خطبة الجمعة (151) 3 ربيع الأول 1425هـ – 23 ابريل 2004م

مواضيع الخطبة:

 

حضارة الإسلام (4)– العريضة والمسألة الدستورية – هل من مبارز؟– الأوقاف الجعفرية – النجف وكربلاء

 

ورأيي أن الوصول إلى صيغة دستورية، وتكييف خاصّ لإبراز هذه الصيغة بالصورة التي تنهي حالة الخلاف القائم حول الدستور والآلية التي تمّ بها سيمثّل خطوة جادة على طريق الإصلاح، وفتح فرص التعاون الوطني في حالة من التوافق العملي لبناء وطن قوي ومتماسك 

الخطبة الأولى

       الحمد لله الذي لا مالك إلا وهو مملوكٌ له، ولا واهب إلا وهو موهوبٌ من لدنه، ولا مُعطي إلا وعطاؤه من فضله، ولا منعم بنعمةٍ كبرت أو صغرت إلا وهي من جوده وبتقديره، فلا فضل إلا وهو عائدٌ إليه، ولا إحسان إلا وأصله منه، فله الحمد أولاً وآخراً، ودائماً وأزلاً وأبداً.

            أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلمّ كثيراً كثيراً.

            أوصيكم عباد الله ونفسي بتقوى الله، والتمسّك برحمته، فليس من عروةٍ وثقى من غير جهة الله، وما من استمساك عاصم إلا الاستمساكُ به.

            القصورُ والحقول، وأرصدة المال الكبيرة، والشهرة المستطيرة، والملك العريض كل ذلك إلى ذهاب. الأرض وهي أكبر، والسماوات وهي أوسع وأشد ستتبعثر وتطوى لتقول للإنسان بأنه لا عاصم من دون الله. وأن كل قوي، وكل شديد لا بقاء له ليقي ويحمي، وينفع، والله وحده هو القيّوم الباقي القوي الدائم الذي لا يزول.

            ومن أراد الاستمساك برحمة الله كان عليه أن يطيعه، وأن يجتنب معصيته، وأن لا يدخل في مضادّته، وإلا كان به مستهينا، وبأمره مستخفّا، ويرى العصمة في غيره، والملاذ في سواه.

            اللهم صل على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وأعذنا وإيّاهم من وهم يُقدّم غيرك عليك، ويُقنع بمن سواك عنك، ويُطمع في خلقك بدلا منك، ويُشعر بكفاية الاحتماء بمن عداك.

            والآن أيها الأخوة والأخوات الأعزّاء مع متابعة لموضوعنا السابق:

حضارة الذكر وحضارة النسيان

            وكان العنوان الفرعي محلّ الكلام: نصوص خاصّة:

            ويأتي رمز (و) في هذا التسلسل:

سنن التاريخ:

فنحن نتحدث عن موضوعات مهمّة، ركّز عليها الكتاب الكريم بخصوصها لتكون محِل الذكر عند الإنسان لمحوريتها المركزية في حركته.

{ أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاء عَلَيْهِم مِّدْرَاراًوَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ}.

حضارة تتأسس على مخالفة الله هي حضارة تحمل جرثومة فنائها فقد يقوم البناء مشيدا، وقد يشتد عود الأمة، وتكبر في نظر نفسها والآخرين، وتصل إلى حدّ العتوّ، وهي ما دامت ظالمة، ما دامت مخالفة لأمر الله، خارجة على خطّ الكون، خط التسبيح والحمد والتنزيه لله فإنها لابد أن تكون إلى انتكاس.

قانون إلهي ثابت، يتمثّل في أن الظلم يهدم البناء، ولنعرف أن الخطّ المخالف لخط الله خط ظالم، وليس من ظلم أكبر من الخروج على أمر الله ونهيه.

لا تفرح لأمة تبني وتشيد، وتمتلك صناعة ضخمة، وتتقدم زراعة وسياسة واقتصاداًَ واجتماعا، ولكن إذا كانت هذه الأمة على غير طريق الله، فإن ضربة قاسية قاصمة قاضية تنتظرها، وتقف لها بالمرصاد.

ما لم تلتفت الأمة إلى سنن التاريخ وكيف تنشأ الأمم، كيف تقوم الدول، وكيف تسقط، ما هي القوانين الاجتماعية التي تحكم حركة الإنسان فهي أمة ساذجة، وهي أمة غافلة، والغافل إن يربح قليلا يخسر كثيرا، ولا يمكن له أن يستمر على طريق النجاح.

تتحدث الآية الكريمة، عن قرن وأمة مُكّن لهم ما لم يمكّن لكم، وأُرسلِت عليهم السماء مدرارا، ومن خير كثير أن كانت الأنهار تجري من تحتهم، ولكن الله عز وجل أهلكهم بسبب ذنوبهم، فالأمة المذنبة لابد أن يهلكها الذنب، فالذنب علّة كافية لهلاك الأمم.

وهناك ذنب فردي قد يصل إلى  الألف، وقد يصل إلى الألفين، لكن هناك ذنبا آخر هو ذنب اجتماعي، حين يتحوّل خطّ المجتمع إلى خطّ مخالف لخط الله؛ فحين يأخذ مجرى التاريخ على يد أمة مجرى غير المجرى الذي حدده الله سبحانه وتعالى وسنه لهذا الإنسان فحينئذ نكون أمام ظلم اجتماعي، أمام ظلم أمة، ولذنب الأفراد عقوبة، ولذنب الأمم عقوبة.

والأمم لا تؤخذ بذنوب بعض الأفراد المتسترين عليها، والمخالفات الجزئية لهم حين تكون محل الإنكار، ولكن تؤخذ بذنب اجتماعي، وبخط عامّ تحتضنه الأمة على ما فيه من انحراف عن خط الله، ولا يكون منكرون يشكِّلون خطّاً عاّماً، ولا تكون مواجهة.

{ وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} فالآية الكريمة الثانية من نسق الآية الأولى تتحدث عن سنة تاريخية تربط بين هلاك الأمم وبين ظلمها.

{ إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} إذا تغيرت أنفس القوم من حسن إلى سيء كانوا على طريق الهلاك، وإذا تغيرت أنفسهم من سيء إلى حسن كانوا على طريق النجاة.

حركة التغيير تبدأ من الداخل، وحركة التغيير إما أن تكون في الاتجاه السلبي، وإما أن تكون في الاتجاه الإيجابي.

فالمجتمعات والحضارات تمتلك إرادتها الإنسانية، وهي الارادة الموهوبة لهذا الإنسان من الله سبحانه وتعالى، ولكن هذا الإرادة ليست طليقة ولا حرة على الإطلاق؛ تقيدها قوانين كونية، وتقيدها قوانين في المساحة الاجتماعية.

المساحة الاجتماعية لها قوانيها، كما أن للمساحة التكوينية قوانينها، وحركة الإنسان عليها دائما أن تحاسب لهذه القوانين، وأن تصوغ ذاتها في ظل هذه القوانين، وهي لا تستطيع أن تتفلت من قانون إلا بحماية من قانون آخر، ولا يمكن لطاغيةٍ فردٍ، ولا يمكن لطاغيةٍ أمةٍ أن تتمرّد على القوانين، وأن تكسر قانونا واحدا من قوانين الله في المساحة التكوينية وفي المساحة الاجتماعية ما لم تلجأ إلى الله بالتفيؤ بسبب من الأسباب، وبقانون من القوانين التي سنتها الإرادة الإلهية المتعالية.

رموز الخير والشر:

من بين الموضوعات المهمة التي يذكرنا القرآن الكريم بها، ويركّز عليها تركيزا خاصا، هو موضوع رموز الخير والشر في الأرض.

فيضع عينك فردا كنت أو مجتمعا، أو أمة على رموز الخير دورها ونهايتها، وعلى رموز الشر دورها ونهايتها، ويشدّك إلى قدوات الخير، ويحذرك من قدوات الشر، ويضرب لك أمثلة من رجال في التاريخ على هذا الخط وعلى ذلك الخط، وما كان لأولئك الرجال من دور شرّ أو خير وما جاء على أيديهم من هدم أو بناء لتجد مصارع الظالمين، ولتجد النهايات السيئة المخزية لمن خالفوا الله، ولتجد المستويات المحلقة، والصمود الكبير، والهداية الرشيدة على أيدي الصالحين.

وهذا نداء من الكتاب الكريم للأمم أن تحذو حذو القدوات الصالحة، وأن تعتبر بالأمم السالفة.

{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِيّاً} لابد من مصلحين، لابد من رجالات هداية، لابد من رجالات خير، لابد من صنّاع حضارة رشيدة، لابد من قادة هدى ينتهون بالأمم إلى الجنة، إلى رضوان الله سبحانه وتعالى وهذا مثل كبير من أولئك الرجال الذين صنعوا تاريخا إنسانيا رشيدا مهديا.

{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ …} يذكّرك بإبراهيم، ويذكِرّ الأمم بعد الأمم، والأجيال بعد الأجيال بهذا النموذج الإنساني الرائع الصامد الصاعد إلى الله تبارك وتعالى.

“واذكر في الكتاب إبراهيم إنّه كان صديقا نبيا، ولقد آتيناه رشده من قبل وكنا به عالمين” تخاطبنا الآية الكريمة، أينكم من النماذج الإنسانية الرائعة؟! أينكم من الإنسان الذي يسابق الملائكة وقد يفوق؟! أينكم من رجال صالحين صنعوا الحياة رشدا، وصنعوها خيرا، وصنعوها محبة وسلاما، وقاوموا الظلم والطغيان والفحشاء، وقاوموا كل سلوك سيء ليستقيموا بالأمم على الصراط الصاعد إلى الله سبحانه وتعالى؟!

ذلك مثال، ذلك خط، وخط آخر له رجاله، وله أئمته، وله قدواته، وله أمثلته :”وأضل فرعون قومه وما هدى”،”هل أتاك حديث الجنود، فرعون وثمود”

وأنت تجد في القرآن ذكرا لقارون، وتجد ذكرا لنمرود، وتجد ذكرا لأمثلة سيئة أخرى من رجال ومن نساء.

الدُّنيا:

الدنيا موضوع آخر عليك أن تكون على ذكر منه لأهميته، ولأنك ابن الدنيا أولا قبل أن تكون ابن الآخرة.

الدنيا تحتضنك سنين، وهذه السنون التي تحتضنك الدنيا فيها هي التي تحدد مصيرك، وهي التي ترسم خط مستقبلك، فعليك أن تعرف دنياك، وعليك أن تتعامل مع الدنيا بحجمها.

 “وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة – الآخرة هي الهدف، الآخرة هي الغاية، كل ما آتاك الله من عقل، من سمع، من بصر، من نعم أخرى وظّفها في سبيل آخرتك لأنها الهدف، لأنها الحيوان، لأنها الحياة الحقيقية – ولا تنس نصيبك من الدنيا” وكيف لا ننسى نصيبنا من الدنيا؟

إما أن الآية الكريمة لا تريد لنا أن نهمل الدنيا إهمالا تاما فنموت، وتتجمد حركة الحياة على أيدينا من حيث كوننا مؤمنين، فتقول لنا الإيمان لا ينافي أن نشيع الحياة في الأرض، أن نعمر، أن نشيد، أن نبني، أن نسابق الأمم الأخرى نشاطا وحيوية وقوة وصناعة واختراعا وابتكارا، لكن ليكون كل ذلك نعمة علينا أن نبتغي فيه الدار الآخرة.

نتحرك في هذه الحياة الدنيا لا بهدفها، وإنما بهدف الآخرة، أنت تدرس لتنتج، لتعمل عملا متقنا، أنت تحيى في الحياة الدنيا لتنتهي إلى آخرة رابحة، الحياة ربحها قليل، وزائف، وعند التأمّل ساعات الراحة والسرور في الحياة لا نجدها إلا قليلة.

وإما أن الآية الكريمة “ولا تنس نصيبك من الدنيا…” تقول لنا إنَّ نصيبك من الدنيا ما أوصلك إلى الآخرة، أما الحركة في الحياة فطبعنا يدفعنا إليها إلى أن نطلب الرزق، إلى أن نطلب الدواء، إلى أن نطلب المركب الحسن. فينا من الدوافع ما يكفي لأن يحركنا الحركة المنتجة في الحياة، لكن دوافع الآخرة على وجودها محاربة ومواجهة من إعلام مضلل، من أوضاع زائفة، من صناعة حضارية على يد الطغاة والظالمين تحرف النظر عن الآخرة، وتنسينا الله سبحانه وتعالى

لذلك كان ما يتوجب أن نُذكّر به هو الآخرة لا الدنيا، دوافع الدنيا قوية، وفعّالة، ومتلمِّظة، ومجنونة لا تحتاج إلى تنبيه، إلا في بعض الحالات التي قد تسود فيها موجات من التصوف المنحرف، فهنا تأتي الآيات الكريمة، وتأتي الأحاديث والمواقف الحاسمة من أئمة الهدى صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين لتعيد الدفة إلى المسار الصحيح، فلا تصوف في الإسلام يقتل الحياة، ويهرب بالإنسان عن حركتها.

فالمعنى الثاني هو أن الآية الكريمة تقول لنا التفتوا إلى أن نصيبكم من الدنيا ليس هذه اللقمة، وليس هذه الكسوة. هذه الكسوة وهذه اللقمة، وهذا المركب، وهذه الراحة الوقتية كل ذلك جعل لكم وسائل لتبنوا ذواتكم بناًء إلهياً، لتصنعوها الصنع الإلهي الكريم.

فنصيبكم الحقيقي من الدنيا ليس ما تأكلون وليس ما تشربون وتلبسون، إنما نصيبكم الحقيقي من الدنيا البناء لذواتكم، لعقولكم، لقلوبكم، لإرادتكم لأنفسكم على خط الله سبحانه وتعالى لتلتقوا على هذا الخط بألطاف الله، ورحمته وكراماته.

{ وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ } نعم الدنيا للصلاح والإصلاح والبناء، وليست نعم الدنيا في يد الإنسان ليفسد بها الحياة، وليضل بها، ويدمر، ويهدم النفوس.

اللهم صل على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولجميع إخواننا المؤمنين والمؤمنات، ولوالدينا وأرحامنا وقراباتنا، ومن أحسن إلينا إحساناً خاصا من مؤمن ومؤمنة، ومسلم ومسلمة.

اللهم لا تكلنا وإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين إلى أنفسنا، ولا لشيء ممن عداك طرفة عين فنهلك، ولا تقطع عنا هداك فنضل، ولا تمنعنا توبتك علينا فيستبد بنا الشيطان الرجيم.

اللهم أنقذنا مما نحن فيه من سوء دنيا وآخرة، وهب لنا من خير ما تفضلت به على من رحمت من عبيدك وامائك الصالحين والصالحات، والمفلحين والمفلحات يا أجود من أعطى، وأكرم من سُئل.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ (4)}

الخطبة الثانية

            الحمد لله خالقِ الظلمة والنور، رب الظلّ والحرور، والليل والنهار، والإعلان والإسرار، مدبّر الخلق، القاضي بالحق، ديّان يوم الدين، ربِّ العالمين.

            أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله. بلَّغ فأدّى، وعلَّم فأتقن، وربّى فأحسن، وأحكم وأتقن. صلى الله عليه وآله وزادهم تحيةً وسلاماً.

            أوصيكم عباد الله ونفسي الأمّارة بالسوء بتقوى الله الذي خلق ورزق ودبّر وقدّر فأحكم التدبير، وأحسن التقدير، وحمى ووقى، وضاعف النِّعمة، وأجزل العطاء. وأحذِّركم ونفسي متابعة أهل الهوى، والاغترارَ بمن ضلّ وغوى، وأن ننسى الآخرة، ونقيم على ذكر الأولى، ونرضى بالتي هي أدنى، فغداً يظهر للبصيرة أن صاحب الدنيا حظُّه قليل، وشقاؤه طويل، وأنّ الساعي للآخرة بالغٌ ما تَتْفَهُ الدنيا كلها عند شأنه، وتسقط أمام روعته.

            اللهم اغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، واجمع لنا ولهم بين خير الدنيا والآخرة، وأنقذنا من شرّ الدنيا والآخرة، واجعل سعينا إليك واصلاً، وعملنا عندك مقبولاً، وذنبنا مغفورا يا كريم يا رحيم.

            اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على البشير النذير، والسراج المنير، النبي الخاتم، والرسول الصادق، رحمتك للعالمين محمد بن عبد الله الهادي الأمين وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصلّ وسلّم على عليٍّ أمير المؤمنين، وإمام المتقين، وصلّ وسلّم على فاطمة الزهراء، التقية النقية المعصومة، وصلّ وسلم على السبطين الكريمين، والوليين الرضيين، والإمامين الزكيين الحسن بن علي بن أبي طالب وأخيه الحسين.

            وصلّ وسلّم على أئمة الهدى، ومصابيح الدجى، وقادة الورى علي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري أسباب الهداية، والمنقذين من الغواية.

            وصل وسلّم على إمام العصر والزمان، محيي القرآن، وباعث الإسلام، وهادي الأنام محمد بن الحسن إمام العدل والسلام.

            اللهم عجّل فرجه، وسهّل مخرجه، واحفظه من بين يديه، ومن خلفه، واجعله في حصنك المنيع، وأمنك الأمين، وأعزّ به عبادك المؤمنين.

            عبدك الموالي له، الممهد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين بارك لهم خطاهم على سبيلك، وبلّغهم الغاية التي ارتضيتها لهم يا كريم.

            أما بعد أيها المؤمنون والمؤمنات فإلى الحديث الآتي، ومحاوره متعددة:-

            العريضة والمسألة الدستورية:

            أصبحت المسألة الدستورية مسألة واقع لا فرضية، لماذا؟ اختلاف في رأي الدستوريين حول الدستور من حيث توافقه وعدم توافقه مع الميثاق، ومع القرائن الحالية والمقالية والمقامية التي رافقت ولادته وسبقته.

            عدم توافق قناعة فئات نخبوية، وقناعة الشارع مع الحاصل في مسألة الدستور بما يفقد التوافق الذي يسمح بالدرجة الكافية من الانسجام في سير العمل الوطني، وهذا الانسجام مطلب رئيسي وضروري.

            ولابد أن يقتنع الجميع بسبب من أحداث الماضي، وللأخطار التي دشّنت تواجدها المشؤوم والمرعب في المنطقة بضرورة الوصول إلى صيغة توافقية تحفظ أمن الوطن، وتفتح الطريق لتقدّمه.

            فهناك فتنة كاسحة زاحفة تكاد تطال كل شبر من البلاد العربية والإسلامية وعلينا حكومات وشعوبا أن نوصد أمامها الأبواب ولا نفتحها.

            والأوطان لا تنبني بلا عدل وأمن، والعدل يعطي الأمن، والأمن يساعد على العدل، والحكم يدخل في قلب الشعب بقدر ما يخفّف عنه، ويخدم مصالحه، ويعترف له بكرامته، ويشركه في صوغ حياته العامة، واختيار خطّ حاضره ومستقبله.

            والشعوب التي تقطع مسافات من طريق تقدّمها أكثر تطلّبا من غيرها للاعتراف بالحق والموقع، واعتدادا بالنفس والقدرة على المشاركة في البناء، وتمسّكا بالمطالبة بالحرية والاختيار.

            ولا شأن لوطن شعبه ميّت لا يطالب بحقوقه، ولا يحرص على تطوير وضعه، والإسهام في بناء حاضره السياسي والمستقبلي، وهو شعبٌ فاشل لا ينفع نفسه، ولا ينبغي أن تفخر به حكومته، كما لا شأن لوطن تُكمّم حكومته أفواه الشعب وتقتل الكلمة.

            وسياسة من هذا النوع إمّا أن تفتك بعزّة الشعب وتقتل ثقته بنفسه، وتهبط بروحيته، وإما أن تستثيره وتشعل ثورته، ونرجو أن الحكومة غير راغبة في شعب فاشل ميّت، وأن قد صمّمت بأن مصادرة حرية الرأي لا عودة لها على الإطلاق كما تعلن ذلك التصريحات الرسمية الكثيرة.

            كما نرجو لهذا الشعب أن لا يتخلى عن المطالبة العاقلة بالحقوق، والتطوير النافع للمسيرة، وتصاعد خط الإصلاح، وأن يصبر على هذا الطريق متسلّحا بالإصرار والحكمة والتعقّل، والبُعد عن ردّات الفعل المتسرّعة المتشنجة.

            وإن روح الحماس في الشعوب ليس لمصلح أو حكومة أن تقتلها، وغياب روح الحماس عن شعبٍ يقتله، ولكن الحماس لا بد معه من عقل، كما لابد مع العقل من حماس. الأول للتدبّر والتبصّر والتخطيط والرأي الصائب، والثاني للحركة والاندفاع على خط العقل. ولو كان عقل بلا حماس لتعطّلت الحركة، وضاعت قيمة الرأي.

            والرأي المعطّل لا قيمة له، وما لم تكن إرادة وحماس يتعطّل الرأي الحصيف، وتسقط قيمته.

       ولو كان حماس بلا عقل لكانت الإندفاعة المتخبطة أو المهلكة، والأمور لا تُدرس ولا يُقضى فيها في الشارع وإنما تحتاج دائما إلى أجواء خاصة وعقول متخصصة.

            وإن كان الشارع قد يمد تلك الأجواء والعقول عبر القنوات المعيّنة وفي المناخات المتحررة من ضغط العقل الجمعي بالرأي الصائب، والفكرة النادرة.

            ورأيي أن الوصول إلى صيغة دستورية، وتكييف خاصّ لإبراز هذه الصيغة بالصورة التي تنهي حالة الخلاف القائم حول الدستور والآلية التي تمّ بها سيمثّل خطوة جادة على طريق الإصلاح، وفتح فرص التعاون الوطني في حالة من التوافق العملي لبناء وطن قوي ومتماسك وناهض بعيدا عن التوتّرات، والسير المتعرّج حينا، والمتلكئ حينا آخر.

            على أن الهدى كل الهدى، والصلاح كل الصلاح، والنجاح كل النجاح فيما اختاره الله لعباده من نهج، لا فيما اختاره العباد لأنفسهم.

            وبشأن العريضة الشعبية المتعلقة بالقضية الدستورية والمشاركة السياسية الشعبية وتصدّي الجمعيات لتحريكها في الإطار الواسع الشعبي على أن تكون مشاركة الموقعين من خارج الجمعيات إرادية وبالصفة الفردية الشخصية للموقع، لا يمكن موافقة وزارة العمل والشؤون الاجتماعية على أن ذلك يمثّل خرقا للمادة (29) من الدستور.

            ثم إنه لا يمكن لنا إلا أن نقدِّر للجمعيات السياسية حرصها فيما صارت إليه من تكييف جديد لتدشين العريضة، وإخراجها على تبريد الأجواء، ونزع فتيل أي توتر يمكن أن تسببه العريضة في تكييفها الأول، مع احتفاظها بحق التعبير في الرأي ولو في الجملة، وتشديدها على بقاء هذا الحق بصورته الواسعة الكاملة.

            وما بدأ يظهر في الصحافة من تصريحات لوزارة العمل والشؤون الاجتماعية بعد التكييف الجديد يثير شيئا من القلق في بعضه، وقد ينذر بنشوء أزمة خلافية أخرى، وكلّ أملنا أن لا تنشأ.

            هل من مبارز؟

            نداءٌ تحدّى الإسلام والمسلمين بالأمس يوم الخندق، وأجاب عليه الإسلام برجل من صناعته عقلا وشعورا، رؤية وهدفا وإرادة وموقفا.

            وكان رجل الإسلام المصنوع على عين الله الذي بارز الشرك كلّه، وكان هو الإسلام كلّه، ورد على التحدي بتحدّ أكبر هو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام.

             وإسرائيل اليوم تتحدى الإسلام والمسلمين بنفس التحدّي، وتعلن لكل الأمة العربية والإسلامية هل من مبارز؟ وتعلن أنها ستغتال، وستحتل، وستؤدب، وستضرب والأصوات كلّها خافتة.

            أما الذين لا زالوا يردّون على التحدّي اليوم فهم الإسلاميون، ولكنهم مخذولون ومتآمر عليهم من داخل الأمة.

            ما الخلل الذي تعاني منه الأمة اليوم حتى تضطر – إن كانت مضطرة – أن تسكت أمام التحدي الإسرائيلي؟

أنظمة متفرّقة تعيش الصراعات، إن لم تكن صراعات مشكوفة فصراعات مستترة، ومنها ما هو مكشوف للعلن.

الفاصلة الواسعة بين الشعوب والأنظمة.

الضياع الفكري والنفسي الذي أنشأه التذبذب بين الحضارة الأم؛ حضارة الفطرة، حضارة النور، وبين الحضارة الوافدة؛ الحضارة الغريبة، حضارة الظلام، الحضارة المفتعلة.

لم يعد المسلم في أكثره مسلماً. نفسيته منقسمة، داخله يعيش الصراع، ويعاني من حالة الانشطار بين ما هو هدى وبين ما هو ضلال على المستوى الرؤية والمفهوم، وعلى مستوى الشعور، وعلى مستوى السلوك.

العلاج عودة من الأنظمة لشعوبها، وتفاهم بين الأنظمة نفسها ولكن على الخير لا على الشرّ، وبأن يكون التعاون بينها تعاونا مما يرضاه الله لا مما يسخطه سبحانه.

وعودة من الأمة كاملة إلى إسلامها الذي سيصنعها إنسانا أقوم، وأوضاعا أصح، وحاضراً متقدماً، ومستقبلا سبَّاقاً.

الأوقاف الجعفرية:

عودة للتأكيد على صحة، ولزوم الاستقلالية لهذه الأوقاف عن التدخل الرسمي، عدا المحاسبة للوارد وللصادر في حركة المال، وهي عودة يثبتها العقل والشرع والعرف الصادق، وهذا التأكيد لا يأتي عصبية ولا جزافا ولا إثارة لحفيظة أحد وإنما هو من أجل أن يعود الأمر إلى نصابه الشرعي.

ومطلب استقلالية الأوقاف يبقى حقا ثابتا حتى مع أمانة التصرف من الدائرة الرسمية، وعدم تسجيل أي مخالفة.

 والمعالجات المستجدة لوضع الدائرة وإن انتهت به إلى درجة من التحسّن إلا أنها غير كافية أمام مقتضى الدليل الشرعي للاستقلالية وعدم المانع.

النجف وكربلاء:

كل شبر من أرض الإسلام والإيمان له حرمته التي توجب على المسلمين جميعاً حمايته من العدوان، أما الأماكن المقدسة فلها خصوصيتها التي تضاعف من درجة هذا الواجب، وترفع من حدّيته، لاستقطابها لقلوب المسلمين، والأمة في ذلك كأي أمة أخرى اتجاه مقدساتها التي لا تتساهل أبدا في حمايتها.

والنجف وكربلاء مقدستان عند الملايين من المسلمين المنتشرين في أنحاء المعمورة من أتباع أهل البيت عليهم السلام، وهو التقديس يجعلهم يشعرون بالإثم البالغ لو قصّروا في حماية هذه الأماكن المقدّسة.

ونسأل: ماذا سيبقى بيد أمريكا وقوات التحالف من إعلان صارخ لعداوتهم للمسلمين، واستهانتهم بهذه الأمة ومقدساتها، وتحديها أصرح من هذا الإعلان، وأكثر إمعانا في الهمجية وتجاوز كل الحدود وهي تهدد باقتحام كربلاء والنجف؟!

اللهم صل على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، ربنا أصلح لنا ديننا ودنيانا، وأعذنا من مضلات الفتن، وقواصم الظهر، ولا تجعل حياتنا علينا هما ولا غما، وداوِ أسقام قلوبناوأبداننا، وطهّر باطننا وظاهرنا يا ولي النعم، ودافع النقم، يا من هو على كل شيء قدير، وبالإجابة حقيق جدير.

{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}

 

زر الذهاب إلى الأعلى