خطبة الجمعة (168) 16 شعبان 1425هـ – 1 اكتوبر 2004م

مواضيع الخطبة:


 حضارة الطين وحضارة الإنسان(19) + يومان للإمام القائم (ع)+أوربا وشرط الزنا وأمريكا والأذان الواحد+وضعنا الداخلي

نحن مع العلاج الجدري والجاد والسريع ما أمكن لمشكلة البطالة والأجور ونقص الخبرة ومشكلة الفقر بكل أسبابها ومنابعها المتعمدة وغير المتعمدة.

الخطبة الأولى

الحمد لله حمداً دائماً أبداً. لم يتخذ ربنا صاحبة ولا ولداً، ولم يكن له شريك في الملك، ولم يكن له وليٌّ من الذّل وكبّره تكبيراً.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم تسليما كثيراً.
أوصيكم عباد الله ونفسي الخاطئة بتقوى الله، وجذر التقوى المعرفة، وثمرتها العمل الصالح، وعاقبتها جنة من الله ورضوان. والنّاس بلا تقوى حياتُهم عداوة وخصام، واستباحة محارم وكيدٌ وانتقام. وتقوى المرءِ حاجزة له عن السقوط، وواقية غيرَهُ من شرِّه، فالتقوى حليفُها الخير، ولا شر من متّقي.
اللهم صل على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وأعذنا من أن نظْلِم أو نُظلم، أو نضِل أو نضل، أو نَجهلَ أو يجهل علينا يا عائذاً من كل سوء، ويا كافياً لا كافي من دونه، ولا ملجأ سواه.
أما بعد فهذه مواصلة للحديث في موضوع حضارتان:
حضارة الطين وحضارة الإنسان:
الحضارتان وصناعة الإنسان:

الإنسان القوي الذي لا تأسر روحه الأحداث، ولا تستعبده الدُّنيا، ويملك القوة التي يصنعها ولا تملكه، ويبقى له توازنه واتزانه في كل الظروف هو صناعة حضارة الإيمان والقرآن كما تقدم.
أما إنسان حضارة الطين المصنوع على يدها فهو إنسان ضعيف مهزوز في إنسانيته، يمكن أن يصنع القوة في الخارج لتثير فيه الغرور والطيش والجنون، وأن يتقدم على يده البناء المادي ليطيح بإرادته وإنسانيته، ويسترقَّ وجوده، ويُقزِّم معناه.
وإليك طائفة من الآيات التي تُقدِّم صورة عن إنسان الحضارة المادية فيما يخسره من إنسانيته، ويفقده من معناه، ويعتريه من نقص في قيمته بالقياس إلى ما عليه واقع تكوينه وفطرته.
تقول الآية الكريمة {كَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ كَانُواْ أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلاَداً فَاسْتَمْتَعُواْ بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُم بِخَلاَقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ بِخَلاَقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُواْ أُوْلَـئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الُّدنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}(1).
المخاطبون للآية الكريمة فيما يظهر الكفارُ ومنافقو ومنافقاتُ هذه الأمة. {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ اللّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}(2).
وما خاض فيه هؤلاء هو عداوة القيم السماوية الرفيعة ومواجهتها وهؤلاء، وهم أصحاب الاتجاه المادي، يستمتعون بنصيب من المادة يكون لهم في الدنيا ولكن أعمالهم محبطة لا تغني يوم القيامة حيث النظر إلى الروح والمعنى لأنها تهدم صاحبها ولا تبنيه، وذاته خاسرة تفقد من خير غَنَتْ بها فطرتها، ويلمُّ بها نقصٌ شديد.
وفي معرض الحديث عن قوم عاد، وحضارتهم من حضارة الطين، وفي خطاب للكفار زمن القرآن يقول الكتاب الكريم {وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُم مِّن شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون}(3).
السمع والأبصار نوافذ الإنسان على العلم، والأفئدة مصنع المعرفة ومركز الإدارك والتقدير والتدبير والحكمة، وهي مواهب الله في الفطرة، وكلها فاقدة لقيمتها العالية ودورها الكبير في صناعة الإنسان السويّ ونموه وكماله ونضجه وهداه وإثراء إنسانيته وتوسيع أفقها بفعل جاهلية حضارة الطين، مع التمكين المادي، وبلوغ القوة المادية ما بلغت.
فالباطل يمكن أن يُقيم حضارة ماديّة ضخمة ولكن بلا إنسانية شامخة، وإنما الإنسانية في ظل هذه الحضارة هابطة منسحقة مضيَّعة، وهي بقدر ما تتعملق في الخارج، وتتركز قيمها في نفس الإنسان تأكل من معناه وإنسانيته، وتهبط بمستواه من حيث هو روح كريمة، ومشاعر طاهرة، وعقل حكيم، ومضمون سام خالد بإذن الله.
وهذه طائفة من الآيات الكريمة الأخرى في هذا الموضوع:
{أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاء عَلَيْهِم مِّدْرَاراً وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ}(4).
حضارة مادية قوية، وغنىً باذخ، وثروة زراعية متقدمة لكن إنسانها مذنب ذنباً لا يستحق معه الحياة عند الله، ومجتمعها ساقط سقوطاً لا يصلح معه للبقاء. والإغراق في الذنوب، والوغول في الخطايا هو غاية الوهن، وضعف الشخصية الإنسانية وانحلالها.
{أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ}(5).
تقدم عمراني، وفنٌّ مادي راق، وقوة على الأرض لكن وراءها إنسان مضيّع للهدف، خاوٍ من القيم، يقوده العبث، وينفق العمر والفكر والنشاط في ما هو ضرب من ضروب التَّلهي الذي لا يقع خطوة على طريق الغاية الكبيرة النبيلة المربحة. ذلك أن المنطلق ماديٌّ لا يلتفت إلى الروح، وجاهلي منفصل عن الله.
{أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ (146) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (147) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ (148) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً فَارِهِينَ (149) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (150) وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ}(6).
مجتمع أقام حضارته المادية مفصولةً عن هدى الله، غير آخذ بمنهجه، ولا مستقيم على طريق تقواه، منساقاً وراء قيادة غير مؤمنة، مسرفة على نفسها، متجاوزة لحدِّ عبوديتها، مستكبرة على بارئها ومدبّرها.
إنسان هذا المجتمع فقد الصلاح في نفسه، وملك الفساد داخله، وأُعطبت إنسانيته بماديته فكان دوره الإفساد، ونشاطه للخراب، وناتجه التشويه لرسالة الحياة، وهدف الوجود.
وواضح أن إقامة حضارة مادية باذخة على الأرض فيها إسقاط الإنسان، وإطفاء نور الفطرة في داخله، وتفريغه من جماله المعنوي، وإقبار قابلياته الإنسانية الخيرة لا يعد إصلاحاً، ولا يُعقِب فلاحاً ولا نجاحاً. فالمنحدر عن خط الله، وهو مسرف جزماً، مفسد لا مصلح {الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ}(7).
{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ}(8).
هؤلاء أقوام أشادوا ألواناً من حضارة المادة متفوِّقة على الأرض، على منأى من قيم السماء فانطمست معالم الهدى والنور في ذواتهم، وخسروا الحكمة والبصيرة فكان أن طغوا وأكثروا في البلاد والعباد الفساد، وكانوا وراء الظلم والضلال في الأرض حتى صبَّ عليهم ربُّك سوط عذاب.
{وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ}(9).
خلق الله الإنسان في أحسن تقويم، ومعادلة تكوينية تضعه على طريق سعادته، وتُبلِغُه غايته بشرط حسن إرادته فانقسم فريقين؛ فريق نما وزكا وسما وزاد نوراً ورشداً وهدى بأن انشدّ إلى منهج الله وأقام حياته على هداه { إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}
وفريق انحدر عن الصراط، وراهن في حياته على الأرض، وانكبَّ على الطين، فكان أسفل سافلين، بلا رشد ولا حكمة، ولا هدى ولا نور، ولا هدف كبير ولا نية صالحة، ولا تطلّع واسع، ولا رؤية فسيحة، ولا خُلُق كريم، ولا عمل صالح، ولا تقدير له صائباً، ولا تسليم فيه بالحق {ثم رددناه أسفل سافلين} وكأنه عاد حيواناً مفرّغاً من كل ما تغنى به إنسانية الإنسان القويم، بل من الناس والجن من يكون أكثر بعداً عن الإنسان في هداه وطهره وسموه من الحيوان، وهؤلاء الذين هم أكثر انحدارا من الحيوان كثير {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَـئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ}(10).
{وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3) }.
عدا من استثنتهم الآية الكريمة الأخيرة يُقسم الله سبحانه أنهم في خسر. هذا الخسر يبدأ فقداً في وزن إنسانية الإنسان، ومقدار هداه، واستعدادات صلاحه، وقدرته على الاستقامة، وقبوله للحق، ورضاه بالعدل، وأخذه بالهدى، ونقص زكاة في فطرته، ونقاء في روحه.
وهذا الخسران مستتبع لخسران الرضى والاطمئنان والأنس بالله في الحياة، وإمكان إقامة المجتمع السعيد في الدنيا والألطاف الإلهية الممنوحة للصالحين فيها وجميلِ موعود الله في الآخرة لمن ارتضى.
فالإنسان أول ما يخسر بإدباره عن ربِّه يخسر من ذاته ومن جماله وكماله ونوره وهداه ليخسر ثانياً لذة روحه في الحياة وبعد الممات، ويعيش متاعب ضياع الروح في الدنيا وشقاء الآخرة.
وأمَّا متعة الكافر في هذه الحياة فمتعة بدن، ولذة حيوان لا استقرار لها ولا مقام، وبعض الحيوان أغزر منه لذة في جانب البدن، وأغلط شهوة، وأكثر تمّكثاً في هذا التمتع.
اللهم صل على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، ولوالدينا ومن أحسن إلينا إحساناً خاصاً من مؤمن ومؤمنة، ومسلم ومسلمة.
اللهم أتمم لنا نورنا، واهدنا ولا تضلَّنا، وباعد بيننا وبين أهل الزيغ والضلال، واجعلنا في مأمنٍ من لدنك من شر الدنيا وشر الآخرة، ولقنا خير الدارين يا رحيم يا كريم.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2) كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4) كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (7) ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8)}

الخطبة الثانية

الحمد لله الذي تُسبِّح له الأشياء كلُّها، وهي خاضعة له، مستجيبة لأمره، منقادة لإرادته، مقهورة لحكمه، مفتقرة لفيضه، قائمة بتدبيره، لا يملك منها شيء شيئاً، ولا ينفع من دون الله بعضها بعضاً.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وزادهم تحية وبركة وسلاما.
عباد الله وخلقَهُ الذليل بين يديه فلنتقِ الله الذي لا عزَّ إلا من عنده، ولا غنى إلا به، ولا خير إلا برحمته، ولا دافع لقَدَره، ولا مانع لأمره. وما أشقى امرءاً أضلَّه هواه فعبد غير الله، أو أشرك به أحداً.
وإنه لظلم عظيم أن يُنسى الله عزَّ وجل لقوة قوي من عبيده، ولقهر قاهر ممن يملك وهو جبار السماوات ولأرضين. وما أكثر ما ننسى قوة الخالق لقوَّة المخلوقين، وأخذَ المالك لأخذ المملوكين؛ فنطلبَ رضا المخلوق، دون رضا الخالق، ونخشى سخط المملوك ولا نخشى سخط الخالق.
اللهم اغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات، وأعذنا من أن نخذل حقّاً، وننصر باطلاً، أو أن نقول زوراً، ونستحلّ ظلماً، وجنِّبنا الخلل والخطل.
اللهم صل على خاتم النبيين والمرسلين، محمد الصادق الأمين، وعلى علي أمير المؤمنين، وعلى فاطمة الزهراء، الصديقة المعصومة، وعلى الحسنين الزكيين، الإمامين الطاهرين.
وعلى الأئمة الأمجاد علي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، والإمام المنتظر المهدي.
اللهم عجّل فرج وليّك القائم المنتظر، وانصره نصراً عزيزاً، وافتح له فتحاً مبيناً، واهزم أعداءه، وانصر أولياءه، وأحي به دينك، وأظهر به أمرك يا قوي يا عزيز.
عبدك الموالي له، الممهد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، وفقهم لمراضيك، سدد خطاهم، بلغهم مناهم مما يرضيك.
أما بعد أيها الأعزاء من المؤمنين والمؤمنات الكرام فإلى هذه الكلمات:-
أولاً: يومان للإمام القائم (ع):-
1) يوم الظهور والثورة:

وهو يوم مواجهة الطاغوتية العالمية والجاهلية المنتشرة التي تكاد أن تكون قد دخلت كل بيت. ولا يُدرى أنه يبقى بيت لم تدخله الجاهلية حين ظهور الإمام عليه السلام أو لا يبقى.
هو يوم على الكافرين والمؤمنين عصيب إلا من رحم الله؛ عصيب على الكافرين لما يواجهونه من شدة الإمام القائم عليه السلام، وقتل ذريع، ونسف كيان، وعصيب على المؤمنين لأنه يوم امتحان كبير، يوم ابتلاء عظيم، تُمتحن فيه النفس المؤمنة.
يوم القائم عليه السلام يحتاج إلى مؤمن من مستوى خاص، وعلينا أن نؤهّل أنفسنا لذلك المستوى لئلا نخسر قضية ارتباطنا بالإمام القائم عليه السلام.
يوم شدّة، يوم هول، يوم مواجهة للطاغوتية العالمية، ونحن لا نصبر حتى على المعارك الصغيرة، فكيف بمن لا يصبر على معركة صغيرة أن يصبر على معركة هي أكبر المعارك، يضحّي فيها المؤمن بكل شيء، ليس بنفسه فقط وإنما بأهله وولده، ويضحي فيها بما أسسته التربية المنحرفة في داخله، يضحّي فيها بقناعات بنتها آثار الجاهلية فيه، ومن امتحانه أن يسلّم تسليماً.
يوم يحتاج إلى أن يعد المؤمنون له، فإنه يحتاج إلى عدة وعدد، ويوم المواجهات، ويوم الكفاح، ويوم يتطلب مستويات راقية تكون وجها لثورة الإمام القائم عليه السلام… يوم يتطلب صبرا لم تعرفه حياتنا كلّها، فهو يوم يحتاج إلى إعداد، ونحتاج اليوم إلى أن نعدّ أنفسنا له لتحمّل مسؤولياتنا.
يوم قرب أو بعد لابد أن يعيش المؤمنون معركته اليوم. وتأجيل معركته إلى غد تفريط بمعركة الغد، التحضير. إعداد جيش الإمام القائم عليه السلام، إعداد فقهاء يوم القائم عليه السلام، إعداد خبراء يوم القائم عليه السلام كلّه اليوم وليس غداً، فإذا لم يكن اليوم إعداد فهو الخذلان في الغد.
يوم الثورة يوم قد جُهِّزت فيه كل الاستعدادات، اتُخذت فيه كل الضمانات، ولا تأجيل إلى ساعة الصفر أو لحظة الصفر. لحظة الصفر ليست لحظة الإعداد، اليوم يوم الإعداد، وغداً يوم التنفيذ.
2) يوم الحكومة والدولة:
وهو يوم الفكر الجديد والطرح المفاجئ للكثيرين، فمن لم يتعمق في الإسلام، ولم يحاول أن يتثقف بالثقافة الإسلامية الأصيلة، وأن يلجأ إلى علم أهل الهدى صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، ويتفيأ بظلال مدرستهم بحق وصدق فإنه سيفاجأ يوم حكومة الحقِّ بفكر يستغربه وينكره وينفر منه. بعد أن تتشرب القلوب والنفوس والعقول بديمقراطية الغرب وقيمها، وتُنسى ولاية الإمام الحق، وحاكمية الله، وأن الحكم لله وحده وأن التشريع له، وتعيين الإمام من قبله، وأن الإمام عليه السلام يُطاع طاعة قائمة على البصيرة في صورة الطاعة العمياء … بعد أن تنفصل النفس عن فهم الإسلام، وتأنس إلى الفهم الجاهلي ستواجه يوم الإمام عليه السلام بالإنكار.
هو يوم تنقلب فيه الأعالي أسافل، والأسافل أعالي. أصحاب الجاه الذين أخذوا مقاماتهم من الجاه، ومن المال، ومن المواقع الرسمية بلا إيمان وليس كل من كان غنياً كذلك، وليس كل من كان له موقع كذلك، فمن أصحاب المواقع من هو مؤمن، ومن أصحاب المال من هو مؤمن، ولكن الذين أخذوا مقاماتهم من المال ولا غير، من الشهرة ولا غير، من الموقع الرسمي ولا غير وهم أعالي اليوم أسافل الغد في دولة الإمام القائم عجل الله فرجه.
والمغمورون من أصحاب الإيمان والعلم والإخلاص والقابليات الروحية الرفيعة والاستعداد للتضحية والفداء والذين هم جنود لله في الأرض قد أعدوا أنفسهم ليوم الإمام القائم عليه السلام أسافل اليوم أعالي الغد، ولك أن تقول بحق ستكون الأعالي أعالي، والأسافل أسافل واليوم الأعالي أسافل، والأسافل أعالي.
هذا القلب في الموازين وفي المقاييس وفي المواقع سيرمي به إلى أن يأخذ العالي مكانه العالي، والسافل مكانه السافل.
هو يوم دولة الحق والعدل والفقه والجدّ والكفاءة والخبرة المركّزة. فلنقس أنفسنا واستعدادنا لذلك اليوم.
هو يوم للدنيا العريضة والدّين القويم معاً.
هو يوم يندحر فيه الكفر والنفاق والجهل وتكون الكلمة فيه للمؤمنين.
ثالثاً: أوربا وشرط الزنا وأمريكا والأذان الواحد:-
– أوربا تشترط على تركيا أن لا تُدين الزنا أو تعاقب عليه وإلا فلا رضى بها للانضمام للاتحاد الأوروبي { وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ ….} واليوم المطلوب اتباع ليس ملة اليهود والنصارى المحرفة إنما اتباع الإنكار الكامل لله سبحانه وتعالى والجحود به.
– أما أمريكا وهي جادة في أن تصبغ بصبغتها المناهج الدينية في البلاد الإسلامية، وأن تؤمم المساجد والمؤسسات الدينية لصالحها فإنها تعمد اليوم إلى خطوة أخرى وهي أن يوحّد الأذان في مصر مثلاً، فماذا يعني توحيد الأذان؟
يعني أن الإذاعة تبث شريط الأذان موصلاً إلى كل مساجد مصر، لئلا تنطلق كلمة أشهد أن لا إله إلا الله على لسان أي مصري مطلقاً، وبعد أن يُحصر الأذان في أذان الإذاعة يأتي الإلغاء التام.
أمامكم سيل من التشريعات المستوفدة المستوردة من الغرب لمحو الإسلام فانتبهوا.
– هذا والأمة تفترق لأن هذا يزور القبور وذاك لا يزورها، هذا يسبل يديه في الصلاة وذاك يكتف، لأن هذا وذاك يختلفان في بعض التفاصيل. والكل في غفلة عن الإسلام في خطوطه الرئيسة وفي ركائزه الأولى.
رابعاً: وضعنا الداخلي:
اقتصادياً:
– نحن مع الخطوات والإجراءات والتطوير والتكييف الإيجابي المدروس والمحسوب النتائج علميّاً لسوق العمل والتعليم والتدريب والاقتصاد من أجل وضع اقتصادي متّسم بالعدالة والحيويَّة والانتعاش والقدرة على التقدم بعيداً عن المحاباة والمحسوبية وترضية خواطر المتنفذين وتركيز الطبقية الفاحشة، ومن غير إضرار بحركة النمو الاقتصادي في إطارها الشرعي النظيف، ومن غير مضاعفات سيئة تتسبب فيها المفاجآت والانتكاسات التي لم تتحسب لها الدراسات المعتمدة في فاجعة اقتصادية ذريعة.
نحن مع العلاج الجذري والجاد والسريع ما أمكن لمشكلة البطالة والأجور ونقص الخبرة ومشكلة الفقر بكل أسبابها ومنابعها المتعمدة وغير المتعمدة.
سياسياً:
لسنا مع الكلمة حين تتجاهل وزن الوضع السياسي، وطاقته على الاحتمال(11)، ولسنا مع كبت الكلمة الناقدة التي تتحمل مسؤولية التطوير لهذا الوضع، وأن ترفع من سقفه، وتزيد من سعته، وتدفع به قدماً إلى الأمام.
ثم إنه من حقّ المرء أن يُذهل لتحميل الأمور ما لا تحتمل، والتجاوز بالحدث عن حدوده، وإعطاء رد فعل حكومي أو شبه حكومي في بعض الأحداث ذات الطبيعة المحدودة يحوّل الساحة الإعلامية والسياسية إلى ما يتناسب مع حالات الطوارئ الصعبة، والأحداث المهولة ذات الطبيعة العامة الشاملة، والتهديد الأمني الجدي الواسع بصورة تثير روح الانقسام الاجتماعي الخطير، وتحدث حالة من الغليان والتوتر في دائرة الوطن الواحد.
ويُنسى في هذه الحالة القانون وضوابطه وحدود ما يفرضه من حقوق وواجبات حتى ممن يُشرفون على تطبيق القانون ويُطالبون بالتقيُّد به؛ فإن اللجأ إلى تثوير الشارع وتحشيد مختلف القطاعات في صورة تظاهرة إعلامية واسعة، وشحن الأجواء بروح التوتر والغليان والتوثّب والترقب والتهديد والتوعد تجميد للقانون وتنكٌّر له، وخروج عليه.
وقد يضطر إلى الصراخ من لا يملك تطبيق القانون فيلتمس من ذلك عذراً لصراخه، وهو عذر غير وارد لمن بأيديهم تطبيق القانون. والمطالبةُ هي أن يكون التطبيق – لو أُريد- عادلاً منصفاً غير متزيّدٍ ولا متأوّل.
والغريب جدّاً أن أموراً بالغة الخطورة قد تتبنى الحكومة اتهام البعض بها – وإن لم تتحمل ذمتنا مشاركتها في هذا الاتهام فإثبات أي شيء مرهون عندنا بالبرهان – لكن لا الحكومة مع هذا، ولا الإعلام المناصر لها يثيران ضجة إعلامية صاخبة بحجم الضجة الإعلامية التي نجدها منهما في موارد أخرى دون تلك الموارد خطورة بكثير. وهذا أمر متكرر فلِم هذا الكيل بمكيالين متفاوتين؟!
أريد أن أقول أن عندي خوفاً؛ خوفاً من تحريك مظاهرات على المستوى الرسمي، تقابلها مظاهرات ومسيرات على المستوى الشعبي، خاصة إذا تلوّن نوع من المظاهرات بلون طائفي، وتلون النوع الآخر بلون طائفي آخر. هذا سيقودنا إلى وضع فوضوي تتقطع فيه الأواصر والصلات المتينة بين المسلم وأخيه المسلم، وهذه جريمة لا يصحّ أن يرتكبها المجتمع بكل فئاته وقطاعاته ومستوياته الرسمية والشعبية.
احذروا جدا من فتنة طائفية يبتدأ تحريكها من مظاهرات تتحرّك من المنطقة الفلانية ذات الطابع السني، ومظاهرات أخرى تتحرك من منطقة أخرى طابعها الطابع الشيعي. أرفض شخصياً مثل هذه المظاهرات والمسيرات وإذا كان نفر قد حرّك بعض المظاهرات ذات اللون الخاص فينبغي للآخرين أن لا يحرّكوا مثل هذه المظاهرات، وأما قضية عبدالهادي الخواجه فتكون المطالبة بفك اعتقاله بكل الأساليب الأخرى الأكثر هدوءاً.
أنا أدعو اللجنة المتابعة لموضوع عبدالهادي الخواجه أن تتخلى عن مسيرة اليوم لتبرهن على حرصها الشديد على استقرار الوضع الأمني، ونحن معها في المطالبة بفك اعتقال عبدالهادي الخواجه.
اللهم صلّ وسلم على عبدك ورسولك وحبيبك المصطفى محمد بن عبدالله وآله الطيبين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين.
اللهم أعنا على أنفسنا، ولا تُسلمنا لأهوائنا، واجعل عبادتنا لك، وجهادنا فيك، وطلبنا مرضاتك، وارزقنا عافية الدنيا والآخرة يا أكرم من سئل، وأجود من أعطى.
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ }
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 – 69/ التوبة.
2 67/ التوبة.
3 – 26/ الأحقاف.
4 – 6/ الأنعام.
5 – 128/ الشعراء.
6 – 146 – 152/ الشعراء.
7 – 152/ الشعراء.
8 – 6 – 13/ الفجر.
9 – 1 – 6/ التين.
10 – 179/ الأعراف.
11 – الوضع السياسي يختلف من بلد إلى بلد، وكل وضع سياسي له طاقة احتمال، رجاله لهم احتمالهم الخاص، الجو العام له احتماله الخاص، جمهوره له احتماله الخاص، بعض المناخات السياسية، وبعض الساحات السياسية المتقدمة تحتمل الكثير من الحرية، والبعض الآخر من الساحات السياسيَّة لا يحتمل الكثير من الحرية، والقفز على المستوى مضرّ جداً.

 

زر الذهاب إلى الأعلى