خطبة الجمعة (173) 21 شهر رمضان 1425هـ – 6 نوفمبر 2004م

مواضيع الخطبة:

وقفة مع الآية الكريمة {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا}.+  يوم رجل عظم الله عنده فصغُر المخلوق في عينه+ فكرٌ إرهابي متطرف+ الرأي في القضاء

 

 كل عظمة أمير المؤمنين عليه السلام كانت تتلخّص في أنه عرف الله، ومن عرف الله عز وجل لا يعرفه إلا كاملاً، وإلا عظيما مطلقاً، فكانت رحلة حياته وراء العظمة، ووراء القوة، ووراء المجد، ووراء الهدى، ووراء النور ولم يعط لحظة من حياته حتى في مأكله ومشربه بمقتضى عصمته للأرض.

الخطبة الأولى

الحمد لله له الأسماء الحسنى، وله الآخرة والأولى، وله المبدأ وإليه المنتهى، وإليه ترجع النعماء، وله الحكم والقضاء.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم تسليما كثيرا.
أوصيكم عباد الله ونفسي الخطّاءة بتقوى الله، واستحضار ذكره الحميد عند كلّ نعمة وكلِّ بليَّة، وعند وسوسة النفس والشيطان الرجيم، وعندما يكثر الهرج والمرج في النّاس، وينسى الدين، فإن ذكر الله يحيي النفس، وينجي من أسر الهوى، ويردُّ كيد الشيطان، ويمنع من الزلل، ويقي من الخطل، ويعود بالمرء إلى سنن الدين القويم.
اللهم صل على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات، وأمت الباطل في قلوبنا، وأحيها بذكرك الجميل، ولا تجعل للشيطان علينا سلطاناً، ولا له إلينا سبيلاً يا أرحم الراحمين.
أما بعد يا أخوة الإيمان فإلى قوله تبارك وتعالى:
{وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا}.
ولنقف عند الآيات الكريمة نستضيء ونبني أنفسنا في هدى القرآن المجيد.
1. الآية الكريمة جاءت في سياق سلسلة من أقسام متعددة يتلو بعضها بعضا. وفي هذا تأكيد على المقسم عليه، خاصة وأن القسم من جبّار السماوات والأرض مالك الأمر كلّه.
أنت تقسم بقسم واحد لتؤكّد قضيتك، فكيف والقسم بأقسام متعددة متوالية؟! وقسم الله بأشياء مما خلق يشير إلى عظم ما خلق، وهو سبحانه وتعالى عندما يقسم بشيء من خلقه إنما يقسم بما وراء ذلك من علم وحكمة وإرادة وأسماء حسنى لا تُحدّ له سبحانه وتعالى.
2. قالوا عن النفس في تنكيرها بأن هذا التنكير كما اختار بعضهم للتضخيم، تضخيم شأن النفس المقسم بها، وقال بعضهم بأن هذا التنكير للتنكير أي المقصود نفسٌ من النفوس.
واختار بعضهم أنه للتعميم كما في مثل {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ} أي كل نفس، واختار آخرون بأن النفس المعنية هي نفس آدم، كما اختار البعض أنها نفس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهي نفس ذات شأن متعال جدّاً.
3. ثم هذه النفس أهي النفس الإنسانية المتميّزة التي تتمثل في نفخة الروح الخاصة المشرّفة بنسبتها لله سبحانه وتعالى، أم هي مجموع ما هو نفس الإنسان مما به إنسانيته الرفيعة، ومما به حياة بدنه.
4. والتسوية هي التعديل، والتنسيق، تقول استوى الطعام إذا نضج، وتقول سوّيته أي عدّلته، فتسوية النفس البلوغ بها مبلغ الكمال في الإعداد والاستعداد لما هي عليه من وظيفة أُريدت لها.وأن تلك النفس نفس تعيش حالة التناسق، وحالة الاعتدال،
صحيح أن النفس بها قوى متضادة، لكن هذا التضاد في حالة من التعادل يجعل النفس في أحسن تقويم، وفي أتم إعداد لما كُتب لها من مستوى محلّق كبير في تقدير الله سبحانه وتعالى، وإذا أخذت بالمنهج الإلهي الكريم.
النفس فيها الإدراك، والشعور، والذاكرة، والإرادة، فيها الدوافع المعنوية، والدوافع المادية إذا أخذنا بالنفس الأعم.
فيها نظر إلى الماضي، إلى الحاضر، إلى المستقبل، وهي تحمل همّين؛ همّ حاضرها ومستقبلها.
فيها أمل ويأس، فيها خوف ورجاء، فيها حب وكره، رضا وغضب.
هذا المخطط الإلهي للنفس مع ما فيه من تقابل إلا أنه تقابل يؤول إلى التكامل، ويجعل النفس في نصاب سويّ مكتمل وإذا وُضعت على طريقها الذي اختاره الله سبحانه وتعالى بلغت شأواً عظيماً.
هذا المخطط السليم المتكامل له شرط نجاح كما سبق، وهو المنهج التربوي الإلهي الناجح، وأن يكون هو خيار الإنسان في هذه الحياة.
5. النفس أُلهمت فجورها وتقواها، وهذا الإلهام بالفجور والتقوى من تمام تسويتها. فهي لا تتم تسوية ولا تكتمل إعداداً، ولا تكون في نصابها الأكمل إلا بأن تُلهم فجورها وتقواها، والإلهام للعلم أو الشعور القاؤه في رُوع الإنسان أي عقله وقلبه بلا أن يلتفت تفصيلا إلى الجهة التي أدخلت إلى قلبه العلم والشعور.
فرّقوا بين الوحي والإلهام، بأن الوحي أن يتوفر الإنسان على علم من غير طلب علمي، ويلتفت إلى مصدر هذا العلم وطريقة توفره عليه، بينما الإلهام هو إيصال العلم إلى القلب من غير كسب علمي مع عدم الالتفات إلى مصدر هذا العلم وإلى الطريقة التي جاء بها إلى القلب.
والآية الكريمة تقول فجورها وتقواها ولا تقول الفجور والتقوى، فهو فجور وتقوى يرتبطان بها، ويدخلان في تكوين مستواها، ويرتبطان بمصيرها ومستقبلها.
وليس للنفس من حاجة أن تعرف فجوراً وتقوى لمخلوقات أخرى، فكأنه من ذلك – والله العالم – جاءت هذه الإضافة ” فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا”. وإلهام الفجور والتقوى إراءة للنفس بطبيعة الأفعال، وإلى صفة الفعل.
النفس الإنسانية ملتفتة إلى الأكل بما هو أكل، مضافاً إلى ذلك أنها ملتفتة إلى أن هذه الممارسة من الأكل ممارسة فجور أو ممارسة تقوى، ممارسة حرام أو ممارسة حلال، ممارسة تغضب الله أو ترضي الله.
أكل مال اليتيم تعرف النفس أنه أكل، وتعرف له صفة خاصة وهو أنه فجور، والنفس تعرف هذا قبل أن يأتي التشريع، ولا تساوي نفس إنسانية لم تُطمر تحت التراب بين ما هو أكل لمال اليتيم، وبينما هو أكل من كسب اليد وعرق الجبين.
مباشرة رجل لامرأة تعرفهٍ النفس الإنسانية بعنوان أنه مواقعة، ثم تضيف إلى ذلك صفة تتوفر عليها عالمة وهي أن مباشرة زوجة الآخر فجور، وأن مباشرة الشخص لزوجه من التقوى.
النفس لا يختار المفسرون المحققون أنها رُكِّب فيها ما هو فجور وما هو تقوى، وإنما النفس أُلهمت وأُعطيت الإراءة والتمييز والقدرة على الفرز الإدراكي والشعوري على مستوى ما يُسمى بالعقل العملي أو ما قد نسميه بالضمير الخلقي الحي بين ما هو فجور وما هو تقوى.
وإلهام النفس فجورها وتقواها رسول في الباطن، والرسول الأعظم صلى الله عليه وآله عقل في الظاهر، النبي محمد صلى الله عليه وآله جاء عقلا دقيقا هادياً، والفطرة في النفس غُرست رسولاً دليلاً على الطريق، ورسول الباطن وعقل الظاهر لا يتهافتان ولا يتناقضان ولا يتعاكسان مطلقا. الرسول من الله يستنطق فطرة الخير ويستثيرها، والفطرة تدل على الرسول.
والفطرة رسول لا يموت، ولا يمكن وأده. الفطرة تبقى في تركيب الإنسان لأنها جزء من تركيبه وجزء من ذاته، جزء من هويته الأصل، فلا يمكن أن تموت أو تقتل. نعم يمكن أن يشوّش عليها، يمكن أن تقوم أمامها وأمام ما هُيئّت لرؤيته سحب من ذنوب، وسحب من رذائل يرتكبها هذا الإنسان، لكنها وبين حين وآخر يرتفع لها صوت، وتحتج على الإنسان الذي يلتوي في فكره وفي شعوره وفي سلوكه.
والفطرة وهدى النفس فجورها وتقواها رصيد بيد المربين المخلصين، وأصحاب كلمة الحق، ومسلك الحق، فهم إذ يخاطبون الإنسان بالحق وبالهداية لا يخاطبون حالة فراغ فيه وإنما يخاطبون رصيداً فطريا يمكن لهم أن يستثمروه في هذه العملية.
6. ماهو المقسم عليه في الآيات الكريمة؟
هذه القضية المركزية المهمة جداً قضية الحياة، وقضية الآخرة، قضية المصير الكبير، قضية يتلخّص فيها معنى الإنسان وجودا وحياة، فإما أن يكون الوجود الساقط الحقير، وأما أن يكون الوجود الراقي الكبير.
{ قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا}.
ما هو الفلاح؟ الفلاح أن تشق الطريق إلى الغاية فتبلغها، وهناك غايات تفصيلية، وأهداف جزئية صغيرة في الحياة، ملايين من الأهداف قد نقصد إليها في حياتنا بصورة تفصيلية، والهدف الكبير الواحد لحياتنا هو أن يكتمل هذا الإنسان، أن تبلغ إنسانيته نضجها الفعلي، ولا كمال ولا نضج بالفعل للنفس البشرية إلا أن تُصنع النفس في ضوء أسماء الله الحسنى، وأن تتخلق هذه النفس بشيء من خلق الكامل المطلق الكريم تبارك وتعالى.
وفلاح النفس يكون في داخلها قبل أن يكون فلاحها بأن تتمتع بأشياء من الخارج. ما معنى أن تفلح النفس؟ أن تنجح في ذاتها، ونجاحها بأن تعظم، بأن تكبر، بأن تنضج، بأن تهتدي، بأن ترشد، بأن تتوفر على رؤية كونية حقيقية، بأن تشعر في داخلها بالمعنى الكبير، بالذات السامية، بالسعادة، وإذا لم تصنع النفس في داخلها فهل يمكن لها أن تتوفر على ذلك وإن دخلت الجنة؟
جنة النفس في داخلها فكرا نيّرا، وشعورا طيبا، ورضا وهداية قبل أن تكون جنة النفس حورا من الحور العين، وأنهاراً وجمالا خارجياً.
لو أن نفسا هنا أُعطيت ما أُعطيت، أُعطيت من الدنيا أضعافا لكنها طمعت، فهل تسعد؟ لكنها حسدت فهل تسعد؟ لكنها جشعت فهل تسعد؟ لا تسعد النفس حتى يستضيء داخلها، حتى يرشد داخلها، ففلاح النفس أن تكون تلك النفس التي سوّاها ربّها استعداداً مستوية ناضجة رشيدة قويّة فعلاً، ولا يصنع النفس كذلك إلا منهج الله.
قد أفلح من زكّاها فالتزكية مسؤولية الإنسان، وإذا كان الفلاح مربوطا بالتزكية، والتزكية فعل الإنسان ومسؤوليته، ففلاحه من مسؤوليته، وخيبته من مسؤوليته.
والفلاح كما تقدم أن تشق طريقك إلى الغاية المطلوبة، ولتكن الغاية المطلوبة لأيّ منا لا أن يملك أشياء كبيرة بل أن يكبر هو في ذاته، أن يعظم هو في ذاته، أن يرشد، أن يستنير في ذاته، أن يملك الرضا في داخله، وأن لن ترضى وأنت تشعر بالفقر مطلقا، ولن تشعر بالغنى، وستظل أسير الشعور بالفقر المتقع ما لم ترتبط بالله، وتثق بالله، وتطمئن نفسك بالله.
الغنى إما ذاتي وإما بالغير، والغنى الذاتي لا يمكن للإنسان، والغنى بالغير يحتاج إلى الانشداد لذلك الغير، إلى الثقة بذلك الغير، إلى الاطمئنان برضا ذلك الغير، بدعم ذلك الغير، فلا غنى لهذا الإنسان وهو يبعد عن الله، ويهرب من رحمته، بعد أن كان الغنيُّ بالذات هو الله وحده.
اللهم صل على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، ولوالدينا وأرحامنا وقراباتنا ومن أحسن إلينا إحسانا خاصا من مؤمن ومؤمنة، ومسلم ومسلمة.
اللهم اجعل من صلاتنا وصومنا معراجاً لأرواحنا، وقلوبنا إلى قربك، ولا تجعل عبادتنا خواء، ولا حياتنا خسرا، وأتمم علينا نعمك حتى لا نشقى دنيا، ولاخرة، ولا نكون من المرهقين يا كريم يا رحمن يا رحيم.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3)}

الخطبة الثانية

الحمد لله عماد من لا عماد له، وذخر من لا ذخر له، وسند من لا سند له، وغياث من لا غياث له، وكنز من لا كنز له، وعزّ من لا عزّ له. وليس لأحد من دونه عماد، ولا ذخر، ولا سند، ولا غياث، ولا كنز، ولا عزّ، فكل مَن دونه ضعيف، فاقد للخير، فقير ذليل، مستغيث مستجير.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم تسليما كثيراً كثيراً.
عباد الله علينا بتقوى الله فإنه لا سعادة في دنيا ولا آخرة إلا بتقواه، ولا خير إلا من عنده، ولا دفع لضرٍّ إلا منه، والمنقلب إليه قريب، والمصير إلى محكمة عدله ليس ببعيد. ونَفَسٌ واحد داخل أو خارج، وينتقل هذا الإنسان من كلّ مشاغل الحياة وهمومها وصراعاتها وعلاقاتها إلى جديد الآخرة، وهول ما بعد الممات.
اللهم إنا نعوذ بك من سكرة الغفلة، ونسيان يوم المعاد، ومن كربات الآخرة، وأليم عذاب النار. اللهم أصلح شأننا كلّه مما قبل الموت وبعد الموت يا كريم يا رحيم.
اللهم صل وسلّم على محمد بن عبدالله مبلِّغ رسالاتك، والمجاهد في سبيلك، والناصح لعبادك، والأمين على وحيك. وصلّ وسلّم على علي أمير المؤمنين، وإمام المتقين، وعلى فاطمة الزهراء الصديقة المعصومة، والحسنين الزكيين.
والأئمة الهداة علي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن المهدي المنتظر القائم.
اللهم عجّل فرج ولي أمرك المنتظر القائم وحفَّه بملائكتك المقربين، وأيّده بروح القدس يارب العالمين. أظهر به دينك، واقمع به أعداءك، وأعز به أولياءك يا قوي يا عزيز، يا علي يا قدير.
عبدك الموالي له، الممهد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين وفّقهم لمراضيك، وبلّغهم ما يرضيك.
أ
ما بعد أيها الملأ الطيّب فيومنا هذا يوم ذكرى فاجعة كبرى في حياة المسلمين وهو يوم رحيل ولي الله الأكبر في الأرض بعد رسول الله صلى الله عليه آله.
يوم رجل عظم الله عنده، فصغُر المخلوق في عينه، لا بالقياس إليه صلوات الله وسلامه عليه فإنه يرى خلق الله شيئاً عظيماً ولأنه خالٍ من ذرّة استكبار واحدة، لعصمته صلوات الله وسلامه عليه.

عظم الخالق عنده، فصغر المخلوقون في عينه بالقياس إلى ربّه سبحانه وتعالى، فلم يعد شيء من الأشياء يملك عليه من قراره ولو بنسبة ضئيلة مندكّة. قراره لا تملك منه نفسه شيئاً، ولا يملك أحد عليه منه شيئا، قراره ملك الله سبحانه وتعالى؛ يفرضه حب الله، خشية الله، طلب رضوان الله سبحانه وتعالى.
عظم الخالق عنده فلم يهب قوة بشر، ولم يسأل من هم الأتباع وكم هم الأتباع، ولم يلو به عن طريق الحق لا إغراء ولا تهديد، كانت قوّته بالله تقف به أمةً قبال كل من في العالم، تجعل منه خطّاً ومنهجاً إلهيا صادقا وإن ضلَّ كل الناس، والرجل لا يكون قويّاً بحق حتى يعظم الخالق عنده، ويصغر المخلوقون.
النفس المشغولة بحسابات الخلق لا يمكن أن يأتي على يدها قرار إلا من وحي الخلق، من وحي رضاهم، من وحي سخطهم، وهنا لابد أن يضطرب القرار حين تتعدد الآلهة. حين يكون المطلوب رضا الناس، والمحذور سخط الناس يأتي القرار مضطربا مرتبكاً قلقاً لأن غضب الناس لا يجمع على شيء واحد، ورضا الناس لا ينال من خلال شيء واحد.
كل عظمة أمير المؤمنين عليه السلام كانت تتلخّص في أنه عرف الله، ومن عرف الله عز وجل لا يعرفه إلا كاملاً، وإلا عظيما مطلقاً، فكانت رحلة حياته وراء العظمة، ووراء القوة، ووراء المجد، ووراء الهدى، ووراء النور ولم يعط لحظة من حياته حتى في مأكله ومشربه بمقتضى عصمته للأرض.
وحين تكون حياة امرءٍ كلها للسماء تكون صعودا، وتكون سموا، وتكون خلقا متجددا لفاعلية النفس على طريق الهدى، وتكون صنعا مستمرا لمستوى متقدم باستمرار.
أ- فكرٌ إرهابي متطرف:-
نشرت الأيام مقالاً في عدد من أعداد الأسبوع المنصرم كانت أفكاره أفكاراً خطأ، وكان هدفه جهنميّاً، وكان وراء المقال فكر إرهابي متطرّف.
1
. من أفكار ذلك المقال:
أن المجلس العلمائي وجه آخر لولاية الفقيه. دولة في دولة. مؤسسة سياسية حاكمة. مؤسسة عندها قطيعة سياسية مع المؤسسات الرسميَّة. لا تعترف بالمؤسسات الرسمية. لها الأمر والطاعة وإن خالف أمرها المجلس المنتخب، والقيادة وحتى الجيش، وذلك من منطلق طابعها المقدس. المؤسسة من طائفة تعيش خصوصية توحد السياسي بالديني بصورة أكبر.
هذه كلها أفكارٌ جمعها المقال.
هذا الفكر تحريض واستنفار وإعلان حالة طوارئ بدرجة اللون الأحمر ليس ضد مؤسسة علمائية فحسب وإنما ضد طائفة بكاملها.
لو وقفنا وقفة سريعة لمحاكمة هذه الأفكار لوجدناها أفكاراً خطأ.
(المجلس وجه آخر لولاية الفقيه) استباق للأحداث، رجم بالغيب، وولاية الفقيه لا تحتاج إلى مجالس، ولاية الفقيه ، للفقيه العدل، المتوفر على الشروط لا لرأي الأغلبية، والمجلس يأخذ برأي الأغلبية ما لم يخالف ذلك حكما شرعياً.
(دولة في دولة) كل مواد وبنود المجلس ليس فيه شمّة هذا الأمر، وهو يصرّح بالتعاون مع المؤسسات الرسمية فيما هو خير الوطن والأمة.
القطيعة التي يتحدث عنها المقال مع النظام والمؤسسات الرسمية قول زور، فإن المعروف شعبياً بأن رأي العلماء كان فيما قد رآه عدد كبير من الناس مع دخول الانتخابات وليس مع مقاطعتها في التجربة السابقة، أما التجربة اللاحقة فلا كلام عن هذا، ولكل حادث حديث، والظروف تتغير، وبتغير الظروف يتغير الحكم.
هناك أكثر من لقاء مع جلالة ملك البلاد لا لأمور شخصية عند العلماء وإنما في الشأن العام، وفيما يبحث عن مصلحة هذا الوطن.
الأمر والطاعة المطلقان لله ولرسوله صلى الله عليه وآله، وفي نظر الإمامية لخليفة الرسول صلوات الله وسلامه عليه وآله وليس للمجالس التي تأخذ برأي الأغلبية.
وولاية الفقيه مستمدة من ولاية الإمام المعصوم عليه السلام، وما دام متقيّداً بالإسلام فكراً وعملاً، وواجداً للشروط.
وإذا كان موقف تابع لهذا المجلس أو ذاك فيكون عن قناعة واطمئنان من هذا الجمهور بهذا النفر وليس من منطلق ولاية الفقيه. إلا أن يكون هناك فقيه يستند إليه الرأي ويطمئن المؤمنون إلى فقاهته والاستناد لرأيه، وتصحّ له الولاية، وذلك أمر غير مرتبط أساسا بالمجلس العلمائي، ولا بعضويته، ولا يضفي عليه المجلس شيئاً جديداً في هذا المجال
(1).
والطائفة التي تعيش خصوصية توحد السياسي بالديني بصورة أكبر طائفة تفتخر بذلك، وهذا يُمثّل التزاماً حقيقيا بالإسلام في هذا الموقف، وأنا لا أرضى بتهمة الإخوة الإسلاميين من السنة حيث يرميهم المقال بغير ذلك، فإن الإخوة الإسلاميين السنة أيضا يتوحد عندهم السياسي بالديني وبصورة كاملة.
– هذا المقال يعني بالضبط أن سلامة العباد والبلاد وبقاء الحكم في يد مستحقيه يتطلب أن لا فقيه ولا مقدس ولا طائفة توحّد بين السياسي والديني؛ وهذه دعوة صريحة لسياسة {يُقتّل أبناءهم ويستحي نساءهم}.
فكر متطرف إرهابي جداً! ماذا تفعل هذه الطائفة؛ تحرق نفسها؟ تحرق فكرها؟ فكرها يوحد بين السياسي والديني، فإما أن توجد بلا هذا الفكر وإما أن تُحرق لأنها خطر على الحكم، وخطر على العباد والبلاد. نعم لابد أن تحرق وهي لا تتنازل عن فكرها. أي فكر هذا الذي يذهب إليه المقال، وأي إرهاب يعمله هذا الفكر؟!
وإذاً لابد أن تلاحق كل نبتة تُنذر بوجود فقيه، لابد أن تلاحق وتوأد ليُكفى العباد والبلاد شرّها، أهكذا يا صاحبة المقال؟ والكلام ليس عن صاحبة المقال، وليس عن الجريدة. الكلام عن ما هو أهم، وعن الخلفيات السياسية وراء هذا المقال، وهي خلفيات لا ترتبط بهذه الكاتبة.
وهل تريد هذه المقالات أن تفرض على أهل المذاهب أن يأخذوا فتاواهم الدينية في أي شأن من الشؤون من المجالس الوطنية؟
تستكثر عليهم أن تكون لهم فتواهم، مرة تتحدث معي عن موقف سياسي يُتّخذ ضد السلطة، ومرة تتحدث عن حلال وحرام. من حقي أن أأخذ الحلال والحرام من مصادري الخاصة. وهل جيء بالمجلس الوطني ليفتينا في الحلال والحرام؟ وفي ما يجوز وما لا يجوز؟
– أنا أسأل كيف يتعامل هذا الفكر مع دولة جارة شقيقة عزيزة يتحد عندها السياسي بالديني على المستوى الرسمي وتعلن أنها تُحكِّم شريعة الله في مجال السياسة مفتخرة بذلك؟
نحرق السعودية؟ السعودية دولة إسلامية تفتخر بأنها تحكّم شريعة الله، وهي توحد بين السياسي والديني، فهل نحرق الجارة الشقيقة؟!
– نعم إنه فكر إرهابي متطرف بحق وإن لم يكن وراءه شخص يمارس الإرهاب على المستوى العملي.
ب- الرأي في القضاء:
أشم من كلمات الصحافة أن هناك عداءً من نفر لمؤسسة القضاء، وهذا الفهم خطأ كل الخطأ. كررنا المطالبة بإصلاح القضاء، ومن يكرر المطالبة بإصلاح القضاء فهو لا يرفض مؤسسة القضاء أساساً.
نحن نطالب بالإصلاح، ونطالب القاضي أن يراعي الناحية الشرعية في التحاقه بالقضاء؛ أيملك الكفاءة أو لا يملك الكفاءة؟ الكفاءة العلمية، وكفاءة العدالة. نحن نرفض قاضياً لا يملك كفاءة علمية، ونرفض قاضيا له من العلم ما هو وفير إلا أنه يفتقر الشرط الثاني المُسلَّم به من ناحية فقهية وهو العدالة.
ويبقى الإصلاح الإداري، والإصلاح من جهات أخرى أمرا مطلوبا ولكن لبّ المسألة أن يكون القاضي كفوءاً.
وقد تكرر سؤال بعض الإخوة الذين يرشّحون للقضاء لي شخصيا عن الالتحاق، فما كنت أجيب أحدهم بالنفي على الإطلاق، وإنما كنت أدل على الشرطين، وعلى أنه يملك قراره أو أنه لا يملك قراره، فإذا كان الشخص متوفّراً على الشرط العلمي، وشرط العدالة، وكان قرار القضاء بيده فنحن محتاجون إلى مثل هذا القاضي.
اللهم صل وسلم على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولجميع المؤمنين والمؤمنات أجمعين، ولوالدينا وأرحامنا وقراباتنا ومن أحسن إلينا منهم إحسانا خاصا، ووفقنا لمراضيك.
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 – أما الملازمة إيجاباً وسلباً بين ولاية الفقيه وبين حالة التوتر وتقويض الأمن فيترك بيانها للخطبة القادمة إن شاء الله.

 

زر الذهاب إلى الأعلى