خطبة الجمعة (114) 5 ربيع الثاني 1424هـ – 6 يونيو 2003م

مواضيع الخطبة:

الشفاعة (5) – رحيل الإمام الخميني –
الأحوال الشخصية –
 التحالف السياسي والحفاظ على الدين –
الإسلام والميثاق والدستور الأول والدستور الثاني 

 

مبارك جدّاً أن الثورة الخمينية
الثرة أعطت جيلاً جديداً من المسلمين وفي المسلمين من كل مذاهب الأمة وفي كل
أقطارها أبعد من أن ييأس، أو يُنال من إيمانه وشموخه وصلابته، أو يتراجع أمام هول
الدمار وعمليات الترويع، أو يستجيب لخطط التدجين والتمييع، وأرفع من أن يصدّق بأن
هذه الأمة العملاقة العزيزة بربها هي الأدنى

الخطبة الأولى

الحمد لله الذي هدانا للإسلام، وأكرمنا بالإيمان، وبصَّرنا بالدين، وجعلنا من أتباع النبيين والمرسلين، لا الضالين المضلين. أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لا حاجة له في طاعة المطيعين، ولا تضرُّه معصية العاصين، ولا يعصيه عاص قهراً لإرادته، ولا يُطيعه مطيع إلا بحوله وقوته. وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله ما اتبع هوىً، وما مال عن هدى، وما نطق إلا عن وحي يُوحى صلى الله عليه وآله هداة الورى.

أوصيكم عباد الله ونفسي بتقوى الله الذي يُخاف منه طولُه وعدلُه وعلُمه بالسر وما هو أخفى، وهو الذي لا يُردُّ قضاؤه، ولا معقِّب لحكمه، ولا دافع لتقديره، ولا مانع لإرادته، ألا وإن المؤمن من سرَّته الطاعة، وأحزنته المعصية، أما من لم يفرح للطاعة، ويحزن للمعصية فهو من ميِّتي الأحياء الذين ذهبت منهم الروح، ولم يبقَ إلا دوافع البدن، والمؤمن لا يكون هذا الحيوان الرخيص، والدابة المربوطة، أو السائمة المترسلة.

اللهم صل وسلم على محمد وآل محمد، وأحينا خير حياة، وأمتنا خير ممات، وابعثنا خير مبعث، وافعل ذلك كله بإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، يا رحمن يا رحيم يا كريم.

أما بعد فهذه تتمة ختامية للحديث عن الشفاعة:

أولا: شفاعتان:-

هناك شفاعة النجاة: شفاعة ينجو بها العبد من النار، ويزحزح بها عن جهنم، ومن زُحزح عن النار فقد فاز فوزاً عظيما.

وهناك شفاعة أخرى لمن كان حظه الجنة، وهذه الشفاعة هي شفاعة رفع الدرجات، فتفاوتٌ كبير في الجنة بين درجة وأخرى، والتفاوت هناك أكبر منه هنا في الدرجات. عن الرسول (ص): “إن شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي، فأما المحسنون فما عليهم من سبيل”. قرأنا هذا النص قبل، ويُفهم منه أنَّ فئةً من الناس هي فئة المحسنين، لا تحتاج إلى شفاعة أحد من شفعاء الأرض والسماء، وأن هذه الفئة لها الجنة بما كسبت من عمل صالح بعد رحمة الله. لكن مع هذا نقرأ عن الصادق عليه السلام:”ما من أحد من الأولين والآخرين إلا وهو يحتاج إلى شفاعة محمد صلى الله عليه وآله يوم القيامة” فإذا كانت فئة من الناس لا تحتاج إلى شفاعة لدخول الجنة، فما معنى أن الأولين والآخرين محتاجون إلى شفاعة محمد صلى الله عليه وآله؟! لابد أن يكون موضوع هذا الشفاعة غير دخول أصل الجنة، فالشفاعة الثانية التي يحتاجها الأولون والآخرون هي شفاعة رفع الدرجات.

عن عبيدة بن زرارة قال:”سئل أبو عبد الله عليه السلام عن المؤمن هل له شفاعة؟ – يشفع لأحد؟- قال نعم. فقال له رجل من القوم هل يحتاج المؤمن إلى شفاعة محمد صلى الله عليه وآله يومئذ؟ قال نعم. إن للمؤمنين خطايا وذنوباً، وما من أحد إلا ويحتاج إلى شفاعة محمد يومئذ” فالحديث هنا يعطي للمؤمن الشفاعة، وأنه يشفع في غيره، فواضح جدا أن هذا الذي يشفع في غيره هو غير محتاج إلى شفاعة أحد في دخول أصل الجنة، وأهل النار لا يمكن أن يشفعوا في غيرهم ليدخلوا الجنة، فهذا رجل ليس من أهل النار لكن مع ذلك يقول عنه الحديث أنه يحتاج إلى شفاعة محمد صلى الله عليه وآله، فما هو مستغن فيه عن الشفاعة هو دخول أصل الجنة، وما هو محتاج فيه إلى الشفاعة هو رفع الدرجة.

صحيح أن هذا المؤمن استحق برحمة الله عز وجل الجنة ابتداء، لكن شوائب تمنعه من أن تكون درجته مرتفعة، وهذه الشوائب تحتاج إلى شفاعة لرفع الدرجة. “إن للمؤمنين خطاياً وذنوباً، وما من أحد إلا ويحتاج إلى شفاعة محمد يومئذ” هذه الفقرة في سياقها تعني أن هذه الخطايا والذنوب ليست مانعة من أصل دخول الجنة، وإنما منعها من ارتفاع الدرجة.

ثانياً: كن شفيع نفسك:

“إن أفضل ما توسل به المتوسلون إلى الله سبحانه وتعالى: الإيمان به وبرسوله (صلى الله عليه وآله)، والجهاد في سبيله فإنه ذروة الإسلام، وكلمة الإخلاص فإنها الفطرة…”(1). لا تبحث عن وسيلة لنجاتك في أحد قبل أن تبحث عنها في عملك الصالح، وتقواك وطاعتك لله سبحانه وتعالى واجتنابك معاصيه.

“شافع الخلق العمل بالحق، ولزوم الصدق”(2).

وكأنه الشافع الوحيد، فهنا إسلوب قصر، وكأنك تسأل ما شافع الخلق؟ فيأتيك الجواب شافع الخلق هو العمل بالحق، ولزوم الصدق. وفعلا هذا هو الحق كما سيأتي بيانه.

“لا شفيع أنجح من التوبة” (3).

منبع الفضل كله هو الله سبحانه }قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا…{(4)

ولا توفيق إلا من عنده، ولا من هداية إلا من فضله، والعمل الصالح بتسديده ورحمته، هذا فهم، نضيف إليه هذا الفهم الآخر: نحن نختار مستقبلنا، وبما مكننا الله وبرحمة منه نصير إلى الجنة، ونفتح لأنفسنا باب الشفاعة، وبتفريط منا ووضع النعم في غير موضعها نفتح على أنفسنا أبواب النار، ونغلق عنها أبواب النجاة، ونسقطها عن مستوى الشفاعة، فلا تشملها شفاعة محمد صلى الله عليه وآله، وما هو أدنى منها، فلا نُشفّع ولا ننال من أحد شفاعة.

فمصيرك لا يصنعه غيرك من خلق الله حتى الشفعاء، وإنما أنت المسؤول الأول عن مستقبلك، وباختيارك وعملك تحدد بعد إرادة الله أن تكون من الشفعاء، أو ممن ينجو بالشفاعة، أو ممن لا نجاة له ولا يُشفّع فيه شفيع، تقول الآية الكريمة:} وما أضلنا إلا المجرمون فما لنا من شافعين، ولا صديق حميم{ إذا ضلّ العبد فقد الشفيع يوم القيامة والصديق الحميم.

وانظر تعبير “شافع الخلق العمل بالحق، ولزوم الصدق” ودلالة هذا التعبير.

فهو أسلوب من أساليب القصر. والحديث يريد أن يقول أن أبواب النجاة عنك مسدودة، وأبواب الشفاعة مغلقة، ما لم تتحرك أنت بإرادتك في اتجاه سبيل النجاة، ومن أجل فتح باب الشفاعة.

وعن الرسول صلى الله عليه وآله:”إن أقربكم مني غداً وأوجبكم علي شفاعة أصدقكم لسانا، وأداكم للأمانة – أكثركم أداء للأمانة – وأحسنكم خلقا، وأقربكم من الناس” وهو فيما يظهر قرب التواضع، وقضاء الحاجات، والمشاركة في رفع المعاناة.

ثالثاً: هؤلاء شفعاء:-

عن الرسول صلى الله عليه وآله:”ثلاثة يشفعون إلى الله عزَّ وجل فيُشفَّعون – تقبل شفاعتهم فيمن شفعوا له -: الأنبياء، ثم العلماء، ثم الشهداء”. أين الأئمة عليهم السلام؟ أول العلماء هم الأوصياء. وكل نبي أو رسول مقدّم على وصيّه.

حديث آخر عنه صلى الله عليه وآله:”الأئمة من الحسين عليه السلام من أطاعهم فقد أطاع الله – والتفسير واضح لأنهم لا يدلون إلا على طاعة الله، ولأن طاعتهم من أمر الله -، ومن عصاهم فقد عصا الله هم العروة الوثقى، وهم الوسيلة إلى الله تعالى” وسيلة القربة، إذ أن طريقتهم صلوات الله وسلامه عليهم معراج الكمال والقرب إلى الله، ومن سلك دربهم قرب إلى الله عز وجل، وكانوا شفعاء له يوم القيامة.
عن الباقر عليه السلام: “إن المؤمن ليشفع في مثل ربيعة ومُضر – المؤمنون على منازل، ومن منازلهم أن أحدهم يشفع في مثل ربيعة ومضر، والتعبير هنا يحمل أكثر من تأكيد – وإن المؤمن ليشفع حتَّى لخادمه ويقول: ياربي حق خدمتي كان يقيني الحر والبرد” – هذا العبد كان ينفعني فله علي حق الخدمة، فارحمه ربِّ أن خدم عبدك المؤمن المطيع لك.

وعنه عليه السلام:”إن أدنى المؤمنين شفاعة ليشفع لثلاثين إنسانا فعند ذلك يقول أهل النار فمالنا من شافعين ولا صديق حميم كأنهم يلتفتون يميناً وشمالا وفي كل الجهات، يتطلّعون إلى شفيع فلا يجدون، فيقولون: فما لنا من شافعين ولا صديق حميم.

اللهم صل على محمد وآل محمد، واجعلنا وإخواننا المؤمنين والمؤمنات ممن يشفع فيُشفّع، وارزقنا شفاعة محمد وآل محمد، وارفع درجاتنا عندك، ومنزلتنا لديك، ولا تجعلنا خاسئين ولا مخزيين، اللهم اغفر لنا ولجميع أهل الإيمان والإسلام، ولا تخرجنا من الدنيا حتى ترضى عنا يا رحمن يا رحيم، يا تواب يا كريم.

بسم الله الرحمن الرحيم
( قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ، اللَّهُ الصَّمَدُ ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ)

الخطبة الثانية

الحمد لله الذي لا تخفى عليه خلائقه، ولا تغيب عنه من الكون دقائقه، ولا يستر عن علمه شيء شيئا، ولا ظلمة ما فيها، ولا تقادم زمن ما قبله، ولا طول زمن ما بعده، فلا ماضي ولا مستقبل في علمه حيث لا يحجبه زمان كما لا يحويه مكان، وأنى لزمان أو مكان أن يحدّه وهو من خلقه، وحُّده بيده؟!
أشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له خلق الخلق وهو غني عما خلق ومن خلق، مظهراً قدرته، معلناً كرمه، باسطاً رحمته، وأرسل الرسل داعياً إلى جنته، محذّراً من ناره، مشرِّعاً ما فيه خير عباده، ونجاة أهل طاعته.
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله هدى به إلى الحق، وجعله منارة الخلق، صلى الله عليه وآله، وزادهم تحية وسلاما.

أوصيكم عباد الله ونفسي الغافلة بتقوى الله، ومن اتقى الله راقبه، ومن راقبه لم يواقع قبيحاً، ولم يأت اثماً، ولم ينزل درجة، وأحب الخير، وصنع جميلاً وأسرع إلى الفضائل، وزكت نفسه، وطابت حياته، وزكّى من زكاته آخرون، وطابت بحياته من آخرين حياة.

عباد الله تبصّروا تبصروا، وان يتعامَ امرؤ يعمَ، البداية أن يتعامى عن الحق ولكن النهاية أن يعمى ولا يلتقي الهدى السالكون طريق الضلال، ولا يضل من تجرد لطلب الحقيقة، وهذا يعني الانعتاق من حاكمية الهوى، وأسر الأنا، وقهر الشهوات.
وما أبصر عبد رأى نفسه ربّاً، ولم ير الله ربه العلي القدير. وما قدّر إنسان نفسه قَدْرَها وهو لا يراها إلا دوافع دم ولحم وطين.

اللهم اجعلني وإخواني المؤمنين والمؤمنات أجمعين لا نرى أنفسنا إلا عبيداً، ولا نرى لنا سواك ربّاً ومعبوداً، ولا نشرك بك أحداً، ولا نبتغي من دونك ملتحداً. اللهم صل وسلم على خاتم النبيين والمرسلين، ورحمتك للعالمين محمد وعلى آله الطاهرين.
اللهم صل وسلم على عبدك الزاهد ووليك الصادق، الإمام العادل، هدى المتقين علي أمير المؤمنين.
اللهم صل وسلم على أمتك الهادية المهدية فاطمة النقية التقية المرضية.
اللهم صل وسلم على سبطي الرحمة، وإمامي الأمّة الحسن الزكي والحسين الشهيد.
اللهم صل وسل على أئمة المسلمين، وحجج الله في العالمين علي ابن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي ابن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري الخلفاء الأتقياء الراشدين.

اللهم صل وسلم على إمام العصر، الموعود بالنصر، العالم بالكتاب، الحافظ للسنة، الأمين على الحق، الحاكم بالقسط، المنتظر القائم.

اللهم عجل فرجه، وسهل مخرجه، وانصره نصراً عزيزاً وافتح له فتحاً مبينا، وأعزّ به دينك، وأحيي به ملتك، واسرّ به أولياءك يا قوي يا عزيز، يا رحيم يا كريم.

اللهم الموالي له، السائر على منهجه، الممهّد لدولته والفقهاء العدول والعلماء الأخيار والمجاهدين في سبيلك وفقهم وسدد خطاهم، واشدد عزائمهم، وادفع عنهم، وبلّغهم في الخير مناهم وانتقم لهم ولعموم المسلمين من أعدائهم يا عدل يا حكيم يا قوي يا شديد.

أما بعد فهنا حديث عن بعض الشئون تسبقه كلمة المناسبة، والمناسبة هي رحيل الإمام الخميني (أعلى الله مقامه):

الإمام الخميني ثورته وجهاده وفكره التغييري وصوته الإسلامي اللاهب صرخةٌ من ضمير الأمة وإيمانها ووعيها ومعاناتها وإبائها وشموخها واعتزازها بانتمائها وأصالتها وإصرارها على موقعها الحضاري الرائد الكبير، وهو صرخة العودة إلى الحضور والفاعلية والصنع الضخم والتغيير الهائل، وقيادة العالم كما هو الحق الطبيعي للإسلام، كلمة الله الصادقة ورحمته الواسعة وهداه المشع.

إنها الصرخة التي لا تموت ولن تموت ولا يصح للأمة أن تهن أو تتهاون دون الالتفاف بها وإعطائها الولاء الكامل فكراً وشعوراً وعملا بلا استكانة أمام الإرادة الأمريكية المتغطرسة، ولا ذوبان في الطرح الأمريكي، ولا مغادرة عن الصراط الإسلامي القويم.

ومبارك جدّاً أن الثورة الخمينية الثرة أعطت جيلاً جديداً من المسلمين وفي المسلمين من كل مذاهب الأمة وفي كل أقطارها أبعد من أن ييأس، أو يُنال من إيمانه وشموخه وصلابته، أو يتراجع أمام هول الدمار وعمليات الترويع، أو يستجيب لخطط التدجين والتمييع، وأرفع من أن يصدّق بأن هذه الأمة العملاقة العزيزة بربها هي الأدنى، وبأن شياطين العالم هم أعز وأعلى، وأصعبَ من أن يستسلم لإرادة الغزاة المفسدين، أو يهرول على طريق الانبهار والطاعة مع المهرولين من مهزومين وطامعين، وباعة الأرض والإنسان والدين والضمير.

إن الإمام الخميني -رحمه الله- حرّك تاريخ الأمة لا ليعود ثانية إلى الركود أو يتراجع إلى الخلف، وإنما حرّكه ليواصل نهضة الصمود، وصمود النهضة حتى تكون الإمامة في الأرض للدين، وتتحقق أهداف الرسالات الإلهية في العالم جميعاً، رغماً على أنوف المستكبرين والأذناب وجنود الشياطين المستفيدين من فتات موائد الطغاة الأكثر تجبّراً في الأرض وعتوّاً وفسادًا.

ويأتي الآن هذا الحديث عن بعض الشئون:-

أولاً:
كلمة الإرهاب تحوّلت بالإعلام الفتّاك إلى قنبلة إرهاب حارق فعلي مدمّر مرعب، وصارت آليةً لاستعباد الجماعات والحكومات والشعوب وإسقاط الدول، والهيمنة على الأمم. انطلقت كلمة ثم تحولت إلى هذه الآلية الفتاكة المدمرة والمبرّر الشيطاني الذي يستهدف كل خير في الأرض هدماً ونسفا وبهذا السلاح الظالم – أي تهمة الإرهاب – تجرّد المقاومة في البلاد الإسلامية، والدول الخارجة عن الإرادة الأمريكية من سلاحها، ولن يبقى لو نجح هذا العدوان السافر إلا السلاح الذي تحركه الإرادة الأمريكية، ويُحارب به للصالح الأمريكي، وتحرق به بلاد المسلمين، وتستنزف الشعوب الإسلامية وإن كان من السلاح الذي باليد العربية أو الأفغانية أو التركية أو الفارسية المحسوبة على المسلمين.

وقبلُ قد تحركت شعارات التخلف والرجعية وسوِّق لها حتى أخرجت خلقاً كثيراً عن دين الله، وجمّدت آخرين خوفاً من عار التخلُّف والخروج عن روح العصر والتقدم. وهي شعارات لا زالت تنشط في أوساط المسلمين ومنها هذا البلد لتُرعب وتربك وتضل وتفشل أي مواجهة للانحراف كما في مواجهة الخروج على أحكام الشريعة في دائرة ما يسمى بالأحوال الشخصية سمّوك رجعياّ، سمّوك متخلّفاً، سمّوك ظلامياً، وليسمّوا المؤمنين ما سمّوا ويسمّون فان المؤمنين أصلب عوداً وأشدّ إرادة.

ثانياً:
الخلاف على مرجعية المجلس الوطني في الأحوال الشخصية:-

أ‌- أسأل هل هو خلاف بين الشيعة والسنة؟
كل من الشيعة والسنة يعزّ عليه دينه ومذهبه، ومرجعية المجلس الوطني في أمور الأعراض والأنساب ضررها ليس مقصوراً على الشيعة فقط، وإنما مثل هذا التدخل سيؤول إلى نسف الحكم الإسلامي في هذه الدائرة الخاصة على المستوى الشيعي والسني، وهناك كثير من المشتركات بين المذهبين المسلمين، وكل هذه المشتركات مستهدفة إلا ما وافق هوى الغرب.

لماذا يسوّق: أن المعارضة فيها طائفية؟ يسوّق هذا ليعزل السنة عن الشيعة في مقام المواجهة، وليقول لعموم الأخوة السنة بأن منطلق الشيعة في هذه المعارضة إنما هو منطلق طائفي فحاربوهم، إنه أسلوب من الأساليب الشيطانية التي تستعمل دائماً لإضعاف كلمة المسلمين وتفريق صفوفهم للتمكين للكلمة الأخرى. وهي كلمة تشتهيها أمريكا، وتشتهيها أوروبا، أي الكلمة التشريعية على غير طريقة الله.

ب‌- أهو خلاف بين المرأة والرجل؟
المسلم والمسلمة معاً مسلِّمان لأمر الله، وليس دين الرجل المؤمن أعزّ عليه من دين المرأة المؤمنة عليها، وكم من امرأة هي أكثر سبقاً في الإيمان من رجل، وأكثر صلابة، وأعتى في المواجهة. لا تخدعوا المرأة أيها المخادعون، والمسلم والمسلمة لا يرتقبان أن توافق أحكام الشريعة هواهما ونظرتهما البشرية المحدودة. ألا ترى الرجل المسلم يقدم على الجهاد الذي سمّاه القرآن كرها لكم }وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ{ وألا ترى المرأة تضحي بفلذة كبدها في سبيل الله؟! الجهاد تشريع لا يوافق هوى النفس وهو عليها شديد، ولكن الإيمان حين يصدق الإيمان يحوّل هذا الكره إلى شيء لذيذ محبوب، ومتى استساغ المسلم المؤمن على تقواه وعلى رعايته لدم البعوضة، أن يحارب أخته وأمه وبنته، ويؤسس لظلم هؤلاء؟! الظلم من أين يأتي، يأتي من شدة الإيمان، ومن معرفة الدين؟! أم أنه يأتي حين التخلي عن دين الله وعن الفقه وعن صدق الإيمان، قولوا لنا!!

ج- الخلاف في الحقيقة بين من يسلّم للإسلام في تشريعاته وبين من لا يرى غضاضة في عملية الاستبدال عن الإسلام في الأحكام. وهناك نفر ليسوا بالقليل في المسلمين ممن يرى الإسلام عبادة وليس سياسة ولا إدارة اجتماعية ولا اقتصاداً ولا أي شيء آخر. نعم هناك الغافل والمشتبه، ومن ماثلهما ومن يأخذ بحسن الظن إلى المدى البعيد الذي يحمل في طياته ضررا.

ثالثاً: قالوا المجلس الوطني لن يخرج على أحكام الشريعة:

أ- مشاريع القوانين للأحوال الشخصية ألمقترحه من محامية أو من مؤسسة نسائية أو مَن إلى ذلك، تشهد بخلاف ما يقولون، لأنها تحمل في طياتها مخالفات صريحة للحكم الشرعي.

ب- المجلس الوطني ليس لجنة صياغية:

ثم أن المجلس الوطني كما تكرّر عندي وعند غيري ليس لجنة صياغية، انه مجلس للتشريع ووضع الأحكام، ولا مقيد لهذا المجلس بأن تكون أحكامه دائماً وفق الشريعة وما في الدستور من كون الإسلام هو دين الدولة أو كون الإسلام مصدراً تشريعياً رئيسياً، لم يمنع عملاً من وجود قوانين كثر على خلاف الشريعة، وكل القوانين الموجودة في البلاد الإسلامية التي تنص دساتيرها على هاتين المادتين مما يشرِّع للمساحة السياسية وغيرها هي قوانين غير إسلامية.

ج- وعجيب أن تتقدم هذه الجهة أو تلك بمشروع قانون يتضمن مخالفات صارخة وتملأ الساحة إعلاماً بأنه موافق للإسلام.

رابعاً: التحالف السياسي والحفاظ على الدين:-

‌أ) نحن مع التحالفات السياسية المدروسة النافعة شعبياً والمقدّرة للحالات الموضوعية بدقة والتي لا تخرج على مصلحة الشعب ولا على مصلحة دينه ومقرراته، وندعم هذه التحالفات إذا كانت تصب في صالح الشعب وتتقيد بالإسلام.

‌ب) التحالف السياسي هل هو بشرط التخلي عن الدين؟ أيهما المشروط بعدم الإضرار بالآخر؟ الدين مشروط بعدم الإضرار بالتحالف السياسي، فإذا اضر الدين بالتحالف السياسي نرمي بالدين؟ أو أن التحالف السياسي مربوط بعدم الإضرار بالدين وأن أي تحالف سياسي قيمته صفر وندوسه بالأرجل إذا خالف دين الله؟ أيهما تقبلون؟ وكل التحالفات السياسية القائمة كما تعرفون هي تحالفات آنية لا تثبت عند إحساس هذا الطرف بالضرر منها، أو ذاك الطرف، وكل ضرر مقبول إلا الضرر بالدين.

خامساً:
الإسلام والميثاق والدستور الأول والدستور الثاني ما العلاقة بين هذه المفردات وما هو موقفنا منها؟ ينبغي أن نسلّم من حيث كوننا مسلمين شعباً وحكومةً وعلى كل المستويات أن المرجعية الكبرى عندنا من بين هذه المرجعيات ولنضف إليها مقررات القانون الدولي هي الإسلام. الميثاق، الدستور الأول، الدستور الثاني، لأي من هذه المفردات تكون المرجعية الكبرى عندك أيها المسلم؟! ولاشك أن البلد بما التزمت به من كونها إسلامية، وبما التزمت به ًمن كون الإسلام مصدراً تشريعياً رئيسياً عليها أن تلتزم بأن المرجعية الكبرى للإسلام وأنه عند التعارض بين الإسلام وغيره يطرح غيره، ويثبت الإسلام في المقام العملي التنفيذي، وفي مقام التشريع.

وهنا أمور:

أ‌) لا الدستور الأول، ولا الدستور الثاني ولا الميثاق تامة إسلاماً ولا ديمقراطية. إنها لا تمثل الإسلام الصادق الكامل، وليس من دعوى أحد هذا مطلقاً. لا أظن أن أحداً يجرأ أن يقول أن الميثاق يمثل الإسلام القرآني التام، وكذلك الدستور الأول، والدستور الثاني، ثم لا دعوى أيضاً أن الميثاق يمثل الديمقراطية في أكبر صورة متقدمة لها ومثله الدستور الأول، والدستور الثاني.

ب‌) المطالبة السياسية يجب أن تستمر ولكنه لا يصح لإنسان مسلم أن ينظر إلى الدستور الأول على أنه أكبر الطموح، الديمقراطي لا ينظر له بهذه النظرة، والإسلامي أولى بأن لا ينظر إليه بهذه النظرة، الطموح الأكبر في منهج الله. 124 ألف نبي جاءوا من أجل تركيز منهج الله في الأرض، ومنهج الله هدايته للناس، ورسول الله رحمته للعالمين، وإنقاذ العالم لا يتم بدستور هنا، ولا بدستور هناك مطلقاً. إنقاذ العالم ينتظر الأطروحة الإلهية الكاملة، والقائد الإلهي الكامل وهو الإمام القائم عجل الله فرجه وسهل مخرجه، فلا تكن قصير النظر، قليل الطموح لا تتجاوز بنظرتك إلى ما هو أبعد من أقدام، ولا تخسر في وسط الضجيج الإعلامي ثقافتك الإسلامية، وأصالة وعيك الحضاري الكبير.

ج‌) كل من موضوعة الميثاق والدستور الأول والثاني تعالج مسائل وعلاقات معينة في بلد واحد، في إطار زمني محدود، لحياة فئة بشرية خاصة، أما منهج الإسلام فهو منهج عالمي لحل مشكلات الحياة كل الحياة، والإنسان كل إنسان إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. وعليه فرؤية الإنسان المسلم ممتدة ومتسعة امتداد الإسلام وسعته ولا تتقوقع في إطار محدود.

د) إن هذا كله لا يعني عدم التعامل الجدي مع المسائل الآنية، والإخلاص للوطن، والسعي في تقدمه وأمنه وخيره ورفاهه الحلال وبناء علاقات وطنية ايجابية مثمرة مع كل الأطراف وبين الشعب والحكومة، لكن كل ذلك مؤطر بإطار الإسلام والمسلم يتمشى دائماً مع إسلامه في همومه وطموحاته وتطلعاته وخطواته، ويقيس كل شئ للإسلام، وليس له مقياس آخر يفوق الإسلام أو يوازيه.

اللهم صل على محمد وآل محمد وافعل بنا وبإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين ما أنت أهله، واغفر لنا ولهم ولمن كان له حق خاص علينا منهم ولوالدينا وأرحامنا يا أكرم الأكرمين، ويا أرحم الراحمين.

“إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90)” النحل.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 – ميزان الحكمة ج5 ص122
2 — المصدر ص 123
3 – المصدر نفسه.
4 – 44/ الزمر

زر الذهاب إلى الأعلى