خطبة الجمعة (45) 25 ذو القعدة 1422هـ – 8-2-2002م
مواضيع الخطبة:
تفسير سورة الشمس- وظيفتنا في الحياة –
بصائر من الذكر الحكيم- تأكيد خلو البلد من ظاهرة الإرهاب
البحرين اليوم من أحسن البلاد حظاً في الأمن والإستقرار، وهي تحتاج لتركيز هذا الواقع ومعالجة نواقصه، وإستتمام شموليته إلى حياة دستورية عادلة تقترب بها من إسلامها وأصالتها وقيمها السماوية الرفيعة
الخطبة الأولى
الحمد لله كما هو أهله حمداً دائماً لا ينقطع أبداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له، علا كل شيء، وخضع له كل شيء، وشمل جوده كل شيء، وما من شيء إلا يطلب رفده، ويسأل رحمته. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالدين القويم، والكتاب المبين، والرسالة التامة، والشريعة المهيمنة. اللهم صل وسلم على رسولك للعالمين محمد وآله الطيبين الطاهرين .
عباد الله اتقوا الله الذي خلقكم من بعد العدم، ورزقكم من بعد الفاقة، وهداكم بعد الضلالة، ومنَّ عليكم بولاية أنبيائه ورسله وأوصياء رسله وأوليائه، وهي أكبر النعم، وأعظم المنن لا ينالها إلا من أحب الله، وأراد له الكرامة والسعادة، وأحرصوا كل الحرص على أن لا تخسروها فتخسروا أنفسكم وتنحطّوا من المنزلة الّتي كرّمكم الله بها، ووفقكم إليها ذلك بمجانبة المآثم، والتجافي عن المحارم .
أما بعد فإن أغلى ما على الإنسان نفسه، ولا يسأل عنها أحد مثله، ولا يعاني غيره من ضرها كما يعاني، ولا ينال احدٌ خيرها وسعادتها كما ينال. ولا يصل امرءاً من صلاح ما ملكت يداه، أو يدا غيره ما يصله من صلاح نفسه. وسيتجلى لكل واحد إن لم يعرف اليوم أنه نفسه لا أنه هي مضافاً إليها أشياؤه، كما سينكشف له أنه ليس هذا البدن الذي قد يسعى من أجله عمره كله، وإنما هو روحه بما فيها من نور أو ظلمة، وبما يطفي عليها من خير أو شر، وما يغلب عليها من حيوانية بهيمية أو معرفة إلهية، وخلق ملائكي كريم. ومن غريب الأمر أن تكون عناية الإنسان بغنمته وبقرته أكثر من عنايته بنفسه، وقد يطال اهتمامه بدنه، وكل أشيائه إلا حقيقته ونفسه التي بين جنبيه، فيقضي حياته مشغولاً عنها، مهملاً لها لتميع وتضيع، أو تكون مطمورة تحت الركام ضامرةً إلى حدّ الذوبان، فيجدُ نفسه في آخر المطاف كتلة ضئيلة من المادة ضعضعها الزمن، وذرات ضائعة في الكون بددها طول الأمد، وروحاً حقيرة لا تجامعها روح الحيوان حقارة، وضيعةً من وضاعة أهل النار والعذاب والشقاء .
وهذا ظلم للنفس يفعله الإنسان بنفسه في هذه الحياة مسروراًَ مغروراً مبهوراً بما يراه خيراً وتقدماً وسعادةً في الطريق المعاكس لطريق الله سبحانه، وقد لا يفيق من سكرته التي صار إليها بارادته حياته كلها حتى لا ينفعه ندم، ولا تبقى في يده فرصة بل عدم .
واي نفس هي التي يكونُ هذا مآلها ؟ إنها التي لو رعى صاحبها حقها، وقدَّرها حق قدرها، لنمت وزكت وبلغت من طهرها ما عليه ملائكة السماء، ومن هدايتها أن تدوم لذاته برؤية بارئها، ومن غناها أن تشعر صادقة بعدم الإنقطاع، وبالرفد الدائم والرزق الممدود، والرضى الطافح والنعيم المشهود، ولرجعت من رحلة هذه الحياة إلى الله عز وجل مطمئنة، راضية مرضية، محبوّة في مقام امين، ونعيم مقيم لا مشوب ولا منقطعٍ ولا منقوص .
قال الله سبحانه (( ونفس وما سواها. فألهمها فجورها وتقواها. قد أفلح من زكاها. وقد خاب من دساها )) 7- 10 الشمس .
مفردات من الآيات :
تسوية النفس: جعلها خلقاً معتدل القوى، متوازناًَ بلحاظ المجموع من الدوافع والطاقات والهدايات، متلائماً مع الوظيفة المكلِف بها، والدور المطلوب منه، ومقدار التجربة التي أُعدّ لخوضها .
الفجور: من فَجَرَ الشيء: شقّه شقّاً واسعاً. وهو كما في (مفردات ألفاظ القرآن) للراغب
الأصفهاني: شق سٍتر الدّيانة. حيث أن الديانة تضع حاجزاً بين الإنسان وبين أن يفعل شيئاً. أو يترك آخر. والفاجر هتّاك لهذه الأستار، هدّام لهذه الحواجز، يشقها شقاً ويخترقها إختراقاً .
زكّاها: زكّى من زكى يزكو زكاة. والزكاة النمو الصالح والحاصل عن بركة وخير .
دسَّاها: الدّس كما في المفردات للراغب الأصفهاني: إدخال الشيء في الشيء بضربٍ من الإكراه، وكما في الميزان للطباطبائي: إدخال الشيء في الشيء بضربٍ من الإخفاء .
والفلاح يقابل الخيبة: فهو الظفر وإدراك البغية، والخيبة الإخفاق والفشل وفوت المطلوب.
عطاءات من الآيات :
أولاً: لا نقص في المخطط الإلهي لهذا الإنسان، “ونفسٍ وما سواها”. نفس متكاملة في الخلقة، ومتعادلة في الطاقات والدوافع والمواهب والهدايات، معدّة الإعداد الدقيق المحكم لبلوغ الغاية المرسومة وهي – أي تلك الغاية – واحدة نوعاً وإن تكن بحسب الإعداد على درجات .
ثانياً: أمام النفس تجربة التمشي مع إرادة الله، “قد أفلح من زكّاها، وقد خاب من دسّاها”، فأمام الإنسان أن يزكي نفسه وهو قادرٌ على هذا، أو أن يدّسي نفسه وهو قادرٌ على هذا …
أمام النفس تجربة التمشي مع إرادة الله المتعالية في موارد الفعل والترك، وتحديد المصير، أو أن تعاند وتسلك ما يخالف إرادة الله من سبيل. وقد عُرِّفت هذه النفس باهام من الله عز وجل طبائع أفعالها من أكل وشرب، وحرب وسلم، وصلاح وإضلال مثلاً .. تعرف النفس بفطرتها أن هذا تقوى وذاك فجور، تقوى لله لأن فيه تقيّداً بأمر الله ونهيه، واخذاً بما يرضيه، وتجنباً لما يسخطه. وفجورٌ لأنه تمردٌ على الله ومعصية له ومعاندة لأمره ونهيه، وإختراق لحاجزٍ من زجره عن فعل، ولستر من بعثه لآخر. فهذه النفس بما ألهمها الله سبحانه أوّلاً عن طريق الفطرة، ثم علّمها ثانياُ عن طريق الكتب والرسل تعرف أن معصيتها معصية، وطاعتها طاعة، وهي بحسب ما أودعت يد اللطف الإلهي في خلقتها تميّز الخير من الشر، فلا تأخذ بطريق الخير أو الشّر مشتبهةً بينهما، فاقدة للتمييز بين حديّهما. أما تفاصيل الأمور التي يصعب عليها في دقائقها أن تعرف فيها الحق من الباطل، فطلبها لمعرفة التمييز تعرفه خيراً، وتركه تعرفه تقصيراً وشرّاً، وهي آخذة بعلم واختيار بهذا أو ذاك.
ثالثاً: موقفان من أرصدة النفس و كنوزها… من هدايتها ومواهبها .. من نبتَةِ الخير والصلاح فيها .. بل منها جوهرة لئلاءة يتجسد المعنى الإنساني الكريم فيها، وشعلة منيرة، ونفحة روحية يتمثل التشريف الإلهي لهذا الإنسان بها ..
موقفان: موقف التزكية والإنماء الصالح، والتطوير الذي يزيد هدى النفس هدى، ومعرفتها معرفة، وقربها إلى الله قرباً، وكمالها كمالاً، وموقف التّدسية وإخفاء نور النفس، وإطفاء شعلة الهدى، وطمر إستعدادت الخير، وقبر عوامل الصلاح في الذات، وتغييب حالة المعرفة، وإسكات نداءات الرقي، وإجهاض بذرة السمو، والموقفان أُقدّرَ عليهما الإنسان، وأعطي سبيلهما، وأدوات صنعهما، وفي هذا امتحانه، وبه تتمثل تجربته مع هذه الحياة، ويتحدد مصيره من خلالها .
رابعاً: نتيجتان متباينتان:
الموقفان المتباينان يفرزان نتيجتين متباينتين، ، فسالك الطريق إلى علوّ، غير سالك طريق إلى منحدر سحيق. نتيجة التزكية فلاح ونجاح وبلوغ غاية تنحط عند مستواها كل غاية. إنها أن تبني ذاتك، أن يعلو قدرك في ميزان الله .. ترتفع منزلتك في عين الله … تنالَ رضوان الله، وأن تربح حياة ناعمة سعيدة راقية أبداً. ونتيجة التّدسية خيبة وفشل، وضياع سعي، وخسارة ذات، وبطلان محاولة، وانتكاسة وجود، وسوء منقلب، ومقامٌ لئيم، وعذابٌ مقيم، وخسة شقاء، بعد ضخامة المشروع، وعظم القابليات، وخصوبة التربة، وإتاحة الفرصة، ووضوح المنهج، وعزارة الهداية .
بعد هذا هل نكون قد عرفنا وظيفتنا الأساسية في هذه الحياة التي لا يصح أن نفرط بها في أي ظرف من الظروف، وفي أي وسط من الأوساط، وتحت أي ضرورة من الضرورات، وأي ذريعة من الذرائع؟!
أن نعمل على تزكية النفس لا من خلال التقوقع والانقطاع عمّا تزخر به حركة الحياة من أحداث، ولا بحياة الحرمان عن الطيبات، التي أحل الله وفيها نفع الذات، بل من خلال الانسجام مع تعاليم الشريعة وأهدافها في كل المواقف، وتحمّل التكاليف الإلهية والصبر على مؤنتها في ما هو موقف من حياة الفرد، وحياة الجماعة، وحياة الأمة، وحياة الناس جميعاً، وفي ما هو موقف من الوجودات الأخرى التي يقف منها الإنسان الموقف المسؤول المحاسب .انظروا إلى الأقسام في الآيات المباركة (والشمس وضحاها والقمر إذا تلاها والنهار إذا جلاها والليل إذا يغشها والسماء وما بناها والأرض وما طحاها ونفس وماسواها فألهمها فجورها وتقواها) هذه أقسام، والمقسم عليه في ما يظهر (قد أفلح من زكّاها، وقد خاب من دساها). كم أكدّ لنا ربنا أنَّ في التزكية الفلاح، وأن في التّدسية… في إطمار نور الروح في إطفاء شعلة الهدى في داخل الذات، في ظلم الجانب الروحي في الإنسان.. الفشل.. الخيبة.. السقوط..
انظروا إلى الأقسام في الآيات المباركة على نتيجة الفلاح للتزكية، والخيبة للتدسية وما يفرضه هذا التأكيد والتشديد على العاقل من مسؤولية على نفسه في اختيار المسالك والمواقف .
اللهم صل وسلم على محمد وآل محمد، واهدنا كما هديت محمداً وآل محمد، ووفّقنا كما وفقت محمداً وآل محمد، ولا تفرق بيننا وبينهم في الدنيا والآخرة، وأجعلنا من سعداء الدارين، واغفر لنا ولوالدينا وذوي قرابتنا ومحبتنا، ومن كان له حق خاص علينا من المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وكافة أهل الإيمان أحياءً وأمواتاً يا كريم يا رحيم.
بسم الله الرحمن الرحيم
{أَلْهَاكُمْ التَّكَاثُرُ(1)حَتَّى زُرْتُمْ الْمَقَابِرَ(2)كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ(3)ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ(4)كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ(5)لَتَرَوْنَ الْجَحِيمَ(6)ثُمَّ لَتَرَوْنَهَا عَيْنَ الْيَقِينِ(7)ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنْ النَّعِيمِ(8)} التكاثر
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي لا يعدله شيء ملكاً وعدلاً، وجبروتاً ورحمةً، ومثوبةً وعقوبةً، وأخذاً وعفواً. أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. كل من دونه مملوك وهو المالك، يملك من كل شيء أمره، ولا يملك أحد من أمره شيئاً أبداً. تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله على فترة من الرسل فأحيا به دينه، وبعث به ملته. صلى الله عليه وآله الهداة الميامين .
عباد الله أوصيكم ونفسي من قبلكم بتقوى الله الذي لا إله إلا هو، ولا رب سواه، وأن لا يملك عليكم مشاعركم رعب الدنيا وَرَهَبُها، ولا زينتها ورغَبُها، وأن لا يكبر في نفوسكم هولٌ ينسيكم جبروت الله، وهو فوق كل جبروت، وأن لا يتعاظمكم أمر من أمور المخلوقين فيصرفكم عن عظمته، وهي فوق كل عظمة، وهل الجبروت إلا له ؟! وهل العظمة لأحد سواه ؟! أعلموا عباد الله بأن الدنيا بكل شرها وخيرها، وبما فيها من نعمٍ ونقم، ومتعة وألم، وصحة وسقم، وأحداث ضخام، وأهوال جسام، وإنتصار وهزيمة لا ينبغي أن تصرف العاقل الحكيم عن أمر الآخرة وهمّها، ومستقبل حياته فيها، وإنما شأن من رزقه الله الفهم والحكمة والوعي والبصيرة أن يخوض غمار الدنيا ويتعامل مع خيرها وشرها وامنها وخوفها، وأحداث سلمها وحربها، وشؤون اقتصادها واجتماعها وسياستها بهمّ الآخرة وحساباتها، فهو يسعى لاصلاح شأنه في هذه الحياة، وبناء أمته، وتقدم وطنه، ونظره ممدود إلى الآخرة، وخطوه مشدود إلى هدفها، وهمته متعلقة بها .
اللهم صل على نبيك المطهر، ورسولك المكرم، ووليك الذي أيّدته، وعبدك الذي وفقته، وداعيك الذي سددته، محمد سيد الأولياء، وخاتم الأنبياء. اللهم صل وسلم على من أخلص في نصرة دينك وأوليائك، واستقام على طريق رسلك وأنبيائك، وبقي على مجاهدة أعدائك من محرفي الكتاب، وظلمة العباد علي بن أبي طالب سيف الجهاد، ورجل المحراب، اللهم صل على الرضيّة المرضيّة، الزكية فاطمة الطاهرة التقية.
اللهم صل وسلم على الإمامين المجاهدين، والوليين الزاهدين والمنقذين المباركين أبي محمد الحسن وأبي عبد الله الحسين، اللهم صل وسلم على عبادك الصالحين، وأوليائك الطاهرين، والأئمة المعصومين علي بن الحسين زين العابدين ومحمد الباقر وجعفر الصادق وموسى الكاظم وعلي بن موسى الرضا ومحمد الجواد وعلي الهادي والحسن بن علي العسكري عليهم السلام الهادين المهديين.
اللهم صل وسلم على المنقذ المخلِّص، والقائد المظفّر ،والإمام المطهّر، والمكتسح للظلم والشر، سليل الأطهار، وقدوة الأخيار محمد بن الحسن المنتظر القائم. اللهم حقق على يده نصر دينك وأوليائك، وأقمع به شر مناوئيك وأعدائك، وأثلج به صدور المخلصين من عبادك , وطهّر به الأرض تطهيرا، ونكل به طغاتها تنكيلاً، وأقرّ به عيون المؤمنين ،وأذهب به غيظ الصالحين .
اللهم الراضي بما يرضيه، الرافض لما يرفضه، المشيد لما يشيده، المؤسس لما يسره، أيده وسدده وانصره وأدرأ عنه، وأيّد وسدد وأنصر فقهاء الأمة وعلماءها العاملين المخلصين، وجماهيرها المؤمنين والمسلمين من دعاة الإسلام ومجاهديه، والساعين في سبيل اعزازه يا كريم يا رحيم .
أيها المؤمنون والمؤمنات:
وقفة مع آي من الذكر الحكيم تبصرنا وتنورنا. وما أحوجنا في غمرة الضلال العالمي الذي تثيره جاهلية هذا القرن إلى بصائر القرآن، ومنارات هداه، وما تقدّمه سنة الرسول وأهل بيته عليهم السلام جميعاً آلاف التحية والسلام من دروس الحياة ووعي الطريق .
يقول الله سبحانه(صَ والقرآن ذي الذكر. بل الذين كفروا في عِزَّة وشقاق. كم أهلكنا من قبلهم من قرن فنادوا ولات حين مناص).
وهذه بصائر :
أولاً: القرآن كتاب الله المعبأ بذكره، والإلفات لعظمته وجبروته، ولطفه ورحمته، وذاته العليا، واسمائه الحسنى حتى تبهت كل صورة لعظمة المخلوقين، وتندك هيبة كل العبيد، وتتوارى أمام ذكر الله المتعال كل الذوات المصنوعة، تنسحب من المواجهة لتكون نسياً منسيّاً، أولا شيء هو كائن .
القرآن ذكرٌ ومذّكر بالحقائق الكبرى، وأولها توحيد الله وكماله وربوبيته المتفردة، وعبودية من سواه، وما سواه، ووهنه وفقره وحاجته، وحدوثه، وهو يثير الذكر ويحييه، ويعطي الحقائق الأم حضوراً دائماً في العقل والنفس، ويأخذ بالإنسان بعيداً عن الغفلة والسهو، والخطأ في التقدير، والخطل في التقييم .
وحضارة القرآن والسنة بعيدة كل البعد عن التجهيل والإستغفال، والمغالطة في الفكر والشعور ومن أول مهماتها أن يعي الإنسان … يستيقظ .. يكون نابهاً .. يعرف الحقائق .. يتوفر على الدقة البالغة ما أمكن في التمييز بين أوزانها وأحجامها .. يعطي لكل شيء حقه .. يضعه في موضعه، وأن لاينسى .. لا يغفل .. لا يُستغفل .. لا يُغرر به .. لا يتخلى عن عقله لحظة … ولا عن مرتكزات فطرته .. لا يخدعه قول ولا فعل ولا ظرف .
أما حضارة المادة فأساسها أن تُغيِّب منك عنك روحك .. أن تطمس معالم القسم الأهم من فطرتك المقوّم لإنسانيتك .. تطارد فيك وعيك لربك لذاتك لمصلحتك .. تعطل فيك شعورك بقيمة معناك .. تنتهب منك اعتزازك بذاتك العليا … تشدّك إلى أسفليك .. تنسيك حق خالقك و عظمته وجماله وجلاله .. تغلق على تفكيرك وشعورك قفص الزمن الخانق فلا يمتدّ منك للمستقبل عقل ولا شعور… فلا يمتد للمستقبل.. تقوقعك في حاجات البهيمة، وتجعلك تركض وراءها بكل ذاتك، وتعطيها كل حياتك، وتقدّم لمالكي مفاتحها نهباً وغصباً، وجوراً وقهراً كل وجودك .. تستخف فيك وزنك حتى لا تزيد على آلة في مصانع الكبار ذات الانتاج الضخم الذي يصب في جيوب عمالقة المال الحرام ،والثروة المنهوبة من الشعوب والأمم .
هاتان حضارتان احداهما للذِكّرِ والأخرى للنسيان .. احداهما للصعود، والأخرى على طريق الإاحدار فأنّى يتلاقيان ؟!
ثانياً: الذين كفروا وظلموا الحقيقة وستروها حتى عن عقولهم وقلوبهم، وأقاموا في أنفسهم وفي الناس حجاباً عن نور الأفئدة وهدى الأرواح، لهم شأن لا يلتقي مع شأن أهل الإيمان.
المؤمنون يفتحون عقولهم وقلوبهم لنور الحق .. لهدى الله .. لدروس الحياة .. لآيات الكون ,, يتواضعون للحق .. يُسلمون له .. ينقادون لمقتضاه .. يصوغون مواقفهم في ضوئه .. يسمعون لاملاءاته .. يتوافقون معه .. يَرضَونه .. يناصرونه .. يدعون إليه .. يحتكمون عنده .. أما الكافرون وهم أعداء الحق الذين يخنقون نداءات الفطرة به في داخلهم، ويقبرون إشعاعاتها منه، ويسعون لتغطيته كلما كان له ظهور، فهم يعاندونه ويستكبرون عليه .. يعيشون الشعور بالعزة بالإثم، فلا يسلمون له .. يقاومونه ويحاربونه ويختلفون معه أينما كان، ويحاولون أن لايتركوا له موقعاً من المواقع ..
مشكلة الحق مع من كفر، أن الكافر لا يسيطر إذا ما الحقّ ظهر، انكشاف الحقائق، وتفتح العقول، ويقظة النفوس، ورؤية الكبير كبيراً، والصغير صغيراً، والربّ ربّاً والعبيد عبيداً، والدنيا دنيا، والأخرة عظمى، أمور تُسقط الكافر، فلا بد أن يعاديها، وهو يريد أن يَظهر، ولا بد أن يقاتلها، وهو يريد أن يظفر، ولا بد أن يجنّد كل الدنيا ضدها، وهو يريد أن يُعبد ويُخاف ويُرجى ويُشكر .
ولما كان الإسلام للذِكّر .. لليقظة .. للعلم والمعرفة .. للنور و الهداية .. لاظهار الحق .. وبلورة الحقيقة .. كان لا بد للكفر أن يكون في مواجهته ومحاربته ومطاردته. والمعركة قديمة حديثة مستمرة مكشوفة في كل مساحة الحياة .
ثالثاً: مرت أمم وأمم من الكفار على مدى التاريخ، حققت انتصارات وقتيّة في معاركها مع خط الايمان، ومواكب النبيين والشهداء والصالحين لكنها سقطت أطروحات ومناهج، وتعاقبت مناهج متلونة من الطرح تتقدم لتتراجع .. وتقوم لتسقط. وقد أتى قدر الله على تلك الأمم، فأحالها إلى عدم. وعند النوازل القاصمة من قدر الله كان يضج الظالمون، وينادون بالويل والثبور، وربما استغاثوا بالله أو طلبوا مفرّاً ومهرباً ولكن الحين ليس حين فرار ولا خلاص، ولا استجابة ولا إستغاثة أو دعاء .. فالعبيد قد ينتفخون ويستعلون ويستكبرون، ولكنهم في الأخير يقهرون ويُذلون ويخنعون، والعزّة بالحق لله الواحد القهّار وحده، ثم لمن آمن واهتدى، وأطاع الملك الأعلى، لا لمن تمرد وكفر، وطغى وتجبر. فهذا سيُريه القدر حيث لا صبر ولا مفر .
ومصائر المستكبرين تقول للمستضعفين لا تعبدوا إلا الله، ولا تستكينوا خاشعين إلا إليه، وأن لا قدر إلا من قدر الله، ولا خير ولا شر بمصيب أحداً إلا بإذنه .
والانقسام بين الكفر والإيمان انقسام مستقل لا صلة له بالانقسامات الجغرافية والقومية والعنصرية، ولا بأي انقسام آخر، فمعسكر الإيمان ينتشر في كل الأرض وفي كل القوميات ومن مختلف المستويات وكذلك هو معسكر الشرك والكفر والالحاد .
ولن تخرج الأرض من الفوضى والإقتتال، والأمم من المواجهات الساحقة حتى تُوَحّد الله، وتُرجع الأمر إليه، وتحتكم إلى منهجه العدل القويم .
وأتطرق إلى الساحة الداخلية لأوكد بأن البحرين اليوم من أحسن البلاد حظاً في الأمن والإستقرار، وهي تحتاج لتركيز هذا الواقع ومعالجة نواقصه، وإستتمام شموليته إلى حياة دستورية عادلة تقترب بها من إسلامها وأصالتها وقيمها السماوية الرفيعة، وتثير في ابنائها قوى الإبداع، وهمة العمل البناء، في ظل شعور يفعم نفس كل مواطن بوحدة المسيرة، وبأن أرض الوطن تحتضن الجميع عطاءً عادلاً، وفرصاً متكافئةً، ومعاملةً كريمةً، وحريةً راقيةً منفتحةً، وأنهم يبذرون ليجنوا، ويغرسون لينتفعوا هم والأجيال اللاحقة من الأولاد وأولاد الأولاد .
واضح أن البناء يحتاج إلى أساس، والعمارة القوّية لا تكون كذلك بلا أرضية قوّية، فبناء العلاقات السياسية المتينة في أي بلد وما يتبع ذلك من بناء إجتماعي وإقتصادي وثقافي قوي محتاجٌ إلى أساس من دستور قوي ينال درجةً ملحوظة من التوافق.
ولبلدنا دستورٌ أعقبه ميثاق يجيز تغيير بعض مواده، وقد أُكّد في أكثر من موقف أن التغيير لن يخرج في طريقته على الدستور، والطريقة الدستورية للتغيير منصوصة في المادة المائة والرابعة (104) منه، والرجوع إليها في التغيير لا شك أنه يحصِّل درجة من توافق أكبر وأركز في وسط القوى السياسية القائمة، والأوساط الشعبية عامة .
وكان التركيز السياسي والشعبي العام من أول الحديث عن الميثاق، وظل مرافقاً له في كل مراحل وجوده، وبعده، على طبيعة المجلس المعيّن وهل هي إستشارية فقط أو تشريعية، وعلى العلاقة الدستورية بين المجلسين وأنها تفرّغ المجلس الإنتخابي من وظيفته، أو تعطل دوره أو تعينه على النشاط والإنتاج، وتمدّه بالدراسات ونتائج الخبرة المتخصصة. وكان اجماع الرأي من القوى السياسية والأوساط الشعبية وإلى جانبها الوعود الحكومية على أن يكون المجلس المعين صاحب وظيفة استشارية، ولتقديم الدراسة والخبرة التي تساعد المجلس المنتخب على إنجازات أكبر وأسرع وأنضج .. ويبقى هذا هو المطلوب والأكثر ضماناً لدرجة أكبر من التوافق وتعزيز الثقة، وهو محل تطلع لهذا الجيل الذي يريد أن يؤسس لعلاقات سياسية مستقرة .
ويهمني أن أؤكد على إيجابية الخطوة المتعلقة بإلغاء الأقساط الإسكانية عن طائفة كبيرة من المواطنين، وما يعنيه ذلك من تخفيف عن كاهل هؤلاء الأخوة والأخوات، وما يشير إليه من العناية بِشأن هذا الأمر المعيشي المهم من قبل أمير البلاد وفقه الله لمزيد من الخطوات على طريق الخير والصلاح، وإن مثل هذه الخطى محتاجة إلى أن تأتي تغييرات الدستور متوافقة مع المادة المائة والرابعة منه .
وأشير أخيراً إلى ما أكد عليه بيان وزارة الداخلية من خلو البلد من ظاهرة الإرهاب والإرهابيين، وأنه الصحيح والدقيق حسب شهادة الواقع، وليس في الظن مطلقاًُ، ولا في الاحتمال العقلاني أن طرفاً من الأطراف في هذا الشعب يريد أن يأخذ بمبدأ العنف والإرهاب أو ينحو هذا النحو. وكلّ ما يمكن أن يكون – وهو أمر دستوري – هو المطالبة الدستورية بالحقوق بالطرق الدستورية نفسها.
اللهم صل وسلم على نبيك المرسل رحمة للعالمين، وهدى للمؤمنين وآله الطيبين الطاهرين، ووفقنا لخير الدنيا والدين، واكفنا شرّ الظالمين، واجعلنا مصلحين لا مفسدين، واغفر لنا ولمن يهمنا أمره وللمؤمنين والمؤمنات اجمعين يا رحمن يا رحيم.
بسم الله الرحمن الرحيم
{ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}90/ النحل