خطبة الجمعة (153) 17 ربيع الأول 1425هـ – 7 مايو 2004م

مواضيع الخطبة:

 

حضارة الإسلام (6) – مولد الرسول والإمام (ع) يوم للانقياد – الرسول والأمَّة – العريضة الشعبية وتداعياتها.

 

العريضة ليست للتحدي، ولا تمثل تمردا على النظام والقانون، ودليل ذلك العدول عن الصيغة الأولى لتدشينها مع كونها في نظر معتمديها على الأقل مدعومة من الميثاق ودستور سنة الـ73 ودستور سنة 2002.

 

هذه العريضة تمسّكت في مطالبتها بالتعديل بالميثاق ومشروع الإصلاح وهي بذلك لا تسعى لهدمهما.


الخطبة الأولى

الحمد لله الهادي تفضُّلاً، والذي لا يُضِلّ إلا جزاء، ويعفو عن الكثير، ويعطي الجزيل على القليل، ولا توفيق لخير إلا من عنده، ولا تيسير لسبيل الطاعة إلا بإذنه، ولا حَيد عن المعصية إلا بعصمته، فالجميل كلُّه له، والمنُّ كلّه من عنده، ولا نفع له من أحد من عبيده، وهو الغنيُّ المطلق الذي ليس فوق غناه غنىً يطلبه.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله اصطفاه وأولاه من رعايته ما أولاه، وفضّله تفضيلاً كبيراً، وشرّفه تشريفاً عظيماً صلَّى الله عليه وآله وسلم تسليماً كثيراً.
أوصيكم عباد الله ونفسي الخاطئة بتقوى الله والوقوف عند حدوده، وعدم تقحُّم حرمات شريعته؛ فأخوف ما يُخاف قدرته، وأشمل ما يكون إحاطةً علمه، وأشدُّ ما على المجرمين غضبُه، وأثقل ما عليهم نكاله، وأدوم ما يدوم من عذاب عذابه.
ألا فلينظر المؤمنُ مِنْ نفسه ما تولَّعت به من حرام، ليكفَّها عنه رحمة بها، وإشفاقاً عليها من غضب الجبار الذي لا تطيقه السماوات والأرض، وتندكُّ له الجبال، وتسقط الشامخات، ولا يثبت له قلب بشر على الإطلاق. ولنختر العوذ بالله، ونتعجل الأوبة والمتاب، قبل يوم الغُصّة والعذاب.
اللهم صلّ على محمد وآل محمد، وأعذنا وإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين مما استعاذ منه عبادك المخلِصون، واغفر لنا، وصِرْ بنا إلى ما صار إليه من عاقبة خير، ومنقلب كريم عبادُك الصالحون.
أما بعد فيدخلنا الحديث المتتابع عن موضوع 
(حضارة الذكر وحضارة النسيان)(الحلقة السادسة) في الحديث تحت عنوان:
حضارة النسيان:-

والنسيان جهل من ناحية القيمة العملية كما تقدَّم، فالناسي لما علم لا رشدَ ولا هدى في تصرُّفه كالجاهل. والنسيان كارثة كبرى إذا كان لما تعني مراعاته الحياة، وإهماله الموت.
والحقائق الكبرى يمثل الالتفات إليها، والأخذ بها في صياغة الذات والمواقف سعادة الأبد ومنها سعادة الحياة، ويمثِّل إغفالها أو نسيانها شقاء الأبد ومنه شقاء الحياة، فإن كان لك أن تنسى شيئاً من الحقائق التي يضرُّ بك نسيانها فلا تنسَ شيئاً من الحقائق الكبرى وأوّلُها الخالق العظيم فتشقى بعذاب مقيم، وخلود في العذاب، على أن أحداً لا ينعم في الدنيا بحق ولا يستريح وهو فاقد لله، خال من الشعور برحمته ورعايته، والذاكرون لله بحقٍّ جنتهم غيرُ منتظرة، وإنما هم يعيشونها في داخلهم حتَّى في هذه الحياة.
والآن إلى عنوان حضارة النسيان:
حضارة النسيان تعني أن حضارة ما تقوم على الأرض، تستهدف أن تنأى بالإنسان عن وعي ذاته، عن ذكر ربه، عن استحضار الحقائق الكبرى التي تجعله على خط العبادة لله، وتترفّع به عن عبادة الطاغوت.
حضارة النسيان تستخدم وسائل شتّى من أجل الإلهاء، من أجل الإغواء، تستلفت نظر الإنسان إلى ما هو عابر، وتأخذ بشعوره عما هو مقيم. تهوِّل له ما ليس فيه هول، وتهوّن أمام ناظريه ما هو عظيم الخطر، الجميل تحوّله في نظر الإنسان قبيحا، والقبيح تحوّله في نظر الإنسان جميلاً.
أقزام من البشر جند ما هنالك من الأحزاب تحوّلهم أرباباً مخوفين، يستحوذون على العقل، على الشعور، على الموقف العملي، والله العظيم تصغّره في نظر عباده، وتنسيهم عظمته.
حضارة النسيان خادعة، شيطانية، مغالطة، تقود سفينة الحياة في بحار من الوهم والخيال، حيث تري الإنسان الإراءة غير الحقيقية لذاته ولربّه سبحانه وتعالى، ولعظمة العظيم، ولا أعظم منه سبحانه وتعالى.
هذه الحضارة حضارة شيطانية، وهي ما يستهدف إيجاده في الأرض الشيطان، ويوسوس من أجل أن تكون واقعا شعورياً قائما في نفس الإنسان،وواقعاً خارجياً قائما على الأرض.
الشيطان يقود سفينة الحياة على خطّ النسيان والإلهاء والإغواء والوسوسة. وكل الطواغيت، وكل المضلين، جند للشيطان يعملون على نفس الطريق، ومن أجل الغاية نفسها.
صناعة شيطانية:-
هناك حضارة من صناعة إلهية رحمانية هي حضارة الذكر، وحضارة أخرى هي من صناعة الشيطان وجند الشيطان هي حضارة النسيان.
تقول الآية الكريمة:{وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}.
القوم الظالمون حركة الإغواء عندهم تنطلق من إغواء الشيطان لهم، ومجلسهم مجلس الشيطان، وإعلامهم إعلام الشيطان، وخططهم خطط الشيطان، وسياستهم سياسة الشيطان.
حين تجلس إلى ثقافة الظالمين، حين تقرأ كتاب الجبهة الطاغوتية في الأرض، تُصغي لمضامين قنواتها الإعلامية، وتتلقى منها باستسلام فأنت تماما تجلس إلى الشيطان، إلى حديثه، إلى وسوسته، تخضع إلى ضغطه.
{فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} القوم الظالمون ينسيك الشيطان من خلالهم، من خلال حركتهم، من خلال خطتهم، من خلال إعلامهم ذكر الله، ذكر ذاتك، ذكر الآخرة، ذكر ما يقوِّم لك الحياة.
الآية الأخرى: {… فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ} نسيان لم يخرج بيوسف عليه السلام عن حد العصمة لكنه يبقى نسياناً مرجوحاً بدرجة من الدرجات.(1)
{اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ} الشيطان يلتف على النفس، يغويها، يريها الوهم حقيقة، ويغيم في ناظريها الحقيقة، وتتحول النفس بكل ما فيها من مصادر خير، ومن كنوز هدى، ومن إضاءات إلى لعبة في قبضة الشيطان لمن استسلم للشيطان المرة والمرتين والثلاث.
هذا الإنسان الكبير الذي تعلّم كثيراً، وخبر الحياة كثيرا، وتراكمت عنده التجارب، وقرأ القرآن، وأدمن قراءته، وتعلم الفقه وأكثر من تعلّمه، حين يبدأ جولة من الاستسلام للشيطان يتحول إلى طفل ينسى ذاته، ينسى مصالحه، لا يعرف الخير من الشر. له معرفة فكرية غزيرة، ولكن هذه المعرفة الفكرية الغزيرة لا تلامس النفس، ينبني شعور على خلافها، وتختط النفس لها خطا آخر غير ما عليه الرؤية الفكرية النظرية.
وللشيطان جنود يعملون عمله {وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى} فالإضلال والغواية والإلهاء، وإلفات النظر عما هو المهم، وعما هو الجد، وعما هو الحق وظيفة دائمة لخط الشيطان، وجند الشيطان، لفرعون شخصا، فرعون نوعا، فرعون خطّاً.
هذه نصوص عامة تؤكد لنا قيام حضارة على الأرض من صناعة شيطانية؛ صبغتها أنها حضارة النسيان.
وهناك نصوص خاصة بمعنى أنها تتناول مواضيع خاصة يعمل الشيطان وجبهة الشيطان العريضة على أخذ ذاكرة الإنسان بعيدا عنها، وأخذ اهتمام الإنسان على منأى منها، ولا يعني النسيان هنا كما تقدم محو صورة الموضوع، ومحو صورة القضية المهمة المركزية، إنما يعني أن الشيطان وجند الشيطان ينزلان بمستوى النفس الإنسانية، ويملكان من الإغواء، ومن الإلهاء، ومن المغالطة، ومن التغرير ما يجعل الإنسان يقف من الحقائق الكبرى الصارخة موقف الناسي، على أنه ليس على نسيان من ناحية فكرية، ومن ناحية احتفاظ ألذاكره بصورة القضية أو الموضوع.
ألا ترى أن الطفل يرى الشيء كالنار ولكن طفولته، وضآلة خبرته، وضعف تقديره للأمور يجعله يقف من النار التي جرّبها مرة أو مرتين موقف من نسي حرارة النار، وأذى النار فيمد إصبعه حيث تحترق.
الإنسان الفيلسوف، الإنسان الفقيه، الإنسان الخبير، الإنسان الكبير بتراكمات تجاربه، وخبراته وعلمه يتحول هذا الطفلَ في تعامله مع القضايا الكبرى حين تصوغه يد الشيطان.
ومجتمع كله، وحضارة كلها تتحول إلى ذلك الطفل وأقل منه حيث تكون الصياغة شيطانية تعتمد النسيان، تعتمد إلهاء الإنسان، واغواءه واغراءه بالباطل.
من أكبر الحقائق التي تستقيم بالإنسان على الدرب، وتجعله لا يختار عبادة الطاغوت، ولا يقدّم شيئا على عبادة الله هو أن يذكر ربّه العظيم.
فإذاً لابد لحضارة الطاغوت أن تُنسي الناس الله، حتى يتسنى للطاغوت أن يُقام له وزن في الأرض وأن يُقدّر.
{قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ} في آية أخرى {فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ…}
وسائل للإلهاء، وسائل للإغراء، أمور وهمية مصطنعة، أمور صغيرة مكبّرة من أجل إلفات نظر الإنسان عن ربه وذاته، وحقيقة الآخرة، وكل حقيقة تدخل في صياغة ذاته لتكون قويمة {… فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ}.
{وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ} فمن ينسى الله يتحول إلى بهيمة، ويُقاد قود البهيمة، ويوضع على الطريق التي تضرّه وهو يبتسم، ويُغرى بالنار وهو فرح {نَسُواْ اللّهَ فَنَسِيَهُمْ}.
اللهم صل على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، ولآبائنا وأمهاتنا وجيراننا وأصدقائنا، وكل من أحسن إلينا إحساناً خاصّاً من مؤمن ومؤمنة، ومسلم ومسلمة.
ربنا لا تعاقبنا بذنوبنا فتحرمنا ذكرك، وتسلبنا شكرك، ويكون لنا من ذكر المخلوقين ما يصرف قلوبنا عنك، ويحجبها عن معرفتك، ويصدها عن النظر إليك.
ربنا اشغل قلوبنا بذكرك عن ذكر من سواك، وأذقها حلاوة الأنس بك، واجعلنا في رحلة دائمة إليك، وانأ بها عن استيجاب غضبك، وحرمان رحمتك يا أرحم من استُرحم، يا كريم يا جود، يا رحمن يا رحيم.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ}

الخطبة الثانية

الحمد لله كلَّما حمد الله شيء، وكما يحب الله أن يُحمد، وكما هو أهله، وكما ينبغي لكرم وجهه، وعزِّ جلاله. أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. خالق غير مخلوق، ورازق غير مرزوق، وليُّ كلِّ شيء، ولا ولي له من الذُّل، عزيز لا عزَّ كعزِّه، عظيم لا عظمة كعظمته. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله آتاه العلم والحكمة، وحباه العصمة، وبوّأه المنزلة الكريمة، والمقام المحمود. صلَّى الله عليه وآله وزادهم جميعاً تحيةً وكرامة وسلاماً.
أوصيكم عباد الله ونفسي الأمَّارة بالسوء بتقوى الله، وصرف الهمّ عمّا دون رضاه، وما أعدَّه من كريم ثوابه للمخلصين من عباده، وملأ السعداء من أنبيائه ورسله وأوليائه.
وإنّ نفساً خلقها الله لتسعَد برحمته، ويكون مأواها في جنته، وتفوز برضوانه، من الظلم الفاحش لها أن يضعها صاحبها على طريق غضب الله، ويعرِّضها لعقوبته، ويشقيها بالخلود في ناره.
ورضى مَن ينجي نفساً من شقائها وقد تعرَّضت لغضب الجبار؟! هل من رضى منقذ؟ هل من رضى منجٍبعد غضب الله؟ وماذا يردُّ عن النفس العذاب بعد سخط القهار؟! ويل لنفس رضي عنها الخلق، وسخِطَ عليها الخالق. ويل لنفس غرّتها الدنيا فأنستها الآخرة. ويل لنفس هان عليها الرب، وعظم عندها المربوبون.
اللهم اغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات، وأرنا الحقّ حقّاً فنتبعه، والباطل باطلاً فنجتنبه، وعرّفنا حقّك المتقدمَ على كلّ حقٍّ، ولا تجعلنا ممن يقدِّم عليه شيئاً، وأرِناك عظيماً فوق كل عظيم، جليلاً فوق كل جليل حتَّى لا نُعظّم أحداً كتعظيمك، ولا نهابَ أحداً مثل ما نهابك.
اللهم املأ قلوبنا بهيبتك، وخشيتك، وحبِّك والشوق إليك.
اللهم صل وسلم على نبيك الهادي، ورسولك الأمين، البشير النذير، والسراج المنير محمد بن عبد الله وآله الطاهرين. وصل وسلم على علي أمير المؤمنين، وإمام المتقين. وصل وسلم على فاطمة الزهراء، التقية النقية، الصديقة المعصومة. وصلّ وسلم على الإمامين الوليين الزكيين الحسن بن علي أبي طالب والشهيد الحسين.
وصل وسلم على الأئمة الهداة، والقادة الولاة علي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري العابدين الزاهدين.
وصل وسلم على إمام الزمان، وداعية السلام، وباعث الإسلام محمد بن الحسن المصلح المؤمّل، والقائد المنتظر.
اللهم عجل فرجه، وسهّل مخرجه، واملأ به الأرض قسطاً وعدلاً بعدما ملئت من أعدائه ظلماً وجورا، وانصره وانتصر به، وأعزّه وأعزز به المؤمنين من عبادك وأولياءك يا قوي يا عزيز.
عبدك الموالي له، السائر على طريقه، الممهد لدولته، والفقهاء العدول، والمجاهدين الغيارى، والعلماء الصلحاء، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين انصرهم على أعدائك، وأعزهم بعزك، وأيدهم بتأييدك، وردّ عنهم كيد أعدائك يا من هو على كل شيء قدير.
والآن أيها الأخوة الأعزاء من المؤمنين والمؤمنات تستوقفنا محطتان:
الرسول والأمَّة
بارك الله لنا جميعاً وللأمة الإسلامية يوم المولدين الشريفين؛ مولد منقذ البشرية محمد بن عبدالله خاتم النبيين والمرسلين صلى الله عليه وآله، ومولد محيي علوم أهل البيت عليهم السلام الإمام جعفر الصادق عليه السلام.
وتعالوا أيها الأخوة والأخوات نتعلم من رسول صلى الله عليه وآله.
بسم الله الرحمن الرحيم {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} { فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ حَسْبِيَ اللّهُ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ}(2) آيتان في سياق واحد، ثمّ آية أخرى ثالثة منفصلة { وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ }(3).
الرسول القائد: يعيش معاناة الإنسان، يفهمه، يقدّر مشكلاته، لا ينفصل عن همومه، همه يتسع لهموم الناس كل الناس، تلك الهموم الحقة، تلك الهموم البنّاءة. يستحيل عليه أن يكيد بإنسانية الإنسان، وبمصلحة الإنسان، يستحيل عليه أن يُهمل أي خطوة تقع على طريق إنقاذ الإنسان أي إنسان، أولم يكن رحمة للعالمين؟ وكيف يكون رحمة للعالمين وصدره يضيق عن رحمة بإنسان؟ وكرمه يضيق عن بذل ما في الوسع مما ينقذ الإنسان؟!
{عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} والخطاب في عنتم ليس لخصوص المؤمنين إنما
يدخل في الخطاب المنافقون، والمنافقون قسم من الكافرين، بفرق إظهار الكفر وإبطانه.
والعنت المشقة، ويعزّ على رسول الله صلى الله عليه وآله أن تشقّ حياة الإنسان، أن تركب المركب الصعب، أن تسوء الحالة الاجتماعية في المجتمع البشري، الحالة الروحية، الحالة الاقتصادية، الحالة السياسية، الحالة النفسية.
هذا على مستوى المجتمع البشري بكامله. وإنه ليصعب على رسول الله صلى الله عليه وآله أن يرى مجتمعا يعيش الضياع في بقعة من بقاع الأرض قربت أو بعدت وأن تتردى حياته.
ذلك الرسول العظيم يحمل الإخلاص للإنسان، ويصعب على نفسه الشريفة أن يتعذب إنسان، وأن يسقط، وأن يلحقه ضرر دنيا أو آخرة، تهمه مصلحة الإنسان كل إنسان، يهمه حاضره ومستقبله ومصيره، وتخطيط ذلك الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وجهده منصب على تخليص البشرية وإسعادها قربة لله عز وجل وهو معبوده الوحيد الذي لا يشرك به أحداً.
وبذلك يكون الرسول صلى الله عليه وآله في أفقه الوسيع مؤهلا لقيادة العالم، أما الهم المتقوقع، والشعور الحبيس في الإطار القبلي، أو الإقليمي، أو الفئوي، أو القومي، أو العنصري، أو المذهبي فيسلب صاحبه صلاحية القيادة الشاملة.
وما تقدم يجمله قوله عز من قائل {حَرِيصٌ عَلَيْكُم} والمخاطب هو نفس المخاطب السابق.
أما الذين يدخلون تحت قيادة الرسول صلى الله عليه وآله مسلّمين راضين، متبعين، وهم المؤمنون فتتعمق في نفسه الطاهرة، ومشاعره الكريمة، ومواقفه المسؤولة بهم الرأفة والرحمة، فيكون الأب الروؤف، الرحيم “أنا وأنت يا علي أبوا هذه الأمة” كما في النقل.
الآية الكريمة تقول { بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ } وهي صيغة مبالغة.
والرسول القائد قوي لا يهزه الموقف السلبي والجافي، ولا التخلي والانسحاب من الآخرين أعداء كانوا أو أصدقاء ذلك أنه يستمد قوّته وثقته وإصراره من إيمانه بالله، من علاقته الوثيقة بربّه، ومن يقينه بكفايته.
{فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ حَسْبِيَ اللّهُ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ } ذلك التوكل، ذلك الاكتفاء بالله يستحيل معه أن ينحدر الرسول صلى الله عليه وآله عن خط الله تحت أي ضغط، كان ضغطا من أعداء أو كان ضغطا من أصدقاء، كان ضغطا من دولة الطاغوت، أو كان ضغطا من رأي عام. إنه ملتزم الخط الإلهي اللاحب القويم لأنه ليس في نفسه عظيم غير الله.
نسأل: على أي خط تجد الأمة شيئا من هذه القيادة؟ لن تجد هذه القيادة على حجمها وسعتها أو ما يقرب منها ويلتصق بها في غير المعصوم، لكن على أي خط تجد الأمة شيئا من هذه القيادة؟ وأي أمة يمكن أن تجد اليوم نوع هذه القيادة؟ وهل تفتش الإنسانية عن قيادة أكفأ وأأمن وأهدى من هذه القيادة؟ ومن سيُنقذ الإنسانية غير هذا النوع من القيادة؟ سواء كان إنقاذا جزئيا أو إنقاذا كليا.
كلما كانت القيادة قريبة بدرجة ما ممن وصفت الآيات الثلاث كانت القيادة الرشيدة المؤمّلة، وكلما بعدت القيادة عن هذا الخط كلما قادت إلى ضلال، وكلما أوقعت في التيه.
والرسول القائد صلى الله عليه وآله وسلم لو جامل وتابع رأي المسلمين غير المعصومين في كثير مما يطرحون ويقترحون ويرون لوقعوا في الأضرار الفادحة، والهلاك المدمر، وكانت رحمة من الله بالمؤمنين أن ارتفع بهم لطفه إلى مستوى الرشد، وذلك أن حبب لهم الإيمان، وزينه في قلوبهم، وكره إليهم الكفر والفسوق والعصيان فصاروا بوصفهم أمة لا أفراداً يطيعون الرسول ولا يعصونه، ويأخذون بأوامره، وإن كان منهم من يجانب الصواب، ويتجاوز في موقفه على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بصفة كونه فرداً.
والنتيجة أن محمد بن عبدالله الرسول القائد صلى الله عليه وآله وسلم قيادة أعدّها الله، ووفّر لها كل الضمانات الكافية لتحمّل الأمانة الكبرى وهي أمانة تربية الإنسان بكل مستوياته، وأخذه على خط الله سبحانه وتعالى.
وقابل ذلك في الواقع الخارجي من الأمة المسلمة بما هي أمّة، وليست بما هي ذلك الفرد أو ذلك الفرد، قابلت تلك الكفاءة طاعة ونصرة، وعدم إيذاء واتهام، وذلك ممن آمن بقيادته ورضيه رضى حقيقيا، وسلّم إليه تسليما.
ولن تكون قيادة كالمعصوم، ولا تستحق قيادة أخرى ثقة كالثقة التي يستحقها المعصوم، ولكنه الدرس الذي يجب أن تتعلمه الأمة، وتستفيد منه، وتتعلمه الإنسانية كلها وتستفيد منه، وأن عليها أن تطلب أوصافاً في أي قيادة من الأوصاف التي حددها القرآن الكريم، وألا تعطي ثقة في أي قيادة إلا بمقدار مخزونها من تلك الصفات.
العريضة الشعبية وتداعياتها:
العريضة ليست للتحدي، ولا تمثل تمردا على النظام والقانون، ودليل ذلك العدول عن الصيغة الأولى لتدشينها مع كونها في نظر معتمديها على الأقل مدعومة من الميثاق ودستور سنة الـ73 ودستور سنة 2002.
وهذه العريضة تمسّكت في مطالبتها بالتعديل بالميثاق ومشروع الإصلاح وهي بذلك لا تسعى لهدمهما.
أُضيف أنه لابد أن نتفق أن هناك درجة من الإصلاح، وعلينا أن لا ننكر ذلك، وأنها خطوة على الطريق الطويل، ولا تعني النهاية، وأن التطوير، والتنبيه عليه، والمطالبة به أمور لا يصح أن تتوقف مع درجة كافية من الانضباط والتقيّد بما أمر الله عز وجل بالتقيد به.
أما العرائض فهي أهدأ أساليب مطالبة، فلا أتصور أن يكون اعتراض جذري من الحكومة على طريقة العرائض.
والتعديل الدستوري مطروح في إطار الجمعيات وفي أوساط البرلمانيين والشارع ومن المستبعد أن تهل الحكومة هذا الاتجاه العام وتتجاهله، ولا أرى أن هناك منكرا في المطالبة بالتعديل، أما الطريقة فليس من المستحيل الاتفاق بين الأطراف عليها، وليس من الضروري حصرها في مصداق واحد، ولا ينبغي للطرفين أن يسمحا بالدخول في النفق المظلم بهذا السبب أو ذاك مما يمكن التخلص من إشكاله بالعقل والحكمة والحرص على المصلحة الوطنية.
وهل أخرج من ذلك النفق في الحقبة السابقة إلا العقل والحكمة والتدبر؟! وهل يتوقع طرف من العودة إليه ربحا محرزا، أو ربحا بلا خسارة؟! يستحيل ذلك.
وهل من طريق أهدأ وأبقى على مصالح الوطن، وأضمن للفاعلية المؤثرة للحكمة والعقل والدين ووعي المصلحة في اتخاذ القرارات، والتوصل للحلول يمكن أن يتقدم طريق الحوار الهادف المخلص فيما عرفه الإنسان من طرق ووسائل بالأمس واليوم؟
أصل التوقيف لعدد من المواطنين المشتغلين على توقيع العريضة في ظل القناعة التامة بقانونية الممارسة والتي لا زالت قائمة وثابتة واستمرار هذا التوقيف يعقد الحالة الموضوعية، ويضيف صعوبة أمام الخروج من الخلاف، ويزيد في حدته، والكل يتكىء في خلافه على الميثاق والدستور، ويحتج بدلالتهما. الحكومة تحتج بالميثاق والدستور ودلالتهما، والجمعيات السياسية هي الأخرى تحتج بنفس ما تحتج به الحكومة.
وإن المسيرة السياسية لا يمكن أن تخلو من الخلافات، وإذا كان أي خلاف سيجرد السيف من غمده، ويخرِّب العلاقة، ويحدث القطيعة، ويثير حالة التوتر والمواجهات الساخنة، فهذا يعني الفشل السياسي عند الجميع، وتخلف القدرة على مواجهة المشكلات السياسية بنفس سياسي بعيد عن التهديد، والاستخدام الفعلي للغة القوة من هذا الطرف أو ذاك.
كما يعني خسارة الوطن، وتدمير المصالح الوطنية، وكل النتائج الكوارثية التي تترتب على سياسة استعراض العضلات من طرف أو آخر.
وللإنصاف فقد برهنت الجمعيات السياسية على درجة عالية من الانضباط في التعامل مع الخلاف وهذا ما يجب، وأكد الموقف الشعبي في تقديره للمصلحة الوطنية وانضباطه التّام على استحقاق عال جدّاً لأن يُعامل باحترام، ويقدّر له وعيه السياسي بتعجيل مسيرة الإصلاح وتوسيع المشاركة الشعبية في صناعة القرار، واتجاه الصيغة الدستورية للتناغم مع طموحاته المعتدلة والمشروعة بدرجة أكبر.
وقد يكون مرجع الموقف الحكومي الذي أخذ في الآونة الأخيرة ردّ فعل فوق التوقعات هو أن تحرك العريضة أرسل إشارات غير مقصودة أصلاً، وهذا ما يجب أن يصححه الحوار المفتوح على المسألة السياسية في أجواء تستعيد حالة الثقة، وتزيدها رسوخا ومتانة، وتخرج بالنتائج التي تؤكد على الاهتمام المشترك بمصلحة الوطن، والتقدم بأوضاعه، ومستوى الحقوق المشروعة فيه.
ولا نودّ أبداً أن تنهدم الجسور بين الجمعيات السياسية والحكم ولا بين الشعب والحكم، وطرفا الحكم والجمعيات السياسية ليس بينهما الفاصلة التي تمنع الحوار المباشر، والحوار لا يعني أبدا إلغاء القنوات الدستورية، والطرق الرسمية فيما يرتبط بها من صلاحيات وأدوار ولا يتنكر لها.
والطرفان يملكان من العقل والحكمة وتقدير المصلحة ما يمهّد لجعل الحوار منتجا خيرا إن شاء الله.
اللهم صل وسلم على حبيبك وصفيك، المصطفى من عبادك محمد بن عبدالله وآله الطيبين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم انصر من نصر الدين، واخذل من خذل الدين، وأحلل غضبك بالقوم الكافرين المعتدين، وعجل فرج عبادك المؤمنين، وأوليائك المتقين.
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}
ـــــــــــــــــــــــــ
1 – النسيان في الآية الكريمة منسوب في تفسير ليوسف عليه السلام، وفي آخر – ويصر عليه صاحب الميزان (قده)- إلى من ظن أنه ناج من السجينين مع يوسف عليه السلام، ولكل منهما دليله القابل للمناقشة، والعصمة ثابتة على كل تقدير.
2 – 128، 129/ التوبة.
3 – 7/ الحجرات.

زر الذهاب إلى الأعلى