خطبة الجمعة (150) 26 صفر 1425هـ – 16 أبريل 2004م

مواضيع الخطبة:


حضارة الإسلام (3)-
 الطائفية البغيضة- البرلمان الخليجي الموحد– إلى مؤتمر القمة – المحنة العراقية


فلابد من بعد ذلك من تيارٍ عامٍ داخل المسلمين، تيّار معتدل يرفض الدعوات والمواقف الطائفية ويدينها بصورة مبكرة، وبشكل جدّي حازم
.

الخطبة الأولى

          الحمد لله المبتدئ بالنّعم، كريم العفو، حسن التجاوز، غافر الذنب، قابل التوب، جزيل المثوبة، شديد العقوبة، كثير الإحسان، عظيم الامتنان.

          أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله رفع درجته، وأعظم منزلته، وأكثر عطيته، وبارك له في ذريته. صلَّى الله عليه وآله وسلَّم تسليماً كثيراً.

          أوصيكم عباد الله ونفسي الأمَّارة بالسوء بتقوى الله، وذود النفس عن محارمه، والخوض في ما لا يرضيه، والنأي عمَّا يسخطه، وأن يكون تنافُسُنا على الآخرة، ولا يكون سباقُنا على الدنيا، فتنافس الآخرة يُربح الآخرة، ولا يهدم الدنيا، وتنافس الدنيا يذهب خير الآخرة، ويحطّم الدنيا.

          أيها المؤمنون فليكن عملنا للآخرة لا بهدف الدُّنيا، وعملنا للدنيا بهدف الآخرة، فإن عمل الآخرة بهدف الدُّنيا يحبطه ويسقطه، وإن عمل الدُّنيا بهدف الآخرة يزكّيه ويثمره.

          اللهم صلّ على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات، واجعل إقبالنا جميعاً على الحسنات، وباعد بيننا وبين السيئات، ولا تجعل حياتنا علينا حسرات، وبارك لنا يوم الممات يا كريم يا رحيم.

          أما بعد أيها الملأ الطّيِّب فالحديث موصول بسابقه في موضوع:

“حضارة الذكر وحضارة النسيان” (3)

          نستكمل الحديث أولاً تحت عنوان سبق من عناوين موضوعنا وهو عنوان نصوص خاصة، وهي تُركّز على أهمية الذكر والاستحضار الدائم الواعي لموضوعات مهمة تتوقف على استحضارها عند الإنسان استقامة الحياة، وسلامة الأوضاع، وبلوغ الغاية، ونُجْح المصير.

          من هذه الموضوعات نعم الله، ويأخذ هذا العنوان رمز (ب) في تسلسل الموضوع:-

          ب- نعم الله:

          الشعور بجميل الغير يستعبد الحر، ولا تكون العبودية شرفاً إلا بأن تكون لله، والإسلام يريد لهذا الإنسان أن ينقذه من كل عبودية إلا عبودية لله تصنع العبد حرّاً قويّاً مستقيماً صالحاً منتجا طاهراً زكّياً نافعاً في الأرض مصلحاً.

          فمع نصوص هذا العنوان:

          إذا ذكرت الله كماله، جماله، جلاله كان عليك أن تذكر نعم الله حتّى لا يستبد بك شعور مغالط يقف بك عند نعمة تأتي عن طريق الأسباب فتُسند هذه النعمة لأيِّ سبب من الأسباب.

          إن كل نعمة مرجعها الله سبحانه، فإذا كان عليك أن تشعر بجميل لمنعم، فعليك أن تشعر بجميل الله أولا وبالذّات.

          من نصوص هذا العنوان:

          {وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُم بِهِ} نعمة المنهج الإلهي المنقذ الذي لا بديل عنه أبدا على طريق النجاح، فلتفتّش الدنيا، فلتجتمع كل الفلاسفة، فليجتمع كل الدستوريين والقانونيين فإنّهم لن يتأتّى لهم أن يُعطوا للإنسان منهجا منقذا يصنعه كما يصنعه المنهج الإلهي.

خسئت الأرض، وخسئ كل أهل الأرض، وخسئ كل علماء الأرض أن ينتجوا منهجا كما هو المنهج الإلهي.

ولولا أن تنزلت مناهج الله على الإنسان في أرضه على يد رسل الله سبحانه وتعالى لضلّت الأرض أكثر من هذا الضلال، ولتحوّلت إلى غاب، ولما سلم نتاج الإنسان ولا الإنسان “واذكروا نعمة الله عليكم وما أنزل من الكتاب والحكمة يعظكم به”.

{… اذْكُرُواْ آلاء اللّهِ وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ} فإن نعم الله للبناء، نعم الله للإصلاح، نعم الله لصناعة الإنسان، لصناعة الحياة العادلة، حياة السعادة والرخاء والأمن والاطمئنان والإيمان.

{وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ} وتعجز جهود الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين مع ما أوتوا من حكمة، ومع ما هم عليه من تميّز في الفكر، وفي الإرادة، وفي الصفات النفسية أن يوحّدوا صفوف الناس، وأن يجعلوهم كتلة واحدة في اتجاه الهدف الصالح إلا بتوفيق من الله سبحانه وتعالى، وبإمداد دائم من عنده.

الكتب السماوية:

يريدك القرآن أن تنشدّ ذاكرا دائما إلى الكتب السماوية، إلى كتب تنزّلت من الله تحمل منهج هذا الإنسان وخارطة الحياة، والطريق لصناعتك وإلى جنتك، وإلى صناعة حياة تهنأ بها هنا في الدنيا. وحين تنفصل بوعيك، وتنفصل بذاكرتك بإضلال من الإعلام إلى مناهج أخرى غير المنهج الذي تنزّلت به كتب الله، حين تتجه إلى أخلاقية أخرى غير الأخلاقية التي تنزّلت بها كتب الله، حين يبني لك فكرك، حين يبني لك شعورك، حين يبني لك سلوكك منهج غير المنهج الذي تنزّلت به كتب الله فأنت لست على الطريق، لست على طريق غايتك، لست على طريق كمالك، لست على طريق سعادة دنيا، لست على طريق سعادة آخرة أبداً.

فوجب دائماً أن يكون ذكرك منشدّا إلى قرآنك، إلى سنّة نبيّك، تقرأ كثيرا في القوانين، وتقرأ كثيرا عن نظريات الغربيين، وتتلفّت إلى كل خبر تحمله صحيفة عن قانوني أو دستوري ويغيب وعيك، وتغيب ذاكرتك عن منهج الله، عن كتابه الكريم، وهكذا يريدك المغرضون، وهكذا يريدك أعداء الحضارة الإسلامية.

هذه الآية تخاطب رسول الله صلى الله عليه وآله مباشرة: {سَنُقْرِؤُكَ فَلَا تَنسَى} {فَلَا تَنسَى} ليس أمراً، وإنما نقول للرسول (ص) نضمن لك أن لا تنسى، سنوفّر لك حفظ القرآن، سنبقيك ذاكراً دائماً، سنبقيك منشدّا بوعيك وشعورك إلى ما تنزّل عليك، وإلى ما أقرأناك من كتاب الله وآياته، وإلا ضللت، لو انفصل وعيك يا رسول الله عمّا تنزّل عليك من كتاب الله، لو انفصل شعورك لحظة عمّا أُقرأْتَ من كتاب الله لما كنت النبي المعصوم، لما كنت الإنسان الأوّل من بين الناس.

{سَنُقْرِؤُكَ فَلَا تَنسَى} ليس المهم أن نقرأك فقط، بل لابد من إضافة شيء آخر هو أن لا تنسى ما نقرؤك. فليس المهم أن نتعلم القرآن فقط، ونحمل مفاهيمه بينما ننساها في مقام الشعور، بينما ننساها في مقام العمل، بينما ننساها في مقام التخطيط، بينما ننساها في مقام المواجهة مع أنفسنا، المواجهة مع أصدقائنا، المواجهة مع أعدائناً. {سَنُقْرِؤُكَ فَلَا تَنسَى}.

آية أخرى: {وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُم بِهِ} وهي آية تقدمت تحت العنوان الأول، وتأتي تحت هذا العنوان.

{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} لابد من احتضان كتب السماء الصافية، لابد من التعامل معها التعامل الجدي، لابد من أخذها بقوة فكرا وشعورا وعملا، ولابد أن تقيم الأمم على ذكر الكتب السماوية… على ما فيها من عقيدة، ما فيها من رؤى، ما فيها من مفاهيم، ما فيها من أخلاق، ما فيها من تعاليم، ما فيها من تشريعات، ما فيها من تخطيط للحياة ولصناعة الإنسان الراقي الفذ.

موضوع آخر تركز التربية الإسلامية على ذكره، ويحتفل به القرآن احتفالا كبيرا، ويأخذ مساحة كبيرة من القرآن الكريم في تركيزٍ مكثّف على هذا الموضوع لأهميته في بناء وعيك، في بناء مشاعرك، في صناعة حياتك، في تقويم ذاتك، في تقويم مجتمعك، في تخريج أمتك أمة ناجحة، أمة وسطا رائدة صنّاعة.

{إِنَّا أَخْلَصْنَاهُم بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ} هبة كبيرة، صفة خالصة، صفة عليا، يتمتع بها الأنبياء، يمتاز بها المرسلون، تجعلهم أقوى الناس، تجعلهم أهدى الناس، تجعلهم أكثر الناس صبرا على الأذى، تجعلهم الأكثر انضباطا، تجعلهم الأكثر قدرة على مقاومة مغريات الدنيا، على مقاومة وعيد مَنْ توعّد، وعلى مقاومة وعد مَنْ وعد.

{إِنَّا أَخْلَصْنَاهُم بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ} الرأس الذي يزخر بذكر الآخرة، القلب الذي يحييه ذكر الآخرة، يصنع رجلا قويّا، يصنع امرأة قوية لا يهزمان أمام الشهوات، ولا يهزمان أمام الأزمات، ولا يقعان في أزمات نفسية لخفة وزن هذه الدنيا، ولثقل ما ينظرون إليه من نعيم الآخرة وعذابها.

موضوع آخر يهتم به القرآن ولابد أن تكون على ذكر دائما به هو أنت أيها الإنسان، قيمتك، محتواك، أأنت اللحم والعظم والشحم؟ أأنت هذه الكتلة التي تبيد وتنتهي وتتبعثر؟ أأنا وأنت هذا الجسم الذي بدأ نطفة وينتهي جيفة وهو بين النقطتين يحمل في داخله العذرة؟ أم نحن غير ذلك؟

الإنسان محل اهتمام القرآن:

{وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ…} إن نسيتم أنفسكم سقطكم، إن تصورتم ما يريده لكم أعداء الله والكفرة في الأرض من أنكم حيوانات أبناء القرود سقطتم عن مقامكم الكبير، وإنسانيتكم الضخمة التي وهبها الله لكم أيها الناس.

تهديد من الله {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ…} نعمة ذكر النفس، نعمة ذكر قيمةالذات، نعمة النظر إلى إمكانات الذات، إلى المستقبل الذي ينتظر الذات، إلى هذا الإنسان الذي يستطيع أن يصل إلى مقام يفوق به الملائكة ذكر مهمّ. مهم أن تنظر إليك بحجمك الحقيقي، وحجمك الحقيقي كبير عند الله، صغير عند سفلة الناس، وصنّاع الحضارة المادية.

{وَيَقُولُ الْإِنسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً (66) أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُشَيْئاً (67)} عليك أن تتذكر البداية، عليك أن تحمل شعورين: شعور قيمة ذاتك الكبرى الموهوبة لك من الله، وشعور الاستصغار لذاتك في ذاتك مفصولة عن مدد الله؛ فأنت صفر وأنت عدم، ثم أنت بداية وضيعة، بعد أن كنت عدما صرت البداية الوضيعة، وما صيّرك وما سواك رجلا سويّا، وامرأة سويّةً، وإنسانا تزخر بكل هذه الإمكانات إلا الله.

{…. أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً (66) أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً (67)}

          والحمدلله رب العالمين.

          اللهم صل على محمد وآل محمد، واغفر لنا وللمؤمنين والمؤمنات أجمعين، ولوالدينا وأرحامنا وجيراننا وأصدقائنا ومن كان له إحسانٌ خاص إلينا من المؤمنين والمؤمنات أجمعين.

          اللهم ثبتنا على دينك، ولا تزل لنا قدما عن صراطك، وبيض وجوهنا بطاعتك، ولا تسوّدها بمعصيتك، وارحمنا يوم نلقاك، واجعل مأوانا الجنة، ومستقرنا دار الكرامة في جوار أنبيائك ورسلك وأصفيائك يا منّان يا حنّان، يا محسن يا رؤوف، يا رحمن يا رحيم.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

{قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ (4)وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)}

 

 

 

الخطبة الثانية

          الحمد لله بجميع محامده كلِّها على جميع نعمه كلّها، الحمد لله الفاشي في الخلق أمره، الظاهرِبالكرم مجده، الباسطِ بالجود يده، لا تُنقِصُ خزائنه كثرة الجود والعطاء، ولا يأتي على سلطانه فناء، سميع الشكوى، مجيب الدعاء.

          أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المصطفى والمقتدى صلى الله عليه وآله أهل الحِجى والوفاء.

          أوصيكم عباد الله ونفسي الأمّارة بالسوء بتقوى الله التي جاء فيها عن أمير المؤمنين عليه السلام قوله:”.. أيقظوا بها نومكم، واقطعوا بها يومكم، وأشعروها قلوبكم، وارحضوا – اغسلوا – بها ذنوبكم، وداووا بها الأسقام، وبادروا بها الحِمامْ”.

          فالإنسان نائمٌ عن كماله وحظّه في الآخرة، ونومه يجعله صيداً سهلاً للشيطان، وللتغرير والإغواء حتى يمتلئ قلبه تقوىً فيستيقظ، ولا يُستغفلَ، ولا يُغرّرَ به عن دينه، والتقوى الصادقة الواقية هي ما كانت عن علم ومعرفة.

          ومن قطع يومه وعمره بالتقوى كان على طريق كماله إلى أسمى الغايات. والقلب المستشعر للتقوى المحتضن لها قلبٌ حيٌّ نابهٌ محروس من الشيطان.

          والذنوب قذاراتٌ تفسدُ جو الروح والقلب والنفس، والتقوى هي الماءُ الطهور الذي يأتي على هذه القذارات، ويُنقّي ذات الإنسان منها. وللقلب أسقامٌ كالطمع والحقد والحسد وحبّّ العدوان، والدواءُ الناجع لكل هذه الأسقام هي التقوى.

          ويومُ الحِمام يومٌ مهول، لا تثبتُ أمامه النفس، ويذوبُ منه الجَنان، لكن من كان زاده له التقوى أَمِن واطمأن. فالتقوى التقوى رحمني الله وإياكم أيها المؤمنون.

          اللهم أعذنا وإخواننا المؤمنين والمؤمنات مما أعذتَ منه رُسلك وأنبياءك وأولياءك، واجعل لنا جميعاً من تقواك حاجزاً عن الذنوب، وحائلاً عن السقوط، ومانعاً من البلاء.

          اللهم صل على البشير النذير، والسراج المنير، والهادي الأمين محمد وآله الطيبين الطاهرين، وصل وسلم على عليّ أمير المؤمنين، وإمام المتقين، وصلّ وسلّم على فاطمة الزهراء، الصديقة الطاهرة المعصومة، وصلّ وسلّم على الوليين الزكيين، والإمامين الرشيدين أبي محمدٍ الحسن، وأبي عبد الله الحسينعليهما السلام. وصلّ وسلّم على أئمة المسلمين من سلالة خاتم النبيين، أعلام الدنيا والدين علي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري الهداة الميامين.

          وصلّ وسلّم على الحجّة المنتظر إمام العصر، الموعودِ بالنصر محمد بن الحسن المقتدى والمؤتمن.

          اللهم عجّل فرجه، وسهّل مخرجه، واهدِ به العباد، وأحيي به البلاد، وأطل أيامه، ومُدّ في سلطانه يا قوي يا عزيز.

          عبدك الموالي له، الممهّد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارىوفّقهم ، وسدد خطاهم، وخذ بيدهم لما يرضيك وما ينفع عبادك، وينقذ ومنقذ المؤمنين والمؤمنات فأنت أرحم الراحمين.

          أما بعد أيها الإخوة والأخوات في الإيمان فالحديث في المحاور التالية:

          أولاً: الطائفية البغيضة:-

قد ينطلق صوت الطائفية من مسجد، ينطلق من ساحة اجتماعية، من ساحة سياسية، من أي ساحة من الساحات في أي قطر من أقطار البلاد الإسلامية.

  1.   للطائفية لغتان؛ لغة لفظية، ولغة عملية، وكلّ منهما لغة فعّالة مفسدة، تهدم الصالح من البناء، وإذا كان لها أن تقيم شيئاً فإنما تقيم عمارة خرابا.

ولا أرى في الطائفية المجنونة إلا أنها تهدم كلّ خير، ولا تستطيع أن تقيم على الأرض صالحاً.

  1.   الطائفية استعداء من طرفٍ لطرف، واستباحة إضرار به، وشرخٌ اجتماعي واسع، وتربية أجيال على الكراهية، وسلب حقوق، وإسقاط قيمة، ومشاعر بغضاء بلا عقل ولا إيمان.
  2.   وطائفية الكلمة – أي التي تأتي عن كلمة – لا تبقى طائفية كلمة، وإنما تمتد إلى كل مساحات الحياة لتصبغها بلون الطائفية السوداء الكالحة.
  3.   وطائفية منطقة لا تبقى طائفية منطقة، إنما من شأنها أن تمتد إلى كل مناطق المسلمين، وإلى كل أقاليمهم لتنشر الخراب، لتنشر البغضاء، لتنشر سُنّة الاحتراب.

فإذا حدثت طائفية في العراق فعلينا أن نفكّر فيها هنا، إذا حدثت طائفية في الكويت فعلينا أن نفكّر فيها هنا، إذا حدثت طائفية هنا فعلى كل المسلمين أن يفكّروا فيها للتخلّص منها.

  1.   وطائفية المساجد لا تبقى طائفية مساجد، وإنما تخترق كل الجدران، وكل الأبواب، ولو كانت الجدران محكمة، ولو كانت الأبواب موصدة لتدخل الجامعة، لتدخل الدائرة، لتدخل السوق، لتدخل كل قرار، لتدخل أفكار الصبية، أفكار الصبايا، أفكار الشيوخ، أفكار كل الأعمار لتدمّر، لتفسد، لتحوّل الحياة عذاباً.
  2.      والطائفية منطلقاً هي إما:-

                       ‌أ-    سياسية مربوطة بسياسة داخلية، أو سياسية مربوطة بسياسة خارجية، وكلّهما شر. كلّ سياسة تتخذ من الطائفية مركبا لتثبيت قدمها هي سياسة شرّ قتّالة لنفسها والآخرين.

                       ‌ب-   وقد يكون منطلق الطائفية هو الحقد العام على الإسلام من غير المسلمين، ومن أعداء داخليين في المجتمع الإسلامي.

                       ‌ج-    ويأتي منطلق آخر خطيرٌ أيضاً وهي العصبية العمياء بخلفية من تربية جاهلة لا تعرف الإسلام، ولا تقدّر الأمور، وتقوم في تنشئتها للجيل على الكراهية البغيضة للمسلمين، والاستخفاف بكل فهمٍ للإسلام غير الفهم الذي تربّت عليه حتّى لو كان هذا الفهم سقيماً.

  1.   فلابد من بعد ذلك من تيارٍ عامٍ داخل المسلمين، تيّار معتدل يرفض الدعوات والمواقف الطائفية ويدينها بصورة مبكّرة، وبشكل جدّي حازم.

وحين تثار الطائفية في أي بلد يجب أن يهبّ ضدها كل المسلمين لأنها لن تحرق طائفة منهم فحسب وإنما ستكون محرقة كل الطوائف والفئات.

ثانياً: البرلمان الخليجي الموحد:-

  1.   مطلبٌ شعبي ولكن المؤسف جّداً هو أن واقع هذا البرلمان الخليجي الموحّد الوليد أو الذي هو في طريق الولادة لا يمثل استجابة، ولا يُضيف شيئاً غير تكثير المؤسسات التي تتحدث بلسان الأنظمة وتناغم وسياستها. أوجد برلماناً فوقه برلمان فوقه برلمان فوقه مليون برلمان، وقيّد الجميع بسياسة السلطة القائمة فالنتيجة عندك صفر.

أنا سأطرح ترتيباً ولكن هذا الترتيب ليس ترتيبا زمنياً، وإنما يُسمّى بالترتيب الرتبي، أو بالطوليةالرتبية.

  1.   أولاً: لابد من برلمانات محلية ناجحة، ليأتي البرلمان الجامع الناجح، ولا أعني بذلك أن يتأخر البرلمان العام الموحّد الناجح سنة أو سنتين، أو شهرا أو شهرين عن البرلمانات المحلية الناجحة، إنما أقول أنه لا يمكن لنا أن نصل إلى برلمان موحّد ناجح إلا من خلال توفّرنا على برلمانات محلية ناجحة. وهذا ما أعنيه بالطولية الرتبية.

لابد من صلاحية للبرلمانات المحلية تخفف القيود والأغلال التي تضعها السياسات في البلاد العربية على أعناق وأيدي وأرجل شعوبها.

  1.   والديموقراطية أيها الأخوة والتي صارت تتحدث الأنظمة عنها حديثاً مكثرا في هذه الأيام – أعني الأنظمة العربية والإسلامية – هذه الديموقراطية إذا أرادت أن تصدق فليس أن تفرِّغ موقعاً يملؤه رجلٌ على هواك، لتملؤه امرأة هي كذلك على هواك. استبدال رجل بامرأة، أو استبدال امرأة برجل في موقع معيّن لا يعني ديموقراطية، وكأني أرى الديموقراطية التي يعنيها القوم هي من هذا النوع.

حين تأتي امرأة على هواك، وعلى المقاس الذي حددته أنت لتملأ هذا الموقع مكان رجل كان على المقاس نفسه فهذا لا يعني ديموقراطية، إن الديموقراطية تعني إشراك الأمة في رسم خطِّ مصيرها، في بناء حاضرها، في التخطيط لمستقبلها. و إن الديموقراطية إشراك الشعوب فعلاً في تقرير مصيرها.

  1.      ونرحب ببرلمان خليجي موحد من صناعة شعبية في عرض برلمانات خليجية ناجحة، ومن صناعة شعبية.

ثالثاً: إلى مؤتمر القمة:-

  1.   الكل يعلم أن هناك أزمة ثقة، وفاصلة كبيرة، ودرجة كبيرة من الاحتقان، من التذمر، من بدايات تمرد تحدث هنا وهناك، من توقع انفجار عام، وتخلف واضح في جسم الأمة والأنظمة نتيجة لقصور وتقصير ترمي بلائمته الأنظمة الأمة، وترمي بلائمته الأمة الأنظمة، والأنظمة أملك للأمر من الأمة، وهي أقدر فعلا من خلال تحكّمها بإمكاناتوقابليات وثروات وقدرات الأمة فهي تتحمل المسؤولية بالدرجة الأولى.
  2.   الإصلاح الأمريكي ليس حلاً وإنما من شأنه أن يؤزّم الأمور، ويأسر الأمة، ويخلق مواجهات خطيرة. وهو إصلاحٌ يخدم الأغراض الأمريكية النزيهة جداً أو قل باللغة المكشوفة الخالية من المجاز الظالمة والقبيحة جداً.
  3.   ثمّ أنّه شب عمروٌ عن الطوق، ولم تعد الشعوبُ تُسكتها تسليات الأطفال، والكلام المعسول، والوعود الملهية، والوصفات الممجوجة، والحلول المؤجّلة، ولا تصبر على مزيد من العزل والتهميش والإلغاء.

وهي تشعر بعمقٍ بغبنٍ كبير، ومحرومية بالغة، وإهمال قناعة وإرادة وشعور ومصالح دنيا ودين.

ولا حلّ إلا بأن تُشرَكَ هذه الشعوب بجدٍ في رسم حاضرها ومستقبلها، وصناعةِ واقعها ومصيرها.

وكل المراوغات والتضخيم الإعلامي والدعايات الفنية، والتلميع الساحر الكاذب، وانتحال مواقف البطولةِ والعدل والإخلاص لم تعد قادرةً على إقناع الأمة بلا شاهد عملي واضح.

  1.   مطلب الشعوب واضحٌ جداً ويتمثل أولاً في دساتير إصلاحية تعطي الشعوب الكلمة في أمر نفسها وتأخذ مجراها العملي في التطبيق.

أما رزم الشعارات والقرارات المعطلة، والوعود المؤجّلة فلا تمثل شيئاً ولا تُسمن ولا تُغني من جوع.

  1.   أمام مؤتمر القمة المسألة العراقية وتحدياتها، والمسألة الفلسطينية، ومستجداتها التي جاءت على يد بوش العادل الخيّر، وتطلُّع الشعوب العربية لحياة جديدة فيها عدل، فيها مساواة، فيها اعتراف بقدرات الأمة، فيها حق مشاركة واضح في تقرير المصير.

رابعاً: المحنة العراقية:-

  1.      أصبح العراق بلداً دامياً، وجرحاً نازفاً على يد محرريه الحضاريين.
  2.   ومن الأكيد أن العراق لا يمكن أن يستسلم لحكم أمريكي على المدى المتوسط فضلا عن المدى الطويل مورس هذا الحكم بالأصالة أو الوكالة بواسطة عملاء عراقيين، وحتى يسكت العراق مؤقتاً على القهر لابد من أن تجري أنهار من الدماء من العراقيين والقواتالمحتلة معاً.
  3.   وهذا الثمنُ يقبله بوش وديموقراطية الغرب إذا كان سيوصل بوش ثانيةً إلى البيت الأبيض. وما يمنعه منه أنّه قد يسقطه أمريكياً بدرجةٍ أكبر مما هو عليه اليوم، ويحرمه من القفزة الثانية على كرسيِّ الجنون.
  4.   وأُركِّز على هذه النقطة: وهل يتعلم الناس من مليون بوش من هذا النوع، ومن مليون ديموقراطية من هذا النوع أن غياب التربية الدينية القويمة وقيمها، والتخلي عن شروط الحاكم التي فرضها الله سبحانه ولو في أدنى حدِّها لن تتغير معه مأساة العالم ولو طبَّقوا الديموقراطية بأدق معانيها، وأن خسارة العالم لقيم السماء وتشريعها العادل لا تنفع معه مليون ديموقراطية ولا ينفع معه أي حل.

والذين يتوهّمون أن الكلام في تأسيس وعيٍ إسلامي، والمطالبة بالأخلاقية الإسلامية، وإلفاتالنظر إلى المخالفات الخلقية، وإلى خطورة الخروج على التشريعات الإسلامية أمرٌ ثانوي يغفلون كثيرا، ويتعاملون مع الأمور بسذاجة، ويسيئون الأدب مع دين الله وأهميته في تقويم الحياة. وإنّ أي مسيرة تختطّ لنفسها طريقاً غير الطريق الذي حدده منهج الله فإنها مسيرة خاسرة.

هذا كلّه، وأوصي أخوتي المؤمنين، وهذا الشعب الكريم بدرجة عالية من الانضباط والوعي والتفهّم والحرص على بناء وطن آمن وعادل يعترف بالحقوق ويعيش التطبيق لسياسة الاعتراف بالحقوق، والعقل قبل العاطفة دائماً، ومعلومات الرموز دائماً أغزر من المعلومات المتفرقة عند القاعدة، وما رُشّح مُرشّح في مركز معيّن إلا لأن قواعده ترى فيه امتيازاً، وهذا الاعتراف بالامتياز لابد أن يبقى في كل المنعطفات، والحق نؤكّد عليه، ونطالب به دائماً، ونحن لسنا مع القعود عن المطالبة بالحقوق.

اللهم صلّ على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وهب لنا من لدنك رحمة يا أرحم الراحمين

          اللهم كن للمجاهدين المسلمين الذين لا يبتغون في الأرض ظلماً ولا فساداً ناصراً ومعيناً، وأجر الحق على ألسنتهم وأيديهم ولا تضلهم سبيلاً. اللهم أعذنا وجميع أهل الإيمان من أن نكون مع الباطل على الحق، أو نخذل الحق ولا ننتصر له. اللهم لا تجعل لنا سبيلاً غير سبيلك، ولا هوىً في غير دينك، ولا طمعاً يحرمنا رضاك يا أرحم الراحمين، ويا أكرم الأكرمين.

{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْلَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}

زر الذهاب إلى الأعلى