعب ومشاكل، والإنسان في داخله جزع، هلع، خوف، قلق من مشكلات المستقبل، وحزن من مشكلات الحاضر.
والإنسان حريص على حياته، يتمسّك بكل الأسباب ما استطاع من أجل الحفاظ على الحياة، ولكنّه لا يملك أمل الحياة على الإطلاق.
ثانياً: كيف يحمي الإنسان نفسه من الهزيمة؟
هذا الخوف والحزن والقلق والهلع والجزع يسحق ذات الإنسان، يملك عليه خياراته، يفقده القدرة على القرار الصائب. يكون الانسان تحت طائلته مملوكاً للعواطف، للانفعالات، للمشاعر السلبية بحيث يفقد توازنه، ويفقد قدرة القرار العاقل.
ويريد الإنسان أن يسعد، ولا سعادة مع الضعف، فالضعف يعني الهزيمة، والمهزوم في تصرف الغير، ولا يملك أن يختار طريق سعادته. فلا بد أن نقوى لنسعد.
ولعلك تعوّل على قوة الخارج؛ إلا أن قوة الخارج مع ضعف الذات لا تكفي لحل المشكل؛ فالنفس الضعيفة تبقى مهزوزة مغلوبة مصروعة برغم ما تملك من قوةٍ خارجها، وسلطان الشعور المرِّ الثقيل بما عليه النفس من ضعف لا يحمي منه ولا تخففه قوةُ ما بيدها من شيء.
فالغني مالاً المغلوب في نفسه لطمعه وجشعه شقي لا سعيد، والمفتول عضلاً المهزوم لخوفه بئيس لا محظوظ، والذي يشعر بالصغار والدُّونية لا تعوضه عن مصيبته أسباب الظهور والعزة حوله.
ويمكن لنا أن نحمي أنفسنا من هزيمة الداخل، وأن ننتصر في ذواتنا على التحديات بأن نبني النفس بناء قويّاً لتتحمل، ويخف عليها ثقل الأحداث، وضغط المشاعر السلبية، أو تتخلص نهائيا من المعاناة التي تأتيها مما تفقد وما تجد(10)، وحال الخير والشر، والضيق والسعه.
وللإسلام منهج في البناء والقوة منقذ للإنسان، ولن يجد الإنسان منهجا آخر يمكن له أن يبني الذات الإنسانية قويّة فولاذية صُلبة تستعلي على مشاعر الوهن والضعف والضعة، وتتمشى دائما في قراراتها مع العقل، والفطرة، والمصلحة النهائية العليا للإنسان نفسه.
ثالثاً: الإسلام وصناعة القوة (قوة الداخل):
إنَّ للإسلام منهجا يصنع القوة في الخارج، وإن للإسلام يصنع القوة في داخل النفس.والكلام هنا عن قوة الداخل.
1) رؤية للقوَّة:
الإسلام يقدّم رؤية من أجل القوّة بحيث تكون أساسا لقوة هذا الإنسان تحميه، وترفع من مستوى مناعته أمام المصائب والكوارث، يقول سبحانه في كتابه العزيز {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ}(11).
القضية المطلوبة هو أن لا يملكنا حزن ولا فرح، غضب ولا رضا، فقر ولا غنى، القضية المركزية الكبرى التي من أجلها بناء الذّات هو أن هذه الذات الإنسانية بمضمونها الكبير لا تكون مهزومة أمام المشاعر السلبية، ولا تملك عليها الظروف وضعها النفسي. وأكبر من هذا أن نتحرر من الحزن للدنيا، وأن لا نستمد فرحنا منها.
ومن أجل هذا المستوى عند النفس يقدّم القرآن هذه الرؤية، ويقول أن هذه الرؤية الحقيقيَّة من أجل أن تتوفّروا على استمساك ومنعة أمام المشاعر السلبية والأحداث والظروف، ولا تصنع لكم خسارة أو ربح دنيوي شعوراً أو مبطراً.
اعلموا أن مصائبكم مكتوبة قبل أن تبرأ النفوس، أو المصائب نفسها. والمكتوب المقدّر المعلوم الذي لا فرار منه وخاصة إذا كان مقدّره الحكيم العليم الخبير الرحيم الرؤوف الرب المدبّر إذا وقع كان فإن أهون على النفس مما لو كان لها قصىّ منه، وحيلة في دفعه.
2. دروس للقوة:
هناك دروس للقوة؛ دروس وأحداث تكوينية يصنعها الله سبحانه وتعالى من أجل تصحيح الوضع النفسي للإنسان، ومدّه بسبب من القوة {… فَأَثَابَكُمْ غُمَّاً بِغَمٍّ لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَا أَصَابَكُمْ وَاللّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (12).
كان غمٌّ، وغمّ سلبي هدّام، أحلّ الله عز وجل مكانه غمّا ولكنه من النوع البنّاء ليخلِّص نفوس المؤمنين وقد أصابتهم الهزيمة بفرارهم من المعركة من ذلك الغمّ السلبي الذي يبعّدهم عن الله سبحانه وتعالى، ويثلم من إيمانهم، فهذه مصيبة ولكنها مصيبة منقذة تعطي الاستعلاء على شعور سلبي ليس فيه جنبة من جنبات البناء.
3. تشريعات للقوة:
{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}(13) معية الله فيها كل القوة، إذا كان الله معي فمن يستطيع أن يكون ضدّي، كلمة لعالم أوروبي.
ومع هداية السبل وهي سبل القوة، وسبل الرفعة والرقي والسمو تكون معية الله سبحانه وتعالى. ومن كان في حمى الله، ووُفِّق لمعية من الله فلا يُخاف عليه. وما هو الطريق؟ الطريق المجاهدة.
ألم يكن الإنسان هنا ليكدح {يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلَاقِيهِ}(14) ألم يُخلق الإنسان في كبد؟ لا ينال الإنسان دنيا، ولا ينال الإنسان آخرة إلا بكفاح، إلا بدور فعّال، إلا بمجاهدة. أنت لا تحبو إلا عبر المكابدة، ولا تقوم إلا عبر المكابدة، ولا تتعلم الحروف إلا عبر المكابدة، وكل ما تكسبه هنا عن طريق المكابدة والمجاهدة، ولن تبني ذاتك كما أراد الله لك إلا من خلال دور تصبر عليه وتجاهد على طريقه.
{وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى}(15) أتريد نفسا كبيرة، نفسا غير مهزومة، نفسا صابرة، امنع نفسك بمقدار ما تستطيع عن التعلّق والتهالك على الدنيا، على مشتهياتها، على رغائبها، على زخرفها وزينتها. وكلّما امتد بك النظر إلى زينة الدنيا، وإلى شهرة الدنيا، وإلى ما في يد الغير من أشياء الدنيا كلما ضعُفت نفسك، وكلما ما ملكت عليك أقطار فكرك، وملكت عليك إرادتك.
{فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاء اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى}(16).
الطريق إلى أن ترضى النفس، إلى أن تطمئن، تتخلص من هلعها، من قلقها، من فزعها، من ضعفها… الطريق إلى الثقة أن ترى من تثق به، أن تنشد إلى من تثق به، أن تتعلق بمن تثق به، ولن ترى النفس موثوقاً به كالله.
فإن رأت النفس ربها وانشدت إليه تغن، وإن لم تر الله تبق محكومة للشعور بالفقر وبالدونية وبالفزع والهلع والجزع والقلق.
{وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ }(17) إذا أردتم أن تبنوا أنفسكم، أن تبنوا إرادة قوية، أن تبنوا نفسا أبية، أن يملك فيكم عقلكم ودينكم قرار حاضركم ومستقبلكم ومصيركم، إذا أردتم أن تكونوا أقوياء أمام المشاعر السلبية، وأمام الحوادث والكوارث، وأمام كل التحديات فاستعينوا بالصبر والصلاة. نعم اصنعوا أنفسكم على طريق الصبر والصلاة تنصنع قويّة.
اللهم صل على محمد وآل محمد، واغفر لنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم. اللهم ارزقنا قوة الإيمان واليقين، وسلامة الدنيا والدين، والتوكل عليك، والرضا بما قضيت، وأتمم علينا نعمك، وادفع عنا نقمك يا أكرم من سئل، وأجود من أعطى، يا من هو على كل شيء قدير.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3)}

الخطبة الثانية

الحمد لله أهل الكبرياء والمجد والعظمة. له التكبير والتقديس والتسبيح، ومنه النعم والآلاء، وهو المبدئ وإليه المنتهى، وعليه المعوّل في الشدة والرخاء.
أشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وآله وسلم تسليماً كثيراً كثيراً.
أوصيكم عباد الله ونفسي الغافلة بتقوى الله مسبب الأسباب، ومالك الرقاب، الذي إليه مرجع العباد، وحكم يوم المعاد، وهو يوم قال عنه سبحانه {واتقوا يوماً تُرجعون فيه إلى الله ثم تُوفّى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون}(18). إنه يوم لا يضيع فيه عمل عامل، ولا يُغفل فيه عن ظلم ظالم. ومن عدل عن الله ظلم، ومن تخلّف عن أمره أثم، ومن ضاده هلك، ومن نازعه هوى في النار. وبئس المأوى نزّاعة للشَّوى.
اللهم اجعلنا لنعمائك من الشاكرين، ولآلائك من الذاكرين، ولجلالك خاشعين، ومن عظمتك راهبين، ومن عدلك خائفين، ولك مسبحين حامدين شاكرين.
اللهم اغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على محمد النبي المصطفى، وصل وسلم على علي أمير المؤمنين وإمام المتقين، وعلى فاطمة الزهراء الزكية النقية الصديقة الطاهرة.
وعلى الأئمة المعصومين حجج الله في خلقه الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن المهدي المنتظر القائم.
اللهم عجّل فرج ولي أمرك القائم المنتظر وحفّه بملائتك المقربين، وأيده بروح القدس يارب العالمين.
عبدك الموالي له، الممهد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين وفقهم لمراضيك.
أما بعد أيها الكرام فمع هذه الكلمات.
* وحشيتان وشعبٌ ممتحن:
وحشيتان تنهش في جسم الشعب العراقي، الوحشية الأمريكية التي تعبر صادقةً وبصورةٍ سافرةٍ هذه المرة عن خلفيتها الحضارية المادية الإباحية الجشعة، وبلا حياءٍ من جهة ما تمارسه من فضائح لا تستر، وعلى مرأى العالم كله. ومن جهة ما ترفعه ساخرةً من شعار التحرير والديمقراطية، وتبقى الوحشية الأمريكية هي الوحشية البهيمية الفتاكة، وتبقى خلفيتها الإباحية هي هي، حتى في أسلوبها الثاني، أسلوب الاغتيال للشعوب والقتل بالسم في صورة مصافحةٍ بقفازٍ حريريٍ مسموم.
أما الوحشية الثانية، وحشية الاختطاف وحز الرقاب حزاً بطيئاً بدمٍ بارد، وعرض صور الجرائم البشعة على العالم والتفجيرات التي تحصد أرواح الآمنين بالجملة، ومن دون تفريقٍ بين آثمٍ وبريء، وشيخٍ وطفل، وامرأةٍ ورجل، فإنها ترتكب على أيدٍ تنفذها باسم الإسلام، وهذا زورٌ يرتكب في حق هذا الدين العظيم، ويشوه وجهه المشرق في عين العدو والصديق، وينال من كرامته ويغتال صفاءه ونقاءه.
وحشيتان تتسابقان في تدمير الشعب العراقي واستلابه حق الطمأنينة والأمن، والحياة، وفي محاربة الإسلام والقضاء عليه. والأمة واهنةٌ لا تدفع عن نفسها ضيماً، ولا عن دينها شراً، وهي جريمةٌ اشترك فيها تاريخٌ طويلٌ من الأثرة والأشر والبطر والاستكبار والاستعلاء والاستضعاف الذي مارسه كثيرٌ من أنظمة الحكم في الأمة في حق شعوبها المضطهدة، ولازالت هذه السياسة الجاهلية البعيدة عن روح الإسلام وقيمه وتشريعاته، تفتك بقدرات الأمة ووحدتها ومعنوياتها، وتهمش وجودها في الأرض إلى حد التغييب.
* هذا الوطن ماذا يحتاج؟!
أولاً: كيف نريد هذا الوطن؟ نريد هذا الوطن وطن تقدمٍ أم تخلف؟! وطن نظامٍ أو فوضى، محبةٍ أو بغضاء، إيمانٍ أو كفر؟! وطن خلقٍ كريم، أو وطن رذائل؟! نريده وطن مجتمعٍ متحضرٍ، أو وطن مجتمعٍ تحكمه البداوة؟! نريده وطن غنىً أو فقر، تعاونٍ أو تنافر؟!
ثانيا: لمن نريده؟! لمن نريده وطن تقدمٍ ونظامٍ وأمنٍ ومحبةٍ وغنى؟! نريده لعائلة؟! نريده للكل؟! نريده لطائفة؟! نريده للكل؟! نريده لطبقة؟! نريده للكل؟!
ثالثاً: كيف نجعله كما نحب وكما يمكن؟
نحب أن يكون وطن تقدمٍ لا تخلف، وطن محبةٍ لا عداوة، غنىً لا فقر، تعاونٍ لا تنافر، أمنٍ وسلامٍ لا خوفٍ وقلقٍ واضطراب. لكن كيف نجعله كما نحب وكما هو ممكن؟ فإن جعل وطنٍ وطن محبةٍ لا بغضاء، تقدمٍ لا تخلف… إلخ شيءٌ ممكن.
على طريق هذا الإمكان، وعلى طريق صناعة وطنٍ من هذا النوع، يُحتاج إلى:
1. دستورٍ متوافقٍ عليه. فالمجتمع الذي يقوم على تعادل الحقوق والواجبات يحتاج إلى دستور. والدستور الذي يضمن علاقاتٍ منضبطةٍ تسمح ببناء مجتمع التقدم لابد أن يكون متوافقاً عليه. فدستورٌ بلا توافق كلا دستور. فالحاجة قاضيةٌ بوجود هذا الدستور حتماً.
2. عقليةٌ سلمية عند كلٍ من الحكومة والشعب، فحين تكون عقلية الحكومة عقلية حرب، لا يمكن بناء هذا الوطن. وكذلك حين تكون عقلية الشعب عقلية حرب لا يمكن أن يكون هذا الوطن. لابد أن تسود العقلية السلمية عند الحكومة وعند الشعب. وإذا تكررت الاختراقات من جانب الحكومة أو الشعب، صنعت عقلية حرب، وأبعدت الوطن عن العقلية السلمية.
تتحول العقلية من عقليةٍ سلمية إلى عقليةٍ حربية بتكرار الاختراق من هذا الطرف أو من ذلك الطرف.
3. تقديم الوطن والمواطن، ويعني تقديم الوطن والمواطن أن هذا الوطن في اهتماماتي قبل الأوطان الأخرى. أنا مسلمٌ وإسلامي يحتم عليّ أن أكون منفتح الأفق، واسع الهم، ممتد الرؤية إلى كل شبرٍ وإلى كل حبة ترابٍ من الوطن الإسلامي الكبير. ولكن مع ذلك، المسؤولية المرتبطة بالأرض المسؤول عنها قبل غيرك أكبر من مسؤوليتك عن الأرض التي يولي غيرك اهتماماً أكبر بها. فتقديم هذا الوطن على غيره فيما لا يضر بمصلحة المسلمين العليا، ولا يعني كيداً بالوطن الإسلامي الكبير، ولا تساهلاً في حقه، ولا تآمراً عليه هو ما نعنيه بتقديم الوطن. وكما أن علينا أن نقدم الوطن، على غيره، حسب الضابط المذكور، كذلك علينا أن نقدم المواطن على غيره. فثروة هذا الوطن للمواطنين أولاً، فرص العمل في هذا الوطن للمواطنين أولاً، كل الامتيازات هي للمواطن أولاً، وهذا يعني أن يلغى التجنيس، أن يحل مشكل البطالة، أن يتخلص من الفقر، لأن البلد غير عاجزٍ عن حلِّ هذه المشكلات الثلاث إذا قدم المواطن على غيره. فليطالب بعضنا البعض بتقديم الوطن على غيره، وليطالب بعضنا البعض بتقديم المواطن على غيره. والحكومة – ولحد الآن – وفي كثيرٍ من المساحات تقدم غير المواطن على المواطن.
4. مواطنون من درجة واحدة.
لكي نبني الوطن المطلوب، لابد أن يكون كل المواطنين من درجةٍ واحدة، بلا تقسيمٍ حسب العائلة، أو حسب الطائفة، أو حسب الانتماء القومي. وإلا فخيالٌ أن نبني وطن المحبة، ووطن الائتلاف والتعاون، ووطن التقدم، ووطن الاستقرار.
5. عقلية إصلاحية لا هاجس أمني:
كيف تدار الأمور؟! مرةً تدار الأمور بعقليةٍ إصلاحية مخلصة، ومرة أخرى تدار على أساس الهاجس الأمني، وقد أدار الهاجس الأمني دفة البلاد لمدةٍ طويلة، فكانت نتائجه وخيمة، محطمة، ممزقة، كارثةٌ على الجميع. فلنجرب – ولو لمرةٍ واحدة – أن تدار الأمور بعقليةٍ إصلاحيةٍ بعيدةٍ عن الهاجس الأمني الذي يصل إلى حد الهوس.
والإصلاح يوفر الأمن. والذي يضاد الأمن حينما يكون إصلاحٌ حقيقيٌّ سيكون شاذاً، وسيكون مرفوضاً من الجميع، لأن تحركه سيكون ضد مصلحة الجميع. إذا عاش الشعب نتائج الإصلاح ولمسها لمس يد، فإن من يتحرك ضد الإصلاح فسيتحرك الشعب كله ضده. فالإصلاح يوفر الأمن، ولكن الهاجس الأمني يهدم الإصلاح، ويفسد الأمن ويحل محله الخوف والقلق والفوضى، وقد فعل لسنواتٍ طويلة، وأقام الدرس تلو الدرس، وأعطى البرهان بعد البرهان على خطورة نتائجه.
الهاجس الأمني معناه شكٌ، ويقابل الشك شك. ومعناه توجسٌ، ويقابل التوجس توجس. ومعناه كيد ولا يقابل الكيد إلا بالكيد، ومعناه تآمر ولا يقابل التآمر إلا بالتآمر. هذه نتائج الهاجس الأمني.
لقد أدار الهاجس الأمني الأمور لمدةٍ طويلة، وجُرب مرات ومرات، وفي بلدانٍ كثيرة، وأثبت فشلاً ذريعاً خاصةً في الآونة الأخيرة، فلتجرب الإدارة من منطلق روح الثقة والإصلاح.
وقانون الجمعيات، وقانون التجمعات، ومحاولة وضع اليد على المسجد والحسينية، وكل شيئ، وتحويل الشعب إلى طفلٍ قاصرٍ يسيّر تسييراً آلياً وضمن قوالب حديدة، تملك عليه كل ساحات الحركة والنشاط، مبعثه الهاجس الأمني وفقد الثقة.
الإصلاح يولّد الشعور بالثقة المتبادلة، ويؤمن موقفاً شعبياً عاماً متعاطفاً بل مسانداً ومناصراً.

اللهم صل على محمدٍ وآل محمد، وتقبل شفاعته وارفع درجته، وزده رحمةً وبركةً وكرامة.
ربنا هب لنا من لدنك رحمةً وفرجاً هنيئاً، واجعل لنا من عندك مخرجاً وحيّاً، واستعملنا في طاعتك، وذدنا عن معصيتك، وافتح علينا أبواب نصرك وعزّك وكرامتك يا سميع يا مجيب، يا كريم يا جواد، يا أرحم الراحمين.
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – 37 – 41/ النّازعات.
2 – 1/ الإنسان.
3 – 54/ الروم.
4 – 28/ النساء.
5 – 19 – 21/ المعارج.
6 – 4/ البلد.
7 – 6/ الانشقاق.
8 – الكدح: السعي والعناء.
9 – 6/ الانشقاق.
10 – فإن المعاناة قد يكون مصدرها الفقدان، وقد يكون مصدرها الوجدان، وكما أن الفقر قد يحكم الذات ويقهرها فكذلك الغنى قد يحكم الذات ويقهرها، وكما أن الفقر يمكن أن يشقي، فكذلك الغنى يمكن أن يشقي.
11 – 22 – 23/ الحديد.
12 – 153/ آل عمران.
13 – 69/ العنكبوت.
14 – 6/ الانشقاق.
15 – 131/ طه.
16 – 130/ طه.
17 – 45- البقرة.
18 — 28/ البقرة.

 

زر الذهاب إلى الأعلى